xxxx_BoscoT_Don_Bosco_Una_biografia_nuova_ARABO_Youssef_Coshakgi


xxxx_BoscoT_Don_Bosco_Una_biografia_nuova_ARABO_Youssef_Coshakgi



1 Pages 1-10

▲back to top


1.1 Page 1

▲back to top


1.2 Page 2

▲back to top


tradotto da Youssef Coshakgi,
sacerdote Siriano Armeno Cattolico
diocesi di Aleppo, prima edizione 1983.
tradotto versione francese di A. Garnier,
Don Bosco. Une biographie nouvelle. Les
Editions du Cerf, Paris, 1981.
don Gianmaria Gianazza ha riletto la
traduzione araba leggendo la versione
Italiana apportando alcuni termini ed
espressioni.

1.3 Page 3

▲back to top


1.4 Page 4

▲back to top


1.5 Page 5

▲back to top


1.6 Page 6

▲back to top


DON BOSCO. Una biografia nuova. Elle Di Ci. Torino Leumann. 1979.
(Traduction francaise de A. Garnier: DON BOSCO. Une biographie nouvelle.
. Les Editions du Cerf, paris, 1981).
الطبعة الأولى 3891 :
’طبع بإذن الرؤساء
جميع الحقوق محفوظة لإدارة السالسيين الإقليمية في الشرق الأدنى.
مع الشكر لدار النشر ( )Elle Di Ciوقد تنازلت مجاناً عن حقوقها في الترجمة والنشر.
صور من تريزيو كييزا ( )Teresio Chiesaودار المحفوظات السالسيّة.

1.7 Page 7

▲back to top


مقدمة الترجمة العربية
يسرني كثيراً أن أقدم للقراء هذه السيرة "الحديثة" لدون بوسكو.
ان وجود السالسيين ،أبناء دون بوسكو ،في عدة أقطار عربية ،ساهم مساهمة كبيرة في
ابراز صورة شديدة التأثير لمنشئهم ،خصوصًا من خلال مشروعاته الممّيزة ،الا وهي المدارس
الصناعية والمصلّيات أي مراكز الشبان.
أما الآن ،وقد أصبح بوسع أهل الأقطار العربية التعرف من كثب إلى دون بوسكو ،في
مراحل حياته العجيبة كما رعاه الله فيها لخير الشعب ،فقد تهيأ لهم أن يدركوا من غير عناء موهبته
لأن يكون مربياً وهو يعمل عمل الكاهن كل حين في سبيل الله والكنيسة.
ان دون بوسكو محبب إلى القلوب ،جذاب ،عظيم في إنسانيته ،ولكن نفسه في الوقت
عينه توّاقة إلى الله ،ترى في الحياة المسيحية والقداسة أمراً واحدًا ،ولم يتردد لحظة في عرضها على
تلاميذه ،ولا يزال دومنيك سافيو أبهى زهرة لطريقته التربوية في عرض القداسة على الشبان.
إن المثال الأعلى الذي أخذ به دون بوسكو الكاهن المربي فعمل بلا كلل ليبعث النشاط في
الشبان ،لا يزال المثال الأعلى الذي يعمل في السالسيين ،فهو ،لهذا السبب ،في متناول جميع
الذين يؤمنون بان" الشبان هم مستقبل العالم ،"وفي متناول الذين يحذون حذو دون بوسكو
فينادون مثله :"إني أشعر بالارتياح عندما أكون معكم."
أتمنى لهذا الكتاب رواجاً حسنًا لدى كل من الشبان والكهول ،ولزام علًيً أن أعرب عن
شكر السالسيين لجميع الذين يسّروا صدوره ،وخصوصاً الأب قوشاقجي من حلب الشهباء وهو
أحد الذين أخرجوا الترجمة العربية الحديثة لأسفار العهد الجديد وقد استطاع في تعريب سيرة دون
بوسكو هذه الحفاظ على ما في الأصل الايطالي من طابع شعبي ووصف حي للأحداث ،مع أنه
نقله من الترجمة الفرنسية .)3(
)3عرض الأب جان ماريا جاناتسا الترجمة العربية على الأصل الايطالي ،استكمالا للفائدة.

1.8 Page 8

▲back to top


عسى القديس يوحنا بوسكو أن يتقبل هذا الكتاب قبولا حسنا ،ًوقد أراد ناشروه أن يكون
آية شكر لله على الدعوات السالسية التي ايقظها في نفوس الشبان من العرب ،وآية تيمًن بان يشعر
غيرهم بالشوق إلى الطريق الانجيلي الذي سلكه دون بوسكو ،فيقتفوا آثاره في خدمة الشبان.
الأب فيكتور بوتسو
الرئيس الإقليمي للسالسيين في الشرق الأدنى

1.9 Page 9

▲back to top


كيف ولماذا أَّلف هذا الكتاب
في أول العام 3899طلب ألي الأب يوحنا راينيري ( ،)Raineriوهو عضو في المجلس
الأعلى للسالسيين ،ومدير دار النشر Elle Di Ciأن أكتب سيرة لدون بوسكو تمتاز باسلوب شعبي
تطيب به نفس القارئ ويتصف مضمونه بالرزانة والرصانة.
وانطلق صاحبا الطلب كلاهما من أمر يشغل البال وهو أن المؤلفات التي تناولت دون بوسكو
في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة قد تشعّبت تشعّبا مَ ّطرِدا في تيارين:
-الكتب التي لم تأخذ بالحسبان الدروس العامة لزمانه والبحوث الخاصة بشخصه بل
استمرت في رواية أجمل أحداث حياته " للأولاد وعامة الشعب ،"أن هذه الكتب منتشرة كثيراً
واليها يعود الفضل في تعميم معرفة الناس له ،ولكنها تؤول في آخر الأمر إلى تحويل شخصه
العملاق إلى " مسألة تهّم الأطفال" وإلى "موضوع أفلام كرتون."
-الكتب التي يدرس فيها مؤلًفوها المظاهر الأساسية لدون بوسكو وعصره وقد نظروا إلى
الأحداث والقصص والوقائع "نظرهم إلى أشياء ممحّصة معروفة" فعكفوا عليها لأمر واحد وهو
"إزالة" بعض التفصيلات التي يتّضح أنها نتيجة شهادات ُي َش ّك في صحتها أو من نسج الخيال.
إن دون بوسكو ،وهو موضوع "حكايات رائعة" تارة ،و"بحوث النقد" تارة ،يتعرّض
للخطر وهو ان لا يعرفه الناس معرفة حسنة وأن يبدو في الوقت نفسه شخصًا تحيط به الأساطير
الداعية إلى الشك
إننا نحاول في كتابنا هذا أن نسلك طريقاً ثالثا
نروي فيه سيرة دون بوسكو ،فلا نأتي إلّا بما كان أكيدا ،ونأخذ بالحسبان ما يعود إليه الفضل
في المغامرة الرائعة الجريئة المثيرة لكاهن فالدوكّو ( )Valdoccoالقديس.
ولذلك فإنّنا نأخذ بالحسبان:
-الشهادات التي خطّها دون بوسكو نفسه أي كثيرًا من الصفحات التي كتبها بيده فحفظت
في الوثائق السالسية ( ولا سيما الكتاب الخط ذكريات مصلّى مار فرنسيس دي سالس :وهي كناية

1.10 Page 10

▲back to top


عن 391صفحة دفتر كتبها دون بوسكو في 3991ولم تنشر إلا في 3891على يد الأب تشيريا
.)Ceria(
-المجموعة الضخمة لشهادات تلاميذه ومعاونيه ،وقد أدلى بكثير منها أصحابها بعد ما
أدّوا اليمين ،في أثناء التحقيقات من أجل إعلان دون بوسكو طوباويًا (وقد أُدخل معظمها في
المجلدات التسعة عشر لذكريات السيرة ،تلك المجلدات التي ألّفها الآباء لموان Lemoyne
واماديي Amadeiوتشيريا .)Ceria
-الدراسات الرصينة التي أجريت في الأعوام العشرين الاخيرة (ستيلا Stellaودرامو
Desramautوفيرث Wirthوفالنتيني Valentiniومولينيريس ) ... Molinerisوقد تناولوا
الشهادات التي تعتمد اعتماد متينا على روايات احداث سيرة دون بوسكو فأوضحوها وضبطوا
صلتها بالبيئة ،وتمّموها أحيانا من غير أن ينقضوها أو يقّللوا من قيمتها.
-دراسات ذات شأن في تاريخ المجتمع والدولة والكنيسة خلال الأعوام .0011
لقد كان من حسن حظي أني كتبيت القسم الوسط من هذا الكتاب ،وأنا بالقرب من
الابـويـن بـيـتـرو سـتـيـلا ( ) Pietro Stellaواوجــيــنــيــو فــالــنــتــيــنــي
.)Eugenio Valentini(وكان من لطفهما انهما قرأا المسودات المنسوخة بالآلة الكاتبة ،وصوّباها
تباعا لإنشائي لها ،وقد تيسر لي أن أفحص معهما بعض الأمور الأساسية (كالفصل السادس
والعشرين) وتلقيت منهما اقتراحات ثمينة .وأعاد آخر الأمر الأب كارلو فيوري ()Carlo Fiore
قراءة النص بعد نسخه بالآلة الكاتبة ،فأسدى لي النصح لأحكم التنسيق عند الفراغ من العمل.
اني اشكر من صميم قلبي إخواني من غير أن اتوخى البتة التنصل مما قد يكون في الكتاب من
أشياء غير صحيحة او آراء قابلة للجدل ،لألقيها على عاتقهم.
وقد يُق َّدر هذا الكتاب تقديرات مختلفة كل منها مَ ِح ّق ،ولكن يسعني أن أؤكد على الأقل أنه
كلفّني عناء كبيرا وهمّا كثيرا.
اتمنى ان يكون هذا الكتاب لقاء فيه فرح ومتعة بين دون بوسكو وجميع القرّاء ،وان يؤول
بكثير منهم ،كما آل بي ،إلى دعوة للعودة إلى الأرض المقدسة" أرض فالدوكو ،"في الج ّو الذي
فيه عاش دون بوسكو والأب رو ( )Ruaوالاب كالييرو ( )Caglieroودومنيك سافيو ()Savio
ويوسف بوتسيتّي ( ،)Buzzettiاذ كان ينمو بالبساطة والفقر ،تحت نظر السيدة العذراء ،كل ما
أتى به المشروع السالسي من عظيم الحدس والاتجاه والتحقيق.
ت .ب.

2 Pages 11-20

▲back to top


2.1 Page 11

▲back to top


0
مهاجر في ِسنّ الثانية عشرة
كانا في ذلك المساء يمضغان الخبز في المطبخ ،وهما يتلفّظان بكلمات م ُرّة جارحة .نظر
أنطون إلى يوحنا وبجانب صحنه كتاب على عادته ،فرفع الصوت قال:
-هذا الكتاب ،سأقذف به في النار.
حاولت مرغريتا أمهما أن َتصلح الامر مرة أخرى فقالت:
-إن يوحنا يعمل كسائر الناس ،فاذا أراد بعد ذلك أن يقرأ ،فماذا يعنيك؟
-يعنيني أنه الّي يعود الفضل في قيام هذا الكوخ ،فظهري ينقضم وأنا أك ّد ،وآبى الإنفاق
على فتى صغير سيذهب ليعيش عيشًا رغيدا ،ًويتركنا هنا نعيش على البولنتا .)3(
ر ّد يوحنا عليه ر ّدًا عنيفاً و لسانه لا يعجز عن الجواب ،ولم يولد ليعرض خدًا بعد آخر،
فضربه أنطون ،فخاف يوسف وراقب ما يجري.
حاولت مرغريتا أن تتدخل ،ولكن يوحّنا تلقّى الضربات التي جرت العادة أن تكون نصيبه
بل أسوأ منها .فهو في سِ ّن الثانية عشرة لا يسعه أن ينازل انطون وقد بلغ التاسعة عشرة.
بكى يوحنا في سريره لغضبه أكثر منه لألمه ،وكانت أم َه تبكي هي أيضًا ،والراجع انها لم تنم
تلك الليلة.
وفي صباح الغد عزمت عزمها فقالت ليوحنا أشّد كلمات حزن قالتها في حياتها:
-الأفضل أن تترك البيت .إن انطون لا يت ّحملك ،فقد يؤذيك في يوم من الأيام.
-وإلى أين أذهب؟...
نفس يوحنّا حزينة حتّى الموت ،ونفس مرغريتا أيضاذكرت له بض َع مزارع في ناحية
موريوندو ( )Moriondoومونكوكّو (.)Moncucco
)3لون من الطعام في ايطاليا يصنع من الدقيق وهو قوت الفقراء على الخصوص (شرح من المترجم.)

2.2 Page 12

▲back to top


-إن الناس هناك يعرفونني ،وسوف يعطونك عملا ولو إلى حين ،ثم نرى ما يكون بعد
ذلك .
َذ َه َب والثلج يتساقط عليه
أعدّت له في أثناء النهار ص ّرة صغيرة فيها قمصانه وكتاباه ورغيف صغير .كان ذلك في شباط
(فبراير) فالثلج والجليد يغطيان الطريق والتّلال المجاورة.
ذهب يوحنا في صباح الغد ،ولبثت ماما مرغريتا على عتبة الباب تنظر اليه ،وتلّوح له حتى
حجب عنها الثلج مهاجرَها الصغير.
ذهب إلى المزارع التي دلته أمّه عليها ،فقيل له إنه لا عمل لصبّي صغير .لما كان الظهر فرغ
من أكل رغيفه الصغير ،وذهب عنه كل أمل ،ولم يبقَ له سوى أن يزور أسرة موليا ()Moglia
للعمل بما قالت له أمه " :تطلب السيد لويس ."
وقف عند الباب الذي يؤدّي إلى فسحة الدار ،فنظر اليه رجل كبير السًن كان يغلق الباب.
-عن أي شيء تبحث يا ابني؟
-عن عمل.
-هذا حسن! تابع البحث! إلى اللقاء م ّرة أخرى!
وواصل جذب المصراع الثقيل ليوصده .فجمع يوحنا آخر ما عنده من الشجاعة وقال:
-لا ب ّد لي من أن أرى السيد لويس.
دخَل فإذا أسرة موليا بجانب المدخل تقشر الخيزران لتربط جفنات الكرم .نظر اليه لويس
موليا ،وهو مزارع شاب في سِ ّن الثامنة والعشرين ،نظرة الدهش.
-إني أبحث عن السّيد لويس.
-أنا هو.
-أرسلتني والدتي وأوصتني ان أجيء اليك لكي أعمل عمل أجير اسطبل.
-ولكن كيف ٌيلقى إلى خارج الدار صب ٌي صغير مثلك؟ مَن أمّك؟
-مرغريتا بوسكو .إن أخي انطون يُسيء معاملتي ،فقالت لي :اذهب فابحث عن عمل
خادم.
-مسكين أيها الصّبي الصغير .نحن في فصل الشتاء .إننا نتعاقد مع الخدم في آخر آذار
(مارس) فحسب .عليك بالصبر .عٌد الآن إلى بيتك.
فَقَد يوحنا عزيمته وشعر بالإعياء فسالت دموعه من اليأس.

2.3 Page 13

▲back to top


-أسألك أن تحتفظ بي .لا ُتعطنيُأُجرة ،ولكن لا تصرفني إلى بيتي . -وواصل كلامه وبه
الجرأة التي تأتي المرء من بؤسه – هاأنذا قاعد أرضاً ههنا ولن أتحرك فافعل ما تشاء ،فلن أتحرك.-
واخذ وهو يبكي يلتقط سقاطة الخيزران المبعثرة ويجمعها.
فأشفقت على الصبي السيدة دوروتيا ( )Doroteaوهي امرأة رائعة الجمال في سِنّ الخامسة
والعشرين فقالت :
-احتفظ به ،يالويس .دعنا نجرّبه ولو بضعة أيام .
وأشفقت عليه أيضًا تريزيا وهي فتاة في الخامسة عشرة .قالت :
-إني في سِنّ تمكّنني من الذهاب إلى الحقول معكم ،فيقوم هذا الصبي مقامي في
الإسطبل .
وهكذا أخذ يوحنا بوسكو في شباط 3989يعمل عمل خادم إسطبل .أسرة موليا أسرة من
الفلاحين الميسورين وان كانوا كلهم يتعبون من شروق الشمس إلى غيابها .إنهم يعملون في
الأرض وفي الكروم والحقول ،وهم ُيعنون بالثيران والبقر .إنهم يصلّون معا ،ًفتجتمع الأسرة في
المساء عند الموقد لتتلو السبحة ،ويسير يوم الأحد السيد لويس بالأسرة كَلّها إلى القداس الكبير
الذي يقيمه في مونكوكّو خوري الرعية الأب كوتّينو (ِ.)Cottino
إن العمل في إسطبل لا عار فيه ،ففي المزارع المجاورة ُيرى في آخر شهر آذار (مارس)
عشرات من الخدم يعملون في الإسطبلات .انه الطريق المألوف الذي يسلكه كثير من صبيان
الأسر الفقيرة .فان أصحاب العمل يمرون يوم عيد بشارة العذراء مريم في القرى ،ويذهبون إلى
الأسواق ليستأجروا الشبان لمّدة عام :هؤلاء عمال موسميون لا أجر لهم سوى معيشتهم .إنهم
يعملون عملا شاقاً ثمانية أشهر (من نيسان – ابريل إلى تشرين الثاني – نوفمبر) وليس لهم سوى
طعامهم ومسكنهم وخمس عشرة ليرة إيطالية لثيابهم.
ولكن الصبي يوحنا بوسكو يختلف عن سواه .فهو صغير السّن جدًا (لن يكون في سن
الثانية عشرة إلا بعد ستة أشهر) فضلا عن أنه يحفظ في قلبه حلما :حلمًا حقيقيًا َحِلمه ليلا وعيناه
مغمضتان ،وقد رواه هو بنفسه.
حلم ملزم للمستقبل
"حلمتُ وأنا في سِ ّن التاسعة حلمًا ظ ًّل راسخاً في أعماق نفسي طوال حياتي .بدا لي في هذا
الحلم أني بالقرب من دارنا ،في ساحة كبيرة جدًا تجمع فيها حشد من الصبيان يلعبون .وكان
بعضهم يضحك وكثير منهم يكفرون ،فلما سمعت ذلك الكفر ألقيت بنفسي لوقتي بينهم،

2.4 Page 14

▲back to top


مستعملا قبضتي وصوتي لأسكتهم.
فظهر عند ذاك رجل وقور عليه ثياب فاخرة .كان وجهه نيّرًا جدًا حتى إنه لا يقوى المرء على
أن يحدّق اليه .فناداني باسمي وقال لي :
-ليس بالضرب بل بالوداعة والمحبة يجبُ عليك أن تجعل منهم قدّيسين .فكّلمهم لوقتك
-على شناعة الخطيئة وقيمة الفضيلة.
فشعرت بالحياء والخوف ،وأجبتُ أني طفل مسكين جاهل .فك ّف الصبيان عن ضرب
بعضهم بعضاَ وعن الصياح وتجمعوا حول الذي كان يتكلم ،فسألتُ كأني لا اعلم ما أقول :
-من انت حتى تأمر بأشياء مستحيلة؟
-ما دامت هذه الأشياء تبدو لك مستحيلة ،فذلك يجب عليك أن تجعلها ممكنة بطاعتك
وحصولك على العلم.
-كيف يمكنني أن أحصل على العلم؟
-سأجعل لك معًلمة تقودك فيمكنك أن تصير عالما
-ولكن من أنتَ؟
-أنا ابن تلك المرأة التي عّلمتك أمّك أن ترفع الدعاء إليها ثلاث مرات في اليوم .وأما
اسمي فاسأل أمّي عنه.
ورأيت لوقتي بجانبه سيدة جليلة المنظر عليها رداء يسطع كالشمس ،فدنت منّي وانا في
خجل شديد ،وأشارت لي بأن أتقدم ،وأخذت بيدي بلطف وقالت :أنظُر!
فنظرت فرأيت أن الصبيان قد تواروا جميعًا ورأيت مكانهم حشدًا من الجداء والكلاب
والهررة والدببة وكثيرًا من سائر الحيوانات .
-هو ذا المكان الذي يجب عليك أن تعمل فيه .كُن متواضعًا قويا ،ًوما تراه يحدث
الآن لهؤلاء الحيوانات فتعمله إلى أبنائي .
فأدرتُ عيني فظهر مكانَ الوحوش عدد مماثل من الحملان الوادعة تقفز وتجري وتَثغو حول
ذلك الرجل وتلك المرأة كأنّها تريد أن تك ّرمهما.
حينئذ أخذت ،وأنا لا أزال أحلم ،أبكي واسأل تلك السيدة ان ترتضي شرح أمرها على
وجه أوضح لأني لا أفهم معنى ذلك كلّه.
فوضَعت يدها على رأسي وقالت :
-في الوقت الموافق تفهم كل شيء .
وما قالت ذلك حتى حدثت ضجة أيقظتني .لقد توارى كل ش ْي فكنت مبهوتاً وخُيِّل اليّ أن

2.5 Page 15

▲back to top


يدي تؤلمني بسبب من اللكمات التي وزعتها ،وأن وجهي يحترق من الألم بسبب من اللطمات التي
تلّقيتها من هؤلاء الصبيان .
روي ُت في الصباح الحلم لإخوتي أولًا فاخذوا يضحكون مني ،ثم رويته لوالدتي وج ّدتي
فكان كل منهم يأتي بتعبيره .قال يوسف " :ستُصبح راعياً ."وارتأى انطون بخبث ":ستصبح
رئيس عصابة لصوص ."وقالت والدتي ":من يدري؟ قد تصبح كاهناً ."وجزمت الجَدّة
جزماً قاطعاً فقالت ":يجب ترك الأحلام وشأنها " .
كنت أرى رأي الجَدّة ،ومع ذلك لم أستطع ق ّط أن أزيل كلّه من خاطري ."
أثّر ذلك الحلم تأثيراً عميقاً في جميع الأعوام التي تبعت ،وقد فهمت ماما مرغريتا (وفهم
يوحنا أيضا بسرعة) أن في ذلك الحلم وحياً للمستقبل.
مائة وثمانون صفحة من الذكريات
ما من أحد في سِ ّن الثامنة والخمسين يكاد أن يتذكّر ما جرى له قبل خمس سنوات ،ولكن
يكاد جميع الناس يتذكرون ما جرى لهم في سِنّ التاسعة أو الحادية عشرة أو الخامسة عشرة ،كأنه
جرى أول أمس ،وما ينفكّ المرء يح ّس في ركبتيه بالقشرة الخشنة لتلك الأشجار التي كان يتسلّقها .
يخيّل إلينا أننا لمسنا البارحة الشعر الدافئ ،شعر الكلب الذي كان يثب بجانبنا في أثناء سباقاتنا
الجنونية.
أطاع أمر البابا دون بوسكو فكتب ،وهو في سِ َن الثامنة والخمسين ،تاريخ حياته في
العشرات الأولى من عمره ،فملأ ثلاثة دفاتر كبيرة 391(صفحة) بفضل ذاكرته ،وكانت أشبه
بآلة تصوير (قليلة المنطق لكن حادّة البصر .)أما التواريخ فقد اختلّت قليلا ،وأما الأحداث
والذكريات والتفصيلات فقد احتفظت برونق الحياة نفسها .
أوضح في السطر الحادي عشر ":إنّي اكتب لأبنائي السالسيين الأعزّاء ،وأنهى عن نشر
هذه الأشياء قبل موتي أو بعده على حَدّ سواء ."
عصى السالسيون أمره بعد ثلاث وسبعين سنة ،فجعلوا ح ّداً لمسألة وجدانية طويلة
عسيرة ،وهكذا يسعنا اليوم أن نتابع من خلال" دفاتر الذكريات " تاريخ الصبيّ الفلاح يوحنا
بوسكو حتى أصغر التفصيلات .

2.6 Page 16

▲back to top


2
المأساة الصغيرة والمأساة الكبيرة
"كانت أمي تدعى مرغريتا أوكّينا ( )Occhienaواسم ابي فرنسيس ،وكانا فلاحَين
يكسبان قوتهماً كسبًا شريفًًا بالعمل والاقتصاد " .
أبصـر يــوحـنــا النــور في 31آب (اغــسطـس) ،3931وكـانــت أمــه تـُسـمّيـه
جيوانين ( )Giuaninوهو تصغير جوفانّي (يوحنا) وكان شائعًا في جميع بلاد البيمونته
. )Piemonte(
كانت وفاة والده أولى ذكرياته .كان فرنسيس بوسكو قد ابتاع دارًا صغيرة وبعض الأراضي
ولكن كان عليه أن يعمل أيضًاًعند ملّاك غن ّي في جواره ،لكي يعيل خمسة أشخاص يعيشون في
بيته .عاد بعد ظهر يوم من أيار (مايو) 3939والعرق يتصّبب منه ،ولم يحتَط لأمره بل دخل وهو
على تلك الحال إلى مغارة معلّمه ،وبعد يضع ساعات نزلت به نوبة شديدة من الحمى ،وال ّراجح
أنه أصيب بذات الجنب في رئتيه ،فأودت بحياته بعد أربعة أيام وهو في سِ ّن الثالثة والثلاثين.
روى دون بوسكو قال ":لم أبلغ بع ُد عامين من عمري حين توفّي والدي ولا أذكر حتى ولا
وجهه .لا أذكر سوى كلمات أم ّي ":ها إنك قد أصبحت بلا أب يا جيوانين ."خرج جميع
الناس من غرفة أبي ،وأمّا أنا فقد أصررت على البقاء فيها ،فألّحت علي والدتي بلطف فقالت:
"تعالَ يا جيوانين ."أجبت ":اذا لم يأتِأبي فلن آتي أنا أيضا ."ً"تعال يا بني ،لم يبقَ لك
أب ."قالت تلك الكلمات ثم استرسلت في البكاء والنحيب .بكيتُ لأنها بكت .ماذا يسع
طفلا في تلك السّ ّن أن يفهم؟ ولكن هذه الجملة "أنك بلا أب " بقيت دائماً أبدًا في ذاكرتي .هذا
أول حدث من حياتي أحفظ ذكراه."
فصل مشؤوم
وأما ال ّذكرى الثانية عند يوحنا فهي ذكرى الجوع الذي أصابه في تلك السنة.
كان يُقال للضيعة الصغيرة التي فيها دار اسرة بوسكو البكّي ( ،)Becchiوهي كناية عن

2.7 Page 17

▲back to top


عشر مزارع مبعثرة على تلة مستطيلة في وسط ريف واسع جدًّاّ كّله تموج فيه كروم وأحراج .والبكّي
قسم من قصبة موريالدو ( )Morialdoعلى بعد خمسة كيلو مترات من مركز القضاء وهو كاستلنوفو
داستي (.)Castelnuovo d’Asti
في السنة 3939أصيبت تلال مونفرّاتو (كاستلنوفو على الجانب الشمالي لناحية مونف ّراتو)
كما أصيب البيمونته كله بَمحل شديد ،فقد تبع جليدَ الربيع قحط لا نهاية له ،فتلِفت الزروع
وأصابَ الريفَمجاعة حقيقية حتى إنهم كانوا يعثرون على الشحاذين ،وهم موتى في الحفر،
والعشب في فمهم.
وُصفت تورينو ( )Torinoعاصمة البيمونته في وثيقة تعود إلى ذلك الحين ،فجاء فيها أنه
غَزَت العاصمة ِهجرٌة كالتي ُذ ِكرت في الكتاب المقدس :كانت أرتا ٌل من الناس الشّاحبي اللون
وليس عليهم سوى الاسمال ،تهجر الريف وكانت جماعات من الأسر تنحدر من الوديان والتلال
نحو المدينة ،وتنزل تجاه الكنائس والقصور لتطلب الصدقة.
وفي تلك السنة الشديدة وَجدت مرغريتا نفسها وعلى عاتقها عِبء الأسرة كلها .كان يعيش
في البيت حماتها (أم فرنسيس العجوز) وهي مسمّرة إلى كرسّيها ،معقدة ،وانطون (وعمره تسع
سنوات) وهو ابن فرنسيس من زواج سابق ،وطفلاهما يوسف ويوحنا (أربع سنوات وسنتان.)
كانت فلاحة أميّة فاظهرت في ذلك الوقت صفتها الأولى :صلابة عزيمتها.
روى دون بوسكو قال ":ق ّدمَت أمي الطعام للأسرة ما دام عندها شيء منه ثم سّلمَت
قَدراًّ من المال إلى جار اسمه برناردو كافاّلّو ( )Cavalloلكي يذهب فيأتي بما يؤكل ،فمضى إلى
مختلف الأسواق ولكنه لم يستطع أن يشتري شيئا ،ًحتى بأغلى الأثمان .فعاد في المساء بعد يومين
وكانوا ينتظرونه بفروغ الصبر ،فلما أعاد المال قائلا إنّه لم يحصل على شيء استولى الرعب علينا ولم
ن ُذق شيئًا في ذلك اليوم.
فقالت والدتي من غير أن تفقد رباطة جأشها ":أوصاني فرنسيس عند موته بالاتكال على
الله .هل ّم نج ُث على ركبتينا ونصل ."ّوبعد صلاة قصيرة نهضت وأضافت ":للأحوال العسيرة
الوسائل الناجعة ."فذهبت إلى الإسطبل واستعانت ببرناردو كافالّو وذبحت عجلا ،وطبخت
شيئًا منه ،وأعطتنا ما نأكل ،وكنا في آخر رمق .وفي الأيام بعدئذ حَصَلت على القمح من مكان
بعيد ودفعت ثمناً باهظا."ً
كان ذبح عجل حتى هذه العشرات الأخيرة من السنين يُع ُدّ في أسَر فلاّحي البيمونته عملَ
يأس .فان العجل هذا الذي يسمّنونه في الإسطبل ،كان رأس مال يمكّن صاحبه ،اذا باعه في
السوق ،من ح ّل معضلة عسيرة كقولك الاصابة بالمرض ،فَذَبحه يَحرم الأسرة آخر ذخرها.

2.8 Page 18

▲back to top


َح َدث غيّر وجه العالم
كان الموت والجوع وقلة الأمن أول ذكريات ولد سيكون أبًاًلجماهير من الايتام ،سيُعطي
الخبز عددًا لا يحصى من الشبان الفقراء.
كانت مأساة أسرة بوسكو على تَ ّل منعزل تُضاف إلى المأساة الكبيرة التي كانت مثل عاصفة
قلبت أوربا وإيطاليا رأسا على عقب في العقود الأخيرة من السنين.
فقد اندلعت في باريس قبل عشرين سنة الثورة الفرنسية التي غّيرت بعد حين وجهَ العالم.
ليس في نيتنا أن نكتب تاريخها ،ولكن يبدو لنا أن ندوّن بعض مظاهرها وقد كلن لها أثر عميق في
حياة يوحنا بوسكو نفسه.
أصبح الج ّو في أوربا كلها بغت ًة مُُثقلا بالتجديد والآمال ،وقد دوّى في إيطاليا أيضًا صدى
تبديل عظيم .انفجرت فرنسا بعد قرون كان المجتمع فيها مُتَحّ ِجّرًا يعيش في حكم الملك والنبلاء
المطلق ،فطالب أهل الطبقة البورجوازية والشعب بالاعتراف بحقوقهم ،وبإلغاء امتيازات النبلاء
وكبار رجال الاكليروس .لم تبقَ كلمتا"الحرية" و"المساواة" مما ُيهمس به همساًًبل أخذ الناس
ينادون بهما في وضح النهار.
وقد أعلنت حُقُوق الإنسان وسيادة الشعب ":يولد الناس أحرارًا متساوين في الحقوق،
وهذه الحقوق هي الحرية والتملّك ،والأمن ومقاومة الظلم ،ومصدر كل سيادة
الأمّة" (مقدمة دستور .)3983حاربت الجيوش الفرنسية سائر الأمم الأوروبية لكي تؤكّد
هذه الحقوق ( لا من أجل ما يدّعيه ملِكٌ من أجلُ ُذرّيته.)
وجرى ما يجري في جميع أزمنة التبديل الجذري ،فقد اختلطت قرارات مُحِقة على وجه تام
بأعمال عنف صدرت عن الفتنة والأهواء .و َعمِل كبا ُر أه ِل الطبقة البورجوازية الذين قادوا
الثورة ،على أن يكون ح ُّق الاقتراع مقصوراً على أصحاب الأملاك وحدهم فقد اعلنوا ":إنّ
تد ّخل الشعب الذي لا عِلمَ له ولا يملك نفسه في قرارات الحكومة يؤول بسهولة إلى التطرف."
وهكذا ألغَت الثورة جميع الامتيازات ما عدا امتيازات الثروة :نال أهل الطبقة البورجوازية
الحرّية ،وظل الفقراء فقراء.
ويضُاف إلى ذلك أن الثورة المحاذية التي كانت الطبقات الشعبية والفلاحية تقوم بها في
الوقت نفسه بَدَت وكأنها تُؤيّد مزاعم الطبقة البورجوازية.
كان الفلاحون الفرنسيون يهجمون على القصور ويحرقونها .ثم إنهم كانوا في تلك السنين
التي سادت فيها مجاعة شديدة ،يمنعون بوسائل العنف حريةَ نقل الغلَات ،ويشنوّن معارك
حقيقية على جماعة البؤساء الجياع الذين كانوا تائهين في حالة يأس وهم يطلبون القوت.

2.9 Page 19

▲back to top


كان شعب باريس يشتعل حماسة كلها عنف وهوى ،فحاصر الملكَ لويس السادس عشر
أُناسٌ اضطّروه إلى وضع قبعة الثوريين على رأسه وعلى شرب نخب الأ ّمة لخلاصها ،وسيق بعد
عشرين يوماً إلى السجن هو وأسرته.
واستولت الثورة المحاذية على الحكم في ما بين شهر آب (اغسطس) 3988وتموز
(يوليو) ،3989وحلّ مكان أهل الطبقة البورجوازية على رأس الأ ّمة ممثلو الشعب الذين حاولوا
تحويل ثورة الحرية إلى ثورة المساواة.
وكانت بعض النتائج كارثة ،ويا للأسف.
ففي أيلول ( سبتمبر3988)هجمت جماعات من الشعب مسّلحة على السجون الغاصّة
بالنبلاء ،وبأناس زُعم أنهم متآمرون ،وقتلت أكثر من ألف شخص وفي كانون الثاني (يناير)
3981أُعلن أنّ الملك مذنب وقطع رأسه بالمقصلة.
وفي السنة عينها السنة 3981بدأ عهد الإرهاب ،فأتُهم بجريمة الخيانة جميع الأشخاص
الذين ظُنوا أعداء الثورة ،وفي تشرين الأول حُكم على 391شخصًا بالمقصلة وفي تموز (يوليو)
للسنة التي بعدها ُحكم على 3891شخصاً يالمقصلة أُيضاأُبيدَ أعداء الثورة على وجه السرعة،
من غير أن يراعى ولو ظاهر الإجراءات القضائية.
وكانوا في الوقت نفسه يقومون بإزالة المسيحية عن الوجود على وجه كبير ،ف ُح ِظرت العبادة
المسيحية ،وأُغلِقت الكنائس ،و ُحطمت الصّور المسيحية ،واضُطُهد الكهنة ،وأقيمت عبادةُ
العقل مكا َن عبادة الله ،وقد رافقت ذلك حفلا ٌت للسخرية حتى في كاتدرائية السيدة العذراء في
باريس .وكانت أوروبا تنظر غلى تلك الأمور وهي مذهولة .كانت تبدو أحداث باريس في تلك
الأشهر ،مظاهر من الجنون الجماعي ،فشعر بالحيرة حتى أش ُدّ الناس التزاما ،ًأولئك الذين
عطفوا على الثورة منذ بدء أمرها.
ولمّا تكلّم الناس في السنين اللاحقة على الثورة بلهجة الخوف ،فقد كان يخطر ببالهم عهدُ
الإرهاب في باريس .ولما استعملوا عبارة الازدراء الثورة الديمقراطية عَنَوا بها هيجان الرعاع
بالعنف والفوضى.
قائد في سن السابعة والعشرين :نابليـون
في شهر حزيران (يونيو) للسنة 3989انتهى الإِرهاب والديكتاتورية الشعبية بالحكم
بالموت على قادتهم أنفسهم ،وهم المتعصّبون من اليعقوبيين :روبسبيير ( )Robespierreوسان
جوست ( )Saint Justوكوتون (.)Couthon

2.10 Page 20

▲back to top


وأصيبت الثورة بتحّول عنيف لصالح أهل الطبقة البورجوازية ،فقد أقرّ الدستور الجديد
(الذي نال الموافقة عليه السنة )3981َح ّق الاقتراع لثلاثين ألف شخص فحسب (وكان في
باريس ستمائة ألف ساكن .)وسّلمت مقاليد البلاد إلى ال َطّبقة الصغيرة التي تؤلف الملّاكين الكبار
وحدهم .وشهد الناس رجوعاً إلى الوراء سريعاً فقد تحوّل النظام الجمهوري إلى امبراطورية
ِب ُك ّل بساطة.
في سنة 3981وصل إلى إيطاليا جيش للثورة على رأسه قائد في السابعة والعشرين من
عمره هو نابليون بونابرت .وقد انتصر في وادي نهر البو ( )Poعلى النمساويين في أثناء معارك
دامية ،وتكلّم الجنود الفرنسيون على الإخاء والمساواة والحرية ،فأثارت هذه الكلمات ،على ما
صحب عهد الإرهاب من ظلمات ،حماسة عظيمة في الأجيال الناشئة ،فألغيت مملكة سردينيا
(بيمونته وسافويا وسردينيا )Piemonte Savoia- Sardegnaوذهب الملك إلى المنفى.
ولكن نابليون كان عبقريًا جامحًا ينشد الفوزَ بالمجد العسكري الزاهي وما يصحبه من
الموت ،أكثر منه سيطرة الثورة.
في السنة 3988كان نابليون في مصر .فغزا النمساويون والروس شمال إيطاليا مّرة
أخرى :دخل القُرى ثانيةً القوزاق بلحاهم الطويلة الكّثة ،وهم راكبون خيل ال ّسهب فعاد
نابليون ،وعادت الحرب تزرع البؤس حتى في الحقول الخصبة في سهل نهر البو.
واغتصب نابليون المال ،وعَبّأ الجنود من جميع نواحي إيطاليا ،فاستخدمهم في حرب
العصابات في إسبانيا ،وفي حملته على روسيا ،ذلك البلد البعيد الغامض الذي غزاه وهو على رأس
اكبر جيش في التاريخ كله.
ووقعت الهزيمة التّامة في الشتاء موسكو الشديد البرد ،وحلّت الكارثة بجيشة في أثناء
تقهقره ،فرأى نابليون حوله 111ألف رجل يموتون وكان بينهم 81ألف ايطالي ،قُتل قبلهم 81
ألف في إسبانيا.
ووقعت من 31إلى 38تشرين الأول (اكتوبر) 3931في سهل ليبسيا ( )Lipsiaالمعركة
العظيمة ،معركة الأمم ،فكانت نهاية الامبرطورية الفرنسية الكبيرة ،وكانت أيضًا في نظر
كثير من الناس دفنًا للمُثُل العليا التي نادت بها الثورة.
وانحدر مرة أخرى النمساويون والألمان والكرواتيون من جبال الألب واجتازوا الايسونزو
)Isonzo(نحو حوض نهر البو ( .)Poأعلنوا جميعاًًأنهم جاؤوا لي ّحرروا إيطاليا ،ولكنّهم كانوا
كجميع المحّررين ،لم يَدعُهم أحد إلى ذلك .وقد نالوا تعويضَهم بنهب الأرياف والمدن .ووثب
نابليون وثبة اخيرة في الأيام المائة وفي معركة واترلو ( )Waterlooثم تُوفي في جزيرة صغيرة في

3 Pages 21-30

▲back to top


3.1 Page 21

▲back to top


المحيط الاطلسي.
َتعبت إيطاليا وأوربا ،وقد عمّهما الخراب وكثر فيهما الأيتام .ذلك بأنّ الحرب عاثت فساداً
في الأرياف وقلّ سكّانها ،على أثر التعبئات التي صادرت الشبان عنوة ،لترسلهم إلى الموت في
ساحات معارك بعيدة.
إن الشعب الذي صاح "الحرية!" خلال سنين كثيرة ينشد الآن السلام وحده.
في جوّ هذه المأساة الكبيرة ،مأساة الشعوب ،عاشت أسرة بوسكو في السنة 3939
مأساتها ،وكانت محدودة ولكنها شديدة الوطأة عليها.
أخّر الملك الساعة خمس عشرة سنة
علم حنا بوسكو بعدئذ من كتب التاريخ أنه ولد في فاتحة عهد جديد ،قيل له" عودة النظام
الملكي ."ابتدأ ذلك العهد في اليوم الأول من تشرين الثاني ( نوفمبر) السنة 3939بافتتاح مؤتمر
في مدينة فيّنا ،مؤتمر الأمم المنتصرة في مكافحة نابليون .دامت الحقبة في معظم أنحاء ايطاليا حتى
3999أي حتى بدء نهضة ايطاليا السّياسيّة التي يقال لها ريزورجيمنتو (.)Risorgimento
إنّعودة النظام الملكيّعَهدٌ فيه كثير من الالتباس ،فقد عاد الملوك الذين خلعتهم الثورة
ونابليون ،وفقاً لمشيئة المؤتمر ،وجلسوا على عروشهم ،وادّعوا أنهم مسحوا ببضعة أسطر من
أقلامهم خمساً وعشرين سنة من التاريخ.
قُسمت إيطاليا في العيد الذي أقيم في فيّنا ثمانية أقسام كما تقسم الكعكة :مملكة سردينيا
(وتشمل البيمونته وسردينيا وسافويا Savoiaونيس Niceووهبت لها جمهورية جينوى منحة)
والمملكة اللوممباردو – فينيتو ( وهي خاضعة خضوعاً وثيقًا للنمسا) وولاية مودينا وولايتا برما
وبياتشينزا ( )Piacenzaوالولاية الكبيرة توسكانا ( )Toscanaوإمارة لوقّا ( )Luccaوالدول
الباباوية ومملكة الصقليتين.
عاد فيتّوريو عمانوئيل الأول إلى تورينو في مركبة فخمة ،يُحدق به النبلاء وهم يرتدون زي
النظام القديم وعلى رؤوسهم الشعر المستعار المذنّب المرشوش بالمسحوق.
وحيّا الجمعُ الملكَفي الشوارع ،فالشعب في الريف يريد أمراً واحدًا يفوق كل شيء ،وهو
السلام .ولكن أصحاب الشعر المستعار المرشوش بالمسحوق يريدون أن يضمنوا السلام بإعادة
الأمور إلى ما كانت عليه من قبل .إنهم يتجاهلون الأحداث الجديدة الإيجابية التي نَبتت ورسخت
في ايطاليا ولو من خلال حملات نابليون الدامية.
سار التاريخ في طريقه ،وما من شيء يستطيع أن يُعيده إلى الوراء ،فالطبقة البورجوازية في

3.2 Page 22

▲back to top


المدن قد أثبتت نفسها طبقة اجتماعية جديدة ،والبضائع والناس تسير على شبكة الطرق المتينة التي
أنشأها مهندسو نابليون.
إ َنّ ال َسّواد الأعظم من الشعب ،طَوا َل مئات السنين ،وُلُد وعاش ومات في حكم السلطة
نفسها ،في القرية نفسها ،وقد تحَ ّجر في اكتفاءاته الذاتية وعاداته المتوارثة عبرَ القرون .حطمت
جيوش نابيلون ذالك الجمود .لقد أصبحت الهجرة الداخلية ظاهرة جماهيرية وان كانت أسبابها
مُفجعة.
والكتب والجرائد تُنُقل في العجلات .أجل ،إن الذين يعرفون القراءة قلّة ،ولكن الرغبة
في المعرفة تشمل جميع الناس والذين يعرفون القراءة ،وإن كانوا قليلا ،يذيعون الأخبار :إن
الآفاق تتّسع .في مؤتمر لوبيانا ( )Lubianaفي السنة 3983ح ّذر فرنسوا الرابع ملك مودينا هذا
التحذير " :إ ّن حرية الصحافة ،وتكاثر المدارس ،وتمكين جميع الناس من تعَُلّم القراءة
والكتابة ،هذه هي البذور الخبيثة التي تَنبِت منها الثورات."
نَمَت الزراعة في بلاد البيمونته بعد قليل نموًا جديداً سريعاً وازدهرت .ُقطِعت الغابات في
السهول والتلال ،وأصبحت بقاع واسعة صالحة للفلاحة ،وغرست آلاف من أشجار التوت،
فمكنّت من التوسع السريع في تربية دود القز .وقامت فجأة في كل جهة المصانع والمعامل والآلات
لرفع الاثقال الضخمة وُنظّمت الصناعة وثُبتت الأسعار.
ألغى فيتّوريو عمانوئيل الأول ،في اليوم الثاني لعودته ،القوانين التي سَُنّت في الخمس
عشرة السنة الأخيرة وأعاد القوانين التي كانت قبل نا بليون ،واسترجع النبلاء ورؤساء الاكليروس
امتيازاتهم ،وهكذا فقدت الطبقة البورجوازية دفعة واحدة كثيرًا من الحقوق التي كانت حصلت
عليها بش ّق النفس.
أيًا كانت النتيجة؟ فبينما يؤخر الملك ساعته خمس عشرة سنة ،هاجر ميلانو أصحاب
الفكر من الطبقة البورجوازية ،أمثال سيلفيو بلّيكو ( .)Silvio Pellicoإن الشّبان من الأسر
الكبيرة يقاومون في صفوف المعارضة ،ويدخلون الجمعيات ال ّسرية ،ويجعلون آمالهم في أمير
حديث ال ِسّنّ من أسرة سافويا – كارينيانو ( ،)Savoia Carignanoكارلو البرتو الذي يبدو
متنبّهًا للأزمنة الجديدة.
وصلت أصداء هذه الأحداث ضعيفةًًجداً إلى تلال مونف ّراتو حيث يقضي يوحنا بوسكو
أعوام طفولته في الفقر والسلام.

3.3 Page 23

▲back to top


3
الأعوام التي قضاها في البيت الوالدي
كانت مرغريتا في التاسعة والعشرين من عمرها لما تُوفّي زوجها ،فكان ي َعسر عليها النهوضُ
بالعبء الملقى على عاتقها ،ولكنّها لم تُضع بضعةَأيام في البكاء على نفسها ،بل ش ّمرت عن
ساعِدَيها ،وأخذت في العمل.
كان عليها أن تقوم بتدبير المنزل ،فتغسل الصحون ،وتُصلح الطعام ،وتستقي الماء،
وترتّب الغرف .كانت تفعل ذلك في ساعات الفراغ ،لأنها كانت تصرف ساعات العمل في رعاية
المزروعات والاهتمام بالاسطبل.
كانت ،مثل سائر الفلاحات الق ّويات البنية في الأماكن المجاورة ،تقطع الأعشاب،
وتحرث وتبذر وتحصد السنبل وتربط الضمائم ،وتنقلها إلى البيدر وتدرسها .وكانت تقلب
الأرض في الكروم ،وُتعنى بقطف العنب وصنع الخمر.
قد خشنت يداها من العمل الشاق ،ومع ذلك كانت تحسن مداعبة أولادها مداعبة
ناعمة .كانت تعمل في الأرض ،ولكنها كانت قبل كل شيء أُمّاً لصغارها.
كانت في تربيتها لهم تجمع بين اللين والحزم .كتب علماء النفس بعد مائة سنة ان الطفل
يحتاج ،لكي ينمو نم ّواً سليمًا ،إلى حُبّ الأب وما فيه من الشدة ،وإلى حُبّ الأم الوادع الفَرِح،
وقالوا ايضًا إن اليتمة ُتعرّض الطفل لخطر الميل العاطفيّ إلى جهة واحدة :إلى اللين من غير شدّة
لاولاد الأم ،أو إلى الجفاء القَلِق لأولاد الأب.
وجدت ماما مرغريتاِفي نفسها بالفطرة التوازن الذي جعلها تجمع بين الحزم الهادئ والفرح
الذي يبعث الطمأنينة ،فاستعملت الواحد بعد الآخر في وقته .إن دون بوسكو مَدين كثيرًا لأمه في
أسلوبه التربوي
شخص عظيم
كتب الأب أوفري ( " :)Auffrayجعلت مَرغريتا أوكّينا الاحساسَ الديني بالحياة قاعدةً

3.4 Page 24

▲back to top


وسَنَدًا لطريقتها التربوية الف ّطرية."
كانت العبارة الله يراك من العبارات التي تُكثر من ترديدها على وجه خاصكانت تترك
الأولاد يلعبون في المرج المجاور وتقول لهم ،وهم ذاهبون إليها " :اذكروا أن الله يراكم."
وإذا رأتهم احيانا ،ًوقد استولى عليهم شيء من الحقد ،أو همّوا باستنباط كذبة ،لكي ينقذوا
أنفسهم من الحيرة ،قالت ":تذكروا أن الله يعلم أفكارَكم أيضا."ً
ولكنّها لم تكن تطبع في قلب صغارها صورة إله قاسإذا كانت الليلة جميلة المنظر،
والسماء مرصّعة بالنجوم ،في أثناء استنشاقهم النسيمَ الناعم أمام باب الدار ،قالت لهم ":هو
الله الذي خلق العالم ،وجعل في أعلى السماء هذا العدد الكبير من النجوم ."وإذا أزهرت
المروج ،قالت متمتمة ":كم من الأشياء الجميلة صنع الله في سبيلنا ."كانت تقول بعد الحصاد
أو قطف العنب ،لما كانوا يتنفسون ال ّصعداء ،بعد عناء جني الثمار ":لنشكر الرب .لقد كان
كريماً معنا ،فرزقنا خبز يومنا."
وكانت الأم تدعوهم إلى التفكير حتى بعد الزوبعة أو الأمطار الشديدة التي أتلفت كل
شيء ":الله أعطى ،الله أخذ .إنه يعرف لماذا كان ذلك .إذا كنا اشراراً لنتذكر ان الله لا يسخر
منه."
أخذ يوحنا يعتاد ان يرى بجانب أمّه واخواتِه والجيران ،شخصًا آخر ،هو الله وهو شخص
عظيم لا يُرى ،ولكنه حاضر في كل زمان ومكان ،في السماء ،وفي الحقول ،وعلى وجه الفقراء،
وفي صوت الضمير الذي يقول ":لقد أحسنت العمل أو أسأت العمل ."إنه شخص تثق به أمّه
ثقة لا ح ّد لها ومن غير جدل .إنه أب حنون يرزف خبز كل يوم ،ويسمح أحيانًا ببعض الأشياء
التي يعسر تََف ُّهمها (موت الأب ،البَرَد على الكرم) ولكنه"هو" يعرف سببها وذلك كاف
عاد من اللعب ودمه يسيل
كان يوحنا في الرابعة أو الخامسة من عمره لما سَلّمت اليه أمه ثلاثة أو أربعة أعواد من القنّب
لكي يعالجها .إنه عمل صغير جدًا ولكنه عمل ،وهكذا أخذ يساهم من عنده في معيشة الأسرة
التي تقتات من عمل جميع أعضائها.
وقد انضم بعدئذ إلى اخوته ليقوم بخدمات البيت ،فذهب إلى قطع الحطب ،وأوقد النار
فنفخ بحذق الجمر الكامن تحت الرماد (لكي ي ّذخر الأعواد التي ُغ ِمسَت أطرافها في الكبريت)
واستقى الماء وقشر البقول ،وكنس الغرف ،ون ّظف الاسطبل وذهب بالبقر إلى المرعى ،وراقب
الخبز وهو يُخبز في الفرن.

3.5 Page 25

▲back to top


وعندما بفرغ من أعماله هذه الصغيرة ،التي تراقبها أمّه ،ُيسرع إلى اللعب في خارج
الدار .ولا حاجة به إلى البحث عن فسحة لذلك ،فالمرج يمتد إلى المدى البعيد ،والأصحاب
ينتظرون .هم صبيان أقوياء البنية ،كلّهم رشاقة ،وجوههم خشن خالية من الجمال .إنهم
ذاهبون للبحث عن أوكار ال ُخلد واعشاش العصافير ،ويتجابهون في لعب مباريات لا نهاية لها.
ومن تلك الألعاب ،اللعب "بالليّبا" ( )la lippaوهو نوع من البيزبول البدائي:
يضربون قطعة من الخشب وُضِع نصفها الأعلى فوق ثغرة ،لكي تقفز ،وبينما هي في الهواء،
يضربونها مرة ثانية لكي يُرسلوها إلى أبعد ما أمكن .عاد يوحنا ذات يوم بعد الظهر إلى البيت قبل
الوقت المعهود ،والدم يسيل على وجهه .فقد أصابت خدّه خشبة "الليبا" بمنتهى العنف،
فشعرت مرغريتا بالقلق وقالت وهي تداويه:
-ستعودُ الّي في يوم من الأيام وعي ٌن من عينيك مقلوعة .لماذا تذهب مع هؤلاء الصبيان؟
وأنت تعلم أنهم كلّهم لا خير فيهم.
-إذا كنتِ تريدين أن افعل ما َي ُسرّك فلن أعود إليهم ،ولكن ثقي ،يا أ ّماه ،أن سلوكهم
يَتَحَّسن عندما أكون معهم ،فهناك ألفاظ يكفّون عن التفوّه بها.
فتركته مرغريتا ما أراد .ونَمَت الشجاعة عنده أكثر ّمما نَمَت القامة.
يوحنا في سِنّ الخامسة ،ويوسف في سِ ّن السابعة .أرسلتهما مرغريتا لكي يرعَيا قطيعاً
صغيرًا من الديوك الهندية .وبينما تطارد هذه الحيوانات الجدجد )3(كان الأخَوان يلعبان .واذ
بيوسف يعُ ّد على أصابعه ،ثم يصيح أن هناك ديكًا مفقودًا ،فأخذا يبحثان عنه وهما قلقان ،فلم
يَجدا شيئًا ،ولكن الديك الهندي حيوان كبير الحجم ولا يمكن أن يَخفى أمره .وبينما يطوف يوحنا
بسياج ،اكتشف رجلا فخطر بباله لوقته :هذا هو الذي سرقه .فدعا يوسف ودنا بحزم من
الرجل وقال له:
-رُ ًدّ علينا الديك.
فنظر الغريب اليهما مستغربا
-الديك؟ أين هو؟
-أنتَ سرقته .رُدّه علينا وإلاّ صحنا ":إلى السارق!" فيقبض الناس عليك ويضربونك
بالعصي
)3دويبة أشبه بجرادة صغيرة (حاشية من المترجم.)

3.6 Page 26

▲back to top


إنّهما صَبِيّان وبوسعه أن يطردهما بأربع لطمات على افخادهما ،ولكن حزم هذين الصبيين
يزعجه .فاذا كان هناك فلاّحون يعملون على مقربة من المكان ،وأخذ الطفلان في الصراخ،
حدث ما قد لا ُتحمد عقباه ،فذهب إلى السياج واجتذب كيساً واخرج منه الديك وقال:
-أردتُ أن أمازحكما.
فرد عليه الطفلان وهما يبتعدان:
-ليس هذا المزاح حسنا
وعند المساء أطلعا أُم ّهما كعادتهما على ما جرى لهما فقالت:
-إنكما ع َرّضتما نفسكما لخطر جسيم.
-ولماذا؟
-أول الأمر لأنكما لم تكونا على يقين من أنه هو السارق.
-ولكن لم يكن في المكان شخص سواه.
-ذلك لا يكفي لكي تسمّيا أحدًا من الناس سارقاثم أنكما صغيران في حين أنه رجل.
فماذا لو أصابكما باذى؟
-اذاً أكان يجب علينا أن نتركه يسرق الديك الهندي؟
-يحسن بالمرء ان يكون شجاعاً ولكن لأن تفقدا ديكاً خير من ان ينالكما احد بسوء.
تمتم يوحنا وهو يفكر:
-احِم .إنك على صواب يا أماه ولكن الديك كان كبير الحجم حقا...ً
العصا في زاوية المطبخ
ماما مرغريتا امرأة لطيفة جدًا ولكنها حازمة شديدة ،ويعلم الأولاد أنها ،إذا قالت :لا،
فان الأعمال الصبيانية لَن تبدّل رأيها.
في زاوية من المطبخ عصا من الخيزران مَرِنة .إنها لا تستعملها ولكنها لا تُزيلها
أبدًا من زاويتها.
ذات يوم ارتكب يوحنا خطأ كبيرا .لا شك في أنه كان يريد الذّهاب إلى اللعب على
عجل ،فترك باب البيت الأرنب مفتوحًا فهربت كلًّها إلى المروج .وكانت مطاردتها عملًا شاقا
فلما عاد إلى المطبخ أشارت مرغريتا إلى الزاوية وقالت:
-يا يوحنا ،اذهب فَأتِ بالعصا.
فتنحّى يوحنا نحو الباب وقال:

3.7 Page 27

▲back to top


-ماذا تريدين أن تفعلي بها؟
-إئتني بها ،َتر
كانت لهجتها حازمة .فأخذ يوحنا العصا ومدّها عن بعد:
-أتُريدين ان تضربيني بها على كتفيّ؟
-ولمَلا أفعل ،إذا كنتَ ترتكب مثل هذه الحماقات؟
-يا أماه ،لن أعود إلى مثل ذلك.
فابتسمت الأم وابتسم هو أيضا
ذات يوم اشتدّت فيه حرارة الشمس ،عاد يوحنا ويوسف من الكرم وهما يكادان ان يموتا من
العطش ،فذهبت مرغريتا إلى البئر ،واستقت دلوًا من الماء البارد ،وسقت يوسف أولًا بمغرفة من
النحاس الأصفر.
فتجهّم وجه يوحنا ،وقد ساءه ان أُمه ف َضّلت أخاه عليه ،فلما ق ّدمت له الماء لتسقيه هو
أيضًا ،اشار أنه لا يُريده .فلم تَُقل مرغريتا شيئاً بل ذهبت بالدلو إلى المطبخ ،وأغلقت الباب،
فدخل يوحنا بعد لحظة وقال:
-يا أُميمة.
-ما الخبر؟
-ألا تسقيني أنا أيضاً؟
-ظننتك غير عطشان.
-عفوًا يا أُميمة.
-حَسًبك هذا.
وق َدّمت له أيضاً مغرفة طافحة.
يوحنا في سن الثامنة يتمتع بصحة جيدة ،وضحكه صافي النبرة .قامته تميل إلى القصر
بنيته متينة ،وعيناه سوداوان ،وشعره مجعد كَ ّث مثل صوف الخروف .إنه يُح ّب المغامرة والخطر
فلا يشتكي أبدًا عندما يسلخ جلد ركبتيه.
لقد أخذ يتسلق الأشجار وهو يبحث عن أعشاش العصافير .وقد عاد عليه الأمر بالأذى
ذات يوم .فقد كان عش للقرقف في قعر فجوة عميقة من جذع شجرة ،فأدخل ذراعه في الثغرة
إلى ما بعد المرفق ،ثم تعذّر عليه إخراجها .حاول عدة مرات ولكن الذراع في ما يشبه الملزمة
أخذت تتورم .كان يوسف ينظر إليه وهو عند جذع الشجرة ،فأسرع إلى البيت فجاءت مرغريتا

3.8 Page 28

▲back to top


ومعها سلّم فلم تستطع إنقاذه .فلا بُ َّد من استدعاء جار لهم فحضر ومعه مقصٌ للخشب .وكان
العرَق في اثناء ذلك يتصبب من جبهة يوحنا .وكان يوسف أشدّ خوفًا من أخيه فصاح به من
الأسفل ":سك ّن روعك .ها إنهم قادمون."
لفّ الجار ذراع الطفل بإزار مرغريتا واخذ يحزّ الشجرة فكانت سبع ضربات من الازميل أو
ثمانٍكافية لاخراج الذراع.
ولم تجرؤ مرغريتا على لوم ابنها ،فقد كان مذلولا كالكلب بّلله المطر .فقالت له هذه
الكلمات فقط:
-لا تأتني بمثل ذلك م ّرة أخرى.
الشيطان في السقف
كان يوحنا مع أمه ذات يوم من الخريف عند جَدّيه في كابريليو ( .)Capriglioوعند طعام
المساء كانت الأسرة باعضائها الكثيرين حول المائدة في العتمة ولا ضوء سوى ضوء قنديل الزيت.
وإذا بهم يسمعون صوتاً غريباً فوق رؤوسهم ،فَتَكرر مرّة ومرّتين وثلاث مرات .فنظر جميع
الحضور إلى فوق ،وهم يحبسون أنفاسهم .عاد السكوت ،ثم عاد الصوت العجيب تحت
السّقف ،وتبعه انزلاق طويل مخنوق ،فرسمت النساء إشارة الصليب ،والتصق الأولاد
بأُمهاتهم.
فأخذت امرأة عجوز تروي بكلمات تتصف بالحذر كيف كانوا يسمعون في الماضي تحت
السقف ،أصواتًا تمتَدّ ،وانينًا وصيحات مرعبة .قالت وهي تُتمتم وترسم إشارة الصليب:
"كان صاح ُب الصوت الشّيطان ،َوها هوذا قد عاد."
وساد السكوت حتى تكلّم يوحنّا فقال بلهجة هادئة:
-أظنه سمورًا )3(لا الشيطان.
فقالوا له كما يقال للوِقح :عليه بالسكوت .وعاد الصوت كأنه مخنوق ،وتبعه حفيف أشبه
بالاستغاثة ،واتجهت الأفكار وقد ارتسم فيها القلق ،إلى خشب السقف وفوقه مستودع
للحبوب.
فتكلّم يوحنا الصغير ثم قفز من كرسيّه وقال:
)3حيوان يشبه ابن عرس ،لونه أحمر مائل إلى السواد يأكل العصافير والدجاج (شرح من المترجم)

3.9 Page 29

▲back to top


-هيّا بنا ننظر.
فقالوا :أنت مجنون! مرغريتا ،أوقفيه! ما من أحد يمازح الشيطان!
ولكن الصبّي تهيأ للعمل فأخذ مصباحًا وأوقده وأمسك بعصا ،فقالت له مرغريتا:
-أليس الأفضل أن تنتظر حتى غد؟
-يا أميمة ،ألست خائفة بعض الخوف أنتِ أيضاً؟
-كلا .هّيا بنا ننظُر معا
فصعد السلّم من الخشب ،وجاء سائر الحاضرين يحملون القناديل ،وهم يقبضون على
العص ّي ،فدفع يوحنّا باب المستودع ،ورفع المصباح لكي يرى رؤية واضحة ،فصرخت امرأة
صرخة مخنوقة:
-هُنا في الزاوية ،أنظروا!
فنظروا جميعاهناك سلّة من الحَ ّب مقلوبة تسبح وتتحرك وتتقدم .خطا يوحنا خطوة إلى
الامام ،فصاحوا به:
-لا ،حذار ،ِهذه سّلة مسحورة!
فأمسك بها يوحنا باحدى يديه ورفعها ،فاذا دجاجة كبيرة مذعورة مأسورة تحت السلّة منذ
عدد من الساعات غير معروف ،تخرج كأنها قذيفة وهي تصيح حتى بُ ّح صوتها.
أخذ جميع الحاضرين يضحكون حول يوحنا كالمجانين .كان الشيطان دجاجة .كانت
السلة الخفيفة قد سُنِدَت إلى الجدار في توزان غير ثابت ،وكان قد بقي بين أعواد الخيزران شيء من
القمح ،فأرادت دجاجة أن تلتقطها ،فقلبت السلة على ظهرها ،وغدت أسيرة تحتها .وتعب
الحيوان المسكين من المكوث هناك ،وجاعت فحاولت الخروج ونقلت السلة من مكان إلى آخر،
فكانت تصدم الاشياء في السقيفة ،وتحُدث اصواتاً مخنوقة وانزلاقات على خشب السقف.
كَسَر جرّة الزيت
كانت مرغريتا تذهب يوم الخميس من كل أسبوع إلى سوق كاستلنوفو ،وهي تحمل سلّتين
فيهما الجبن ،وأفراخ ال َدّجاج ،والبقل لتبيعها .وكانت تعود ومعها شيء من القماش والشمع
والملح وبعض الهدايا الصغيرة للأولاد ،فينزلون للقائها مسرعين من خلال الدروب ،عندما تأخذ
الشمس تميل.
ذات يوم من أيام الخريف ،طالت لعبة " الليبّا" إلى ما لا ح ّد له ،واذا بالاسطوانة
الصغيرة من الخشب تُنهي شوطها على السطح .فقال يوحنا:

3.10 Page 30

▲back to top


-على خزانة المطبخ اسطوانة اخرى ،أنا ذاهب لآتي بها.
ذهب راكضُا ،ولكن الخزانة عالية ،فاضطُرّ إلى اعتلاء كرسي ،ووقف على رؤوس أصابع
قدميه ،وم ّد يدَه فحدثت الكارثة ،اذ وقعت جرة الزيت التي على الخزانة إلى الأرض وتحطمت
وسال الزيت على القرميد الأحمر.
رأى يوسف أن اخاه لا يعود ،فجاء مسرعاً وشاهد الكارثة ووضع يدَه على فمه:
-هذه الَمّرة عند المساء،ُأ ُمّنا...
حاولا أن يرتّبا الأشياء كما كانت ،فَكُِنّست بسرعة شظايا الجّرة ،ولكن بقعة الزيت لم تمُحَ
بل اتّسعت واتسع خوفهما أيضا
ظ ّل يوحنا صامتًا نصف ساعة ثم خرج سكّينهُ من جيبه ،وذهب إلى السّياج ،وقطع عودًا
مرنًا حسنًا ،وأخذ يعمل فيه وهو يغني ،ويعمل أيضًا فكره ويبحث عن الكلمات التي سيقولها
لأمّه .وزينّت قشرة العود آخر الأمر يثقوب ونقوش.
وعند المساء ذهبا إلى لقاء والدتهما .كان يوسف مترددًا يمشي على مهل ،وأما يوحنا فانه
يركض ،قال:
-مساء الخير ،يا أميمة ،كيف حالك؟
-بخير وهل أنت بخير؟
-يا أميمة انظُري – ومَدّ نحوها العودَ المنقوش.
-ماذا تفعل؟
-إني أستحقّ هذه المرة أن تضربيني .فيا لسوء الحظ ،كسرتُ جرّةَ الزيت.
وروى ك ّل شيء من غير ان يتوقف وختم كلامه بقوله:
-أتيتكِ بعود لأني استحقّه حقاخذيه يا أُميمة.
وقدّم لها العود ،وهو ينظر اليها نظرات نصفها الندّم ونصفها الحيلة.
وراقبته مرغريتا بضع لحظات ،ثم اخذت تبتسم ،وأخذ يوحنا يضحك فأمسكت أُ ّمه بيده
واتّجها نحو البيت.
-هل تدرك يا يوحنا أنك أخذتَ تصبح كثير الحذق؟ إن مسألة جَ ّرة الزيت تسوءني ولكني
-مسرورة بأنك لم تأ ِت فتر ِو لي حكاية كذب ،فتنّبه للأمر مرة أخرى لأن الزيت يكلّفنا غاليا
تقدّم يوسف عندئذ وقد رأى أن العاصفة التي كان يخاف أمرها قد زالت .يوسف في سنّ
العاشرة ،وهو ينمو وديعاً هادئا ،وليس له سرعة انفعال يوحنا ولا كثرة حركته .إنه صبور،
مكبّ على العمل ،َفطِن ،يحبّ أُمّه وأخاه الصغير من كل قلبه ويخاف انطون بعض الخوف.

4 Pages 31-40

▲back to top


4.1 Page 31

▲back to top


"أنا أ ُمّك لا زوجة أبيك"
أنطون أكبر من يوحنّا بسبع سنوات ،وهو يظهر وكأنه غلام منقبض على نفسه ،قاسٍ
عنيف.
إنه يضرب حيناً بعد آخر أخويه الصّغيرين بقسوة ،فُتطّر مرغريتا الى الإسراع لتنقذهما
من يديه .ولرُبّما كان غلاماً شديد الإحساس ،أثّرت فيه تأثيراً سيئاً وفاة أمّه ثم وفاة أبيه.
إنه يشعر في صلته بمرغريتا شعوراً حائرًا يجعله ينتقل من أوقات تسودها المو ّدة إلى نوبات
حا ّدة من الغضب .وفي بعض الأحيان ،عندما يأخذه الغيظ ،يتقدم نحوها وذراعاه مبسوطتان،
وقبضتا يديه تهدّدان ويصبح بها ":يا رابّة" )3(
كان بوسع مرغريتا أن توقفه عند ح ّده بأربع ضربات محكمة (لم تكن سائر الأمهات في ذلك
الزمان يتردّدن في استعمال الضرب )ولكنها تكره الضرب فلم ترفع عليه يدَها َق ّط بل اكتفت بأن
تك ّرر القول بحزم:
-يا أنطون ،أنا أمّك لا زوجة أبيك .والآن سكّن روعك وف ّكر ،َترَ أنّك على خطأ في
عملك هذا.
وأنطون عندما يزول غضبه ،يذهب إليها ويستغفرها ،ولكّنه يستسلم إلى الغضب مرّة
ُأخرى من أجل شيء لا شأن له .ويوسف ويوحنّا يخافان خوفًا شديدًا عندما يشاهدان مثل هذه
المشاهد.
)3الرابّة :زوجة الأب (شرح من المترجم) .

4.2 Page 32

▲back to top


4
أيـــام الربيــع
تعيش ُأسرة بوسكو عيشة فقيرة .بيت بوسكو هو بين بيوت البكّي أكثرها تواضعاً على قلة
عددها ،إن ّه بيت له طبقة واحدة ويستعمل للسكن ،ومخزنًا للحبوب واسطبلا.
أكياس الذرة الصفراء في المطبخ ،ووراء الحاجز الرقيق بقرتان تَجّتران .في الطبقة العليا
غرف للنوم صغيرة معتمة ،وهي تحت السطح ليس بينها وبينه شيء.
لا تصل الحالة بهم إلى حَ ّد البؤس ولكنها حالة فقر حقيقيك ٌلّ منهم يقوم بقسطه من
العمل ،واذا كان العمل في الأرض لا يأتي بالربح ،فانه يأتي مع ذلك بشيء منه .الجدران جرداء
مطلَّيّة بالكلس .ليس عندهم كثير من أكياس الذرة الصفراء ،ولكن هذه الاكياس تُفَرّغ
بحرص ،فتكفي لمعيشتهم آخر الامر .البقرتان تجرّان العجلة والمحراث ،فلا تد ّران إلا لبنًا قليلاً
ليس فيه كثير من الدسم ،ولكنه كاف
فأولاد بيت بوسكو لا تنال منهم الكآبة ولا التمرد :بوسع المرء حتى في الفقر ان يكون سعيداً
إذا تحلّى بالصبر.
أخذ يوحنا وهو في ما بين الثامنة والتاسعة )3989 – 3981(يشترك بنشاط في أعمال
الأسرة ،ويشارك في العيشة العسيرة الخشنة.
كانوا يعملون منذ شروق الشمس إلى غروبها ،وتشرق الشمس في الصيف في وقت مب ّكر.
كانت مرغريتا تقول للصبيان عندما يستيقظون في الفجر ":النائم لا يصطاد سمكا ."ًولربما سأل
يوحنا نفسه غير مرة أين يَجِد ذلك السمك المبارك.
ان طعام الصباح بسيط جداكسرة من الخبز اليابس وماء بارد .تعلّم يوحنا الحفر وقطع
العشب واستعمال المقضّب وحلب البقرات .إنّه فلاح حقيقي .كان الناس يسافرون سيرًا على
الاقدام .ان العجلة تمر على مسافة بعيدة وهي تسير في طريق كاستلنوفو وأجرة ركوبها غالية.
وعند المساء يذهبون إلى النوم على ُفرُ ٍش من أوراق الذرة.

4.3 Page 33

▲back to top


قدَمــا الفقير
إذا مرض بعضهم مرضاً شديدًا في بيت من البيوت المجاورة ،جاؤوا إلى مرغريتا
فايقظوها ،وهم يعرفون أنّها لا تر ُدّ أبداً طلب من يستنجد بها ،وهي توقظ أحد أولادها لكي
يرافقها - :لنذهب! هناك عمل من أعمال المحبة نقوم به.
" القيام بعمل محبة" كانوا يجعلون في هذه العبارة البسيطة جملة من القيم نقول لها
اليوم :البذل والسخاء والتزام خدمة القريب والمحبة بالفعل والغَيريّة.
وكان بوسكو يتذكر أنه كثيراً ما حدث في الشتاء أن فقيرًا قرع باب بيتنا .كان الثلج ينزل في
خارج البيت ،فيطلب الرجل أن ينام في مستودع الحبوب تحت السقف ،فكانت مرغريتا ،قبل
أن تتركه يصعد لينام هناك ،تُقدم له صحنًا من الحساء الساخن .ثم كانت تنظر إلى قَدَميه وكانتا
في أكثر الاحيان في حالة سيئة .كان حذاؤهما وهو من الخشب بالياً يمرُّ منه الماء وسائر الاشياء.
ليس عندها زوجان آخران تقدمهما له ولكنها تل ّف قدميه في خرقة تربطها على قدر استطاعتها.
في بيت من بيوت البكّي يقيم فرنسيس .كان غنيّا فب َدّد كل ما عنده .إن الأطفال يسخرون
منه ويدعونه في بعض الاحيان ":صرصور ."إن الامهات يُشرنَ اليه ويروينَ لأولادهن حكاية
الصرصور والنملة ":كنا نشتغل كالنمل في حين أنه كان ُيغنّي ويستسلم الى الترف .كان قليل
الهَ ّم كالصرصور .والآن أنظُروا إلى الحالة التي صار اليها .لا تنسَ هذه الحكاية."
ان ذلك الطاعن في السن المسكين يستحيي ان يطلب الصدقة ،ويعاني من الجوع أحياناً
كثيرة ،وعندما ُيظلم الليل ،تضع مرغريتا على حرف النافذة قَدراً صغيرًا من الحساء الساخن
فيأتي فرنسيس ويأخذها ويسير في الظلام.
حفظ يوحنا هذه العِبر .فالسخاء أفضل من الأذّخار .وكان غلام يعمل خادمًا في مزرعة
مجاورة ،واسمه سكندو متى ( .)Secondo Mattaوكان رب عمله يعطيه في الصباح كسرة من
الخبز الاسود ،ويضع في يده رَسن بقرتين عليه أن يذهب بهما لكي ترعيا حتى الظهر ،وبينما هو
نازل نحو الوادي كان يلتقي ويوحنا الذي يسوق هو أيضًا بقرتيه إلى المرعى ،وفي يده كسرة من
الخبز الابيض ،وكان هذا الخبز ُيعَ ُدّ حلوى في ذلك الزمان .ذات يوم قال له يوحنا:
-أتريد أن تسُرّني؟
-أجل.
-أرغب أن نتبادل خبزنا .لا َش ّك في أن خبزك أطيب من خبزي.
كان سكندو مقتنعًا بذلك ،وقد روى بنفسه أنّه كلما تلاقيا تَبادَلا خبزهما .لما غدا السيد
متى كهلا ،ف ّكر في الامر فأدرك أن يوحنا بوسكو صّبي طيب.

4.4 Page 34

▲back to top


ق ّطاع الطرق في الحرج
كان بجانب البيت حرج ،فطرق باب مرغريتا غير مرة في الليل جماعات صغيرة من
"قطاع الطرق" يطاردهم الحرَس .كانوا يأتون فيطلبون قصعة من الحساء ،وشيئًا من التين
ليناموا عليه.
إن مرغريتا لا تخاف هؤلاء الزوار ،فقد ألِفَت أمرَهم .كان شبان كثيرون يهربون من تعبئة
الجيش في أيام نابليون .قال المؤرخون إن عددهم بلغ سبعين في المائة في آخر عهد الامبراطورية.
كانوا يعيشون جماعات في الغابات والجبال ،وكانوا يقومون باعمال اللصوصية ليعيشوا ،أو كانوا
يعملون بالأجرة بآسم مستعار ،في المزارع المنعزلة .(وكان بين الذين "تمردوا على التعبئة" في
جيش نابليون يوحنا ماري فياني Vianneyوكان ُيظ ِهر أنه فلاح اسمه فنسان وقد صار بعدئذ خوري
أرس القدّيس .)Le saint Cure d’Ars
وما كان يدعو إلى الخوف هو أن وراء هؤلاء قطاع الطرق ،يبرز أحيانًا كثيرة رجا ُل الدرك
(وقد أنشأهم في تلك السنوات الملك فيتّوريو عمانوئيل الأول) ولكن يسود بيت بوسكو نوع من
الهدنة الصامتة .إن رجال الحرَس وقد تعبوا من الصعود ،يطلبون من مرغريتا كأس ماء ،وفي
بعض الأحيان إصبعا من الخمر ،ويسمع قطا ُع الطرق في المستودع تحت السقف الأصوات
ويذهبون من غير ضجة " .عرف رجا ُل الحرس في كثير من الأحيان من كان مختبئاً في تلك الساعة
في البيت ،ومع ذلك أظهروا دائماً ابداً أَنّهم لا يعرفونه ،ولم يحُاولوا ق ّط أن يقبضوا على أحد."
كتب ذلك الكلام يوحنا المعمدان لمِوان ( )Lemoyneوهو أه ُّم كاتب لسيرة دون بوسكو ،وقد دار
بينهما محادثات ذات شأن عظيم طوال سنوات كثيرة في تورينو.
كان يوحنا يراقب ك ّل شيء ويحاول تََفهّمه .تعلّم من أمّه أن جنود النظام
الديمقراطي كانوا في ما مضى يطاردون أُناساً ظلوا مُوالين للملك وأما الآن فقد انقلب الأمر
واصبح المطارِدون مطارَدين .إن رجال الدرك العائدين للملك ُيطاردون الآن الديمقراطيين ،بيد
أنه لن يمضيَ وقت كثير حتى تتبّدل الامور مَ ّرة أخرى .ان الذين يَستأهلون المشانق (هكذا كان
المركيز ميخائيل دي كافور Cavourُي َسمّي الديمقراطيين) سيصبحون الوزراء وقادة الشرطة
والمسؤولين عن الشؤون العامة ،وأمّا المطارَدون فهم أناس آخرون.
تعودت مرغريتا هذه التقنيات في الجبهات السياسية ،فكانت تقّدم قصعة من الحساء
وكسرو خبز لكل من يقرع باب بيتها ،من غير أن تسأل أبداً إلى أي جهة ينتمي .وقد يح ُقّ لنا أن
نفكر أ ّن جميع هذه الاحداث أدّت إلى اقتناع يوحنا بوسكو بما للسياسة والاحزاب من حدود .فقد
نظر دائمًا إلى السياسة نَظَره إلى امر يقبل الجَدل ويتبّدل في الحياة .ولذلك أقام حياته على ركائز أكثر

4.5 Page 35

▲back to top


متانة وهي الاهتمام بخير النفوس والأحداث الفقراء ،يُقدّم لهم الطعام ويرّبيهم .وذلك ما سماه
هو بنفسه سياسة صلاة "أبانا الذي في السماوات."
"عّلمتني امي الصلاة"
ان المحّبة في البكّي لا تنبع من حب الانسان أو العاطفة بل من حب الله .ان الرب هو
في بيته في أسرة بوسكو .مرغريتا أمّية ولكنها تعرف عن ظهر قلبها أجزاء طويلة من التاريخ المقدس
والانجيل .انها تؤمن بضرورة الصلاة أي مخاطبة الله ليحصل الانسان على الشجاعة اللازمة
للعيش وعمل الخير .كتب دون بوسكو ":علمتني أُمّي الصلاة ما ًدمت صغيراكانت تجعلني
أجثو مع أخَو َيّ صباحاً ومساء ،فكُنا نتلو الصلوات المشتركة."
إن الكاهن بعيد ،وهي لا تنتظر أن يكون لديه من الوقت ما يمكّنه من أن يأتي بينهم فيعلّم
أطفالها التعليم المسيحي .وهذه بعض الأسئلة والأجوبة من مختصر العقيدة المسيحية التي
تعلمتها مرغريتا في سِ ّن صغرها َف َعلّمتها يوحنا ويوسف وأنطون:
س :ماذا يَجب على المسيحي الصالح أن يعمل لدى نهوضه في الصباح؟
ج :إشارة الصليب.
س :فاذا نهض المسيحي الصالح ولبس ثيابه فما الذي يجب عليه أن يعلمه؟
ج :إذا أمكنه جثا أمام صورة تقوية ،وجدّد في قلبه الايمان بوجود الله ،وتلا بتقوى
الصلاة :إني أعبدك ،يا رب ...
س :ماذا يجب عليه أن يعمل قبل أن يبدأ عمله؟
ج :يقدّم عمله إلى الله.
وكانت تلاوة السبحة عملًا من أول الأعمال الدينية التي اشترك فيها يوحنا .كانت ال ُسّبحة
صلاة المساء عند جميع المسيحيين في ذلك الزمان .فإ َّن فلاحي البكّي أنفسهم ،عندما يك ّررون
السلام عليك خمسين مرة ،يحادثون أ ّمهم أكثر منهم ملكتهم .وتكريرهم الكلمات نفسها خمسين
مرة ليس امرًا خاليًا من المعنى .فقد ضربوا الأرض في النهار مئات الضربات بالمعول ،وهم
يعرفون ح َّق المعرفة أنه لا غِنى لهم عن ذلك للحصول على غلاّت حسنة .وبينما هم يتلون السبحة
حَبّ ًة بعد حبة ،فانهم يفكّرون باولادهم وحقولهم وبالحياة والموت .وهكذا أخَذَ يوحنا ُيكلّم
السيدة العذراء وهو على يقين من أنها تنظر اليه وتستجيبه.
وذكر دون بوسكو اعترافه الأول أيضًا في ذكرياته ":والدتي هي التي هيأتني له ،فرافقتني
إلى الكنيسة ،واعترفَت قبلي ،وأوصت بي المعرّف ،ثم ساعدتني على الشكر لله."

4.6 Page 36

▲back to top


المدرسة في فصل الفراغ من العمل في الحقول
الراجح ان يوحنا ذهب إلى الصف الابتائي ،وهو في سن التاسعة في شتاء -3989
.3981كانت الدروس تبدأ حينذاك في الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) وتنتهي في الخامس
والعشرين من شهر آذار (مارس .)كان ذلك الفصل فصل الفراغ في الريف .وأما قلبه وبعده
فإنّ سواعد الأحداث الضعيفة نفسها ضرورية في البيت وفي الحقول .)3(
كانت مدرسة الناحية في كاستلنوفو تبعد خمسة كيلو مترات من البيت فاضطّر يوحنا إلى أن
يتعلم القراءة عن فلاّح يعرفها .ثم إن خالته ماريانّا أوكّينا شقيقة مرغريتا ،وكانت خادمة في بيت
الكاهن المدّرس في كابريليو ( ،)Gapriglioالََت َمست من هذا الكاهن أن يجعل مكانًا لابن
شقيقتها في مدرسته.
فرضي الأب لاكوا ( )Lacquaوالراجح أن يوحنا بقي عند خالته ثلاثة أشهر .ومثل ذلك
حدث في شتاء 3981 – 3981فأخذ أنطون وهو في س ّن التاسعة عشرة يغضب هذه المرة قال:
-لِمَ إرساله إلى المدرسة؟ إنه يعرف القراءة والتوقيع باسمه ،فذلك زيادة على ما يلزم.
فَليعمَل بالمجرفة كما أني أعمل بها.
حاولت مرغريتا أن تدعوه إلى التعقل فقالت:
-كلّما مضى الوقت أصبح التعلم ضرورياألا ترى أ ّن الخياطين والح ّذائين أنفسهم
يذهبون إلى المدرسة؟ اذا كان في البيت من يعرف الحساب فليس ذلك أمراً فاضلًا عن الحاجة.
وما إن تعلّم القراءة حتى أولع بالكتب ،فطلب إلى الأب لاكوا أن يعيره منها ،وكان يقضي
أكثر الوقت بعد الظهر أيام الصيف وهو يلتهم الصفحات في فَيء الأشجار .وعندما يذهب إلى
المرعى فهو موافق على رعاية بقر أصحابه ،ما داموا يَدَعونُه يطالع ناعم البال.
ولم يَصِر مع ذلك عبد الكتب .لقد أحب المطالعة ولكنه أحب أيضاً اللعب وتسلق
الأشجار.
كان ذات يوم مع أصحابه فرأى عشّا من طير الحسون على غصن سنديانة كبيرة ،فتسلق
الجذع ،ورأى أن هناك أفراخًا تصلح لأن توضع في القفص ،ولكن العش ،لسوء الطالع ،في
آخر غصن ضخم طويل يكاد أن يكون محاذيا للأرض .
)3فرض قانون 3988الدراسة الابتدائية .كانت إلزامية ومجّانا ،ولكن تستطيع جميع القرى أت تعمل
بالقانون .

4.7 Page 37

▲back to top


فكّر قليلًا ثم قال لأصحابه من عل " :ُأنا ذاهب ."وزحف رويداً رويدا على الغصن،
والغصن يزداد رِقّة ومرونة شيئًا فشيئافمّد يده وأخذ الفراخ الأربعة وأدخلها في قميصة على
صدره.
وَبقي الآن أن يعود إلى الوراء على طول الغصن الذي التوى من ثقله .استلقى بتؤدة،
ولك ّن رجليه أفلتتا ووجد نفسه ُمعلّقًا بيديه على ارتفاع يدعو إلى القلق ،فانتفض بحقويه انتفاضة
شديدة ،وعاد إلى التعّلق بساقَيه ولكنّه لم يكن يقوى على غير ذلك ،وتَع ّذر عليه أن يستلقي على
بطنه فوق الغصن ،فالعرق يتصَبب من جبينه قطرات كبيرة ،وأصحابه في الاسفل يصرخون
ويأتون بكثير من الحركات ولكنهم لا يتدخلون .ولما تعبت ذراعاه القى بنفسه في الهواء فسقط
سقطة شديدة .َظ َلّ بضع دقائق مصعوقًا ثم استطاع الجلوس.
-هل أُصِبتَ بأذى ؟
فاستطاع أن يتمتم:
-ارجو أني لم اصَب.
-والعصافير؟
-إنها ههنا حيّة – وفتح قميصه واستَّلها منه – .ولكنها كلّفتني غاليا
حاول أن يسلك الطريق إلى البيت فكانت جميع أعضائه ترتجف فا ُضط َرّ إلى الجلوس مرة
اخرى .ولما استطاع الدخول قال يوسف:
-حالتي سيئة ولكن لا تَقل شيئًا لأمي.
إن الليلة التي قضاها في السرير نفعته ،ولكنه أح ّس بضعة أيام بآثار تلك السقطة
الشديدة .
شحرور صغير ،صغير جداً
إنه مولع بالعصافير .أخذ شحرورًا صغيرًا جدًا من عشه ،وربّاه فوضعه في قفص ضفره
من أعواد الصفصاف ،وأخذ يعّلمه التصفير ،فكان العصفور يك ّرر ما يتعلمه ،وعندما يحضر
يوحنا ،يُحَيّيه بتصفير فيه نغم ،ويقفز من عود إلى آخر وينظر االيه بعينه الصغيرة السوداء البرّاقة.
إنه شحرور محبب إلى القلب.
ولكن ذات صباح لم يُحيّه الشحرور بتصفيرة فقد خربت ه ّرة القفص والتهمت العصفور،
فأخذ يوحنا يبكي ،فحاولت أمه أن تدعوه إلى التعقل ،وتؤكّد له أنه سَيَجد كثيرًا من الشحارير
والأعشاش غيرها ولكن ما لَهٌ والشحارير الأخرى؟ ذلك الشحرور صديقه الصغير الذي قُتل،

4.8 Page 38

▲back to top


فلَن يراه أبدا
ظلّ حزينا عدة أيام ،فما استطاع أحٌد أن يعزّيه .روى الأب لموان ( : )Lemoyne"أخذ
آخر الامر يف ّكر في سرعة زوال ما في هذا العالم ،وعَزم عزمًا لم يكن على قدر سّنه ،فقصد ألاّ يدع
قلبه يتعلق بأي شيء كان في هذه الارض ."وك ّرر الكلمات نفسها بعد بضع سنوات لما توفّي أع ّز
أصدقائه ،وفي عدة أحداث غيرها.
وي ّسر المرء أن يرى دون بوسكو لا ينجح دائمًا في التزام ما عزم عليه ،فقد كان له أيضًا مثلنا
قلب من لحم ،يحتاج إلى حب الأشياء الصغيرة والكبيرة .بكى ،وقد تف ّطر قلبه ،عند موت
الأب كالوسّو ( )Calossoولويس كومولّو ( )Comolloولما رأى أول مرة صبياناً وراء قضبان
السجن .وقال في مَن يُسيء إلى الصغار الذين ُيعنى بهم ":لو لم يكن ذلك العمل خطيئة ،لكنت
خنقتهم بَيدي ."ّوقال ك ّلُ من صبيانه ":كان يُحّبُني ."كتب واحد منهم لويس اوريوني
)Orione("لو ق ّدرَ لي لَمشيتُ على الجمر الملتهب لأراه مرةً أخرى وأقول له :شكرا."ً
كانت التربية الدينية في ذلك العصر تُ ُعلّم أنه من السوء تَ َعّلق القلب بالخلائق .أمّا
توجهات المجمع الفاتيكاني الثاني فهي أقرب إلى روح الانجيل .يقول لنا المجمع لا نحوّل
الخلائق إلى أصنام ولكن الله منحنا قلباً لكي نحب من غير خوف .إن إله الفلاسفة خا ٍل من
الشعور ،وأما إله الكتاب المقدس فإنه يُح ّب ويغضب ويتألم ويبكي ،وقد اهّتز طرباً وتبسّم من
المودة.
أرضــ ه
لما بلغ الصبي التاسعة من عمره ،أخذ يخرج من صَدَفة الأسرة الدافئة وينظر إلى ما حوله.
وكان يوحنا ينظر أيضاً إلى الأرض ويكتشفها .إنا جميلة ،متموجة ،هادئة ،فيها ينمو شجر
التوت والكرم والذرة الصفراء والقنّب ،وفيها ترعى المواشي الكبيرة والصغيرة .كانت الأحراج
الواسعة الكثيفة تُحدِث بُقَعاً شديدة الخضرة .كان الفلاحون الذين يقبلون الأرض بسلام تحت
الشمس رجالا صبورين ،أصلاب العود .إنهم شعب وفيّ للأرض وقد تأصّل فيها ،شأن
الأشجار .لم يكونوا يستحون بأن يرفعوا قبعتهم أمام الكنيسة وأمام الله .ولما كانوا يغلقون أبواب
بيوتهم في المساء ،كانوا يشعرون وهم بين أسرهم ،أنهم ملوك.
كان يوحنا بوسكو ابناً لله كبيرا ،ًولكنه كان ابن هذه الأرض أيضاألقت اليه السماء
نداء ،ًولكن الطابع الذي تميّز به أتاه من هذا الهواء الذي استنشقه ومن هذا المناخ الذي كيّفه،
وقد َح َمل معه دائماً لهجة الشعب العائش في تلك التلال وحَمَل في نفسه سِمة بيئته.

4.9 Page 39

▲back to top


5
البهلــوان الصغيــر
لما بلغ يوحنا الصغير التاسع َة من عمره أثّر فيه "الحلم الكبير" وترك فيه علامته :جمهور
الأولاد والرجل الذي يوبخه فيقول له " :ليس بالضربات بل بالوداعة" والسيدة التي تنبئه ":في
الوقت الموافق تفهم كل شيء."
فان تلك الليلة ،على رغم كلمات الحذر التي قالتها الجَ ّدة ،ألقت شعاعًا من النور على
المستقبل .كتب بيتروستيلا ( " : )Pietro Stellaان الحلم الذي حلمه يوحنا بوسكو في التاسعة
من عمره ،كّيف ك ّل طريقة عيشه وفكره وقد كَّيف سلوكَ أمّه أيضاً في الشهور والنسين من بعد،
فقد كان ذلك الحلم ،لها أيضًا ،الكشف عن إرادة علوية ،وعلامة واضحة لدعوة ابنها
الكهنوتية ،وهكذا يمكن المرء أن يفهم صلابة عزمها على السير بيوحنا في الطريق التي تَُي ّسر له أن
يصير كاهنا."ً
رأى يوحنا في حلمه جيشًا من الصبيان أُ ِمر أن يَصنع إليهم الخير .فلماذا لا يشرع في ذلك
لوقته؟ إنه يعرف من الصبيان عددًا ليس بالقليل :أصحابه في اللعب ،والخدم الصغار الذين
يعيشون في المزارع المتفرقة في الريف .إن معظمهم صالحون ولكن هناك آخرون قليلو التهذيب
يكفرون كالوثنيين.
وهناك كثير من الأسر في الشتاء تسهر معاً في اسطبل كبير ،حيث يقوم الثيران والبقر مقام
الموقد للتدفئة .فبينما النساء يغزلن ،والرجال يدخنون الغليون ،يشرع يوحنا يقرأ على الجماعة
كتباً يُعيره إيّاها الأب لاكوا :غيران ( )Guerinالمسكين وتاريخ
برتولدو ( )Bertoldoوملوك فرنسا.كان نجاحه باهرأروى قال :"كان جميع الناس
يريدون أن أكون عندهم ،في اسطبلهم .كان اناس من كل سِ ّن ومن كل طبقة ينضمون إلى
أصحابي وكان يسعدهم جميعاً أن يصرفوا وقت السهرة وهم يصغون من غير حراك إلى القارئ الغرّ
وهو واقف على معقد لكي يراه جميع الحاضرين."
وكان الكتاب المفضّل في تلك السهرات ملوك فرنسا .كان يُروى فيه ما جرى من

4.10 Page 40

▲back to top


مغامرات رائعة معقّدة إلى ح ّد ما لشارلمان ( )Charlemagneوفرسانه :رولان واوليفيه
)Olivier(والخائن غانلون ( )Ganelonوالكطران توربان ( )Turpinوالدمار الذي كان ينزله
السيف السحري دوراندال ( . )Durandalكتب دون بوسكو " :كان جميع الناس يرسمون
إشارة الصليب قبل القراءة وبعدها ،وكانوا يتلون السلام عليك يا مريم مرة واحدة."
الابواق على التلة
اذا جاء الصيف تغيرت الامور ،فالحكايات لا تجذب أحدا ،ًوقد أدرك يوحنا أنه يجب
عليه ،لكي يجمع أصدقاءه ،أن يقوم بعمل خارق العادة .ولكن ماذا؟
إنّ أبواق البهالَوين تدوي من على التلة المجاورة .إنه يوم سوق .ذهب يوحنا اليها مع
أمّه ،فالناس يبيعون ويشترون ويتجادلون ويلهون .إنّهم يحتشدون حول المشعوذين والبهالَوين.
إن أعمال الشعوذة وتمرينات الحذق تستولي علة انتباه الفلاحين الذين يقفون وأفواههم فاغرة.
وذلك ما يستطيع أن يفعله هو أيضايجب عليه أن يراقب أسرار البهالَوين وأساليب السحرة.
ولكن الحفلات الكبرى ،ولسوء الطالع ،لا تقام إلا في أعياد الشفعاء أي في أعياد
القديسين الذين يحمون القرى .فالبهالَوين يرقصون على الحبل المشدود ،والمشعوذون يقدمون
لعبة الاكواب أو ما هو أحسن منها حِيلا ،ًوفيها زيادة من المهارة :كإخراج الحمام والأرنب من
القبعات ،وخطف شخص عن الأنظار ،ونشره قسمين وإعادته سالما .والذين يقلعون الاسنان
من غير أَلم ينالون غاية الاعجاب.
ولكن الذي يريد مشاهدة هذه الحفلات يدفع فلسين ،فمن أين يحصل عليها؟ استشار
مرغريتا فقالت له:
-دبرّ أمرك كما تشاء ولكن لا تطلب مني مالا ،ًفليس لدي شيء منه.
دب ّر يوحنا أمرَه فاصطاد بعض العصافير وباعها ،وصنع سِلالًا وأقفاصا ،ًوباعها الباعة
الجوّالين ،والتقط أعشابًا طبيّة وحملها إلى صيدلي كاستلنوفو.
وهكذا أمكنه الوقوف في الصفوف الأولى للمشاهدين ،وراقب الأمور بانتباه ،فتفهّم سرً
التوازن الذي يمُكّن الرقاص )3(حامله من المشي على الحبل ،واسترق بنظره الحركة السريعة التي
تُخفي بها أصابعُ المشعوذ حيلتَه ،واكتشف حِيَلًا أخرى كثيرة لا تَخفى .
)3الرّقاص عصا طويلة يحملها وهو يسير على الحبل لكي يحافظ على توازنه (حاشية من المترجم) .

5 Pages 41-50

▲back to top


5.1 Page 41

▲back to top


كان قلع السن المنخور سبب ألم شديد لجميع الناس في ذلك الزمان (لم يج ِرّب أول مُخَ ِدّر
للألم في أميركا إلا في السنة ،)3991فشاهد يوحنا في حفلة أقيمت في سوق السنة 3981قلع
سن من غير ألم باستعمال مسحوق سحري .كان الفلاح الذي قدّم نفسه يشكو ألماً شديداً في
ضرس من أضراسه ،فغمس البهلوان إصبعه في المسحوق في اثناء ضجة الابواق والطبول ،وقلع
السن بأن جذبها جذبة سريعة ب ّكماشة أنزلها من ك ّمه إلى يده .قفز صاحب السن على قدميه وهو
يصرخ ،ولكن الأبواق تقصف ،قعانقه البهلوان حتى كاد أن يخنقه وهو يقّول " :شكرًا،
شكرا ،ًلقد بجحت التجربة نجاحًا تاما."ً
كان يوحنا واحدًا من القلة الذين رأوا الكماشة تنزل ،وانصرف ضاحكًا ،فاعاد في البيت
تمريناته الأولى .قال ":َتمرّنت أيامًا حتى نجحت ."إن اخراج أرانب من القبعة ،والسير على
الحبل ،يتطلبان شهورًا من الإعادة والمثابرة والتدحرج .كتب دون بوسكو " :قد لا تصدقوني
ولكن في سن الحادية عشرة نجحتُ في لعبة الاكواب وقفزة الموت ،وكنت أسير على يدي وأركض
وأرقص على الحبل."
حفلة في المرج
ذاتَ يوم من أيام الأحد في فصل الصيف ،أخبريوحنا أصدقاءه بأ ُوّل حفلةٍ يُقيمها ،فحقّق
على سجادة من الأكياس الممددة على العشب ،عجائب من التوازن ،بعلَب وقدور وضعها على
رأس أنفه ،وطلب من أحد صغار المشاهدين أن يفتح فاه إلى آخر حَد ،ّواستخرج منه عشرات
من الكرى الصغيرة الملّونة .واستعمل لذلك عوداً سِحريّاً ،وختم الحفلة فقفز على الحبل وسار
عليه واصدقاؤه يُصفّقون.
وذاع الخبر من بيت إلى بيت .وازداد عدد الحضور ،من صغار وكبار وبنات وصبيان ،بل
أناس من كبار السن ،وهم الذين كانوا يستمعون اليه وهو يقرأ في الاسطبل ملوك فرنسا .وأمَا
الآن فانهم يَرونه ُيخرج من أنف فلاح مذهول ساقيةً من النقود ،ويُحَ ّول الماء إلى خمر ،ويكّثر
البَيض ،ويفتح حقيبة سيدة ويُ ُطلِق منها حمامة حية تطير .فضحك الناس وصفقوا.
كتب الأب لموان أن أخاه أنطون كان يذهب هو أيضا إلى تلك الالعاب ولكنه لم يكن يقف
قط في الصفوف الأولى ،بل كان يختفي وراء شجرة ويذهب .وكان يسخر أحيانًا من البهلوان
الصغير فيقول:
-هوذا الم ّهرج البطّال .انا احصر عظامي في الحقول وأمّا هو فيعمل عمل المشعوذ!
كان يوحنا يتألم ،وكان يوقف الحفلة أحياناً لكي يعود إلى القيام بها على بعد مائتي متر،

5.2 Page 42

▲back to top


فيتركه انطون وشأنه هناك آخر الأمر .إن هذا الصبي مشعوذ يختلف عن سواه فهو يخُرج من جيبه
سبحته قبل اللعبة الاخيرة ،ويجثو على ركبتيه ويدعو جميع الحاضرين إلى الصلاة ،أو ُيعيد العظةَ
التي سمعها في كنيسة الرعية في الصباح .تلك هي المساهمة التي يطلبها من الحضور ،والأجرة التي
يتقاضاها من الصغار والكبار .سيكون يوحنا بوسكو سخِيًّا جدًا في بذل تعبه ولكنه ،شأن كل
امرئ من بلاد البيمونته ،سيطلب دائماً أُجرة :لا من المال بل من السخاء في سبيل الله أو أطفاله
الفقراء.
ثم تأتي الخاتمة الرائعة .يربط حبلا بين شجرتين ،ويتسلق الجذع اليه وهو يحمل رقّاصاً
بدائيًا ،في جَ ّو من السكوت غير المتوقع والهتافات الجنونية.
كتب ":بعد بضع ساعات من تلك التسلية ،وقد تعب ُت تعباً شديدًا ،كان ك ُلّ لَهو
ينتهي ،فكُنّا نتلو صلاة وجيزة وكان ك ّل من الحاضرين ينصرف إلى بيته" .
تناوله القربان أوّل مرة
اقيم عيد الفصح في السنة 3981في السادس والعشرين من آذار (مارس .)في ذلك اليوم
تناول يوحنا القربان المقدس المرة الأولى في كنيسة رعية كاستلنوفو ،وإلى القارئ ما كتبه
في ذكرياته:
"كانت أُمّي بالقرب مني .في أيام الصوم ذهبت بي إلى الاعتراف وقالت لي -:يا بنيّ
يوحنا ،إن الله ُيعِ ّد لك هديّة عظيمة .استعدّ استعداداً حسناً واعترف اعترافًا حسنًا واندم على
خطاياك ،وعِد الله أن تصير أحسن مما كنت عليه قبلا . -ًفوعدتُ ذلك كله والله أعلم هل ظللتُ
وفيّا
وفي ذلك الصباح رافقتني إلى المائدة المقدسة ،وشاركتني في الاستعداد والشكر .وفي ذلك
اليوم لم تشأ أن أقوم بأعمال مادّية بل أن أصرف وقتي في القراءة والصلاة ،وكرّرَت لي القول عدة
مرات - :كان ذلك اليوم لك ،يوما عظيما .ان الله استولى على قلبك ،والآن عده أن تفعل كل
ما بوسعك لتبقى صالحًا حتى أخر حياتك .اذهب فتناول القربان المقدس كثيراً في المستقبل .قل
كل شيء دائمًا عندما تعترف .كن مطيعا دائماً أبداواظب على درس التعليم الديني ،وعلى
الاستماع إلى الوعظ ،ولكن اهرب حبّاً لله من الذين يَتحدّثون محادثات قبيحة هربَك من
الطاعون . -
فعلتُ ما يلزم لكي أعمل بنصائح أمي ،ويبدو لي أنه ذلك اليوم حدث شيء من
التحسن في سيرتي ،ولا سيما في الطاعة والخضوع وهما أمران كنت انفر منهما أشد النفور."

5.3 Page 43

▲back to top


أشد شتاء ظلمة في حياتي
كان الشتاء الذي تبع أش ّد ظلمة في حياة يوحنا.
تُوفّيت جدته (والدة فرنسيس) وكان انطون يزداد ابتعاداً من الأسرة ،وأخذت نوبات
عنفه تتكاثر.
وفي آخر أيام تشرين الأول (اكتوبر) لمّحت مرغريتا إلى احتمال إرسال يوحنا سنة أخرى إلى
مدرسة الأب لاكوا ،فقد يتعلم المبتدئ الأولى للاتينية ،فردّ انطون على ذلك بعنف:
-أي لاتينية؟ ما حاجتنا إلى اللاتينية في البيت؟ نحتاج إلى العمل ،إلى العمل!
والغالب أن مرغريتا كانت تشير إلى احتمال اعتناق يوحنا الحياة الكهنوتية الأمر الذي كان
يبدو لانطون حلمًا لا يمكن تحقيقه .فقد سمعه يوحنا يقول مرات كثيرة ":لا بُ ّد من عشرة الاف
ليرة ليصير المرء كاهنا ."ًوكان ذلك القدر عظيمًا تعجز عنه أسرةٌمن الفلاحين في ذلك الزمان.
استطاع يوحنا الذهاب حينًا بعد آخر إلى الأب لاكوا في أيام الشتاء 3989 – 3989تحت
ستار أشياء يحملها إلى خالته ماريانا وجَدّه اللذين كانا يعيشان في كابريليو .كان أنطون يكظم
غيظه ،ولكن الاحداث تسارعت ذات يوم وتحوّلَت إلى حرب مكشوفة .روى دون بوسكو
نفسه:
"أعلن أنطون لأمي أولاً ثم لي بلهجة الأمر:
-طفح الكيل .اريد أن أًنهي أمر كتاب القواعد هذا .لقد اصبحتُ كبيرًا قويًّا ولم أنكَبّ
قطّ على الكتب.
فأخذ مني التكدُّر والغضبُ فأجبتُ بما كان لا ينبغي أن أقوله:
-إن حمارنا لم يذهب إلى المدرسة ولم يفتح كتابًا من الكتب وهو أقوى منك.
فأخرجَته هذه الكلمات عن طوره ،ولم أستطع إلا بعد الجهد أن أنقِذ نفسي من وابل
الضربات والصفعات .وكانت أمي في منتهى الغم ،وكنتُ أبكي" .
وساءت الحالة في الأيام بعدئذ في ج ّو متوتر زاد فيه العداء .كان أنطون ُمصرًّا على عناده ولم
يكن يوحنا يقبل ان تدُاس حقوقه وكان ير ّد بعنف .ثم انفجرت العاصفة التي رويناها في
الصفحات الأولى بسبب كتاب وضعه بجانب صحنه .ولم يتمكن يوحنا من الافلات وتلقّى من
أخيه ضربًا مبرّحاوفي صباح الغد قالت مرغريتا هذه الكلمات وهي تعرب عن حزن عميق:
" الافضل لك ان تترك البيت."
ذات يوم مظلم من شهر شباط (فبراير) وصل يوحنا إلى مزرعة أسرة موليا حيث قبلوه
قبولهم لأجير ،شفق ًة على دموع ذرفها لِما أصابه من حزن لا عزاء له.

5.4 Page 44

▲back to top


6
ثلاث سنوات في المزرعة
وسنة في دار الكاهن
مضت بضعة أيام فقال لويس موليا لدوروتيا ( " : )Doroteaلم نخسر إذ أدخلنا هذا
الصب ّي في خدمتنا."
أكَ ّب يوحنا بوسكو على العمل جا ّدا ،ًوكان ُمطيعًا حسن النّية ،وعمله الاهتمام
بالاسطبل ،وأشق ما في ذلك العمل تجديد التبن الطريء تحت البقر ،وإخراج الرَوث بالشوكة
وعجلة اليد .كان ينظّف الحيوانات ويذهب بها ليسقيها ،ويصعد الى مستودع العشب ،فيلقي
في المذود العشب اللازم لذلك اليوم ،ويحلب البقر .أجل إن يوحنّا لا يقوم بهذا كّله وحده .إنه
ُيطيع وكيلَ البقر الذي يَعهد إليه ببعض الأعمال الملائمة لقواه.
وقد أظهر عند المساء أنّه صبيّ طّيب في وقت الصلاة ،فدعته السيدة دوروتيا أحيانًا إلى
الإشراف على تلاوة السبحة.
وخصّته أسرة موليا بغرفة حسنة مضيئة فيها سرير جيّد لنومه .حالته هنا خير مما كانت في
الب ّكي ،حيث كان يشارك يوسف في غرفته ،ومن الراجح أنه شاركه فيها أنطون أيضًا .بعد بضع
ليا ٍل جازف يوحنا فأوقد بقيةّ شمعة ،وتلا وقرأ سويعة من الزمن كتابًا من الكتب التي أعاره اياها
الأب لاكوا .لم يقل له احد شيئًا فواصل عمله.
مساء السبت استأذن سيّده أن يبكّر صباح الغد إلى مونكوكّو ،فعاد لطعام الإفطار ،ثم
رافق السيد موليا ،والأسرة كلّها إلى القدّاس الكبير.
واستأذن ذلك الاستئذان الغريب في أيّام السبت التابعة ،فأرادت دورتيا أن ترى إلى أين
يذهب الصبيانها تع ّد نفسها مسؤولة عنه لدى أمه ،فذهب إلى مونكوكوّ قبل الفجر ،ورأت
من بيت صديقة لها يوحنا يصل فيدخل الكنيسة .ورأته يدخل كرسي اعتراف الكاهن فيحضر
الق ّداس الأول ويتناول القربان المقدس.
كان الناس في ذلك الزمان لا يتناولون القربان المقدس إلا قليلًا جداولم يكونوا يوزّعونه في
أثناء القدّاس الكبير ،وكان جميع أهل البلد يحضرونه ،فمن أراد تناول القربان وجب عليه

5.5 Page 45

▲back to top


الاشتراك في قدّاس يقيمه الكاهن بصوت خافت في ساعة مب ّكرة.
وبينما تعود به دوروتيا إلى البيت قالت له " :إذا شئت بعد اليوم حضورَ القداس غير
الاحتفالي ،فافعل كما يبدو لك ،فلا حاجة بك إلى الاستئذان."
وبينما هو يعترف للأب كوتّينو ( ) Cottinoخوري الرعية أسَرّ اليه برغبته في أن يصير
كاهنا ،وأطلعه على ما يعترض سلبيه من المشاكل ،فشجّعه الأب كوتينّو على الاعتراف وتناول
القربان المقدس كل أسبوع ،وعلى الصلاة في أثناء النهار وعلى الثقة بالرب ،فاذا شاء الله فان
المشاكل سوف تُحّل .وحثه أيضًا على مواصلة دروسه :واذا لم يتنافر الامر في المستقبل وعمله،
فسوف يُلُقي عليه مسرورًا بضعة دروس لُِيعلّمه اللاتينية .وأما الآن فإنه يمكنه أن يعيره بعض
الكتب.
حّبتان واربع سنابل
عاد ذات يوم يوسف ،ع ّم صاحب العمل ،من الحقول ،والعرق يتصبّب منه والمجرفة
على كتفه ،وكان الظهر فَ َدقّ الجرس في قّبة مونكوكو ،ّفقعد الشيخ الكبير على الحشيش وقد
تعب ،ليتنفس ال ُصّعداء ،فرأى على غير بعد من المكان يوحنا هو أيضاً على الحشيش ولكنه كان
جاثياً يتلو صلاة" التبشير" كما عوّدته ماما مرغريتا أن يفعل في الصباح والمساء .فقال يوسف
مُتَ َذمّرًا وهو نصف جا ّد ونصف هازل:
-مرحى! نحن أصحاب العمل نَتعب أشد التعب من الصباح إلى المساء حتى نصاب
بالاعياء ،وإذا الغلام يهنأ في اثناء ذلك أحسن هناء وُيصلّي في سلام الله.
فأجابه يوحنا باللهجة نفسها:
-يا عم يوسف ،انت تعلم اني لا اتوانى عندما يجب عل ّي أن أعمل ،ولكن أمّي علّمتني أن
أربَع سنابل من تنبت من حبّتَين عندما يصلي الانسان في حين أنه لا ينبت من أربَعِ حبات سوى
سُنبلتين عندما لا يُصلّي الانسان ،ولذلك يَحسن أن ُتصلّي قليلا انت أيضا
فختم الرجل الكبير السن الكلام بقوله :
-عافاك المولى .هوذا لدينا نحن أيضاً كاهن في البيت.
عندما يأتي فصل الصيف يرعى الغلام البقر ،وهو يَتَنبّه لكيلا تذهب إلى حقول الآخرين
ولا تأكل عشبًا مبّللًا بالماء على وج ٍه مفرط ولا تتضارب بقرونها.
كان يقعد في ظل الأشجار ،والحيوانات ترعى العشب حوله ،وكان يجد شيئًا من الوقت
ليقرأ ،ولم يكن لويس موليا يتذمر من ذلك ولكنه كان يهز رأسه قائلا:

5.6 Page 46

▲back to top


-لماذا تقرأ هكذا ؟
-أريد ان أصبر كاهنا.
-أتعلم أنه لا بد اليوم من إنفاق تسعة أو عشرة الاف ليرة للدرس ؟ فَأين تجدها؟
-اذا شاء الله خطر الامر ببال بعضهم.
كانت تجيء إلى المروج حينًا بعد آخر أنًا ( )Annaأكبر بنات أسرة موليا ،وكانت في سن
الثامنة .رأت أن يوحنا يقرأ بدلا من أن ينظر اليها تلعب وقالت:
-ُكفّ عن القراءة ،يا يوحنا.
-سأصير كاهنًا ذات يومَوسيجب عليّ أن أعظ واستمع إلى الاعترافات.
فسخرت منه الطفلة:
-أجل ،ستصير كاهناً! سَّتَظّل بقّارا
فأجابها ذات يوم:
-إنك تهزأين بي اليوم ،يا أّنا ،ولكن ستأتين وتعترفين لي بخطاياك.
(تزوجت أنّا وعاشت طويلا في موريوندو Moriondoوقد روت تلك الحكاية لاولادها
مرات كثيرة .كانت تذهب إلى فالدوكّو Valdoccoأربع مرات أو خمسا كل سنة لتعترف للأب
بوسكو بخطاياها ،وكان هو يرَحّب بها بفرح كأنها أخته.)
فلما عاد الشتاء أذن له أرباب عمله ان يذهب حينا بعد آخر إلى الأب كوتّينو ليتلقى شيئًا من
الدروس ،ولكن لم يكن عدد تلك الدروس كبيرا ،ًوكانت بعيدة جداً الواحد عن الآخر فبقيت
بغير جدوى آخر الأمر.
بيد أن صداقة الخوري جعلته يحصل بسهولة على صداقة صبيان مونكوكّو .كانت غرفة
الدخول إلى صداقة الخوري جعلته يحصل بسهولة على صداقة صبيان مونكوكّو .كانت غرفة
الدخول إلى دار الكاهن في أيام الاسبوع تتحول يوم الأحد إلى مدرسة دينية للأطفال .وكان يوحنا
بوكسو يقوم ببعض الألعاب البهلوانية ويقرأ أطرف حكايات التاريخ المقدس ويُقيم الصلاة مع
أصدقائه الصغار.
ولما كانت رَ َداءة الجوّ تَحُول دون الالتقاء في مونكوكّو ،كان بعض الصبيان العاملين في
المزرارع المجاورة يذهبون إليه في بيت أسرة موليا ،فكان يصعد بهم إلى مستودع الحشيش تحت
السقف ويساعدهم على اللهو ،ويشرح لهم التعليم الديني.
أقام يوحنا في مزرعة موليا نحو ثلاث سنوات :من شباط (فبراير 3989 8إلى تشرين الثاني
(نوفمبر) .3988أكانت تللك السنوات التي ضاعت على دروسه غير مُفيدة للرسالة التي دعاه الله
اليها؟

5.7 Page 47

▲back to top


ذكر بيتروستيلا ( )Pietro Stellaحَدَثا يبدو لأول وهلة شيئاً لا يؤبه له :"ذات يوم لقيت
السيدة دوروتيا وابن حميها يوحنا الصبي جاثياً وفي يديه كتاب وعيناه مطبقتان ،ووجهه مرفوع نحو
السماء ،فا ُضطّرا إلى هزّه لشدة ما كان غائصاً في تفكره ."وشرح الكاتب ذلك بقوله ":أن تلك
السنوات التي فيها تَأ ًصّل تأصلا عميقًا الإحساس بالله والتأمل ،لم تكن سنوات غير مجدية ،فقد
استطاع أن يتصل بالله في أثناء عمله في الحقول .كانت سنوات حرارة يتوسل فيها بايمان وهو ينتظر
اشارة من الله ومن الناس."
نشر ال ًسّندرو مانزوني ( )Manzoniالسنة 3989في ميلانو الطبعة الأولى لكتاب
"المخطوبون" ،وأخذ جياكومو ليوباردي ( )Leopardiالسنة 3989ينظم في ركاناتي
)Recanati(قصائده الريفّية الكبيرة .واخرج جياكومو روسيني ( )Rossiniفي باريس السنة
3988مسرحيته الغنائية الرائعة "غليوم تل ."كان يوحنا بوسكو في أثناء هذه السنوات الثلاث
يُن ّظف البقر في مزرعة نائبة من مونف ّراتو ،ولكنه أخذ يناجي الله.
خــاله ميشيل
كانت إقامة يوحنا الطويلة في مزرعة موليا شوكة في قلب ماما مرغريتا .والراجح أنها باحت
بما في صدرها لأخيها ميشيل ،فلما انتهى العقد ( 33تشرين الثاني "نوفمبر") ذهب إلى ابن اخته
لِيتحدث اليه ،فلقيه ُيخرج البقر من الاسطبل.
-إذا ،يا يوحّنا ،أأنت مسرور بالبقاء هنا ام لا؟
-كَلاّ إني ألقى معاملة حسنة ولكني اريد الدرس .ان السنين ت ّمر ،وقد أتممتُ الرابعة عشرة
ومازلتُ كما كنت.
-حسناً رُ ّد البقر إلى الاسطبل وارجع إلى البكّي .سأكلّم أصحاب عملك ثم أذهب إلى
سوق كييري ( )Chieriولكن سأمرّ بك في المساء وأرتّب ك َلّ شيء.
أع ّد يوحنا ص ّرة ثيابه وودّع السيدة دوروتيا واسطفان والعم يوسف وتريزيا وأنّا .لقد صاروا
اصدقاء له وسيظلّون أصدقاءه طوال حياته.
عاد إلى طريق البكّي يسير فيها ،ولما صار على مقربة منها ،رأته ماما مرغريتا عن بعد،
وأسرعت إليه وقالت له:
-إن أنطون في البيت فاصبر قليلااختبىء حتى عودة خالك ميشيل .إذا رآك انطون
ظَنّ انا هناك حيلة مدبرة والله اعلم ما قد يحدث.
فانساب يوحنا إلى زاوية في السياج وقعد في حفرة .لم ينتهِ الامر بعدُ إذًا بل يجب عليه أن

5.8 Page 48

▲back to top


يستعدّ للمعركة.
وصل خاله في أول الليل ،وأخذ ابن اخته وقد خَدِر جسمه من البرد ،وسار به إلى البيت.
كان الجو متوِتّراً ولكن لم تنشب الحرب .كان انطون قد أتمّ الحادية والعشرين من عمره وكان
يستعد للزواج .تلقّى انطون ضمانًا أنّ معيشة يوحنا ونفقة دروسه لن تكونا على عاتقه ،فلم
يعترض أيّ اعتراض كان.
اتصل ميشيل بكاهِنَي كاستلنوفو وبوتيلييرا ( )Buttiglieraمحاولاً أن يدخل عندهما ابن أخته
الطالب ،ولكنه أصطدم بعقبات ضخمة .فأتى الح ّلُ من حيث لم يخطر ببال أحد.
أربعة فلوس من أجل عظة
ففي أيلول (سيبتمبر) من السنة 3988جاء الأب يوحنا ملكيور كالوسّو ( )Calossoإلى
موريالدو ،وهو في سِ ّن السبعين ،فقد تخلّى قبل حين عن رعيته في بروينو ( )Bruinoلأن صحته
ساءت .كان كاهنًا جليلًا ،أثقلته السنون وحًنّكته الخبرة في خدمة الرعية ،فأقيم مرشدا في
موريالدو.
أقيمت رسالة وعظ في تشرين الثاني (نوفمبر) في ناحية بوتّيلييرا ،فذهب اليها يوحنا والأب
كالوسّو أيضا
وبينما الكاهن الكبير السن عائد إلى بيته تَنَبّه لهذا الصبي في الرابعة عشرة يمشي وحده بين الناس.
-من أين أنت يا بُنَي؟
-من البكّي .ذهب ُت إلى وعظ المرسلين.
-ما أمكنك أن تفهم من جميع هذه الاستشهادات باللاتينية؟ -وكان يبتسم وهو يهز رأسه
وقد كلّله شعره الابيض كالثلج . -لربما كان بوسع أُمك أن ُتلقى اليك عظة تلائمك أَحسن من
تلك العظة.
-أجل إن أُمي تلقي اليّ عظات حسنة مرات كثيرة ،ولكن يَبدو لي أني فهمت الُمرسَلين
أيضا
-أتقول الحقيقة؟ اذا كَررتَ لي أربع كلمات من عظة اليوم أعطيتك أربعة فلوس.
شرع يوحنا في الكلام فأوجز للمرشد العظة من أولها إلى آخرها كَأّنه يقرأها في كتاب .لم
يدع الاب كالوّسو انفعاله يظهر عليه وسأل يوحنا:
-ما اسمك؟
-يوحنا بوسكو .توفي والدي وأنا طفل.

5.9 Page 49

▲back to top


-على أي مدرسة واظبت؟
-تعلمت القراءة والكتابة عند الأب لاكوا في كابريليو .ودد ُت لو واصلتُ درسي ،ولكن
أخي البكر ُيعاند وليس لدع كاهنَي كاستلنوفو وبوتيلييرا متسع من الوقت ليساعداني.
-ولماذا تريد أن تدرس؟
-لأصير كاهنا
-قل لامك تأ ِت إلى مواجهتي في موريالدو ،فقد أتمكّن أنا من مساعدتك مع أني كبير
السن.
جلست مرغريتا أمام طاولة الأب كالوسّو تصغي اليه وهو يقول:
-ان لا بنك ذاكرة خارقة العادة .يجب عليه أن يدرس لوقته ومن غير أن يضيع الوقت .إني
كبير السن ولكني سأعمل كل ما بوسعي أن اعمله.
فاتفقا على أن يجيء يوحنا إلى المرشد ليدرس عنده ،على غير بعد كبير من البكّي ،ويعود
غلى البيت للنوم فحسب ،ويسُاعد ذويه في أوقات العمل الضروري في الحقول.
لقد حصل يوحنا بغته على ما أعوزه طوال تلك المدة :المعونة الأبوية وراحة الفكر والثقة.
كتب ":سّلمتُ أمري لوقتي إلى يَدَي الأب كالوسّو وأطلعته على جميع أموري وأَسرر ُت اليه
بجميع ما كنت أقول وبجميع ما أُفكّر به ،فعرفت عند ذاك ما معنى أن يكون للانسان مرشد
دائم ،صديق للنفس وفيّ وكنتُ قد ُح ِرمًته مدة طويلة .ومن جملة الامورأنه حظر عل ّي نوعًا من
التقشف تعودتُ فرضَه على نفسي ،ولم يكن يلائم سِنّي .وشجعني على الاعتراف وتناول القربان
المقدس ،وعّلمني أن أقوم كل يوم بتأمل وجيز أو بشيء من القراءة الروحية إذا ف ّضلتُ ذلك."
"بانطفائه انطفأ ك ُّل أمل"
في آخر ايلول (سبتمبر) 3911ذهب يوحنا إلى بيت الأب كالوسّو ليقيم عنده الليل أيضا
(والراجح أنه فعل ذلك لوضع حد للتوّتر بينه وبين انطون) فلم يكن يعود إلى البيت إلاّ مرة في
الاسبوع لكي يُبدّل ثيابه.
كان يتقدم في دروسه تقدماً حسناً سريعاوكان الاب بوسكو يذكر ذلك الزمان باندفاع:
" مامن أحد يستطيع أن يتخيل ارتياحي .كنتُ أُحبّ الاب كالوسّو حبي لأ ٍب ،وكنت أَخدمه في
كل فرصة سانحة .وكان رجل الله ذاك ُيظهر لي مودة كبيرة ،وقال عدة مرات ":لا تكن في
هً ّم من مستقبلك .لن أدعَك تحتاج إلى شيء ما دم ُت حيا .واذا م ُتّ فسوف أوفّر لك ذلك
ايضا " .ًكنت سعيدًا على أت ّم وجه فاذا بكارثة تحطم جميع آمالي."

5.10 Page 50

▲back to top


كان يوحنا صباح يوم من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 3911يبّدل صرة ثيابه ،فاذا
بامرئ يُخبره أن الأب كالوسّو قد أَح َّس بوعكة.
"لم اركض بل طِرت" على ما تذكر دون بوسكو .أُصيب الاب كالوسّو باحتشاء في
القلب ،وعرف يوحنا ولكنه لم يستطع أَن يخاطبه .وسلّم اليه مفتاح صندوق صغير وأَفهمه أَلّا
يُسَّلمه إلى أحد.
وانتهى الأمر ولم يبقَ للصبي سوى أن يبكي بكاء اليأس على جثمان أبيه الثاني ":بانطفائه
انطفأ كلّ أَمل."
لم يبقَ من الاعلى إلى الأسفل شيء من الأمل سوى المفتاح .كان في الصندوق الصغير ستة
الاف ليرة .وكانت إشارة الأب كالوسّو تعني بوضوح أ َنّ المال هو ليوحنا ،في سبيل مستقبله،
وأيَّد له ذلك أنا ٌس من الذين أَسعفوا الُمحتَضر ،ولكنّ شخصًا آخر أكّدَ انّ اشارات من يموت لا
تعني شيئا ،ًفالوصية القانونية وحدها تولي الحقوق أو تسلبها."
لما وَ َصل اولاد أخي الأب كالوسّو تصرفوا ت ُصّرف القوم الكرام فاستخبروا ثم قالوا ليوحنا:
-يبدو أ ّن ع َمّنا كان يُريد أن يترك لك هذا المال .فخد كل ما شئت.
ففكر قليلا ثم أعلن:
-لا أُريد شيئا
أوجز دون بوسكو هذه الاحداث في ذكرياته بعبارة واحدة " :جاء ورثة الاب كالوسو
وسّلمتُ اليهم المفتاح وسائر الاشياء ."ذلك العمل عمل سريع يحسم كل خطة فيها طمع .ولما
صار كاهناً اتخذ له شعارًا جملة من الكتاب المقدس هي أيضًا حاسمة " :أعطِني النفوس وخُذ
البَقيّة."
الآن يوحنا وحيد مرة أُخرى .أنه في سن الخامسة عشرة ويجد نفسه بلا معلم ولا مال ولا
مشروع للمستقبل .كتب " :بكيتُ ولم يكن لي عزاء."

6 Pages 51-60

▲back to top


6.1 Page 51

▲back to top


7
الطريق نحو كاستلنوفو
جرى ما جرى ومع ذلك فلا ب َدّ من مواصلة السير.
أرادت مرغريتا أن تستدرك مقاومات جديدة من أنطون ،فعزمت على تقسيم ممتلكات
الأسرة .وهناك سبب آخر لذلك التقسيم لدفع تأويلات مغرضة فقد كان أنطون يوشك أن يتزوج
في 83آذار (مارس) بأنّا روسّو ( )Rossoوهي فتاة من كاستلنوفو.
ُقسمت الحقول وُقسّم بيت الب ّكي ،فأصبح أنطون يملك القسم الشرقي واليه يعود سلّم
الخشب التي تصعد إلى الطبقة الأولى .وأمّا القسم الآخر فظلت تسكنه مرغريتا ويوسف و ويوحنا.
أخذ يوحنا يسلك طريقه في كانون الاول (دمبر،)فذهب إلى المدارس الرسمية في
كاستلنوفو .وقد فتحت الادارة المحلّية بجانب الصفوف الابتدائية ،خمسة صفوف لتدريس
اللاتينية من درجات مختلفة ،ولما كان عدد التلاميذ قليلا في ك ّل صف ،أخذوا يجتمعون في غرفة
صغيرة واحدة إلى معلم واحد :الأب عمانوئيل فيرانو (.)Virano
الطعام في القصعة
بدت في أول الأمر الكيلومترات الخمسة التي تفصل بين البكّي وكاستلنوفو عقبة يمكن أن
يُذلّلها يوحنا القوي البنية ،وهو في سن الخامسة عشرة ،ولكن الدروس مقسومة قسمين :ثلاث
ساعات ونصف الساعة قبل الظهر .وثلاث ساعات بعد الظهر .كان الصبيّ يذهب في الصباح
ومعه كسرة خبز ،ويعود لطعام الغذاء ،ثم يرجع إلى سلوك الطريق ،ويعود في المساء إلى
البيت .كان يسير نحو عشرين كيلومترا في اليوم.
وجد له خاله ميشيل مكاناً يقيم فيه أثناء النهار ،عند رجل طيب اسمه يوحنا روبيرتو
،)Roberto(وهو خيّاط وموسيقيّ البلدة .كان الصبي يتناول عنده طعام الغذاء ،وكان يأتي به
كل يوم في قصعته.
خمسة كيلومترات في الصباح ومثله في المساء ليس بالشيء السا ّر ،وخصوصًا في الشتاء .كان

6.2 Page 52

▲back to top


يوحنا يمشي بشجاعة ،ولما كان المطر يجعل الطريق وحلاً كّله ،او ل ّما كان الثلج يجعلها ميداناً
للتزّلق ،كان يوحنا مثل سائر الفلاحين يخلع حذائيه ويحملها على كتفه .لقد لازمه المطر والثلج
والشمس والغبار مدة طويلة .في بعض ليالي كانون الثاني ( يناير) لم يجرؤ على سلوك الطريق في
العاصفة واستأذن روبيرتو في النوم تحت السلم :ولا أسف على طعام العشاء.
ادركت ماما مرغريتا أنّ ابنها قد يفقد صحته على الطريق في ذلك الشتاء ،فجاءت وفاوضت
الخياط فرضي السيد روبيرتو أن يقيم يوحنا عنده اقامة تامة ،بأجرة معقولة تُدفع بالّحبّ والخمر،
فيقدّم له عند الظهر والمساء حسا ًء ساخنًا ،وينام تحت السلم ،وتزوده أ ّمه بالخبز.
رافقته هي بنفسها إلى كاستلنوفو وقد حملت الكيس الذي يحتوي بضعة أَشياء وأمتعة
ضرورية لصبي في سن الخامسة عشرة .وأوصلت السيد روبيرتو "أن ُيلقي عليه نظرة حيناً بعد
آخر ،وأن يش ّد له أُذنه إذا دعت الضرورة إلى ذلك ."وقالت ليوحنا ":كرّم السيدة العذراء
لكي تجعلك أحسن من ذي قبل."
وجد نفسه في المدرسة مع اولاد في سن العاشرة أو الحادية عشرة .ان معارفه الفكرية ظلت
إلى ذلك الحين قليلة ،واذا أُضيف إلى ذلك ثوب فضفاض يزيد عن حجمه وحذاءان من الخشب
كبيران ،فمن اليسير على الورء أَن يدرك كيف صار هدفا للمزاح والسخرية من قِبَل رفاقه .كانوا
يدعونه " بَقّار البكّي."
تأَلم يوحنا من ذلك وقد كان في الماضي معبود صبيان موريالدو .واذا كان هو من جهته يبذل
قصارى جهده ليدرس ،فقد كان معلمه يساعده ويقدّر شأنه .إن الأب فيرانو صاحب دراية
مخدام .رأى رغبته في الدرس فانفرد به وجعله يتقدم سريعا .كتب يوحنا ذات يوم إنشاءً حسناً
على العازار المذكور في الكتاب المقدس فقراً الاب فيرانو الانشاء في الصف وعًلق عليه بقوله:
-إِن الذي يكتب هذه الكتابة يح ُقّ لَه أن يحتذي حذائَي بقّار .فالشأن في الحياة للرأس لا
للأحذية.
تقوم كاستلنوفو دأستي على مرتفع يبعد نحو عشرين كليومترا من تورينو إلى الشرق .تغ ّطي
قمة التلة انقاض قصر ،ومعبد القصر بُني على اسم السيدة العذراء في الذروة .كان يوحنا يصعد
اليه كثيراً ليسأل السيدة العذراء أَن تجعله يصير أَحسن من ذي قبل.
عدد أهل البلد ثلاثة آلاف تضمّها ستمائة أُسرة.
كانت ماما مرغريتا تأتي من البكّي كلّ أسبوع فتحمل إلى يوحنا رغيفَيه المستديَرين
الكبيرين ،ويجب أَن يكفياه مؤونته طوال الاسبوع .كانت تحملها اليه هي بنفسها لكي ت ّطلع من

6.3 Page 53

▲back to top


كثب على أَحوال ابنها ،وكانت على صواب في ذلك ،فمن بين رفاق يوحنا في المدرسة رعاع
صغار ،ومن اليسير للصبي في تلك السن أن يسلك طريق السوء.
روى دون بوسكو ":َت َعرّضت في تلك السنة لبعض الخطر بسبب من بعض رفاقي وقد
حاولوا أن ُيغروني بالقمار في ساعات الدرس .ولما قلت أن لا مال عندي أجابوني :لقد حان لك
أن تستيقظ .يجب عليك أن تتعلم الحياة .اسرق من مال معلمك أو من مال أمك .أذكر أَني
رددت عليهم :إِنّ والدتي تُحبّني حبًّا عظيما فلا ُأريد أن أشرع في ما سبّب لها كدَرا."
كان التعليم في ذلك الزمان مصبوغًا صبغة دينية شديدة .كان نصف الساعة الأولى من
الصباح يُصرف دائما في التعليم الديني ،وكانت الحصة الأخيرة من مساء السبت مخصوصة كلها
بالثقافة الدينية ،وكانت تنتهي بطلبة العذراء القديسة مريم .كان على المعّلمين لا أن يُمكّنوا
تلاميذهم من حضور القداس كل يوم ومن الاعتراف مرة في الشهر فحسب ،بل كان عليهم أن
ُي ّسهِلوا لهم ذلك كلّه.
"ليس في البكّي سوى حمير"
في نيسان حصّل يوحنا حقاّ ما كان متأخر فيه ،فإذا بحَدَث قد جرى أتاه منه عواقب سيئة.
أُقيم الاب فيرانو خوري رعية موندونيو ( )Mondonioفاضُطرّ إلى ترك المدرسة في يدَي الأب نقولا
موليا (.)Moglia
كان ذلك الكاهن تقيًّا محّبًا للناس ولكّنه كان في الخامسة والسبعين فلم يستطع قط أن يمُسك
بزمام تلامذة الصفوف الخمسة الذين يتساكنون في مدرسته ،فانتهى به الأمر ذات يوم إلى الغضب
وإلى استعمال العصا ،فكانت بقية الاسبوع وقت ضجة.
فاَتّهَم الأكبرَ سِنّا بأَنهم مسؤولون عن اختلال النظام المتواصل ،وأَظهر ِلمَن يَكبرهم جميعا
نفورًا خاصًا ،مع أَنّ يوحنا "بقّار البكّي" يَلقى عذاباً شديدًا من اضطراب حبل النظام الجماعي
فلم يكن المعلم يدع فرصة سانحة تفوته من غير أن يُذلّه فيقول له:
-ما يسعك أنت أن تفهم من اللاتينية؟ لا يَنمو في البكّي سوى حمير جيدة جدًا ،هذا أَمرٌ
مفروغ منه ،ولكن ليس هناك سوى حمير .أجل إنك تحسن اقتلاع الفطر ،والاستيلاء على
الاعشاش ،فذلك عملك .واما درس اللاتينية فلا.
كان أَترابه قد بدأوا يتركونه وشأنَه لِما أظهر له الاب فيرانو التقدير ،فعادوا إلى ش َنّ
حملاتهم عليه ،فقضى يوحنا أيامًا ضعف فيها عزيمته.
ولكنه َأراد ذات يوم أن يثأر لنفسه إذ فرض الأب موليا على تلاميذه في أثناء الدرس فرضا

6.4 Page 54

▲back to top


بالاتينية ،وكان على يوحنا أن يقوم بالترجمة مع تلاميذ صّفه ،فاستأذن المعلمَ أن يُحاول ترجمة
موضوع التلاميذ الذين فوق صفه بِصفين.
-من تع ّد نفسك؟ عُد إلى دُرجك ،ولا تُحّاول أن تَتص ّرف تص ّرفَ الحمار على عادتك.
فألحّ يوحنا فقبل الأب موليا آخر الأمر:
-إفعل ما تشاء ولكن لا تظنّ أَني سأقرأ حماقاتك.
ملك الصبي ما شعر به لِما أَصابه من التحقير وأكَ ّب على الترجمة .وكان فيها مشكلات
عسيرة ولكنه شعر أَنّه قادر على حَلّها .وكان في عداد أول الذين فرغوا منها ،فاخذ المعلم الورقة
ووضعها جانبا فقال يوحنا:
-أسألك أن تقرأها وتقول لي الأخطاءَ التي ارتكبتها.
-اذهب إلى مكانك ولا تبرمني .
فلم يتراجع يوحنا بل ظَ ّل يبتسم ويُصِر
-لا أسألك جهدّا كبيرّا ،بل أن تقرأها فحسب.
قرأها الاب موليا .كانت الترجمة جيدة ج ّدًا بل من الجودة ما جعله يخرج عن طوره مرّةً
ُأخرى:
-لقد قلتلا خير فيك .إنّك نسختَهذا الفرض من الألف إلى الياء.
-وممن نسخته؟
كان أترابه لا يزالون يع ُضّون على أقلامهم وهم يبحثون على الجمل الأخيرة .فاغتاظ المعلم:
-هذه قحة ! أَسرع إلى مكانك وعُ ِدّ نفسك سعيدًا لأني لم أَطردك من الصف.
كان تصلب الشرايين قتّالا حتى في ذلك الزمان والتغ ُرّض أيضا.
كانت نهاية تلك السنة سلسلة من أشهُر المعاناة .لم يذكر دون بوسكو أسم موليا
في ذكرياته .كان يوقّر كبار السن ،ولكنه لّمح إلى "امرئ عَ ِجز عن تحقيق النظام فكاد يجعل كلّ
ما تعلمتُه في الأشهر السابقة يذهب أدراج الرياح."
الثوب الكهنوتي الذي "يفصل"
وهناك شوكة أُخرى تؤلم يوحنا أَلمًا كبيرا في تلك الأشهر ،فقد عرف كاهنين ف ِذّين هُما الأب
كالوسّو والأب فيرانو فاستنتج َأّنّه ليس هناك كهنة يختلفون عنهما .كتب " :كان يتفق لي أَن
أُصادف خوري رعيتي على الطريق يصحبه المرشد ،فكنت أُسلم عليهما عن بعد ،وإذا وصلتُ
إلى القرب منهما كنت أنحني إجلالا لثوبهما الكهنوتي .وأمّا هما فكانا يظلان بعيدين ،ويكتفيان

6.5 Page 55

▲back to top


بالرد على سلامي بأدب من غير أَن يتوقّفا في سيرهما."
كان يبدو أن ثوبهما الكهنوتي الاسود يفصلهما عن سائر الناس .كانوا يعلّمون في تلك الأيام
ما هو الموقف الأليق برجال الكنيسة :التحّفظ والوقار والابتعاد.
"كنت أستاء من ذلك استياءً شديداً فأقول لأصحابي :إِذا اتفق لي أن أصير كاهنا فسأفعل
ما يخالف ذلك مخالفة تامة ،سأتق َرّب من الأحداث وسأقول لهم كلاما طيبا وأنصح لهم نصائح
حسنة."
لم يخطر ببال يوحنا أن عزمه هذا سوف يُحدث ثورة صامتة بين الكهنة في الثمانين السنة التي
ستتبع .سيدرك الناس في معاهد الكهنوت أَن ذلك الصبّي كان على صواب ،وسيرّبون أجيال
الكهنة الجديدة لا بحسب الوقار الذي يُبعد ،ولكن بحسب اللطف المبتسم الذي يُزّل البُعد.
كان يوحنا في موريالدو يصرف وقتَ فراغه بعد الدرس ،وهو يتجاذب اطراف الحديث
بهدوء ،والأب كالوسّو .كان الكاهن الكبير السن يُحيي ذكر ماضيه ،وكان الصبي يحلم في
مستقبله .ثم كان يمضي إلى الكنيسة فيُكنّسها ،ويرتّب أدوات المطبخ ،ويقلّب ما في المكتبة حبا
للاطلاع على ما فيها.
وأَما هنا في كاستلنوفو فان الكهنة يأبون التحدث إليه ،فكيف يصرف وقتَ فراغه؟
كان أو ُل ما صرف فيه وقته الموسيقى .كان السيد روبيرتو معلّم الغناء في الرعية .عنده في
البيت بيانو صغير وكان يوحنا يرافقه أحيانًا إلى الكنيسة فَيتمرّن على ملامس البيانو الصغير
والاورغن.
ولكن روبيرتو هو قبل كل شيء خياط البلدة ،فكان العمل الثاني الذي يصرف فيه يوحنا
وقته ،الجلوسَ بجانبه وتعلّمَ خياطة الأزرار ،وفتح العُرى ،ودرز المناديل ،وتفصيل
السترات ،وقد نجح في ذلك نجاحًا حسنًا حتى إن معلمه عرض عليه أن يترك المدرسة ويصير
عاملًا عنده.
عاد الأب موليا في شهر نيسان (ابريل) يُظهر له الكراهية ،وأَقنعت الض َجّ ُة يوحنا أَنه
يضيع وقته ،فاتفق مع والدته على أن يذهب للعمل بضع ساعات في كل يوم عند حداد اسمه
ايفازيو سافيو ( )Evasio Savioفتعلم استعمال المطرقة والمبرد والعمل في الكور.
لم يخطر ببال يوحنا بوسكو على الاطلاق حينذاك أَن هذه الصناعات سوف تُفيده في فتح
ورشات من أجل الصبيان الفقراء في جوار تورينو ،وهمُّه الواحد عند ذاك أَن ي ّذخر شيئًا من المال،
فقد احتاج اليه حاجة كبيرة بعد وقت قليل إذ عزم مع ماما مرغريتا على أن يخطوا في العام القابل
خطوة فيها خطر ولكنها حاسمة :الذهاب إلى مدارس كييري (.)Chieri

6.6 Page 56

▲back to top


0
"يجب عليّ أَن أدرس"
أَع َدّ يوحنا صرة ثيابه وسلم على السيد روبيرتو ولم ًيعُد إلى البكّي بل ذهب إلى سوسّامبرينو
)Sussambrino(وهي مزرعة استأجرها أَخوه يوسف مع يوسف فبرارو ( )Febraroوقد تركت
مرغريتا هي أيضًا البكّي في الوقت الذي تركها فيه ابنها.
قضى يوحنا اشهر الصيف وهو يدرس باجتهاد ،وقد أبى أن يَجِد نفسه متأ ِخّراً في كييري،
ولكنه َأبى أيضًا أن يكون عبءًا لا يطاق َحمُله على أخيه ،ولذلك كان يساعد في أعمال الحقل:
فُيصلح أدواتِ الزراعة في كو ٍر ُمرتجل ،ويذهب بالبقر إلى المرعى .وعمله هذا يُتيح له الفرصة
السانحة للقراءة والدرس.
ذكرت روزا فبرارو بنت يوسف أَنه كان من عادة يوحنا ان يُؤخَذ بكتبه ك َلّ مأخذ حتى إِنّ
البقرات كانت تسير على هواها .وكانت ،وهي صغيرة في سن العاشرة ،تجري وراءها في
الحقول ،وتجتاز أَخاديد الذرة الصفراء لكي تعيدها إلى التلميذ ،قبل أن يشكو من أمره أصحاب
عمله.
-إ ّن بقراتك تأكل الذرة الصفراء .
-شكرًا يا روزا.
-ولكن لماذا تذهب بها إلى المرعى ،إذا كنتَ لا تراقبها بعد ذلك؟
-يجب علي أَن ادرس يا روزا فأسهو حينًا بعد آخر.
-أصحيح أّنك تريد أن تصير كاهنا ؟
-نعم
-اذا فإن شئتَ فسوف أنظر بقراتك ،وعلى كل حال يجب علي أن احرس بقراتي.
شكرها يوحنا وعاد إلى الانهماك في كتبه.

6.7 Page 57

▲back to top


حلم يعود
صار يوحنا في كاستلنوفو صديقاً لاحد الذين معه في الصف ،هو يوسف توركو (.)Turco
أبو يوسف صاحب الرنينتا ( )Renentaوهي مزرعة مجاورة لسوسّامبرينو .إن هذا الفلاح رجل
طيّب ومسيحي صالح وهو يمرّ أحيانا بالقرب من يوحنا وهو يدرس.
-نرجو يا يوحنا أنك ستكون موفّقاً هذه المرة.
-شكرًا ايها السيد توركو ،فأنا أَيضاً أرجو ذلك ،ولا اخاف سوى امر واحد وهو أن لا
تتم َكّن والدتي من دفع النفقة في كييري.
-ولكن الله موجود ،اليس كذلك؟ فاذا أراد ذلك فإّنه ُيمهّد الطريق كما سترى.
-علينا بالرجاء ومع ذلك فأني لا أَزال أَخاف.
ابتسم ولكن في ابتسامته كآبة .وكيف يُنسب إلى الخطأ بعد كلً ما أصابه!
ذات يوم رآه السيد توركو وابنه يأتي راكضاً سعيداً وكله حماسة .قال:
-إ ّن الاخبار حسنة .حلم ُت في هذه الليلة ُحلمارأيت أَني سأَصير كاهناً وأهتمّ بجمهور
من الصبيان.
فقال السيد توركو حائرا
-ما ذلك إِلّا حلم ويا لسوء الحظ.
-لا يسعك أن تفهم ذلك .اما أَنا فهذا كا ٍف لي .الامر جِدّ هذه المرة.
ففي الليلة التي قبلها تَفّتح له مرة أخرى الوادي الذي رآه في الحلم وهو في سِ ًن التاسعة.
رأى م َرّة أُخرى القطيعَ والسيدةَ المتلألئة التي تريد أَن تسلمه إليه فك ّررت له قولها " :كن متواضعاً
شجاعًا قويًا ففي الوقت الموافق تفهم كل شيء."
يُقيم أهل ناحية مونتافيا ( )Montafiaعيد شفيعهم في أيام الصيف ،وهي غير بعيدة .عَلم
يوحنا َأنهم أَقاموا ساريةً ملساء في أعلاها الجوائز الاولى ،وبينها ص َرّة فيها عشرون ليرة.
قال في نفسه ":ان هذا ُيسعفني إسعافاً حسنا ."ًفذهب إلى العيد.
كانت السارية عالية جدّاً ملساء مدهونة بالزيت والدهن .نظر أطفال الناحية إلى الدوائر
الحديد في الأعلى وقد ُعّلق بها رزم صغيرة ،ولحم مقدّد ،وزجاجات من الخمر ،والصرة ،وكلها
يتأرجح .وبصق بعضهم في كفّيه حينا بعد آخر وحاول التسلق بين هتافات الجمهور .كان جميع
هؤلاء المتسِلّقين يبُاشرون عملهم بسرعة كبيرة ولكن إِذا وصلوا إلى نصف السارية ،أَخذهم
الاعياء ،فانزلقوا بين تصفير المشاهدين وزئيرهم.

6.8 Page 58

▲back to top


وتق َدّم يوحنا بغت ًة بعد ما درس الحالة درساً حسنافدنا من أَصل السارية ،وبصق هو أيضاً
في كَفّيه ،ثُم اعتنق الجذع فأَخذ يصعد ببطء ومن غير أن تتوتر اعصابه .وكان يقعد على مؤخر
قدميه أحيانًا لكي يتنفس الصعداء .كان يعمل في مونكوكّو سنة ليحصل على خمس عشرة ليرة،
وهنا فوق رأسه ببضعة أمتار ،عشرون ليرة .إنّه متأهب ليقضيَ النهارَ كلّه على السارية إِذا وجب
ذلك .
ظل يرتفع بتؤدة حتى وصل إلى المكان الذي تصبح فيه الشجرة رقيقة ،فتنفس الصعداء مرة
أخرى وقام بآخر حركات ذراعية وظل الجمهور في الأسفل صامتام َدّ يوحنا يده ،وفكّ الصرة،
وهي تحوي العشرين ليرة ،ووضعها بين أسنانه ،وجذب أيضًا قطعة من اللحم المقدّد ومنديلا
وانزلق ينزل.
النفور من مدّ اليد للاستعطاء
لم يكن العشرون ليرة التي حصل عليها من السارية الملساء كافي ًة لكي يقوم بنفقة إقامته في
كييري .فعليه أن يشتري ثيابا وأحذية وكتبا ،وعليه خصوصاً أن يدفع نفقة شهرَّية .ان َدخلَ
مزرعة سوسامبرينو ليس منجمًا من الذهب .قال يوحنا لأمّه في شهر تشرين الأول (اكتوبر) :
-إذا وافقتِ فاني سآخذ كيسين ،واطوف على أُسَر القرية لأجمع ما أُعطاه.
كان في عمله ذلك تضحية بأنفته كبيرة .سوف يٌصبح يوحنا بوسكو أَكبر "شحّاذ" في القرن
التاسع عشر ،ولكن طلب الصدقة شق عليه كثيرًا دائمًا ابدًا .في تشرين الاول ذاك تغلب أ ّول مرة
على نفوره من م ّد يدِ الاستعطاء.
كانت محّلة موريالدو كناية عن جملة من الضيع والمزارع الصغيرة المتفرقة .ذهب يوحنا من
بيت إلى بيت وقرع الباب فقال:
-أنا ابن مرغريتا بوسكو .إني ذاهب إلى كييري لأدرس فأصير كاهنا .أُمّي فقيرة
فساعدوني إذا كنتم تستطيعونه.
جميع الناس يعرفونه ،وقد شهدوا ألعابه وسمعوه يعيد العظات .إنّهم يحّبونه كثيرًا ول َكّن
الأغنياء قليل عددهم .إنهم ُيعطونه بَيضًا وذرَة صفراء وبضعة مكاييل من القمح.
مضت امرأة جريئة من البكّي إلى كاستلنوفو وذهبت توّاً إلى خوري الرعية الاب دسّانو
)Dassano(وقالت له إّنه من العار أن لا يُساعد مثل ذلك الصبيّ الطّيب ،في دروسه ،ويُترك
يمضي إلى طلب الصدقة من باب إلى باب .لم يكن يعرف الأب دسّانو شيئًا من ذلك فظنّ أ ّن يو ّحنا
عاد إلى دروسه في كاستلنوفو في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) فاستخبر عنه فتأ َكّد له صحة الأخبار

6.9 Page 59

▲back to top


فجمع قدرًا من المال صغيرًا وبعث به إلى مرغريتا ،وأرسل فقال لها تأ ِت وتكلّم لوشيا متّى
)Lucia Matta(وهي ارملة ستنزل في كييري لتراقب دروس ابنها.
كانت النصيحة حسنة ،فكّلمت مرغريتا تلك السيدة واتّفقتا على أَن يسكن يوحّنا عندها في
كييري مع ابنها .الأجرة احدى وعشرون ليرة في الشهر ،لا تستطيع ان تدفعها كّلها بالنقود ،
ولكنّها وعدت بِأَن تقدّم قدرًا من الدقيق والخمر .وتعهّد يوحنا أن يعمل خادمًا في البيت :يأتي
بالماء ،وُيعِ ّد الحطب من أجل المطبخ والموقد ،وينشر الغسيل .
في الأيام الأخيرة من تشرين الأول ( اكتوبر) مَثل يوحنا بين يدَي خوري كاستلنوفو ليحصل
على الإِذن بدخول المدرسة ،وكان لا بدّ لك ّل تلميذ ليكتتب في المدارس الرسمية ،من الحصول
على شهادة حسن سلوك من الكاهن ،وكان يَت ّعهد أيضًا أن يرعاه في أيّام عطلته وأَن يخبر بسوء
سلوكه اذا حدث شيء من ذلك .اتخذ هذه التدابير الملك كارلو فيليتشي ( )Carlo Feliceالذي
تُوفّي في تورينو في تلك السنة عينها ،بعد لقّبه "الأحرار" )3(كارلو الشرس.
سار التاريخ سيره
بينما يعيش يوحنا عيشه العسير في تلال كاستلنوفو ،سار التاريخ سيره .لا ننوي أن نرسم
صورة كاملة لتاريخ ايطاليا ،ولم نرسم مثل تلك الصورة في الصفحات السابقة ،ولكن يبدو لنا
أمرًا جوهريا أن نوضح بعض مظاهرها المهّمة ،لأن أبرز أحداث حياة يوحنا بوسكو الشخصية
جرت في ذلك التاريخ ،ومنه أتته مشاعره وأفكاره وإحساسه .
استعاد الأمراءُ حكمهم القاسي الرجعّي فهبّت لمقاومته الجمعيات السرّّية التي دّبرت الفتن
والتمردات بعد أن تسرّبت إلى ايطاليا في السنوات ما بين 3931و . 3981
وفي كانون الثاني (يناير) 3981انطلقت الشرارة في مدينة قادش ( )Cadixفي اسبانيا ،فقد
اضط َّر تمرٌد عسكري فرنادو السابعَ إلى وضع حدًّ لحكمه المطلق ومنح دستور يضمن لكلّ
شخص الحرّيّات الجوهرية وحق الاقتراع .وأقسم الملك نفسه اليمين لمراعاة ذلك الدستور .
أشعلت الشرارة الحريقَ في ايطاليا بعد ستة أشهر .ثارت فرقة صغيرة من الفرسان في مملكة
الصقلّيتين ،وهي تصيح :عاشت حرية الدرستور ،فمنح ملك نابولي الشعب بعد ثمانية أيام
دستور قاديش ،وأَقسم بالانجيل َأّنّه يلتزم العمل بذلك الدستور ،وبغته أن يحتفظ بعرشه.
)3يطلق في ايطاليا "الحرّ" على الذي ينادي بالحرّيات (حاشية من المترجم)

6.10 Page 60

▲back to top


في 31اذار (مارس) (اذ كان يوحنا بوسكو في سِ ّن السادسة) ابتدأ الت ّمرد العس ّكري في
البيمونته أيضاّ ،يقوده الكونت سانتورّي دي سانتاروزا ( . )Santorre di Santarosaأُنزل َعَلمُ
أُسرة سافويا الازرق في ألِسّندرية ،ورُفع على القلعة الألوان الثلاثة (وهي تذكّر بالثورة الفرنسية
وحقوق الانسان التي أعلنتها ) .وتمرد حاميتا بنيرولو ( )Pineroloوفرتشيللي ( )Vercelliوزحف
عقيد في الجيش إلى تورينو على رأس لواء ،فارتعب الملك فيتّوريو عمّانوئيل وأسرع من مونكالييري
)Moncalieri(إلى تورينو وجمع مجلس التاج فسمع من عرض عليه أن يمنح الدستور لكيلا يفقد كل
شيء ،وبينما هو يه ّم بذلك إذا بخبر يصل ،فيه أَن النمسا عزمت على التدخل في ايطاليا "لتعيد
النظام إلى نصابه."
واشتدت وطأة الأحداث على فيتّوريو عمانوئيل فتخلّى عن عرشه لأخيه كارلو فيليتشي ،
وكان حينذاك في مودينا ( )Modenaعند حَميه فأعلنَ الأمير الشاب كارلو البرتو ()Carlo Alberto
وصيّاً على العرش (وهو في سِ ّن الثالثة والعشرين .)
"اذهب فقل للأمير"
اتصل كارلو البرتو بسانتاروزا ( ، )Santarosaوكان يقّدر آراءه ،ولكنه لم يستطع ًقطّ أن
يعزم على الحكم المطلق أو على حكم "الأحرار" .وقد ظهر منذ ذلك الوقت طبعه المتردّد وقد أكسبه
لَقَب "الملك تِنِتنا" أي اللملك المترّدد الذي يتأخر في عزمه على الأمور .أراد شيئا واحدا مهما كلّفه
ثمنه وهو أن يحتفظ بحقه على العرش وأن يدافع عنه في وجه النمساويين والأحرار.
اجتمع حشد كبير تحت نوافذ قصر كارينيانو ( )Carignanoوطلب بالدستور (أتراه كان
يعرف الموضوع حتى المعرفة ؟) فرضي كارلو البرتو .وفي مساء الثالث عشر من آذار (مارس)
3983وقّع على الدستور قادش وبعد يومين اقسم اليمين بأن يلتزم العمل به ،وألّف حكومة جديدة
أصبح فيها سانتاروزا وزيرا للحربية.
لما تلّقى كارلو فيليتشي في مودينا ( )Modenaرسالة من كارلو البرتو يطلعه على ما جرى ،
غضب وصاح بالنبيل كوستا ( )Costaالذي أتاه بالرسالة " :اذهب فقل للأمير ك اذا كان لا يزال
في عروقه قطرة من الدم الملكي ،فليمضِ لوقته إلى نوفارا ( )Novaraوينتظر فيها أَوامري."
عزم كارلو البرتو بادئ ذي بدء على المقاومة ،ولكن أخبارًا مفجعة وصلت من نابولي :إن
جيشا نمساوياً سحق جيوش الأحرار ،وحل المجلس ،وخلع الحكم الدستوري .فالتجأ الأمير
الشاب إلى نوفارا وأذاع هناك بياناً أعلن فيه أَنه تخلى عن الوصاية على العرش ،ودعا الناس إلى
الخضوع للملك ،وذهب لوقته بعد ذلك غلى المنفى في فيرنزه (.)Firenze

7 Pages 61-70

▲back to top


7.1 Page 61

▲back to top


وتقدّ َم عودةَكارلو فيليتشي إلى البيمونته وصولُ جيش نمساوي أَشَاع الهزيمة بين متطّوعي
سانتاروزا و " اعاد النظام إلى نصابه" فحُكِم بالموت على سبعين من قادة الثورة (كان ثمانية
وثمانون منهم قد هربوا إلى سويسرة وفرنسا) وعُزلَ ثلاثمائة ضابط وثلاثمائة موظف مدن ّي،
وأُغلِقت جامعتا تورينو وجينوى لمدة سنة .كتب كارلو فيليتشي إلى أخيه في المنفى " :إِن جميع
الذين درسوا في الجامعة فاسدون .الأشرار كلهم أناس متعّلمون ،والصالحون هم كلهم
جهلة ."
كانت "حركات ، "3983كما يقال لها في كتب التاريخ ،أحداثًا تناولت البورجوازية
وحدها ،وهي كناية عن الطبقات الوسط من الشعب ،فظلّت طبقات الفلاحين والعمال غير
مبالية بذلك كله ،بل كانت أحيانًا معادية على وجه سافر .كانت الطبقات الوسط (التجار وصغار
المتعهدين والصناعيين ،والموظفون المدنيون والعسكريون) يبغون من خلال "ثورة الأحرار"
هدفاً واحداً هو أن يتحوّلوا إلى جماعات حاكمة ،إلى زمرة ذات امتياز ،تحلّ محل الطبقة
الارستقراطية القديمة .إن الاصلاحات المطلوبة والتي وافق عليها دستور قادش لم تكن شعبية ولا
ديمقراطية فكان حق الاقتراع مقصورًا على أصحاب قدر من الثروة :كانوا وحدهم يستطيعون أن
يبعثوا بممّثلين الى المجلس ،فييدافعون عن مصالحم ،كما الامر هو واضح .فما أَرادت الثورة
الفرنسية فعله من قبل أرادته ايضا ثورة الاحرار :القضاء على جميع الامتيازات ما عدا امتيازاً
واحداً أي الثروة.
" ملك بنعمة الله دون سواه"
لم يعد كارلو فيليتشي إلى تورينو إلا في شهرتشرين الأول (اكتوبر) . 3983كان ذلك
الشخص،اذا نظرنا إليه اليوم ،عجيبا طريفا .لم ُيرِد َق ّط أن يصير مَلِكا .كان يُح ّب العيش في
العزلة والتواضع وكان شديد التديّن .لقد تقّبل العرش لأمر واحد هو "واجب الضمير."
ولكنه منذ أن تقّبله ألزم نفسه العمل إلى أقصى حد بأفكاره في الحكم المطلق الصلب .لم
يكن أ ُّي فكر أبعد من ذهنه مثل فكر "سيادة الشعب" ( وهو مبدأ استنبطه فلاسفة الانوار في سني
3911وأعلنته الثورة الفرنسية) :إِّنه هو الملك وليس الشعب.
سلّم احتكار التعليم الرسمي إلى رجال الكنيسة ،وأَخضع مراقبة الكتب إلى المجلس
الكنسي والمطارنة وفرض نظاما شديدًا في المدارس ،والتعليمَ الديني اليومي ،والصلاةَ قبل
الدرس وبعده .إِن المدارس التي ذهب اليها يوحنا بوسكو في كييري (اربع سنوات في المدرسة
الرسمية وست سنوات في معهد الكهنوت الكبير) والكتب التي قرأها ،وساعات الدوام التي

7.2 Page 62

▲back to top


ُفرضت عليه ،والمنظّمات التي عاش فيها :ذلك كله حَمَل "علامة مصنع" كارلو فيليتشي .
عزل الملك اليهودَ مرًة أخرى في ح ٍيّ خا ٍّ ص بهم ،ونزع منهم الحقوق التي اعترف لهم بها
قانون نابليون ،ووافق على أَنظمة عسكرية تقضي " :ان الجندي الذي ُيلقي صيحات أو
خطابات تدعو إلى التمرد ،ُيضرب من مائة إلى مائة وعشرين ضربة عصا ،ويتخللها يوم من
الراحة (نظام القنّاصة) ،وأراد أن يصير كل حكم بالموت "عبرة مفيدة" لكل متهوّس ،
فوافق على "وضع الكُماشات المَحمِّية بالنار" على المحكوم وهو يساق إلى الموت .وهذا هو السبب
الذي من أجله لُقّب "كارلو شرس."
لم يفهم قط ما صاحَ به بيان مغفل ألّفه بروفّيريو ( )Brofferioودوراندو ( )Durandoعلى
جدران تورينو " :ياجلالة الملك ،إنّ رعاياك ليسوا أشياء بعد ،بل هم أشخاص ."إِنهم في
نظره رعايا ،وذلك كافٍ ،أي إِنّهم اُناس يجب عليه أن يحفظهم في الطريق الصالح بالشدة.
و َص َف مسّيمو دازيليو ( )Massimo D Azeglioعَشر سني مُلكه ببضع كلمات :استبداد يفيض
نًيّا ٍت مستقيمة صالحة.
توُفّي السنة 3913وترك العرش لكارلو ألبرتو ذاك الذي ما أنف ّك طوال حياته يسمّيه "الفرخ
الفاسد من أُسرتنا ."وقد وجد الوقت اللازم ليقرأ الاخبار المزعجة عمَّا يجري في مودينا وبارما
وبولونيا .فان الأحرار (شأنهم في السنة التي قبلها في باريس) قد ثاروا مرة أُخرى على حكم
الأمراء المطلق ،فاضُطّرت النمسا إلى إرسال جيوش تسحق الثورة التي بعثها رجل صناعة اسمه
تشيرو مينوتّي ( )Cirn Menottiوقائد اسمه كارلوزوكّي ( .) Zucchiوخافوا أيضًا أن يجتاح السافويا
لواء من المتطوعين المجتمعين في ليون ولكن الشرطة الفرنسية فرّقتهم.
"طويل حزين كالصوم الكبير"
خلفه على عرش تورينو كارلو ألبرتو في سِ ّن الثالثة والثلاثين .لقد جدّد لنفسه ،في نظر
انصار الحكم المطلق والرجعيين ،"اسمًا ُمطهّراً" في إسبانيا لأّنه حارب الاحرار ،فانتقم هؤلاء
فسمّوه في مؤلفاتهم "الخائن" و "الحانث" .كان شاحب اللون،ذا قامة شاهقة ترتفع مترين
وأربعة سنتمترات .كان الصغار من الشعب في البيمونته يقولون " :طويل حزين كالصوم
الكبير ."أَراد أَن يُثبت للفريقين المختلفين أنّه لم يظل الامير الذي وقّع على الدستور ،فأمر بقتل
سبعة من أنصار مازّيني ( )Mazziniبالرصاص في ألِسّندرية السنة ، 3911وعشرة في جينوى ،
وحكم على سبعين آخرين بالاشغال الشافة في قذف السفن .
ولكن البيمونته وايطاليا تبدّلا على رغم المحاولات لإيقاف عجلة التاريخ.

7.3 Page 63

▲back to top


أصبحت البورجوازية طبقة مهّمة حقًّا ،ّواذا لم تفهم بعد ما هي "الحرية الديموقراطية" ،
فانها تحتاج إلى "الحرية التجارية" لكي تنشر في شبه الجزيرة رخاءً أفضل.
في البيمونته تُحفر القنوات ،وتُ َجَّفّف المستنقعات ،وتُقطع الأحراج ،وتُو َسّع زراعة شجر
التوت والقنّب والكرم ،وتنشر زراعة البطاطا التي وضعت ح ّدًا للجماعة الشديدة الدورية في سني
القحط ،ويُفتح نحو ثلاثين منجمًا للحديد وتُ َوسّع صناعة الخزف .تمتاز برا ( )Braبدباغة
الجلود ،وُيعترف لكونيو ( )Cuneoبأنها أول سوق في أوروبا للشرانق .وما إن خفض كارلو البرتو
الضربية على الصفوف حتى صارت بييلّا ( )Biellaمركز صناعة للصوف مزدهرة ،فَنَمت معامل
الغزل ،ووصلت أ ّولُ غنم "مرينوس" إلى البلاد .وشعر الناس بالحاجة إلى توسيع شبكة
الطرق ،وإلى الشروع في بناء السكك الحديد.
ومال التفكير السياسي هو ايضا إلى التجدد على وجه لا رجعة فيه .في الاشهر الاخيرة من
السنة 3913انشأ مازّيني ( )Mazziniفي مرسيليا "ايطاليا الفتاة" وانتشرت فكرة ايطاليا "الأمّة:"
انها شخصية تاريخة لها تقاليدها الثقافية الشعبية ولها حقّ الحرية والاستقلال .وأخذ الايطاليون
يدركون على وجه تَ َدرّجي أنّ لهم مصيرًا مشتركا ،وأَنه يجب عليهم أن يصيروا حَكَماً لهذا المصير ،
كلهم معاً أو مكانَ الملوك الذين عَدّوهم إلى ذلك اليوم قطيعًا من القُ ّصر العاجزين.
نشر سيلفيو بلّيكو ( )Silvio pellicoفي تورينو السنة 3918سُجوني وهو كتّيب ه ّز إيطاليا
وجعلها تفكّر على وجوه مختلفة .افتضح امر النمسا ،بعد ما ظَلّت تبدو إلى ذلك الحين حارسة
النظام والرخاء الاجتماعي ،في الصفحات المعتدلة الكئيبة التي أنشأها الكاتب بعدها قضى عشر
سنين في الأعمال الشاقة ،لقذف مراكب امبراطور فيّنا فكشَف عن وجه الحكومة النمساوية
واستبدادها القاسي الذي يقمع وُيعذّب .

7.4 Page 64

▲back to top


9
اعوام النضارة في كييري
كان اليوم الرابع من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) وهو يوم نيّر من الصيف الثاني على ما
يقال :بين تشرين (اكتوبر) وتشرين (نوفمبر) صيف ثا ِن .وكان يوحنا بوسكو مسافراً مع رفيق
له من سِنّه اسمه يوحنا فيليبللو ( ، )Filippelloمشيًا على الاقدام إلى كييري .كان يوحنا وهو على
الطريق ُي ّسر الى صديقه فيكلمه على دروسه ويروي له احداث حياته في الماضي وما حاول القيام
به ،فسأله بغت ًه فيليبللو وكان فتى على شيء من السذاجة :
-لَم تدرس في المعهد في الماضي وانت مع ذلك تعلم جميع هذه الاشياء الكثيرة ؟ ستصير
كاهنا بسرعة .
-أتعرف ما معنى القول أن يصير الانسان كاهنًا ؟ على الكاهن أعباء ثقيلة جدًّا .يجب عليه
عندما يقوم بعد طعام الغذاء أو العشاء أن يفكّر :لقد تناولت غذائي ،هل أَكل ابناء رعيتي ؟
يجب عليه أن يقسم ما عنده بينه وبين الفقراء .يا عزيزي فيليبللو ،لن أقبل أن أصير خوري
رعية .أُريد أن أنذر حياتي كلها للأحداث .
بينما يسير الفَتَيَان ،وهما يتكلمان على الجوع والفقراء ،بدأت في ليون على بعد 811
كيلومترا فقط في طريق الج ّو ،ثورة عمال الحرير .نزلَ آلاف منهم إلى شوارع يحّتجون على قلة
الاجور ،وساعات العمل غير الانسانية بكثرة عددها :نحو ثماني عشرة ساعة كل يوم .دامت
معارك الشوارع عدة ايام ،ثم انتهت الفتنة ،وقد خنقتها الجيوش التي أرسلتها الحكومة الفرنسية
وقُتل اكثر من الف رجل .وفي السنة التي بعدها اندلعت الثورة في باريس ،وسَبّبت موت ثمانمائة
شخص ،وفي ربيع 3919ثار عمّال ليون وباريس معاً وهم يصيحون " :نعيش ونحن نعمل ،
أو نَموت ونحن نحارب ."فقُذفوا بقنابل المدافع .
لم يستطع يوحنا بوسكو الا ّطلاع على شيء من ذلك ،وَلم يتسرب خبرواحد من الصحف
الخاضعة للمراقبة الشديدة ،الى مملكة بيمونته .سمع يوحنا حينابعد آخر "بحركات الأحرار" .
اكتُشفت مؤامرة في تورينو اُتّهم بها "فرسان الحرية" يقودهم بروفيريو ( )Brofferioوبرساني

7.5 Page 65

▲back to top


، )Bersani(فقضى كارلو البرتو عليها بش ّدة فكَلّف ذلك برساني سبع سنوات من السجن في قلعة
فنيستريللي ( . )Fenestrelleكانت "الثورة" التي يتكلمون عليها حينًا بعد آخر بكلمات مبطّنة ،
تريد أن تسير بايطاليا نحو " الدستور" والاستقلال عن النمسا ،وقد سميت تلك الثورة بعد قليل
ريزورجيمنتو ( : Risorgimentoالنهضة ) .بيد أَن يوحنا لم يكن يُلمّ أي المام كان بثورة أخرى
عميقة جذرية تُبدّل شمال اوروبا ،ولن تلبث أن تدخل ايطاليا :هي "الثورة الصناعية " وبها
ترتبط " المسألة العمّالية" العظيمة الشأن .أخذ يرى نتائجها الاولى المفجعة بعد عشر سنوات لما
دخل تورينو .
دعامة بين الصغار
كتب دون بوسكو " :نزلت عند لوشيا متّى ( ، )Lucia Mattaوقد بقيت أرملة ولها صبي،
وكنت آكل وأشرب عندها .وكانت قد جاءت وابنها الى كييري لكي تراقبه وتُعنى به ."
وصلت مرغريتا بعد قليل في عربة لبعض الاصدقاء ،ومعها كيسان من الحبوب ،فذهبت
الى ابنها لتراه عند السيدة متّى فقالت لها " :هوذا ابني ،وهذا مما يجب عل ّي دفعه لنفقته .لقد ُقمتُ
بقسطي ،وسيقوم ابني بقسطه ،وارجو أَنّك لن تكوني مستاءة منه ."
" كان اول شخص عرفتُه الاب بلاسيد فاليمبيرتي ( )Valimbertiواني اذكره أَحسن ذكر .
فقد نصح لي نصائح حسنة ،وسار بي الى رئيس الدروس وقدمني للاساتذة .كنت قد تعلمتُ الى
ذلك الحين نُتقًا من كل شيء ،فلم أحصل على نتيجة طيبة فاخناروا هذا الح ّل وهو أنهم جعلوني في
الصف السادس .
فاظهر لي المعلم الاب فاليريانو بونيتي ( )Pugnettiكثيرًا من المحبة .فقد كان سِنّي (ستة
عشرة عاما أَتممتها ) وقامتي تُظهر انني بمظهر الدعامة بين أَترابي الصغار .كنت شديد الرغبة في
التخلص من هذا المأزق فقُبِلتُ ،بعد شهرين في الصف السادس ،لأقدّم فحص الانتقال الى
الصف الخامس ،)3(ونجح ُت فيه .
دخلتُ مرتاحاً صفّي الجديد .كان المعلم الاب العزيز فاليمبيرتي ،ففزتُ بالمرتبة الاولى
عدة مرات ،فق ّدمتُ بعد شهرين على وجه استثنائي فحصاً آخر وقُبلتُ في الصف الرابع .كان
)3كان العدد الترتيبي للصفوف في ايطاليا يختلف ع ّما هو عليه في اكثر البلاد العربية في أيامنا فالصف الابتدائي الاول
ُيسمّى الصف العاشر ويقال لصف البكالوريا الصف الأول وقس على ذلك الصفوف بينهما (حاشية من
المترجم ) .

7.6 Page 66

▲back to top


المعلم فنسان تشيما ( )Cimaوكان رجلا شديداً في أُمور النظام ،فلما رأى في نصف العام الدراسي
تلميذًا طويل القامة ،قوي البنية مثله قال في اثناء الدرس ،مازحًا :
-ان هذا التلميذ إِما ُخلد كبير وإِما فتى ذو قيمة عظيمة .
فاستأ ُت قليلا من هذه النكتة وأجبتُه :
-بل شيء وسط بين هذين .إني فتى مسكين يرغب رغبة شديدة في القيام بواجبه على وجه
حسن ،والتقدم في الدروس .
فأَعجبته هذه الكلمات فأضاف بلطف غير منتظر :
-إذا كنتَ حسن الاستعداد فقد وقعتَ في أي ٍد طيبة .لن أدَعك بطّالا .كن على ثقة من
ذلك .واذا عرض لك ما ُيزعجك فقل لي لوقتك وأنا اساعدك.
فشكرته من صميم قلبي " .
حادث لا شأن له ...
كييري مدينة صغيرة على بعد عشرة كيلومترات من تورينو :إِنها تمَتّد في سفح تلة تورينو على
الطرف المقابل لعاصمة البيمونته .لما وصل يوحنا اليها كان عدد سكانها 8آلاف .كانت مدينة
رهبان وحاكة وطلبة .
كانت أديار كثيرة تُؤوي رهبانًا وراهبات من مختلف الرهبانيات وَهُم رهبان القديس عبد
الأحد ،والقديس فيلّبس دي نيري ،واليسوعيون والفرنسيسكان والحبيسات الخ ...
كان الطلاب يأتون المدينة من جميع نواحي مونفرّاتو وبلاد استي وكانوا يعيشون عيشة ُيرثى
لها .كانت الدروس نصف مجّان ولك ّن المِنح الدراسية لم تكن قد أُنشِئت في ذلك الحين .كان كثير
من الطلاب يبذلون بذلا يصل إلى حد البطولة .كانوا يبحثون بلهفة عن العمل بعد ساعات
الدرس فيعملون أوقات محدودة في النسخ أو الاعمال المنزلية في بيوت الاغنياء ،ومراجعة
الدروس ،وتنظيف الخيل والعربات .كانوا يُمسكون عن إِيقاد النار لكي يقتصدوا في النفقة ،
وكانوا يدرسون وقد لفَّوا أَجسامهم بأغطية صفيقة ،وأرجلَهم في أحذية خشب .
عاش يوحنا بوسكو بين التلامذة الفقراء وهو يتح َّمل الفقر مثلهم .كانت مرغريتا تأتي حينا
بعد آخر من سوسامبرينو لتسأل لوشيا مّتى كيف حاله .
كانت الارملة الطيبة تخبرها أَخبارًا حسنة .فيوحنا يخدم في البيت وهو تّقي ُمكِ ٌّب على العمل
يساعد ابنها وهو اكبر منه سنًّا .كان ذلك الشاب لا يُحب المدرسة .صار يوحنا صديقه ونجحَ في
الذهاب به غلى الكنيسة ليستغفر الله كسله .

7.7 Page 67

▲back to top


كان يوحنا يسعى بكل وسيلة غلى الاسهام في كسب قسط من نفقته .لقد استطاع أن يربح
شيئًا من الفلوس في معمل نجار يعرفه ،وتعلّم استعمال الرابوب والازميل والمبرد .
"كنت في الصف الرابع منذ شهرين اذ عرض حادث لا شأن له جعل الناس يتكلمون
علي .كان معلم اللاتينية يشرح سيرة اجيزيلاس بقلم قرنيليوس نيبوس .كنت في ذلك اليوم قد
نسيت كتاب القراءة ،ففتحت كتاب القواعد أمامي لكيلا يشعر المعلّم بالأمر ،فتنّبه جيراني
لذلك ،وأخذ واحد منهم يدفع جاره بمرفقه ،وبدأ الآخر يضحك .
فسأل المعلّم تشيما " :ما الخبر ؟ " فنهضتُ وأنا أُمسك كتاب القواعد بيدي ،واستطعت
أن أقول عن ظهر قلبي النصّ اللاتيني والشرح فصفّق لي أَترابي عفوًا .
فاغتاط المعلم وصاح :تلك اول مرة لم يستطع أن يفرض فيها سيادة النظام ،فارسل الي
ضربة على رأسي تمكنت من أَن اجتنبها .ثم وضع يده على كتابي كتاب القواعد ،وطلب من
الذين حولي أن يَرووا له سبب هذا الاختلال في النظام .
-ليس لدى بوسكو كتاب قرنيليوس نيبوس بل كتاب القواعد ،ومع ذلك قرأ كل شيء
وشرح كما لو كان قرنيليوس في يده .
نظر المعلم الى الكتاب الذي وضع عليه يده وطلب مني أن أواصل "قراءة" جملتين
لقرنيليوس وختم بقوله :
-اني اغفرلك لحسن حافظتك .حاول أن تُحسن استعمالها .
كان يوحنا قد أثبت للاب كالوسّو حافظته الفائقة .لكن هنا في كييري أخذت تحدث
أحداث عجيبة .حلم ذات ليلة أنَّه يكتب فرضاً في صف اللاتينية ،وما إِن استيقظ حتى كتب
النص ،وقد تذكره على أحسن وجه وترجمه يساعده فيه كاهن من أصدقائه .أَملى المعلم في الصف
"ذلك" الفرض بعينه ،واستطاع يوحنا أن يُقدّم ترجمته في سرعة عجيبة .
وحدث ذلك مرةً أخرى على وجه اكثر غرابة اذ سَلّم يوحنا ورقته بسرعة عظيمة ،تجاوزت
الحد .فقرأها المعلم ونظر الى المسوّدة فصعق :كان على الصفحة تلك قسم من الفرض ،أراد أن
يفرضه على التلاميذ ،ولكنه أهمله في آخر لحظة لأنه بدا ل ُه مُف ِرطا في الطول .
-أين اصطدتَ هذا الفرض ؟
-حلمُته .
الحلم حدث قليل الشأن في حياة الناس ولكن "الحلم" قد أصبح ذا قدر عظيم في حياة
يوحنا بوسكو ،فكلما مضت الاعوام ازدادت تلك المسألة شأنا في حياته .كان الذي يسمع في
سياج فالدوكّو دون بوسكو يتمتم بلهجة هادئة " :حلمتُ حُلما ،"يدُني أُذنيه ليسمعه .كان ذلك

7.8 Page 68

▲back to top


الكاهن العجيب يقرأ في الحلم خطايا الاولاد الذين يُربيّهم ،وينُبئ بموت الملوك ويعرف الاعمال
الباهرة التي سيقوم بها في حياته طفل ٍغرّ يلعب بالكلل .
جمعية الفرح
كتب دون بوسكو " :في الصفوف الاربعة الاولى اضطُررتُ الى أن أتعلم على حسابي كيف
أتعامل وأترابي ."
كان فيهم اناس أشرار ،على شدة الحياة المسيحية التي فرضتها المدرسة (وجَبَ على كل
تلميذ أن يبرز شهادة شهرية بأنّه اعترف ) ."بلغت القحةُ بواحد منهم أنه نصح لي بسرقة شيء
ثمين من عند سيدتي " .ابتعد يوحنا حقاً في أول امره من هؤلاء الصبيان المساكين ،لكيلا تكون
نهايته نهاية الفأرة بين قوائم الهرة ،ولكن سرعان ما َي ّسر له النجاح المتواصل الذي أصابه في دروسه
نفوذاً جعله يبدّل علاقاته بهم .لماذا لا يستفيد منه لكي يصنع اليهم الخير ؟
" ان أترابي الذين ارادو جذبي الى السوء كانوا أكثر التلامذة اهمالا لدروسهم ،حتى إنهم
اخذوا يلجأون إل َيّ لأساعدهم في فروض صفهم ."
فساعدهم بل أَفرط في مساعدتهم اذ كان ي ّمرر اليهم من تحت المقعد ترجمات برمتها (وقد
أُخذ بالجُرم المشهود في أَثناء الفحص ،ولم يستطع التخلص من المأزق الحرج الا بفضل صداقة
معلم َفر َ ض عليه إعادة ترجمة باللاتينية ) .
" هكذا ضمنت لنفسي عطف أَترابي وصداقتهم ،فأَخذوا يقصدوني في أَثناء الفُرَص ،من
أَجل القيام بالفرض ثم لللاستماع الى حكاياتي وآخر الأمر من دون أي سبب كان ."
كانوا مسرورين عندما يجتمعون فأَلفوا نوعا من الجوقة سمّاها يوحنا "جمعية الفرح " وقد
سَنّ لها قانوناً بسيطاً ج ّداً :
-1ينُبذ كل عمل ،كل كلام يندى له جبين المسيحي .
-2القيام بالواجبات المدرسية والدينية .
-3الفرح .
ظ َلّ الفرح عند يوحنا بوسكو ِفكراً ملازماً لا يُفارقه حتى قال دومنيك سافيو تلميذه المف ّضل :
"القداسة عندنا تقوم بالفرح .نحاول أن نتجنب الخطيئة التي تسرق فرح قلبنا " .فالفرح في نظر
دون بوسكو هو الطمأنينة العميقة التي تنشأ من معرفة الانسان أنه في يد الله ،أي في يدٍ كريمة .إنّه
تعريف بسيط لخير ثمين وهو " الرجاء المسيحي " .

7.9 Page 69

▲back to top


" في السنة 1332ِصرتُ بين أترابي مثل قائد لجيش صغير " .كانوا يلعبون برمي الهدف )1(
والط ّوالات )2(والقفز والركض ،فاذا تعبوا قام يوحنا بألأعاب خفة على طاولة صغيرة توضع على
العشب .
"كنتُ ُأخرِج من طاس صغير مائة كُرَيّة صغيرة ملّونة ،ومن إناء صغير فارغ عشرات من
البيض ،ومن أنف المشاهدين كراتٍ صغيرة ،وأعرف كم من المال في جيبهم ،وأُحوّل الى غبار
نقوداً من أي معدن كان ُلمجَرّد وضع إصبعي عليها ."
وكان هذا الفرح كله ينتهي بالصلاة كما كان يحدث في البكّي .
"كنا نذهب في كل عيد إلى كنيسة مار انطونيوس حيث كان اليسوعيون ُيلقون درساً للتعليم
الديني رائعاً وهم يستشهدون بأَمثال أذكرها الى اليوم " .
أربعة تحدّيات للبهلوان
غير أنّه في يوم من الايام الاحد كان عدد الحضور في كنيسة مار انطونيوس قليلا ،فقد وصل
بهلوان ليقدم بعد ظهر ذلك اليوم حفلة من الالعاب البهلوانية من صنف عال ،ويتحّدى في
الركض والقفز أَرشق الأحداث في المدينة .
ساء يوحنا أن اصدقاءه تخَلّوا منه فذهب ليرى ما الخبر .هناك بطل رياضي حقيقي يركض
ويقفز بقوة آلة ويقول إِنه ينوي الاقامة في كييري مدة من الزمن ،فجمع يوحنا خير اصحابه :
-اذا ظل يقوم بالحفلات بعد ظهر يوم الاحد فان جمعيتنا ستتفكّك .يجب أَن يغلبه واحدٌ
من الذين يتحدّونه وقد تفُرض عليه شروط .
-من يغلبه ؟
-يمكننا أَن نجد امراءاً ،فليس ذلك صعب المنال .ففي الركض على سبيل المثال لا أظنني
دونه مقدرة .
يوحنا في سن السابعة عشرة ،ويُحسّ أنَّه قوي ولكنه أَضاف لوقته في ذكرياته " غير أَني لم
احسب حساب عواقب كلماتي فقد أَخبر البهلوانَ بالامر رفيقٌ من رفاقي قليل التروّي وهكذا
وجد ُت نفسي ملتزما في مباراة :تلميذ يتحدّى بطلا محترفاً " .
)1الهدف يقذف بقطعة من الخشب أو المعدن لكي تصل الى أقرب ما أمكن من هذف ما (شرح من المترجم) .
)2الطوّالة :أداة خشب لها مكان توضع عليه القدم ويمسك أعلاها باليد (شرح من المترجم) .

7.10 Page 70

▲back to top


واختارو شارع باب تورينو أَرضا للمباراة ،وكان المطلوب اجتياز المدينة كلها ركضاً ،
وكان الرهن عشرين ليرة ،ويوحنا لا يقتنيها ولكن اصدقاء الجمعية تشاركوا في دفعها .ذكر دون
بوسكو " :راقب المباراة جمهور من الناس " .
تقدم البهلوان بادئ ذي بدء عشرة امتار :إِنه ع ّداء في حين أن يوحنا مسابق للمسافات
الوسط " .استَعَدتُ سريعاً ما كنتُ خسرته ،وخلّفتُه ورائي الى حَدٍ بعيد حتى إِنه وقف في نصف
السباق وتخلى لي عن الفوز ."
انتهت المسابقة ولكن البهلوان طلب الثأر ،و القبول مسألة شرف ،"قال لي:ِإني اتحدّاك في القفز ولكني
أُراهن على اربعين ليرة .
-إني أوافق " .
فاختار المكان :يجب القفز فوق ساقية يعلو ضفَتها جدارٌ صغير .طار البهلوان وهبط بقديمه
عند الحاجز .ذكر دون بوسكو " :لم يكن ممكناً البلوغُ الى أَبعد من ذلك .كان يمكنني أن أخسر
ولكن لم يكن يمكنني أن أفعل ما هو أحسن ،ومع ذلك تل َمّستُ حيلةً فقفزتُ القفزة بعينها ،ولكني
اعتمدت الجدارَ الصغيرَ بيديّ ،وواصلتُ القفزة " .فمجمل القول إنه قام بما يشبه قفزة
بالعصا .لقد ربح .
استاء البهلوان لخسارته الليرات ولأنّ الناس اخذوا يسخرون منه فقال " :إِني اتحدّاك تحدّياً
آخر .إختر َلعِبَ الخفة الذي تشاءه" .قبلتُ واخترت العصا السحرية على أن يرتفع الرهنُ إلى
38ليرة .أَخذتُ عصا فَجعلتُ في طرفها قُبعةً ووضعتها على كَفي ،وجعلتها تقفز على رأس
الخنصر فالبنصر فالوسطى فالسبابة فالابهام ثم على ظَهر يدي فالمرفق فالكفّ فالدقن فالفم فالانف
فالجبين ،وسلَكَتِ العصا الطريق بعينه وهي تعود القهقرى َورَ َجعت إلى كفّي .
فقال لي مُؤكّداً " :لن أخسر هذه المرّة " .وأَخذ العصا عينها وسيّرها بمهارة عجيبة حتى
شفتيه ولكن أَنفه مفرط في الطول فلامسته واضطر الرجل الى القبض عليها لئلا تهوي " .
فأَشفق يوحنا هذه المرة على الرجل وهو بطل ألعاب طيّب ."كان المسكين يرى ماله
يذهب .فخرج عن طوره وصرخ " :لا يزال عندي مائة ليرة وانا أراهن بها على التسّلق .فالذي
يضع قدميه على اقرب مكان من قمة هذه الشجرة يربح ."قبلنا وقد َي ُّسرنا أن يربح ،لأننا لا نريد
أن يصاب بالافلاس .
فكان البادئ وتسلّق الشجرة فوضع قدميه في مكان منها عالٍ ج ّداً حتى إن ما طوله طول
الكَفّ يكفي لكي يلوي البشجرة فيهبط المتسلّق .وأَجمع الناس على أنه لا سبيل الى الارتقاء الى
مكان أعلى من ذلك .جاء دوري فصعدتُ على وجه التقريب إلى ذلك المكان بعينه الذي وصل

8 Pages 71-80

▲back to top


8.1 Page 71

▲back to top


اليه ،ولكني امسكت بالشجرة وانتفضت فارتفع جسمي عامودياً ،وصار قَدَماي أعلى متراً من
قدميه .فدّوى التصفيق في الأسفل فتعانق اصدقائي وقفزوا فرحاً .اما البائس فقد كان حزيناً
حتى كاد يبكي ،فرَددنا عليه ماله شريطة أن يدفع لنا ثمن طعام في فندق موريتو (، )Muretto
مطعم الجدار الصغير " .
س ّجل دون بوسكو في دفتر ذكرياته عدد الليرات التي كلّفه الطعام الجماعي وهو 22ليرة ،
وعدد الليرات التي أمكن الرجل أن يعيدها الى جيبه وهو . 212وكتب أَيضاً الكلمات التي قالها
البطل الرياضي للفتيان بعد ما وعدَ بترك المكان ":إنكم انقذتموني من الإفلاس باعادتكم هذا
المال إِليّ .إِني أَشكركم وسأذكركم مسرورا ولكن لَن أراهن التلامذة بعد اليوم " .
ذهابه الاول الى تورينو
خرجت جمعية الفرح من هذا التحدي ثابتة عالية الرأس .كان أَعضاؤها يذهبون في ايام
العطلة الى تلال سوبيرغا ( )Supergaفيجمعون الفِطر ،ويغنون ويستمتعون بالمناظر ،بل يقومون
برحلة سريعة الى تورينو لكي ينظروا باعجاب الى الحصان الرخام على سلّم القصر الملكي ،
فيجتازون نحو 38كيلومتراً مشياً على الاقدام ذهاباً وإياباً .كانوا يعودون وقد ع ّضهم الجوع وكانوا
يفيضون في وصف عجائب العاصمة لأصحابهم الأقلّ همة .
شاهد يوحنا بوسكو تورينو أول مرة في اثناء تلك الرحلات .نمت المدينة وازداد عدد سكانها
زيادة مدهشة ،بمقدار ثلث العدد في عشرة اعوام ،وقفزت أسعار البيوت واجرة السكن قفزاً
سريعاً جداً ،وأحسّ الناس إحساساً مفجعاّ بالنقص في المستشفيات والمآوي لكبار السن والدور
والمدارس للاولاد .
كارلو البرتوينوي أن ينظر نظرة عملية الى التعليم الشعبي ،ولكنّ وزيره الاول سولا رودلاّ
مرغريتا ( ، )Solaro dlla Margaritaوهو كاثوليكي محافظ متش ّدد ،كان يرى غير رأيه :فإما أن
ي ُعهد بالتعليم إلى الكهنة وأمّا أن يُصبح التعليم خطرا .
في الربيع الذي فيه كان يوحنا بوسكو واصدقاؤه يجوبون التلال ،أَقام الاب كوتولنغو
)Cottolengo(في طرف المدينة مع خمسة وثلاثين مريضاً رُد ّوا عن جميع المستشفيات .كان
ذلك في 22نيسان (أبريل ) . 1332استأجر الكاهن في ناحية فالدكّو بيتاً متهدّماً كان يُستعمل
خمارة فوصَل إِليه مع راهبتين في عجلة يجرّها حمار .فعّلق لافتة فوق الباب ":البيت الصغير
للعناية الالهية " .لقد أصبح أُعجوبة تورينو ،وتمكّن من إِيواء عشرة آلاف عليل لا شفاءَ لهم وقد
نبذتهم جميع المستشفيات .

8.2 Page 72

▲back to top


في شهر حزيران (يونيو) سمع يوحنا بوسكو أول مرة باسم فنسان جيوبرتي (. )Gioberti
إنه كاهن شاب من تورينو ،أستاذ الفلسفة في الجامعة .لقد أعتقل لانه ينتمي الى جمعية سِ ِرّية
معادية للحكم الملكي ،فحُكِم عليه بالنفي ،وسيق في حراسة شديدة الى الحدود الفرنسية ،
ونَشرَ بعد عشر سنين في بروكسيل كتاباً مشهوراً عنوانه أَوليّة الايطاليين ثم صار بعد ثماني عشرة
سنة الوزير الاول في حكومة كارلو البرتو .
في قصر الملكي حيث يذهب اصدقاء الفرح ليلمسوا الحصان الرخام ،منح الملك
الاصلاحات الاولى على وجه بطيء جدّاً في جوّ من المخاوف والوساوس .وقّع على الاصلاح
الأ ّول في تلك السنة ،السنة 1332فأُلغي التعذيب ،تلك البقية اللاانسانية من العهود
البربرية .

8.3 Page 73

▲back to top


01
عهد الصداقة
في خريف 1332ابتدأ يوحنا بوسكو الصف الثالث من صفوف القواعد ثم أنهى في السنتين
بعدئذ الصفين اللذين يقال لهما الآداب ( ) 1331 – 1333والخطابة ( )1332 – 1331وظل ُيظهر أَنه
تلميذ ممتاز ،له حافظة عجيبة وَ َولَع بالكتب .روى بشيء من التأسّف " :لم اكن في ذلك الوقت
أُف ِّرق بين المطالعة والدرس .كان يسعني أن أعيد من غير عناء ما جاء في كتاب طالعتُه .كان
الانتباه خلال الدرس كافياً لي لكي احفظ ما هو جوهري ثم إِنّ ٌأمّي علّمتني أن أنام قليلا جداً ،
فكنت أستطيع أن أصرف ثلثَي الليل في مطالعة الكتب ،مستنيراً بالضوء الصغير الذي يأتيني من
سراجي .كان كُتُبِ ٌيّ يهودي يُدعى ايليا يعُيرني كتب مشاهير الكتبة الايطاليين بفلس لكلّ منها .
وكنت أَقرأ كتاباً كل يوم" .
يوحنا في سن الثامنة عشرة وهي سن الصداقات العميقة .ظَ َلّ رئيساً لجيش صغير وأَحاط
نفسه بدائرة محدودة من الاصدقاء الاحماء .
عرف أولهم في أثناء منازعة جرت في الصف .كان المعلمون منذ ذلك العهد ،لا يُحافظون
كلهم على الدقة في المجيء ،وكانت الدقائق الاولى في كثير من الصفوف تتحول الى ضجة .كانت
لعبة التقافز تنال إِقبالا عظيما .قال دون بوسكو بلهجة التهكم " :كان الأقلّ حبا للدرس أشهر
الابطال" .وَصَل صب ٌيّ قبل قليل ،وهو يبدو في سن الخامسة عشرة ،كان يجلس بهدوء الى
المقعد ،ويفتح كتابه في أثناء ذلك الهرج والمرج .
" ذات يوم قصده صبي قليل الحياء واخذ بذراعه وقال له :
-هل َمّ الى اللعب معنا ،أَنت أيضاً .
-لا أعرف اللعب .
-ستتعلّمه ،لا تضطّرّني الى إِرغامك بركلات من رجلي .
-إذا شئتَ أن تضربني ،فلك ذلك ولكني لن أَتحرّك ...
صفعه الجِلفُ صفعتين شديدتين كان لهما دو ٌيّ في الصف كله .لما رأيتُ ذلك شعرتُ بدمي

8.4 Page 74

▲back to top


يغلي في عروقي .انتظرتُ أن يتأثر الذي أُهين ،كما يجب ،خُصوصاً أنّه أَقوى الاثنين ،فلم
يحدث شيء بل قال للآخر ،وقد اصطبغ وجهه بلون الارجوان وترضض :
-أأنت مسرور ؟ دعني إِذاً وشأني ،إني اغفر لك " .
"صار لي منذ ذلك الحين صديقاً حميماً ،وبوسعي القول إِنه اليه يعود الفضل إذ تعلمت أن أحيا
حياة مسيحية " .
اكتشف تحت ظاهر من الضعف غنى روحياً عظيماً ،وصار بداعي الفطرة ،محامياً له ،في
وجه التلامذة الغلاظ الشرسين .
الدبوس البشري
تأخّر المعلم ذات يوم على عادته ،فعصفت الضجة المعتادة عصفها " .كان بعض الصبيان
يريدون أن يضربوا كومولّو ورفيقاً طيّباً آخر اسمه أنطون كاندلو ( )Candeloفأمرتُ بصوت عالٍ
أن يُتركا وشأنهما ،ولكن لم ُيسمع لي وأخذت المسبات تتطاير فقلت :
-من قال بعد الآن أقوالا بذيئة كان له أمرٌ معي .
فقام أطولهم قامة وأَفجرهم كلاما حاجزاً في وجهي ،في حين أَنّ صفعتين نزلتا بوجه كومولّو
كان لهما دو ٌيّ .فثار ثائري ،ولكن لم يمكنني أن أُمسك بعصا أو كرسي فقبضت على واحد من
هؤلاء الصبيان بكتفيه ،واستعملته كما يستعمل دبوس وخبطتُ به كومة الصبيان ،فسقط أربعة
منهم أرضاً ،وهرب الآخرون وهم يعوون ...دخل المعلم في تلك اللحظة ،ورأى الأذرع
وال ُسّوق في بلبلة كالتي ستكون يوم الدين ،فأخذ يصرخ ويوزّع الصفعات يمنةً ويسرة .
فلما هدأت العاصفة بعض الهدوء ،طلب أن يُروى له كيف انطلقت البلبلة وكأَنّه لم يصدق
ماقيل ،فطلب إِلينا أن نعيد ما حدث فأخذتُ أضحك وضحك الآخرون أَيضاً حتى إِن المعلم
نسي أَن يعاقبنا .وما إِن أَمكن كوموّلو أَن ينفرد بي ويكلمني حتى قال لي :
-إن قوتك تخيفني .ان الله لم يمنحك إياها لتقتل أَترابك .إِنه يريد أَن نغفر ونصنع الخير
للذين يسيئون الينا .
أصغى يوحنا الى كومولّو ،وسار خلفه فذهب واعترف .إِن آية الانجيل التي جاء فيها :
" من لطمك على خدك فاعرض له الآخر " ليس أمراً َس ُهل عليه أن يتعلّمه .لقد فرضه على نفسه
بقوة الارادة ،ولكن لن توافق طبعه أبداً ،فاضطُرّ الى تكرار كلمات الحلم مراراً ":ليس
بالضربات تتخذ لك الاصدقاء بل بالمحبة " .

8.5 Page 75

▲back to top


انذار جاسوسيّ
في اثناء أشهر صيف السنة 1333رأت كييري َسرِيّة من الفرسان تصل بغتة َفشُدّت الحراسة
على أبواب المدينة وأخذ ال َعسس ال ُمسلّح يتناوب الطواف في شوارعها و ُحظِرت التجمعات .
إِن انذاراً جاسوسياً أَشاع أَنّ أنصار مازّيني ( )Mazziniيوشكون أَن يثيروا تمرّداً في تورينو وفي
سائر مدن البيمونته .كانت في السنة الماضية قد وصلت أول أخبار " ايطاليا الفتاة" التي أنشأها
مازّيني :فقد أُكتُشِفت نسخٌ لصحيفة هذا الحزب في صندوق له قعر مزدوج وصل من مرسيليا الى
جينوى ( . )Genovaكانت الخطة تقضي بأن تُوقد حرائق في اماكن مختلفة في تورينو وتثار فتن
شعبية وتُغتال الأسرة المالكة ،وتعُلن الجمهورية (وعُلم في ما بعد أَ َنّ مازّيني نفسه سلّم الى غلّينغا
Gallengaالخنجر الذي به يقتل كارلو البرتو ) .
إِن َت َس ّرب الأخبار والتعبئة السريعة للقوات المسلحة أدّيا الى اعتقال المتآمرين ،فحُكم على
اثني عشر بالموت وأُنفذ الحكم .وفي السنة التي بعدها ج ّدد أنصار مازّيني محاولتهم الثورية
يساعدهم القائد رامورينو ( )Ramorinoوغاريبالدي (. )Garibaldi
ووصل الأمر بالمراقبة في اثناء تلك الاشهر إلى مبالغات مضحكة :حُجِز على مخزون من
القُبّعات لأن بين الالوان التي فيها اللونان الاحمر والازرق ،وهما لونا الثورة الفرنسية ...
في آخر السنة 1333 – 1332أنهى ابن لوشيا متّى دروسه ،فأَخذ يوحنا يبحث عن بيت آخر
يعيش فيه .َف َعرَض عليه عملَ أَجير صديق لأسرته اسمه يوحنا بيانتا ( )Piantaكان قد فتح مقهى
في كييري .كان ُيطلب منه أَن يُنظّف الأمكنة كل صباح قبل ذهابه الى الدروس ،وان يصرف
لياليه عند مائدة الشرب ،وفي غرفة لعبة البلياردو ،فكان السيد بيانتا يقدّم له سبيل الاجرة
الحساء ّمرتين كل يوم والسكنى .
قَِبل يوحنا لانه لم يحصل على ما هو أحسن من ذلك :إنّه عمل متعب في النهار ،وسهر إلى
ساعات متأخرة في الليل بجانب لعبة البلياردو ،وهو يكتب العاملات على السبورة .
في السنة 1333(اذاً بعد خمسين سنة ) كان السيد بيانتا لا يزال يذكر " :لم يكن لأحد أن
يحصل على فتى أحسن من يوحنا بوسكو .كان ك َلّ صباح يخدم القداس في كنيسة مار انطونيوس .
كانت والدتي العجوز مريضة في بيتي :إِن المحبة التي أحسنَ اظهارها لها كانت جديرة
بالاعجاب " .
غير انه لم يكن يدعُ للاعجاب المعاملة التي عاملها ذلك الرجل البخيل خادمه الشاب وهو في
سن الثامنة عشر .كان على يوحنا أن ُيعِ َدّ القهوة والشوكولاته والحلاوى والمّثلجات ،لم يكن
معلّمه يعطيه سوى الحساء .كانت ماما مرغريتا تأتيه دائماً من البكّي بالخبز وسائر الطعام .وكان

8.6 Page 76

▲back to top


السكن الذي جعله له "عبارة عن فجوة صغيرة فوق الفرن حيث كانت الحلاوى الصغيرة تُخبز ،
كان ي َصعد إليها بسلّم ضيقة .وإِذا تمدّد على سريره ،تجاوزت رجلاه لا طرف فراش القش
فحسب بل مدخل المكان بعينه " .
يعقوب لاوي الملقب يونان
كان يدرس في المدرسة التي يذهب إليها يوحنا أولاد يهود أيضاً .كانت قوانين كارلو البرتو
تقضي بأن يسكن اليهود في المدن محلّة مفصولة من محلة المسيحين يقال لها حي اليهود .كان
ُيرَ ّخص لهم بالعيش أي انهم كانوا يُعَ َدّون وطنيين من درجة ثانية .كان الاطفال اليهود كل اسبوع
يتعرضون لسوء المعاملة :فقد كان إِيمانهم ينهاهم عن كل عمل يوم السبت ،يوم الراحة ،حتى
عن فروض المدرسة .فكان عليهم الاختيار بين العمل بما يخُالف ضميرهم أو تقُّبل العلاملات
الرديئة وسخريات أَترابهم .
فساعدهم يوحنا مرات كثيرة فكتب فرض يوم السبت مكانهم ،وصار صديقاً لواحد منهم
اسمه يعقوب لاوي ،وكان أَترابه يلقبونه "يونان" .كان بينهما امر مشترك ،وهو أنهما فقدا كلاهما
أَباهما .
كان يوحنا بوسكو يذكر هذة الصداقة بعبارات فيها حرارة ،لا عادة له بها " :كان جميلا
جداً ،يغنّي بصوت من أحسن الاصوات ،َقلّ نظيره .كان يحُسن جداً اللعب بالبلياردو .كنُت
أخ ُصّه بمودة شديدة وكنت اكبر صديق له ،وكان يأتي فيصرف عندي جميع أوقات فراغه .كنا
نصرف وقتنا في الغناء والطرب على البيانو والمطالعة وتجاذب اطراف الحديث ."
تلك الصداقة المشتعلة النيرة تثبت ان قلب يوحنا لم يكن جافًاّ ولا موسوساً .
"ان بلبلة مجهولة تخللتها منازعة قد تؤَدي الى عواقب وخيمة" سبّبت ازمة في نفس اليهودي
الشاب ،فعرض يوحنا على صديقه ،بدافع المودة لا بدافع الغيرة الدينية المفرطة ،خير ما عنده :
ايمانه ،وأَعاره كتاب التعليم المسيحي " ،فتعلّم في بضعة أشهر الحقائق الجوهرية من الايمان وكان
مسروراً جداً بذلك وكان ك َلّ يوم يُحِسّن كلامه وسيرته ."
ولكن المأساة في الأسرة ،وكان لا بد من وقوعها ،حدثت لما اكتشفت الأمّ اليهودية كتاب
التعليم المسيحي في غرفة ابنها .فقد شعرت بأَنها تقده هو ايضا كما فقدت زوجها ،فأشبعت
يوحنا شتائم وقالت له بمرارة " :لقد أفسدته" .
أجابها يوحنا خير جواب تَي َّسر له ولكن من غير جدوى .هدّد يونانَ أهل ُه والحاخام ،فا ُضط َرّ
الى الابتعاد بعض الوقت من أُسرته ،ثم عاد الهدوء شيئاً فشيئاً .في 18آب (اغسطس ) تلقّ
اليهود ُيّ الشاب العمادَ في كاتدرائية كييري .تشهد الوثيقة الرسمية في خزانة المحفوظات " :أنا

8.7 Page 77

▲back to top


سيبستيان شيكيوبّو ( )Schioppoاللاهوتي والقانوني عمدتُ عماداً رسمياً باذنٍ من رئيس أساقفة
تورينو الجزيل الوقار والجاه الشاب اليهودي يعقوب لاوي وهو في سن الثامنة عشرة وسمّيته
لويس . " ...
ظل يونان دائماً ابداً صديقا وفيّا لدون بوسكو .حتى في السنة 1338كان يذهب اليه ليزوره
في فالدوكّو ،فكانوا يُحيون ذكرى الايام السعيدة التي قضياها معاً .
تفاحات بلانشار
من الاكيد ان حساء السيد بيانتا لم يكن كافياً ليس ّكن شهيّة يوحنا بوسكو القوية وهو في سن
الثامنة عشر .فقد شكا كثيراً من لجوع خلال تلك السنوات .وكان يشعر بالامر أحياناً كثيرة
صديقٌ من اصدقائه الشبان اسمه يوسف بلانشار ( ،)Blanchardفكان يذهب الى أمّه (وهي بائعة
فاكهة ) لكي يملاً جيوبه تفاحًا وكستنة .كانت المرأة الطيّبة ترى ما يجري ،ولكن ُتظهر أنها لا
تراه .وكان يوسف غير مرة يفرغ إناء الفواكه للسبب عينه .فصاح اخوه لياندرو () Leandro
ذات يوم :
-إنك لا ترين شيئاً أبداً ،يا أُمي .يوسف يسلب فاكهتك بالكيلويات وأنت لا تشعرين
بالأمر .
أجابت السيّدة :أشعر بالأمر على أحسن وجه ولكني اعرف الى أين يذهب بها .ان يوحنا
هذا فتى طيب والجوع شيء مؤلم لمن كانَ في سِنّه .
وكان يوحنا ،على جوعه يُفلح دائماً في الحصول على المال ليستعير الكتب من الكُتُبيّ ايليا ،
ويواصل المطالعة في الليل ،فرأى السيد بيانتا ذلك فشهد " :كان يحُيي الليل كلّه احياناً كثيرة في
الدرس .كنت اجده في الصباح وهو لا يزال يدرس مستنيراً بضوء قنديل الموقد " .من يدري ما
الذي أثرّ تأثيراً فيه ،أعزيمة الفتى أم الزيت الذي كان القنديل يستهلكه .وكان دون بوسكو يتذكر
هو ايضاً تلك الليالي " :لقد اتفق عدة مرات أَن ساعة النهوض من النوم دّقت ،وانا لا ازال
امسك بيدي الكتاب الذي بدأت فراءته في مساء الليلة السابقة " .ولكنّه أضاف ":كان ذلك
يُ َد ّمر صحتي تدميراً جِ َدّياً ولذلك نَصحت دائماً ان يعمل الانسان ما في وسعه ،من غير ان يزيد
عليه شيئاً .لقد اكتشف ُت على حسابي ان الليل جُعِل للنوم " .
ليس يوحنا بوسكو امر ًءا خارق العادة .إنّه مراهق فيه كثير من حسن النية وقلة الصبر .
واما الصبر ،والاحساس بحدوده فقد عَلّمته اياهما الحياة ،وشأنه في ذلك شأن جميع الناس .
00

8.8 Page 78

▲back to top


في سِنّ العشرين
آذار (مارس) . 1331لمّا أَوشك يوحنا بوسكو أن يُنهي سنة " صف الآداب " طلب الى
الآباء الفرنسيسكان ان يُقبلَ في رهبانيتهم ،فأتاه بالجواب أحدُ أصحابه في المدرسة اسمه
اوجينيو " :انّك منتَظر في تورينو في دير السيدة مريم للملائكة ."
ذهب إليه مشياً على قدمَيه وجاء في دفتر القبول للدير " :ان الشاب يوحنا بوسكو من
كاستلنوفو مقبول باجماع الاصوات لأنّهُ متَح َّل بجميع الصفات المطلوبة 13 .نيسان (أبريل)
. " 1331
فأَعدّ يوحنا لوقته الوثائق ليدخُل دير السلام في كييري .
لماذا عزم ذلك الأمر ؟
إنه في سن التاسعة عشرة ،فشعر بأَنّه حانَ له أَن يعزم عزمه لحياته .تعب وتأّلم ليصير كاهناً
ولكن اض ُطّر في هذه الأشهر الاخيرة إلى مواجهة بعض عظائم المسائل .
مشاكله مع الفقر
وأولها مع الفقر .لن يَقبل بعد اليوم أن يُبِهظ بعبئه كتفَي أُمّه .أَسّر بالأمر في ذلك الوقت إلى
ايفازيو سافيو ( )Evasio Savioوهو صديق له من كاستلنوفو " :كيف تستطيع أُمي أَن تساعدني
بعدئذٍ في مواصلة دروسي ؟ " وح َدّث بهذه المسألة بعض الآباء الفرنسيسكان ،وكانوا يعرفونه حق
المعرفة ،فعرضوا عليه لوقتهم " :تعال الينا" .ولن يكون ولا ِذك ُرّ للمال الذي يُدعى المبتدئون
في الحياة الرهبانية الى دفعه لدى دخولهم .ُأستُثني منه يوحنا بوسكو .
ولكن هناك مسائل أخرى .نقرأفي ذكرياته :ف ّكرتُ فَبَدا لي :إذا صرتُ كاهنا أبرشيّاً
َت َّعرضت دعوتي لخطر الغرق تعرضاً أكيدا " .ولم يكن ذلك وسواسا أو خشية سخيفة .كتب بيترو
ستيلا " : )Pietro Stella ( :في تلك السنين كان من اكثر دواعي القلق احترافُ رجال الكنيسة :
كانوا يعتنقون " الحرفة" الكنسيّة لا بروح ديني صادق ،بل لأسباب بشرية ،ليضمنوا لانفسهم
مستقبلاً .والبلّية الكبرى التي كانت تُخشى ما يُنزل بالكهنوت الفقرُ الباطني ،وقلّة الشعور

8.9 Page 79

▲back to top


الديني " .
ولربما كان دليلا على هذا الخطر الكثرة المفرطة من الشبان الذين كانوا يسلكون سبيل
الكهنوت :ارتفع العدد من 228طالب كهنوت في السنة 1331(في تورينو وكييري وبرا )Bra
حتى 323داخليّا ،و 282خارجيين في السنة 1318(تورينو وكييري وبرا وجيافينو .)Giaveno
وذكر يوحنا بوسكو نفسه ان من بين أَصحابه من صف " الخطابة " اكتتب عشرون في دروس معهد
الكهنوت .
فكان يقابل هذا الاقبال الذي لا يُصَ ّدق ،كثرة الذين كانوا يخلعون الثوب الكهنوتي ،وكان
ذلك من دواعي الأسف ،وكثير من الشبان َيعُدّون دخول معهد الكهنوت منذ أوّل الأمر طريقاً
مختصراً إلى عمل في التعليم أو الحكومة .
حاول المطارنة ،لمعالجة ذلك الداء ،أن يقلّلوا عدد طلاب الكهنوت الخارجيين الذين كانوا
يواظبون على المعهد من اجل الدروس والطقوس الدينية ،ويدسّون بين الداخليين ح َبّ العادات
الدنيوية دسّاً لا سبيل إلى رَدّه .
الفلاّحة ذات المنديل الاسود
في آخر ايام نيسان (أبريل ) السنة 1331ذهب يوحنا الى خوري رعيته في كاستلنوفو
ليلتمس منه الوثائق اللازمة لدخوله الدير ،فنظر الأب َدسّانو ( )Dassanoإليه نظرة الحيرة :
-أأنت تدخل الدير ؟ أوتَراك ف ّكرتَ حقّاً ؟
-يبدو لي أَني ف ّكرت .
صعد الاب َدسّانو الى مزرعة سوسامبرينو وحدّث ماما مرغريتا :
-ُيريد يوحنا أن يصير راهباً فرنسيسكانيا .ليس لي شيء على الرهبان ،ولكن يبدو لي أَن
ابنَك أَصلح للعمل في الرعيّة .إنه يُحسن التحدث الى الناس وجلب الشبان والتحبب اليهم .
فلماذا يذهب إلى دير فيدفن نفسه فيه .ثم يا مرغريتا ،ُأريد ان أُحدّثك صراحة .لستِ غنية وقد
اصبحت كبيرة السن .فعندما تصبحين غير قادرة على العمل ،سيكون بوسع ابن هو خوري
رعية ،أَن يُسعفك ،في حين أن ابناّ راهباً سيكون مفقوداً بالنظر اليك .إِني على يقين من أنّه يجب
عليك َأن تح ّوله عن هذا المشروع ،وفي ظنّي أني اقول ذلك لخيرك .
القيت ماما مرغريتا منديلَها على كتفيها وذهبت الى كييري .
-جاءني الخوري فقال لي إِنك تريد دخول الدير .أهذا صحيح ؟
-نعم ،يا اُمي .أرجو أنه ليس لديك ما يُخالف رغبتي هذه .
-أصغِ اليّ إصغاء حسنا ،يا يوحنا .أُريد ان تعمل بمشيئة الرب .يَوَ ٌدّ الخوري أَن أجعلك

8.10 Page 80

▲back to top


تب ّدل رأيك ،لأنّي قد أحتاج إليك في المستقبل .ولكني أقول لك هذا :في مثل هذة المسائل لا
مكان لأمّك .الله قبل كل شيء .مِنك لا أُريد شيئاً .وُلدت فقيرة ،وعشت فقيرة ،وأريد أن
أموتَ فقيرة .لا بل أقول لك هذا في الحال :إذا صرتَ كاهناً ووَقعَتِ البلوى فاصبحتَ غنيّاً ،
فلن أدوس بقدمي بيتك أبداً .تذ َّكر ذلك ولا تنسه .
كانت هذه الفلاحة العجوز بمنديلها الأسود ،تتكلم بصوت كله ثقة وعلى وجهها أمارات
الحزم .هذه الكلمات لن ينساها دون بوسكو قط .
كان يوحنا يهتم أن يعزم عزمه إذا حدث ما لم يكن بالحسبان " .حلمتُ قبل دخولي الدير
ُحلماً من أَغرب الأحلام .بدا لي أَني أرى جمهورا من الرهبان عليهم ثياب ممزقة .كانوا كلهم
يركضون في جهات مختلفة .فدنا أحدهم مني وقال لي :انك تطلب السلام ولكنك لن تجد السلام
هنا ،إِن الله ُيعِدّ لك بيتاَ آخر " .
الحلم أمرٌ لا شأن له كالعادة .ولكن يوحنا كان قد اضطّر إلى الاعتراف بأ َنّ الأحلام أحداث
مهمة بالنظر اليه ،ولو كانت مزعجة أحياناً .ذهب إلى معرِّفه " :رويتُ له كل شيء ولكنه أبى
السماع إلى الكلام على الاحلام والرهبان فقال لي :يجب على كل امرئ في هذه المسائل ان يتبع
ميوله ،لا أن يصغي إلى نصائح غيره .فعليك أن تفكر في الأمر وتجزم " .
ما العمل ؟ أ َخّر عزمه الى حين وواصل ذهابه إلى المدرسة الرسمية ،ولكن لا يمكن التأجيل
إلى ما لا نهاية له .فأ َسرّ ذات يوم بأمره الى لويس كومولّو فتلقى من صديقه القديس نصيحة مألوفة
ج ّداً :ُيقيم تساعية ،ويكتب رسالة إلى عمّه وكان خوري رعية ،ثم ُيطيع طاعة عمياء .
ذكر بوسكو " :في آخر يوم من الاسبوع اعترفتُ وتناولتُبصحبته ،ثم حضرتُ قداساً
وخدمت قداساً آخر في مذبح سيدة النعم .ولما رجعنا إلى البيت وجدنا رسالة من الأب كومولو
(عم لويس) جاء فيها :تف ًحّصتُ كل شيء فأنصحُ لصديقك ألاّ يدخل الدير .ليلبس الثوب
الكهنوتي ولا يخف أن يفقد دعوته .إِذا بقي بمعزل عن الدنيا ،وأخذ بأعمال التقوى ،ذّلل جميع
العقبات " .
" لماذا لا يُستشار الأب كافا ّسو ؟ "
يعني ارتداء الشاب للثوب الكنسي أَنه يُصبح طالب كهنوت .ولكن يبقى حل المشكلة
الكبرى :المال .عند ذاك دخل الميدانَ الأب تشنزانو ( )Cinzanoالذي حل محل الأب َدسَّانو في

9 Pages 81-90

▲back to top


9.1 Page 81

▲back to top


رعية كاستلنوفو .سمع بما َيلقى يوحنا بوسكو من العقبات ،فذهب إلى اثنين من الميسورين في
الناحية ،طالباً معونتهما ،فأخذاعلى عاتقهما معاً نفقة السنة الأخيرة في المدرسة الرسمية .
ومع ذلك فلم يكن يوحنا مرتاحًا على وجه تام ،فاقترح عليه ايفازيو سافيو :
-اذهب اذاً إلى الأب كافاسو ( )Cafassoفي تورينو فاطلب نصيحته .انه شابّ ولكنه أصلح
كاهن وُلِد في كاستلنوفو .
كان الأب كافاسّو في الثالثة والعشرين فحسب ،ولكنه كان ُيع ُدّ ُمرشداً ممتازا .كان كثير من
الناس القلقين أو المضطربين يذهبون ليواجهوه وينالوا نصائحه .كان يعيش في تورينو في دار
الكهنة ،وكان يتم دروسه في علم اللاهوت ،وفي الوقت نفسه ،ُيسعف المرضى والسجناء .
ذهب يوحنا وعرض عليه جميع ما يشعر به من ارتباك ،فقال له الأب كافاسّو بكثير من
الهدوء ومن غير تردد :
-أَت َمّ سنتك ،سنة الخطابة ثم ادخل معهد الكهنوت .ان العناية الالهية سوف ُتعِلمك ما
تريده منك .وأَما المال فكُن ناعم البال في شأنه ،فإن بعض الناس سوف يزودوك به .
وجد يوحنا بوسكو في ذلك اللقاء العنصر الذي سيجعل التوازن في حياته .إِن مزاجه
البركاني سوف يدعوه إلى العيش بين الأحلام والمشروعات ،وأسباب القلق ،والنجاح والخيبة ،
وسيبقى بجانبه الأب كافاسّو الصديقَ الَفطِنَ والناصح الحكيم والمحسن الصامت .
لم يُفتح معهد الكهنوت في كييري إلّا في السنة 1328فقد أَراد رئيس أساقفة تورينو
كولومبانو كيافيروتي ( )Colombano Chiaverotiلكهنة المستقبل ،َسكينةً تكاد أن تكون بيئةَ
رهبانيةَ بعيدةً من عالم تورينو الصاخب .دخل يوحنا بوسكو المعهد ليعيش فيه طالباً داخليّاً أي
متا ِهّباً لأن ك َلّ ما فيه من حياة التقشف .هكذا نصح له الأب كافاسّو الذي حَصَل له على منحة
من عالم اللاهوت غوالا ( )Gualaمن أجل السنة الأولى .
كان على يوحنا أَن يقدّم في تورينو محص الدخول الى معهد الكهنوت ،ولكن المدينة كانت
عرضة لخطر الكوليرا (وهو يكاد يع ّكر كلّ سنة فصل الصيف ) فكان الحجز الصحّي يُفرض على
القادمين إليها ،ولذلك أُقيم الفحص في كييري على يد لجنة منتدبة وانتهى بالنجاح .
قضى يوحنا العطلة الاخيرة قبل ارتداء ثوب طلاب الكهنوت ،في سوسامبرينو وكاستلنوفو
عند خوري الرعية فكتب في اثناء تلك العطلة " :كففت عن القيام بأعمال البهلوان ،وأكببتُ
على المطالعات الحسنة .ومع ذلك فقد واصلت اهتمامي بالأولاد وَرَغّبتهم بالحكايات واللالعاب
والأغاني .وكان بضعة منهم ،وقد شَبّوا عن الطوق ،لا يعرفون حقائق الايمان ،فعّلمُتهم

9.2 Page 82

▲back to top


العقيدة والصلوات اليومية .كان ذلك نوعاً من " مصلّى " . )1(خمسون من الأحداث يحّبوني
ويطيعوني كأني أبوهم " .
علامة الأصل
في السادس شر من آب ( أغسطس ) لسنة 1332بلغ يوحنا بوسكو سِنّ العشرين فصار
رجلاّ قوي العزيمة ذكيّاً ناضجاً .سيدخل في السنوات الحاسمة من تربيته الكهنوتية ،ويحمل في
نفسة طبعاً بيمونتياً متيناً علامة لا صله .
حاول هنري بوسكو ،وهو من البروفانس الفرنسية ،ونسيب بعيد للقديس ،أن يرسم في
صفحة جميلة ،الميزات البارزة الأصلية للطبع البيمونتّي ،فلنحاول ذلك مثله نحن أيضا من
عندنا .
إن البيمونتّي ليس بالرجل اللامع ولا الظريف .إنه لا يسرع الى التفكير ،وهو بطيء الفهم
والتبصر والجواب ،ينقصه الاندفاع والتوقّد والحماسة .
بيد أنّه متين قوي ،ومتانته تأتيه خصوصاً من صبره .إنه يتحمّل طويلا ومن غير تذمر .
ومتانته تأتيه أيضاً من حذوره .فإن حياته الشاقة عّلمته أنه من الحكمة التبصيّر من غير تسرّع .
ُولد واقعياً ،فالأفكار الجديدة لا تستهويه .إنه بدُرك بالفِطرة أَنها عرضة للموت وهي في
طور الطفولة الى حد كبير .اذا خطر بباله ِفكرٌ ب ّراق ،فإنه يو َجّهه لوقته الى ميدان العمل .إنه
يعيش في الاشياء الحسّية الواقعية ،هذا هو موطن قوته .فكثيراً ما يكون الواقع م ّراً شاقّاً
والبيمونتّي يقابله بالصبر .إِنه صبور الفكر كما إنّه صبور القلب .
إنه يُحِبّ من غير أَن يُنكر .إِنه رجل وفيّ .فالوفاء أعلى درجة للثبات وأَرفع تعبير عنه وأَنقى
ثمرة له :إِنه يستلزم الشجاعة .
والبيمونتيّ شجاع .ليس فيه حب مجازفة المتهوسين .إِنه جندي أكثر منه محارب ،ولكنّه
يحسن الحرب .إنِّه يحارب حسنا من غير روح مغامرة ،ويفضّل حرب الدفاع على حرب الهجوم
ودعوته هذه الدفاعية تأتيه من حبّه الشديد الذي ُيكُِنّه لأرضه وأَملاكه وأُسرته ،ولو كانت أملاكه
فقيرة وأسرته عبءاً ثقيل الحمل وأرضه تتطلب جهداً كبيراً .
)1المصّلى :مكان يدعى اليه الأحداث للصلاة والتعليم الديني والترفيه .وقد طوّره دون بوسكو على وجه خاص به
كما سيظهر بعدئذ (حاشية من المترجم) .
قد يعَرض له أن ُيهاجر ولكنه لا يستأصل نفسه من أرضه أبداً .في قعر نفسه كنز لا يفنى من

9.3 Page 83

▲back to top


الصبر والتعلق والمتانة والحذق في العمل .
الله أعلم غلى أي درجة امتلك دون بوسكو في نفسه هذه الفضائل العائدة الى أصله :الصبر
وروح العمل وفَنّ الواقع والثبات حتى العناد ،ولكن الله وهب أيضاً لهذا الشاب الذي يوشك أن
يدخل معهد الكهنوت ،قلباً واسع الحب ،قلباً لا يستحذى إِذا لقي شبّاناً أذّلهم الجهل وأناساً
عضّهم البؤس بنابه ،وأشخاصاً جفّت قلوبهم لاغترابهم عن الله .أَعتقد أ ّن هذه هي النعمة التي
أُنعم بها على يوحنا بوسكو ،الموهبة الخاصة التي وجب عليه أن يجعلها صفة له على وجه مروّع
ومجدّد في الوقت نفسه ،بما كان له من الوسائل تأتيه من َملَكات أُمتّه .
ان القلب السليم لا يعرف نصف الحلول ،ويجابه تحديات الواقع بلا هوادة ،ويح ّول الصبر
البشري الى قلة صبر مسيحية .إنه يرد بوثبة إلى الأمام على الاعتراضات التي تدّعي الفطنة وتحذّر
من الأخطار ،فللقديسين حِذقٌ ،كثيرٌ من الحذق ،ولكن الناس يكتشفونه دائماّ أبداً بعد وقوع
الأحداث .أنّ ذلك الحذق أشبه بالجنون وأنّه إيمان شديد بالأنسان وبالله .وما هو بايمان جامد
ينتظر كل شيء من السماء ،بل إيمان يرى ويخاطر ويشنّ المعركة .
كان دون بوسكو يحيا بذلك الايمان المتأصّل في المحبة ،ودوافعها لا دوافع لها ،لأنّه يفكر
تفكيراُ يختلف عن تفكير العقل والحذق الذي لا يَنظُر إلاّ الى أُمور الأرض .
ولذلك لم يفهمه دائماً كثير من الكهنة كانوا من جيله إخوة له مخلصين في خدمة الله ،وتلقّوا
تربيتهم معه في معهد الكهنوت .
أوجزت الكنيسة كل شيء لما جعلت أول نصّ يُتلى في قداسه ،الكلمات التي قيلت في
ابراهيم (وهو ايضاً رجل من عظماء النوع الإنساني وقد نقصته الفطنة على وجه ساطع ) " :أعطاه
الله حكمة وفطنة لا حدّ لهما وقلباً واسعاً مثل شواطئ البحر " .

9.4 Page 84

▲back to top


01
معهد الكهنوت والبقع القاتمة
كان ارتداء الثوب الكنسي في ذلك الزمان خطوة عظيمة الشأن ،فالشاب يخلع ثياباً يلبسها
جميع الناس ،ويرتدي ثوباً أسود ينحدر من كتفيه إلى كعبيه .ذلك العمل عمل عَلنيٌ ،ومعناه
عند جميع الناس " :أنوي أن أصير كاهنا وأن أحيا كما يجب على كل كاهن أن يحيا ."وهناك ِقطَع
أُخرى تتم زِي الشماس :الياقة البيضاء من النسيج المُنشّى ،وغطاء الرأس ذو المقابض الثلاثة
الصغيرة وال ّطرّة ،والقبعة المستديرة .واللون الموحدّ الالزاميّ هو اللون الاسود .
قال الأب بوسكو ذات يوم " :احتجتُ دائماً أبداً الى جميع الناس " .وهذا ما حدث له يومَ
ارتدى الزيّ الكنسي :قدّم له أهلُ البلد الثوب والقبعة والحذاء وغطاء الرأس بل الجوارب
السوداء أيضاً .
22كانون الأول (دسمبر) . 1332اليوم يوم الأحد ،اجتمع في كنيسة كاستلنوفو عدد
من المؤمنين يفوق العدد المألوف ،جاؤوا من البكّي وموريالدو والقرى المجاورة لأنّ خوري الرعية
سُيلبس قبل القداس الكبير الثوبَ يوحنا بوسكو ،ذلك الشاب الطّيّب الذي يعرفه جميع الناس .
كتب في ذكرياته " :لما أمرني الخوري الأب تشنزانو ( )Cinzanoبخلع ثيابي المدنية وهو
يقول " :جرّدك الر ُبّ من الانسان العتيق وعاداته وأساليبه " ،قلت في سرّي " :كم من الأشياء
العتيقة يجب نزعها .الهي ،الهي ،أِبطل عاداتي الرديئة " .َولّما أعطاني الياقة أضاف " :ألبسك
الر ُبّ الانسان الجديد ،المخلوق بحسب قلب الله في الِبرّ والح ّق والقداسة " .فواصلتُ في
سِري " :يا رب اجعلني أبدأ حقاً حياةً جديدة ،وفقاً لمشيئتك .ايتها العذراء مريم كوني لي
عوناً " .
سبعة مقاصد تقلب الحياة رأساً على عقب
حدثت مفاجأة بعد القداس :دعا الاب تشنزانو يوحنا الى مرافقته الى قرية باردللا
)Bardella(وكان يُقام فيها عيد شفيعها .

9.5 Page 85

▲back to top


" ذهبت اليها لئلا أكدّره ولكن على غير رضا ولم يكن الأمر يسّرني .كنت أبدو دمية في ثياب
جديدة .اسَتعدَدتُ طوال أسابيع لذلك اليوم ،فوجدت نفسي في مأدبة بين اناس اجتمعوا
ليضحكوا ويهذروا وياكلوا ويلهوا .أي شيء مشترك بين ذلك كله وبين الذي لَبِس ،قبل بضع
ساعات ،ثوب القداسة لِنُذر نفسه على وجه تام ؟
لما عدنا الى الدار ،سألني الخوري لماذا بقيتُ غائصاً في افكاري ،فأجبته بكل صراحة أنّ
حفلة الصباح تُضادٌ ما جرى بعدها .لقد استهجنتُ منظر كهنة بتصرفون تص ُّرف المهرّجين ،بين
اناس جلوس الى المائدة ،وهم نصف سكارى .لو كنتُ أعلم أني سأصير كاهناً مثل هؤلاء لآثرت
أن أنزع هذه البزّة لوقتي " .سلّم الخوري أنّ الشّماسَ الشّابَ على صواب ،وأنقذ نفسه من
المأزق الحرج بقولَين مبت َذلين " .هذه هي حالة العالم ،يجب قبوله كما هو " و " لا بُدّ من مشاهدة
الشر لا جتنابه بعد ذلك " .
قضى يوحنا الأيام الاربعة قبل دخوله معهد الكهنوت في جمع أفكاره بالصمت والتأمل ،
وكتبَ سبعة مقاصد تُظهر انقلاباً في أسلوب حياته وهذه هي :
-1لن اذهب الى رؤية حفلات الرقص والتمثيليات والحفلات العامة .
-2لن أقوم باعمال الخَِفّة والبهلوان ولن اذهب الى الصيد .
-3سأكون معتدلاً في الاكل والشراب والراحة .
-1سأقرأ الكتب الدينيـــة .
-2سأقاوم الافكار والمحادثات والاقوال والقراءات المخالفة للعفاف .
-6سأقوم كل يوم بشيء من التأمل والقراءة الروحية .
-2سأروي كل يوم أحداثاً وأفكاراً من شأنها عمل الخير .
"ذهبتُ الى لوحة للقديسة مريم العذراء ،ووعدت وعداً جازماً بأن أعمل بهذه المقاصد
مهما كلفني الامر من التضحية " .
لم يدرك هدفَه لأنه هو أيضاً من لحم وعصب ،ولكنه وجّه سفينة حياته بحزم .
في الثلاثين من شهر تشرين الاول (اكتوبر) وَجَ َب على يوحنا أن يكون في معهد الكهنوت .
في مساء اليوم الذي قبله ،ورًّتب وهو في سوسّامبرينو ،في حقيبة صغيرة ،الجهاز الصغير الذي
أع َدّته له ماما مرغريتا .كتب " :كانت أمي تُحدّق إليّ كأنها تريد أن تقول لي شيئاً .واذا بها
تدعوني وتنفرد بي وتقول لي :
-يا يوحنا لبستَ ثوب الكاهن .أشعر بتمام الفرح الذي يَسع الأمّ أن تشعر به ،ولكن

9.6 Page 86

▲back to top


أُذكر أن ليس الثوب هو الذي يجعلك شريفاً بل الفضيلة .إذا اتّفق لك ذات يوم أن تتردد في أمر
دعوتك ،فاناشدك محبة الله ألاّ تُدََّنس هذا الثوب .انزعه لوقتك .أُف ِضّل أن يكون ابني فلاحاً
فقيراً على أن يكون كاهناً مهملا لواجباته .لما ولدُتك نذرتُك للسيدة .ولما شرعتَ في دروسك
أوصيتك بأن تُحِ ّب هذه الأمّ التي هي أُمّنا حبًا صادقاً ،والأن أوصيك ،يا يوحنا ،بأن تكون لها
بجملتك .
لما فرغت أمّي من كلامها هذا كانت متأثرة شديداً ،فأخذتُ أبكي وأجبتها :
-يا أمّي أشكر لك جميع ما صنعت الي .لن أنسى ما قلتِه لي الآن .
ذهبتً صباح الغد مُب ّكراً الى كييري ،ودخلتُ معهد الكهنوت مساء ذلك اليوم " .
حًيّته الساعة الشمسية في أعلى جدار أبيض أول تحية من معهد الكهنوت .كُتب تحت
الساعة :الساعات بطيئة عند المحزونين ،سريعة عند الًفرِحين .كانت النصيحة جيدة لشابّ
سيقضي ستّ سنوات متوالية في داخل تلك الجدران .
كان الشمامسة في المعبد مصفوفين على وجه تام على المقاعد ،فأطلق الارغن الانغام
الفخمة ،أنغام أنشودة :تعال ايها الروح الخالق .ابتدأت السنة بثلاثة ايام من السكوت التام
خُ ّصت بالرياضة الروحية .
دوام كالحــديد
كتب دون بوسكو في الصفحة 08من ذكرياته " :إن ايام معهد الكهنوت تشبه كلها
بعضها بعضًا على وجه التقريب " .ُيظهر هذه الكلمات بوضوح أنّ أشدّ ما عاناه في الاشهر الاولى
هو العيش الرتيب .
فدوام الأيام محدّد ،لا يكاد يختلف دقيقة واحدة .انه مُفَصّل في لوحة موضوعة بزاوية
بالقرب من الجرس :سلسلة من الساعات ،وانصاف الساعات ،وأرباعها ،فكلما حَدَث
تَب ّدل ،ذهب وكيل النظام الى الجرس ودقّه ،فتخرج الجماعة عند تلك الدَّقّة ،أو تدخل أو يُؤذنُ
لها بالكلام ،أو تغوص في الصمت ،أو تدرس ،أو تصلي .وأول شيء يتعلمه من يجتاز ذلك
الباب هو أنّ الجرس صوت الله .
إن نهارًا واحداً يعيشه المرء على هذا النحو شيء مَُنشّط ،ولكن يجب عليه ان يحاول إعادة
مثل ذلك النهار طوال ثمانة اشهر متتابعة لكي يدرك ما هي الحياة الرتيبة .
إن حصص الوقت التي كانت تقسّم الايام في معهد كييري قد حُدّدت تحديداً دقيقاً ،بأمر
كارلو فيليتشي ،من أجل جميع مدارس المملكة .وكان الأمراء أنفسهم يخضعون لها .

9.7 Page 87

▲back to top


يمكننا ان نتخيل ذلك النظام بإلقاء نظرة على الدوام الذي كان على وليّ العهد فيتّوريو
عمانوئيل أن يلزمه في القصر الملكي في تورينو ،وهو في سِنّ الخامسة عشر في السنة : 1332
"النهوض من النوم في الساعة الخامسة ،والق ّداس في الساعة السابعة ،الدرس من التاسعة الى
الثانية عشرة ،ثم الطعام ،ومن الساعة الثانية بعد الظهر الى السابعة والنصف الفروض المدرسيّة
ثم العشاء وفي الساعة العاشرة الصلوات والنوم .في صباح يوم الاحد ق ّداسان :ق ّداس بسيط قبل
طعام الصباح في معبد القصر ،والقداس الكبير في الكاتدرائية بعد طعام الصباح " .
إن الق ّداس في معهد الكهنوت يختلف عنه في القصر الملكي .فهو مصحوب بالتأمل ،
وبخمس عشاريات من الوردية (السبحة) .انهم لا يتكلّمون في أثناء الطعام بل يستمعون إلى
قراءة تاريخ الكنيسة لبركاستيل ( ، )Bercastelتُتلى بنبزة واحدة ،فيتناوب الطلاب القراءة من
أعلى منبر .والطعام بسيط جداً ،فان الحكمة القائلة " :يأكل الانسان ليعيش ولا يعيش ليأكل "
هي من الحكم التي ُتكرّر كثيراً .
البقع القاتمة في معهد الكهنوت
كلما م ّرت الايام اكتشف يوحنّا بقعاً قاتمة في حياة طلاب الكهنوت .
إن وقت الاستراحة يزيل توّتر أعصاب هؤلاء الشبان .ذكر دون بوسكو ألعابه بالورق وكان
مولعاً بها " :لم أكن لاعبا ماهراً ،ومع ذلك كنت أربح دائماً على وجه التقريب .كانت يداي في
لآخر اللعب مليئتين بالنقود ،ولكنّي كنت أرى اصحابي متك ّدرين لأنهم خسروها ،فأُصبح أشدّ
كدراً منهم .ثم إني كنت أدريم الفكر في الأوراق ،فكان خاطري مشغولا بملك الكوبا ،وغلام
البستوني ،في أثناء العمل والصلاة .عزمت لهذه الأسباب ،في نصف العام الثاني لدرس
الفلسفة ،أن أنهي الامر " .
عزم عزماً لا رجعة بعده على التوقّف بعد ان أصاب ربحاً طيباً .إن زميله الذي طلب اليه
بالحاح أن يلعب الثأر فقير هو أيضاً ،وقد ُجرِّد من كل شيء وأصبح كفرخ الدجاجة المنتوف
حتى أوشك أن يبكي ،فشعر يوحنا بخجل حقيقي ،وردّ كلّ ما ربحه ،وترك لعب الورق
على الاطلاق .
كان شديداً على اللعب بالورق حتى مع إخوانه السالسيّين فكان يقول " :تضيع ساعات
كثيرة وأمّا نحن فيجب علينا أن نصرف وقتنا في خدمة الأولاد .عندما لا يبقى لي شيء أعمله ،
عندئذ ألعب بالورق ."
وكانت أول مسألة ساءته في كاستلنوفو ،ابتعاد الرؤساء من مرؤوسهم .كانوا لا يظهرون

9.8 Page 88

▲back to top


إلا قليلا ،لكي يحافظوا على الوقار والكرامة ."كنا نذهب الى المدير وسائر الرؤساء لنواجههم
عند عودتنا من العطلة ،وعند ذهابنا اليها ،ولم يكن أحد يذهب إليهم لكي يحدّثهم إلا في وقت
التوبيخ ،فاذا ًمرّ رئيس من بين طلاب الكهنوت ،كانوا يهربون كلّهم .كم مرّة اشتهيتُ أن
أكلمهم لأستشيرهم " .
عّلق بيترو ستيلا ( )Pietro Stellaبقوله " :لم يكن يوحنا يطلب تنازلاً شكليّاً بل كان
يطالب باكثر من ذلك :كان يطالب بعطف أي ما يقابل المودّة التي كان يكّنها لهم .يظهر طبع
دون بوسكو في هذه الرغبة بان يقيم جواً من الاخلاص و الحياة المشتركة والود " .كان يرى انه لا
بد للمربّين أن يوجدوا وجوداًمادّيا بين الشبان لكي ينشأ هذا التيار من الحياة المشتركة ،وكان
مقتنعا الى حدٍ بعيد بذلك حتى إنه جعله عنصراً جوهرياً في نظامه التربوي .
والبقعة القاتمة الثانية رآها في بعض أصحابه .كان "كثير من طلاب الكهنوت يتحلّون
بفضيلة مثالية " ،ولكن هناك "غيرهم خطِرون يتحدثون محادثات تستوجب اللوم الشديد "
ويُدخلون إلى المعهد "كتباً معادية للدين وكتباً خلاعية " .
واستاء أيضاً يوحنا لأن المواظبة على تناول القربان المقدس ُح ِظرت :"لم يكن بوسعنا أن
نتناول القربان المقدس إلا يومَ الاحد وفي الاعياد الخاصة ."فكان على من يريد ان يتغذّى
بالقربان المقدس " أن يرتكب معصية ."
فبينما يتجه صف الطلاب الطويل ،في الصباح ،نحو غرفة الطعام لأجل الافطار ،كان
جماعة يتح ّول عند زاوية الرواق الذي يؤدي إلى كنيسة مار فيلبّس ،ويتقبلون القربان المقدس ،
ويدفعون ثمن فرارهم الصوم حتى طعام الغداء ."هكذا أكمنني أن اتقبل القربان المقدس أكثر مما
كان يُؤذن لنا .إني على صواب عندما اسمّيه القوت الفعّال لدعوتي " .
نفحة الاوكسجين يوم الخميس
هناك يوم يكسر ليوحنا ما في نظام الأيام من عيش رتيب ،هو يوم الخميس .كان البواب ،
على ما ذكر أصحاب يوحنا ،يد ّق بعد ظهر ذلك اليوم جرس النداء على وجه لا يتغير ويصيح
باللهجة العامية :بوش دي كاستلنوف !
وكان طلاب المعهد ،وهم يتلمّسون كل فرصة لسيء من الفكاهة ،يردّدون نداءه ،كما
يردّد الصدى الصوتَ فيصيحون كأنهم منادون في الشوارع ،بلهجة البيمونتيّ
والايطالية والفرنسية :بوش دي كاستلنوف ! بوسكو دي كاستلنوفو ! بوَا دي شاتونوف
. )Bois de chateau neuf(

9.9 Page 89

▲back to top


كان يوحنا يضحك من المزاح المألوف ،ويضحك أيضاً لأنه يعرف من الذي يطلبه :هم
إخوان " جمعية الفرح" يريدون أن يروه وينقلوا اليه الاخبار .هم اصدقاؤه الذين درس معهم في
الثانوية ،والاولاد الذين لهاهم بألعابه وحكاياته :إنهم يريدون أن يستمعوا اليه مرة اخرى .ذكر
أحد اصحابه ":كان كثير من الاحداث يحدقون به فرحين ،كان يجاذبهم أطراف الحديث ببشاشة
ويخاطبهم جميعا ."وبعد الضجة والمزاح والقهقهة كاونا يذهبون الى المعبد ،فيقفون هنيهة عند
قدمي السيدة العذراء .يوم الخميس نفحة من الاوكسجين وسعي شبه ِسرّي لتحقيق فكرة راسخة
في ذهنه :رعاية الاحداث واسمها عنده "المصلّى" .
كان يوحنا يُحدّث أحياناً كثيرة اصدقاءه الأحّماء حديث ذلك المصلّى .ينشأ في جوار مدينة
كبيرة ،وينشأ معه ساحات للعب وأبنية وجماهير من الأولاد ،وكان يقول بهدوء ":لا ألّفق شيئا ،
أنا أراه احياناً كثيرة في الحلم ليلاً ."
روى الأب لموان ،كاتب سيرة الأب بوسكو ":ان الأب بوزيو ( ، )Bosioخوري رعية
ليفونه كانافيزي ( )Levone Canaveseورفيق الأب بوسكو في معهد كهنوت كييري ،لما جاء أولَ
مرّة الى المصلى في السنة ، 1308ووصل الى وسط الساحة ،يُح ِدق به أعضاء المجلس الاعلى للآباء
السالسيين ،أدار نظره حوله ،وتفَحّص مختلف الابنية وصاح ":ما من شيء مما أراه يبدو لي
غريبا .كان دون بوسكو في معهد الكهنوت قد وصف لي هذا كلّه بدقة عجيبة ،كأنّه رأى بعينه ما
تكلم عليه ،وهو كما أراه الآن " .
الاحلام والفقر :إن الجمع بين هذين الأمرين رافق كل فصل من حياة الأب بوسكو ،
الأحلام لتوسُّع الرجاء على قدر مستقبل رائع ،والفقر لعرقلة عجلات الحاضر .
في فحص الستة اشهر (في ذلك العهد السعيد كان يُقام ك َلّ سنةِ ثلاثة فحوص :بعد ثلاثة
اشهر ،وستة اشهر وفي آخر السنة المدرسية ) كانت تُقدّم جائزة قدرها ستون ليرة لطالب من كل
صف ،حصل على احسن العلامات في السلوك والدروس .أكبّ يوحنا على كتبه وتوصّل الى
الحصول عليها وقد كرر فوزه ك َلّ سنة :وهكذا كان نصف نفقته مضمونا .
يكّلف نفسه عناء كثيراً .قال " :كل من احتاج الى حلق ذقنه ،او إحكام غطاء رأسه ،أو
خياطة ثوبه ،أو ترقيعه وجدني مستعدّاً لتلبية طلبه ."
بين الصبيان الاغنياء
عادت الكوليرا مرة اخرى في اثناء الفصل الحارللسنة ، 1336ومرة اخرى خافت تورينو ،
فعَجّل الآباء اليسوعيون في الذهاب بتلاميذهم الداخليين في ثانوية الكرمل ،إلى قصر مونتالدو

9.10 Page 90

▲back to top


)Montaldo(وهو مصيف رائع ،وبحثوا لغرفة النوم عن ناظِر يُوثق به فَيتولى أيضا مراجعة درس
اليونانية ،فبعث الأب كافاسّو الشماس بوسكو وقال له " :بوسعك ان تربح شيئاً من المال ."
عاش يوحنا من اول تموز (يوليو) حتى 12تشرين الاول (اكتوبر) اول مرة بين أبناء أُسر
غنية ،وهو يلمس اليد فضائلَ "أولاد مدّللين "ورذائلهم .وقد أقر "أنه شعرَ كم يعسر على
الكاهن أن يفوز بالنفوذ الذي لا بد له منه ،لكي يصنع اليهم الخير ."انه مقتنع بان الله يدعوه الى
الاهتمام بالاولاد الفقراء وحدهم .سيكون ذلك الامر شيئا من الاشياء التي اقتنع بها اقتناعا
جوهريا :فكما أنه لم يُدعَ الى تربية الفتيات ،فكذلك لم يُدعَ الى تربية أولاد الاغنياء .وقد أجاب
بشيء من الخشونة بعد نحو ثلاثين سنة الاب روفينو ( )Ruffinoوقد حدّته بإنشاء معهد للنبلاء
الشبان :هذا ،لا ،أبداً .إن فيه خرابنا .لقد كان خراباً لرهبانيات أُخرى :كان هدفها الاول
تربية الشبيبة الفقيرة ،فتخلوا منه ليخدموا النبلاء " .
سحر لويس كومولّو
تشرين الاول (اكتوبر) ، 1336في الوقت الذي ترك فيه يوحنا بوسكو قصر مونتالدو ،
ليقضي بضعة ايام في كرم سوسّامبرينو ،لبس لويس كومولّو الثوب الكنسي ،ودخل هو أيضاً مع
صديقه يوحنا معهد الكهنوت في كييري فتجدّدت الالفة بين الصديقين الحميمين :صداغقة لا
يع ّكر صفاءها معكّر .
لويس أصغر من يوحنل بعامين ،ولكنه صار لوقته مرة أخرى الدافع الروحي الذي ينشطه.
"َقلّ أن لا يجيء فيقطع فرصتي .كان يجذبني بذيل ثوبي ،ويطلب إليّ أن اصحبه فيسير بي إلى
المعبد ."
هناك كان كومولّو يشعر بانه في بيته .كان ما يفيض من مشاعره الساذجة لا ينتهي أبداً :
زيارة القربان المقدس ،والدعاء من أجل المحت َضرين ،وتلاوة الوردية ،وفرض العذراء
القديسة ،وعشارية من السبحة من أجل أنفس المطهر .
كان يوحنا ،مثل كثير من المسيحيين الذين يعملون ويتعبون في سبيل ملكوت الله ،يشعر
ِبمَيل شديد ،لا بل بما يشبه الحنين الى هذه التقوى الخالصة ،الى هذا الاستسلام المطلق لله .غير
انه كان يتحسّس في تصرّفه بعض الغلّو ،وقد اعترف بذلك في ذكرياته بكثير من اللطف " .لم
أحاول قط ولو قليلاً أن اقتدي به في تقشّفه .كان يصوم صوماً تاماً طوال الاربعين يوماً ،وكان
يصوم يوم السبت ،ولا يتناول في بعض لأيام الخبز والماء .وكان يترك أحياناً الطعام ،ويكتفي
باخبز المبلل بالماء ،زاعماً أنّه اصلح للصحة " .

10 Pages 91-100

▲back to top


10.1 Page 91

▲back to top


يمكننا ان نقولها صراحة ومن غير لف ودوران :كان ذلك التصرف َجرياً مَت َّعمداً الى انهاك
القوى والموت .ما كان مرشد روحي صالح ليتركه يجري جريه هذا إلى الكارثة .لما حاول بعد
عشرين سنة دومنيك سافيو سلوك تلك الطريق ،أوقفه دون بوسكو بحزم ،ولكن لم يكن بوسعه
في ذلك العهد ان يكون المرشد الحاذق الذي امساه بعدئذ .فقد اعجب ك َلّ الاعجاب بتقشف
كومولّو ،وهو تقشف لا يرعى حقيقة الجسد ،وأعجب بهربه الى الله على وجه أشبه بازدراء كل
قيمة من قيم الارض .
وبقي عنده كل حين ذلك الانجذاب الى القديس الفتى لويس كومولّو ،والى تلك القداسة
التي تفنى فناء سريعاً ،وهي ترتفع نحو السماء .بيدَ أنّ طريقه الى السماء ستختلف دائماً عن تلك
الطريق ،وستكون طريقاً للقداسة اكثر مراعاة لحقيقة الجسد ،متينة :هي ثمرة صلته المباشرة
بالواقع ،وتعلقه بالأحداث وحاجاتهم الماسّة ،وهي مسائل حسّيّة ملازمة تنقي ك َلّ نظرية
وتب ّسطها .
طالب كهنوت ضائع
دخل معهد الكهنوت يوحنا فرنسيس جياكوملّي ( )Giacomelliمن أفيليانا ( )Avigliana
في أول كانون الاول (دسمبر ) .لقد ترك شهادة ثمينة ،فكأنه ص ّور بوسكو الطالب وهو في الصف
الثاني من الفاسفة ،وهذا هو موجزها :
" دخلتُ المعهد شهراً بعد سواي ،فلم اكن اعرف أحداً ،فكنت في الايام الاولى ضائعاً
تُحيّرني العزلة .ولما جلست في غرفة الدرس أول مرة ،رأيت أمامي طالباً بدا لي أكبر سنّاً من
الآخرين .كان حسن الهيئة ،شعره مضفور ،شاحب اللون ،ضعيف البنية وكان يبدو مريضاً .
إنه يوحنا بوسكو .جاء الى لقائي أول مرة رآني فيها وحدي ،بعد الطعام ورافقني طوال العطلة ،
فأظهر لي كثيرا من اللطف .أذكر فيما اذكر أن غطاء رأسي كان مُف ِرطاً في ارتفاعه ،فكان رفاقي في
الصف يسخرون مني ،فجعله يوحنا مُلائِماً لقامتي بحركة سريعة من يده .
كان في تلك السنة تلميذان يُدعيان بوسكو ،فارادوا ان ُيمَيّز الواحد من الىخر فأعلن الاول
(الذي صار بعدئذ رئيسا لجمعية نسائية دينية في تورينو اسمها الوردات) بلهجة البيمونتي ما
معناه :أنا بوسكو الأكّي دُنيا ،(عود الاكي دنيا غاية في الصلابة ،لا ُيلوى ) ،وأما يوحنا
فقال :انا بوسكو الصفصاف ( وعود الصفصاف ليّن ُيلوى بسهولة ) .لم يكن مُتز َّمتاً بل كان
سريعاً الى الغضب ،وكان يًظهر للعيان ما يبذله من الشدة الحازمة المتواصلة لكي يملك نفسه .
كان يحب الأحداث حبّاً شديداً وكانت سعادته أن يكون بينهم " .

10.2 Page 92

▲back to top


01
المهنة :كاهـــن
21حزيران (يونيو) 1332عيد يوحنا المعمدان .هو عيد يوحنا لأنّه عيد شفيعه ،وبدء
الأشهر الأربعة للعطلة الصيفية .
سلك الطريق البيضاء التي تسير من كييري الى كاستلنوفو ،ثم الدرب الذي يصعد الى
سوّسامبرينو :اثنا عشر كيلومترات ،إّنها رحلة جميلة .رَحّبت به مزرعة أخيه بصيحات الديوك ،
وابتسامة مشوبة بالخجل من بنت لأخيه وهي طفلة رائعة الجمال .
أَنشأ يوسف أًسرته منذ بضع سنوات .تزوّج السنة 1333ماريّا كالو ّسو وهي فتاة من
كاستلنوفو لم تتمّ سِنّ العشرين .
عاشت بنتهما مرغريتا ثلاثة أشهر فقط ،وفي ربيع 1333ُولِدت فيلومينا ،وهي
طفلة هادئة تنظر بإعجاب الى عمّها يوحنا وهو يعمل بالرابوب ،ومخرطة الخشب والكور الحديد ،
ويفصّل الثياب ،ويخّيطها ،ويصنع لها ُدمىً رائعة من ال ِخرَق .
بيده المنجل يحصد السنابل
إنّ العناقيد الخضراء النحيفة شرعت تّتخذ شكلها ،وقد أَخذ السنبل يشقرّ في الحقول .
عندما يكفّ عن العمل في مشغله الصغير ،يقبض يوحنا على المنجل وينضمّ الى صفّ الحصّادين
الطويل فيتصّبب العرق من جبينه تحت قبعة القش العريضية .
إنه يشعر بفرح شديد ،وهو يعمل في الهواء الطلق بعد ثمانية أشهر من شبه سجن على
مقاعد المدرسة .
رأى ذات يوم في الكرم أَرنباّ تهرب كالسهم فركض بدافع الغريزة الى البيت ،وح َلّ رباط
بندقية أَخيه من المسمار وبَدا لَه أَنّ مطاردة الأرنب لن تدوم أكثر من دقيقة ،ولكن الحيوان يعدو
بكلّ ما يمكنه من السرعة ،ويوحنا عنيد يأبى أن يتخلّى من مطاردة الأرنب .
" طاردتُها من حقل الى حقل ومن كرم الى كرم ،حتى اجتزتُ ودياناً وتسلّقتُ التلال .

10.3 Page 93

▲back to top


مضت ساعات ،وأصبح الحيوان آخر الأمر على بعد طلقة بندقية ،فأصبته منذ أول طلقة ،َفسَقط
وحزنتُ حزناً شديداً ّلما رأيتُه يموت .أخذ بعض الاأصدقاء يهنؤون بنجاحي الطّيب ،ولكني
فحصت نفسي :كنت لابساً قميصاً من غير ثوبي الكهنوتي وعلى رأسي قبّعة من القشّ بعد ما
ركضت خمسة كيلومترات وبيدي البندقية ،فشعرتُ بما بلغ الغاية من الخجل " .
ولما عاد الى البيت رجع الى دفتره الذي فيه كتب ما عزم عليه يومَ لبس الثوب الكنسي فقرأ
المادة الثانية " :لن أقوم بأعمال الخفّة ولا البهلوان ولن أذهب الى الصيد " .فتمتم " :ربّ اغفر
لي " .
وعاد في أثناء فراغه الى خدمة الأحداث " .كان كثير منهم على أبواب سِنّ السادسة عشرة أو
السابعة عشرة ،ولم يكونوا يعَلمون شيئاً من العقيدة .كنت أشعر بغبطة عظيمة ،وانا ُألقّنهم
التعليم المسيحي ،وكنت أعلّم هؤلاء الغلمان القراءة والكتابة ،كنت أعّلمهم جميعاً أيّاً كانت
سِّنهم .كانت الدروس مجّاناً ولكني أشترط بعض الشروط :الموظبة والاصغاء والاعتراف
ك َلّ شهر " .
"القواعد الفكرية "
3تشرين الاول (اكتوبر) . 1332شرع يوحنا يدرس علم اللاهوت في المعهد " .هو
العلم الذي يدرس الله " وهو الدرس الأساسي لمريدي الكهنوت .كان في ذلك الزمان يستمرّ
خمس سنوات ،ويحتوي في موادّه الأكثر شأناً العقيدة (درس الحقائق المسيحية ) والأخلاق
( القوانين التي يجب على المسيحي أن يعمل بها ) والكتاب المقدّس ( كلام الله) وتاريخ الكنيسة
( منذ نشأة المسيحية الى العصر الحديث ) .
ِلعلم اللاهوت شأنٌ كبير في حياة كلّ كاهن .في هذه السنوات ،سنوات الشباب
والتأهّب ،ُيهَيّأ ما فيه مق ّومات الذهن :تركيب الأفكار ودوافع حكمها .إنّ الكاهن سوق يُرهِف
هذا الفكر طوال حياته ،ولربّما يُحوّل اتّجاهه بتأثير الأحداث الجديدة ،ولكن سيعسر عليه أن
يب ّدله .إِنّ طريقته في النظر الى الأمور والحُك َم عليها تتأ ّصل في القاعدة الفكرية التي أعطاه إيّاها
اللاهوت .فهكذا أصبح كاهناً محترفاً .
وكانت سنوات درس علم اللاهوت ذات شأن عظيم عند يوحنا بوسكو أيضاً .أجل لقد
أُنعم عليه بمواهب فائقة ولكن كان ابنَ عصره وعلى الخصوص ابن كنيسة عصره .فمن المُهِمّ ج ّداً
لمن يريد تَفَهّم دون بوسكو ،أن يعرف القواعد الفكرية التي وضعتها الدروس والكتب والتوجيه
الروحي أيضاً والوعظ في أَساس ذهنه .إن بيترو ستيلا ( )Pietro Stellaفي المجّلد الاول من

10.4 Page 94

▲back to top


كتابه دون بوسكو في تاريخ الشعور الديني الكاثوليكي خصّ تلك المسألة بعشرين صفحة
. ) 23 – 20 (إنّ حدود تأليفنا هذا لا تمكّننا من الاستشهاد إلاّ ببعض أقواله المنيرة :
" كان علم اللاهوت العقائدي في ذلك الزمان يجعل كل شيء في ضوء الحساب الذي
سيؤدّيه الناس للعدل الإلهي ،وهم ينتظرون الحياة الأبدية أو الموت الأبدي ،وهدَُفهم الثواب أو
العقاب " .
" كان علم الاهوت الأدبي ُيركّز كلّ شيء على العلاقة بين الوصايا الإلهية والحرّية
الشخصية .كان ُي َعلّم الحكم على الأعمال بحسب موافقتها المسؤولة لوصية الله " .
" كان الوعظ الذي ُيلقى الى طلاب الكهنوت يعمل على تنمية القلق الذي قد ينشأ في
النفوس الشديدة الإِحساس .وكان الكلام يدور فيه على الواجبات الجدّية الشديدة التي يفرضها
الكهنوت والأخطار العظيمة ج ّداً التي تتع ّرض لها الخدمة المقدّسة ( الأخطار الآتية من العالم
والنساء ومختلف أنواع الفساد الأخرى ) والحساب الدقيق الذي يطلبه المعّلم الإلهي من خَ َدمه " .
ولنذكر ،ونحن نتكلّم على هذا الموضوع ،أ َنّ يوحنا بوسكو ،وقد ترّبى على هذا النمط من
الوعظ ،ربّما بالغ هو أيضاً في بعض الأحيان في الدعوة الى محاسبة الإِنسان نفسه ،والى الطرق
المتش ّددة في التربية ال ُخلُقية .تلك اختبارات عابرة مرّ بها كثير من طلاب الكهنوت في الماضي في
معاهد مغلقة معقمّة .
تقدير المرء لنفسه
نرى أنّ اظهار الميزات الجوهرية للذهن التاريخي الذي تلّقاه دون بوسكو خلال هذه
السنوات أمر ذو شأن :كيف وُ َجّه لكي يُراقب العصر الذي عاش فيه ،ويحسب له الحساب ،وهو
عصر له من الشأن ما جعل المؤرخين يطلقون عليه في كتب التاريخ إسم " النهضة " .فلا يمكننا أن
نعرف كيف فكّر دون بوسكو في مستقبل الكنيسة والعالم ،إلا اذا تَفهّمنا هذا الذهن التاريخي .
كانوا يبدأون بالنظر الى تجارب الثورة الفرنسية وامبراطورية نابليون نظرَهم إلى
"الافلاس " .في رسائل الأساقفة وعظات ذلك العصر تكثر هذه العبارات " :أفظع
الثورات " ، " . . .الظلم يسودنا نحن أيضاً " " ،ُمزََّقت شبكة صياد العصافير فنلنا الحرّية " ،
اعادة الملوك الى عروشهم " عمل من أعمال الله " .
كان " الافلاس " واضحا ّلما انتقل الناس من اعلان المبادئ العظيمة ( الحرية والمساواة )
إلى ارهاب الثورة وتسلّط نابليون .فان مبدأ فلاسفة عصر النور ( الذي تبنتّه الثورة الفرنسية ) أي
" العقل هو الطريق الواحد الى الحق والخير " قد أدّى الى عواقب وخيمة .

10.5 Page 95

▲back to top


عكسوا ذلك فأَعادوا الى المعيار الديني قيمتَه ،ولا يمكن حدّه بحدود العقل البشري .
وأُعيد الى سلطة الملِك قيمتها ،ولم يُجعل لها حَ ٌدّ سوى مراعاة القوانين الالهية :يجب على الملك أن
يكبت بحكمته النّيرة القوى الثورية التي تسوق الناس إلى الفوضى والعنف .
إن بعض مظاهر هذه الاعادة للقِيَم كانت ملتبسة .فقد تؤدّي الى مسيحية فيها تسُلّط ،والى
تحالف بين العرش والمذبح ،وهما عاجزان عن إِدراك أنّ " الحرية والمساواة والاخاء " قِيَم
مسيحية .إن اسباب الالتباس هذه تعود الى " النظام الكاثوليكي المحافظ " الذي ساد حتى نحو
السنة . 1313
ولكن كانت تنتشر في الخفاء ،حتى في البيئات الكنسية ،أفكارٌ أُخرى قوامها " التحرر
الكاثوليكي " .ان أنصار هذا المبدأ يعترفون بقيمة المبادئ العظيمة التي نادت بها الثورة ،وهم
يستنكرون العنف الثوري والتسلط النابليوني ،ويتمنّون نظاماً من السلطات المتوازنة :َملِكٌ
ُيمسك بزمام الثوريين ،وفي الوقت نفسه يقام دستور يضمن الحرية والمساواة .فالحرية والمساواة
يتمنونها لجميع الناس ما عدا السوقة .
إِن الأحرار والمحافظين يُظهرون كلهم الخوف من " المساواة الشعبية" :فقد أثبت عهدُ
الارهاب أنها تتحول حتما الى تسلط فئة صغيرة ،تزعم أَّنها تحكم " باسم الشعب " ،وتُحدِث
الفوضى .
كان بين أنصار الحرية الكاثوليك الاكثر شهرة في ذلك الزمان ،أنطون روسميني ()Rosmini
والاسكندر مانزوني (. )Manzoni
أمّا يوحنا بوسكو فتبنّى الذهن التاريخي " للنظام الكاثوليكي المحافظ " .كان يميل الى المبدأ
المحافظ (وقد دعته ضرورة الاحوال التي قامت ،الى تجاوز ذلك المبدأ ،وعند الحاجة ،الى مخالفة
ما كان يفعل أنصار النظام المحافظ ) .ولم يكن ممكنا أن يحدُث غير ذلك ففي السنة 1332كان
البابا غريغوريوس السادس عشر قد أعلن في رسالته الرعائية ميراري فوس ( )Mirari Vosانه لا
يجوز للكاثوليك قبول الحريات العصرية .قال البابا :ان الاعتراف بحرية الضمير ،على سبيل
المثال ،ُيساوي بين الحقيقة والضلال .كان ن ُصّ رسالة البابا في أيدي طلّاب الكهنوت ،وكان
يجب عليهم أن يعدّوها موضوع درس وتف ّكر .
أين كافور ومازّيني وغاريبالدي ؟
بينما يوحنا في كييري يستوعب هذه الأفكار ،كان كارلو البرتو في تورينو " زعيم" النظام
الكاثوليكي المحافظ .كان التحالف بين العرش والمذبح زاهياً .كان رجال الكنيسة يشغلون

10.6 Page 96

▲back to top


مكان الصدارة في الجامعة فيحضر ممثل لرئيس الأساقفة جميع الامتحنات .د ّشن الملك سنة
، 1331في ساحة الترسانة ،البناء التذكاري لتكريم بيترو ِمكّا ( ، )Pietro Miccaذلك الرجل
من الشعب الذي بذل نفسه لانقاذ المدينة .ولكن لم يعظّم في الخطاب شأن فضائل الشعب ،ويا
للاسف ،بل فضائل المرؤوس البسيط الجاهل المطيع الذي يبذل نفسه في سبيل ملكه .
في السنة 1332تلك كان دعاة النهضة لا يَزالون مُشَتَّتين وهزّت النهضة ايطاليا بعدئذ هزة
شديدة خلطت الأوراق كَلّها بما فيها أفكار حزب المحافظين والاحرار .
كان يوحنا ماستاي فرّيتّي ( )Mastai Ferrettiالذي اعتلى الكرسي الباباوي عام ، 1316
وتسمى بيوس التاسع ،مطران إِيمولا ( . )Imolaكان في سن الخامسة والاربعين فقط وكان ُيعَدّ
مطراناً " غير متحزب" لأنه يستنكر إِفراط الشرطة الباباويّة في تصرّفها ،ولأنه صديق الكونت
بازوليني ( )Pasoliniأبرز الأحرار في مدينته .
كان كافور ( ، )Cavourوهو في سِنّ السابعة والعشرين ،يُدير مزارع ليري ( )Leriفكان
يمشي من غير أن يملّ ،من الصباح الى المساء ،في الحقول والمراعي ومزارع الأرزّ ،ورجلاه في
الجزمة وعلى رأسه قبعة من القش .كان ملازماً في حامية جينوى السنة . 1331لما سمع بخبر
الحركات الثورية صاح :عاشت الجمهورية ،فأُرسل إلى وادي أوستا ( )Valle d’Aostaوترك
الجيش .وكان أبوه حاكم مدينة تورينو وكان لذلك مدير الشرطة ،فأبعده إِلى الريف .وفي الفراغ
الذي كان له بين وقت قطف العنب وحصاد الأرزّ ،زار أوروبا وأعجب بمجلس باريس ولندن .
وقد واجه ايضا السياسيّين الايطاليين المنفيّين وقال فيهم " إنهم زمرة من المجانين الُبله المتعصّبين ،
يسرّني أن أجعل منهم سماداً لشمندري " .
إِنّ مازّيني ،وهو في سِنّ الثانية والثلاثين ،ُطرِد لعهد قريب من سويسرا وكان يدير منها
دسائسه السياسية ،فأقام في بيت من ضواحي لندن ،واخذ يكتب في الصحف ليكسب معيشته ،
وأعفى لحيته ،وطفق يجول وحيدا ،لا بسا ثياباً سواد ،في أزقّة المدينة التي يغطّيها الضباب .
هرب غاريبالدي ( )Garibaldiالى أمريكا بعد أن أَخفق عصيان مازيني وانصاره في
سافويا ،فنزل في البرازيل وكان في سن الثلاثين ،وعمل قرصاناً في بحار الجنوب لخدمة الحكومة
الثورية في ريو غرانده ( )Rio Grandeوألبس بعد قليل جيشه الايطالي القميص الاحمر ذا الشهرة
الاسطورية ،بعد ما اشترى بثمن بخس في مونتيفيديو مخزوناً من المآزر صُنِعت لجزّاري
الارجنتين .
كان فيتّوريو عمانوئيل في سِنّ السابعة عشرة ،وكان يعيش في القصر الملكي في تورينو عيشة
شظف كأنّه في ُثكَنة .كان يجب عليه أن يرافق أباه الى حفلات العيد والرقص التي تقيمها الطبقة

10.7 Page 97

▲back to top


الارستقراطية ،ويبقى بجانبه واقفًا على قدميه ساعات كثيرة ،وكانت الدقائق الوحيدة التي تملأه
فرحا ،هي تلك التي يقضيها في الاسطبلات .كان يح ِدّث خدم الاسطبلات بلهجة صريحة خشنة
ويركب الخيل بجرأة وتبجّح .إِنه مولَع بالعمل والهواء الطلق .
فتاريخ البشر في البلاد القريبة أو في البلاد البعيدة والاحداث الصغيرة أو الكبيرة تتعاقب
وتدفع التطور الانساني الى الامام .
في السنة 1336اخترع مورس ( )Morseالتلغراف الكهربائي ،والابجدية للاشارة
بالخطوط والنقاط ،بعد وقت قليل انتشر في العالم كله مستطيل من الورق مفيد هو البرقية ،كان
للحكام والجرائد الكبيرة أول الامر ،ثم أَصبح في متناول جميع الناس .
في السنة 1332مات جياكومو ليوباردي ( )Leopardiفي أَثناء تفشّي الكوليرا ،ولم يكن له
من العمر سوى تسعة وثلاثين عاماً ،واعتلت الملكة فيكتوريا العرش في انكلترة فبدأت ذلك الملك
الطويل الذي شاهد انكلترة تصبح أول الدول الاستعمارية .
في السنة 1333مات المركيز تنكريدي دي بارولو ( ، )Tancredi di Baroloالذي كان
محافظاً سابقاً لمدينة تورينو فعزمت امرأته على أَن تنفق ثروتها الطائلة لتساعد النساء البائسات ،
وهكذا أُنشىء على حدود تورينو في مكان غير بعيد من الكوتّولنغو مشروع الاسعاف للسجينات
والبغايا .
وفي السنة 1330أمر الملك فرناندو الثاني بانشاء أول سكة حديد ايطالية ،نابولي – غراناتلو
، )Granatello(وصنع يعقوب ديغر ( )Deguerreأول آلة تصوير شمسية :إنّ يوحنا بوسكو
مدَين الى هذا المخترع المتواضع بأَنه كان من أول القديسين الذين حُفظت لهم صورة صحيحة ،
ويعود الفضل في ذلك الى عشرات من الصور الشمسية له .

10.8 Page 98

▲back to top


01
صار " دون بوسكو"
في العطلة الصيفية لعام 1333دُعي طالب علم اللاهوت يوحنا بوسكو إِلى إِلقاء الوعظ أوّل
مرَةّ في الفيانو ( )Alfianoيوم عيد سيّدة الوردية .روى " :كان خوري الرعية الأب يوسف بيلاتو
)Pelato(رجلاً متعلماً شديد التقوى .سألته أن يقول لي رأيه في عظتي فأجاب :
-جميلة ج ّداً ،منسّقة .ستكون واعظاً يجيد الوعظ .
-هل فهم الناس ؟
-لم يفهموا كثيراً .أنا بنفسي وأخي الكاهن وبعض الآخرين قد فهمنا .
-ولكن عظتي بسيطة .
-كانت تبدو لك بسيطة ،ولكنها كانت عند الشعب عالية ج ّداً .إِنّ الكلام على جملة من
أحداث تاريخ الكنيسة والتاريخ المقدس امر حسن ج ّداً ولكن الناس لا يفهمونه .
-فما العمل اذن ؟
-يجب التخلّي من أسلوب الأدب المدرسيّ ،والتكلم بلهجة المكان ،أَو ،إِذا فَ ّضلتَ
ذلك ،باللغة الايطالية ولكن باسلوب شعبي ،شعبي ،شعبي .لا تنصرف إلى الاثبات
بالأدلّة ،بل اذكر أمثالاً وائتِ بالتشبيهات البسيطة العملية .ت ّذكر أن الناس لا يُصغون إِلّا قليلاً ،
وأنه يجب على الواعظ أن يشرح حقائق الايمان بأسهل اسلوب ممكن .
كتب دون بوسكو انّ هذه النصيحة كانت من أثمن النصائح التي تلّقاها في حياته ،وقد
أفادته في العظات ودروس التعليم المسيحي وفي تأليف الكتب .
ميثاق غريب مع عالَم ما بعد الموت
كان الشهر شهر تشرين الثاني ( نوفمبر) لعام ، 1333فبدأ يوحنا السنة الثانية لدراسة علم
اللاهوت ،وقد هيمن عليها حدث مفجع وهزّة أصابته في صميمه .

10.9 Page 99

▲back to top


كان لويس كومولّو في الشهر الاخير من العطلة الصيفيّة قد تفوّه بأقوال غريبة فنظر الى
الكروم من أعلى تلة وتمتم :
-أرجو أَن أشرب في العام القادم خمراً اكثر جودة .
-ماذا تَعني بقولك ؟
لم يشأ أول الأمر أن يجيب ثم قال :
-أشعر منذ بعض الوقت برغبة شديدة ج ّداً بالذهاب الى السماءُ ،حتى إِنه يبدو لي من
المستحيل أن أَعيش كثيراً بعد اليوم في الأرض .
وفي أَثناء الاشهر الاولى من العام الدراسي ،أُضيف الى ذلك حدث صغير لا يقلّ غرابة
عنه .قرأ يوحنا ولويس معاً صفحة من سيرة بعض القديسين ،فعَلّق عليها يوحنا بقوله :
-ما أحسن لو استطاع اول من يموت منا ،أن يعود فيخبر الآخر بأخبار عالم ما بعد الموت .
فشغف لويس بهذا العرض وقال بلهجة اليقين :
-اذاً لِنَعقد ميثاقا .فالذي يموت أولاً يأتي ،اذا سمح الله ،فيخبر الآخر هل هو في
الفردوس .أأنت موافق ؟
قبض الواحد على يد الآخر .
في صباح الخامس والعشرين من شهر اذار (مارس) للعام ، 1330بينما هما ذاهبان الى
المعبد ،أوقف لويس يوحنا في الرواق ،وقال له ،وقد أرتسمت أَمارات الجِ ّد على وجهه :
-لقد انتهى أمري ،أُحسّ أني مريض وأُحسّ سأموت بعد قليل .
حاول يوحنا ان يتلقى ذلك بالمزاح .
-الأولى لك ان تعترف بأّنك تنعم بصحة حسنة ج ّداً فقد ِسرنا البارحة معاً في جولة دامت
ساعة .لا تتعلق بالوهم هذا .
ولكن الامر جدّ حقاً ويا لسوء الحظ ،فبينما هما في الكنيسة ،أُغمي على لويس ،فاضطُّروا
الى نقله الى المستوصف فكانت الحمى عالية تدعو الى القلق .
في 31اذار (مارس) كان عيد الفصح ،فَ ُحمل القربان المقدس إلى لويس زاداً أخيرا .
لقد فَقَد قواه .في لحظة كان فيها يوحنا بالقرب منه ،أمسك بيده وتمتم :
-ها هوذا الوقت الذي فيه يجب علينا أن يترك الواحد منا الآخر ،أَيها العزيز يوحنا .كان في
خاطرنا ،أن نصير كاهنين معاً ،وأَن نتساعد ،وأَن ينصح واحدنا الآخر ،ولا يشاء الله ذلك .
عدني بأن تصلي من أجلي .
مات في فجر اليوم الثاني من نيسان (ابريل) وهو قابض على يد يوحنا ،ولم يكن قد أتَمّ

10.10 Page 100

▲back to top


الثانية والعشرين .
وهذا هو الحدث الغريب جدّاً الذي وقع في الثماني والأربعين ساعة بعدئذ .عرف النّاسُ
ذلك الحدثَ مما رواه يوحنا بوسكو نفسه :
" في الليلة بين الثالث والرابع من نيسان (أبريل) كنت في السرير ،في مهجع يض ُمّ عشرين
من طلاب الكهنوت .وفي نحو الساعة الحادية عشرة والنصف ،ُسمِع صوت يُدوّي في الرواق ،
كأن عجلة ضخمة تجرّها عدة خيول تقترب من الباب ،فاستيقظ الطلاب ولكن لم يتكلم احد ،
وصرتُ كالحجر من الرعب ،واقترب الضجةُ وتفتّح الباب بعنف ،وعندئذ ُسمِع صوت كومولّو
الواضح يقول ثلاث مرات :يا بوسكو خلصتُ .ثم توّقف الصوت ،فوثب أصحابي من
السرير ،والتفّ عدد منهم حول ناظرِ المهجع الاب يوسف فيوريتو دي ريفولي
. )Fiorito di Rivoli(تلك أول مرة أَذكر فيها أَني خفت .شعرت برعدة شديدة جدّاً حتى إِني
ف ّضلت حينئذ لو تأتّى لي أن أموت .ان ذلك الرعب أمرضني الى حدّ أنّه قرّبني الى حافة القبر" .
ان الاب لموان الذي عاش بالقرب من الاب بوسكو في المصلى من 1333إلى 1333أكّد :
"ان الاب يوسف فيوريتو روى هذا الظهور مرار كثيرة لرؤساء المصلّى " .
خبز مصنوع من الذرة وخمرة مُعتَقّة
إن "المرض الشديد" الذي أشار إليه ،كان ضربا من انحطاط للقوة استمر حتى الاشهر
الأولى للعام الدراسي اللاحق .كان الطعام يسبب له التقزز ،وكان الارق المتواصل يُنهكه فأمره
الطبيب ،بعد عدة أشهر ،بالاخلاء الى الراحة التامة في السرير ،فبقي فيه نحو ثلاثين يوماً .
وقد أفلح في العودة الى الصحة بطريقة غريبة ،تكاد لا تُصَ ّدق .سمعت أمه بأَنه في الفراش
منذ عدة أيام فجاءت لكي تراه ،ومعها رغيف كبير من الذرة ،وقنينة من الخمر المعتقة من بربيره
. )barbera(إن هذه المرأة من الشعب جديرة بكل اعجاب .قيل لها ان ابنها مريض ،وليس عند
الفلاحين سوى مرض واحد ،هو قلة التغذية ،وكذلك ليس عندهم إلاّ دواء واحد وهو حسن
التغذية .ان الناس في التلال يجهلون كل شيء عن الأمراض ذات الأسماء العسيرة ،والادوية
المعقّدة .
وقبِل يوحنا المشاركة في الأمر فلم يشأ أن يرفض ما تق ّدَمه له أمُّه فيخجلها .تناول لقمة من
الخبز ،وشرب جرعة من الخمر ،وَواصل عمله من غير أن يشعر بما يفعل .ومن لقمة الى لقمة ،
وجرعة الى جرعة أُكِل الرغيف وشُرِبَت الخمر ،واتاه بعد ذلك ،نوم عميق " دام ليلة ويومين
متوالين" ولما استيقظ أحَسّ أنه شُفي .

11 Pages 101-110

▲back to top


11.1 Page 101

▲back to top


" كنت أرتجف كلما خطر ببالي أنّي التزم طوال حياتي"
استعاد صحته على وجه حسن ج ّداً حتى " إني اشتهيت كسب سنة من الدرس ،بالعمل في
اثناء العطلة الصيفية .لم يكن ذلك الاذن ُيمنح الا نادراً ج ّداً .مثلتُ بين يدي رئيس الاساقفة
فرانسوني ( )Fransoniوطلبت اليه أن أدرس في الصيف موضوعات السنة الرابعة ،فنهي السنة
الخامسة من معهد الكهنوت في آخر العام الدراسي . 1311 – 1318وكانت الحجة التي
احتججت بها هي سِني :فقد تَمّ لي أربع وعشرين عاما " .
أراد رئيس الأساقفة أ ّول الأمر أن يعرف نتائج دروسه ومنحه الانعام الذي طلبه،
شريطة أن يقدم يوحنا في اول تشرين الثاني ( نوفمبر) جميع الفحوص القانونية ،وُيرسم شماسًا
رسائليًّا .أُقيم خوري رعية كاستلنوفو فاحصاً ،وأكَ َبّ يوحنا على العمل بنشاط لا يعرف الملل
طوال شهرين فاستعدّ للفحوص وق ًّدمها .
كانت رسامة الشماس الرسائلي خطوة حاسمة في حياة طالب الكهنوت .إن الذي
يتقّبلها ينذر العفاف حتى آخر حياته ،ولم تكن الكنيسة تفي أحدا من ذلك النذر لأي سبب
كان .
كان الذي يتأهب لتُقّبل هذه الرسامة يُدعى الى الاعتزال في الصمت ،خلال عشرة أَيام من
الرياضة الروحية ،وكان في أثناء تلك الايام يعترف اعترافا عامّاً بجميع خطاياه ،وكان ُيطلب إليه
أَن يفحص حياته فحصاً تامّاً ،لكي يعلم هو بنفسه ،ويعلم معرّفه مُمثّل الله ،هل َيسَعه أن يلزم
نفسه التزاماً دائماً .
كتب دون بوسكو في هذا الشان " :كنتُ أرغب في السير الى الأمام ،ولكني كنت أَخاف
عندما ُأف ِكّر بالالتزام الدائم " .
10ايلول (سبتمبر) السنة . 1318دعا الاسقفُ يوحنا بوسكو الى أن يُفكّر آخر مرة بعظم
شأن الرتبة التي سيتقبلها .اذا عزم على أَن ينذر حياته لله نذار دائما ،فليخطُ خطوة إلى الامام .
خطا يوحنا خطوة بسيطة على بلاط الكنيسة وبتلك الحركة ترك تركاً دائماً ك َلّ عمل دنيوي .
" ان الكاهن لا يذهب وحده الى الفردوس"
تشرين الثاني (نوفمبر) . 1318بدأ في معهد الكهنوت في كييري عامه الخامس والاخير
من علم اللاهوت .
23اذار(مارس) 1311ُرسِم شمّاساً إِنجيليا .تلك المرحلة هي المرحلة الاخيرة قبل
الكهنوت .

11.2 Page 102

▲back to top


26ايار (مايو) بدأ الشماس يوحنا بوسكو الرياضة الروحية التي يجب أن يستعدّ بها
للرسامة الكهنوتية ،فدعاه مرشد الرياضة الى التفكر طوال تلك الأيام في كلمات المزمور " :من
يصعد جبل الله ؟ من يقيم في بيت الرب ؟ من ط ُهرَت يداه وصفا قلبه ."تف ّكر ما في ماضيه ،
فرأى أن يديه منذ أن كانت مرغريتا تضمهما للصلاة ،قد ظلّتا طاهرتين على وجه عجيب .
كتب في دفتر صغير ":إن الكاهن لا يذهب وحده الى السماء .اذا صنع الخير ذهب الى
السماء مع النفوس التي قد خّلصها بقدوته الحسنة .إِذا ع َرّض الناس للخطيئة ،ذهب الى الهلاك
مع النفوس التي أهلكتها خطيئته .لذلك أَبذلُ جهدي بشجاعة ،لكي اعمل بهذه الاشياء التي
عزمت عليها " .
َورَد بعد ذلك تسعة مقاصد اساسية للمستقبل .انها في معظمها ُتك ّرر وتوضح ما نواه ّلما
ارتدى الثوب الكنسي ،ولكن ثلاثة منها تعبّر عن العمق الذي ستّتصف به الطريقة الكهنوتية
الخاصة بدون بوسكو وهذه هي :
-أصرف وقتي كلّه في العمل .
-التحمل والعمل والتواضع في كل شيء ،ودائماّ وابـداً ،كلما اقتضى الأمر خلاخ
النفوس .
-ان محبة القديس فرنسيس دي سال ووداعته ستكونان دَليلّيّ في كل شيء .
كاهن للابد
2حزيران (يونيو) 1311في معبد دار المطرانية ،سجد يوحنا بوسكو وهو لابس القميص
الابيض ووجهه يلامس الأرض أمام المذبح .إِن انغام التراتيل الغريغوري الخالية من الزخرف
تنحدر من الارغن .الكهنة وطلاب الكهنوت الحاضرون يستشفعون كبار قديسي الكنيسة الواحد
بعد الآخر :بطرس وبولس وبنديكتوس وبرناردوس وفرنسيس وكاترينا وأغناطيوس . . .
نهض يوحنا وقد اصّفر وجهه ِلما ناله من التأثر والتعب خلال هذه الأيام الاخيرة المنهكة
للقوة ،وجثا عند قدمي رئيس الأساقفة ،فوضع لويس فرانسوني يديه عليه ورسمه كاهناً للابد
بعد ما طلب نزول الروح القدس عليه .
وبعد بضع دقائق ضمّ يوحنا بوسكو صوتَه الى صوت رئيس الاساقفة ،وبدأ إِقامة القداس
المشت َرك للمرة الاولى .لقد صار دون )1(بوسكو .
)1كلمة "دون" لالايطالية تقال للكاهن (حاشية من المترجم) .

11.3 Page 103

▲back to top


كتب ببساطة بعدئذ :احتفلتُ بقداسي الاول في كنيسة مار فرنسيس الاسيزي ،يعاونني
الأب يوسف كافاسّو مرشدي وأكبر محسن إِلي .كانوا ينتظروني بفروغ الصبر في بلدي (كان ذلك
اليوم يوم عيد الثالوث الاقداس ) ولم يُق َدّم فيه قداس اول منذ سنين كثيرة ،ولكن آثرتُ أن
أحتفل به من غير ضجة في تورينو على مذبح الملاك الحارس .أُريد أن ُأسمّي ذلك اليوم أجمل يوم
في حياتي .في الدعاء للمتوفين أثناء الق ّداس ،تذكرتُ الأعزاء عل َيّ والذين أحسنوا الي ولا سيما
الأب كالوسّو الذي عَددته دائماً أبداً محسناً كبيراً رفيعاً .كان هناك اعتقاد من اعتقادات التقوى
يقول إِنّ الرب َيمنح دائماً أبداً النعمة التي يسألها الكاهن الجديد ،عندما يحتفل بقداسه الاول ،
فطلبت بحرارة أن يكون كلامي نافذ المفعول لأتمكن من صنع الخير الى النفوس " .
وأمّا القداس الثاني فقد أراد دون بوسكو أن يقيمه على مذبح سيّدة التعزية في معبد السيدة
الكبير في تورينو .عندما رفع عينيه رآها في العلى ،إِنها السيدة المتلألئة كالشمس التي كلّمته في
الحلم قبل سبع عشرة سنة فقالت له " :كن متواضعا شجاعاً قوّياً " .حاول يوحنا بوسكو أن
يتواصل الى ذلك .والآن يبدأ الوقت الذي " فيه سَيَفهمُ كل شيء " .
كان في الخميس الذي بعده ،عيد جسد المسيح ( وكان ذلك العيد عيداً الزاميا في ذلك
العهد ) فأقام دون بوسكو القداس في بلده .
دقت الاجراس ودوّى صوتها حتى الاماكن البعيدة فاحتشد السكان في الكنيسة .قال :
" إنهم يحبوني حبّاً جمّاً ،وكان كل منهم سعيداً مثلي " .كان الصغار يحملقون عندما يقال لهم ِإ َنّ
هذا الكاهن كان بهلواناً صغيراً .
وكان الكبار يتذكرون رفيقهم في اللعب والمدرسة .واما الشيوخ فقد رأوه على التلال
المجاورة ي ّمر مرات كثيرة على الطريق حافي القدمين ،وكُتُبًه في يديه .
في ذلك المساء وجدت ماما مرغريتا لحظة من الوقت لتحدّثه حديثاً بينها وبينه :"أمّا وأنت
الآن كاهن ،فأنت أقرب من يسوع .لم أقرأ ما قرأت من الكتب ،ولكن ت َذكّر أن الشروع في إِقامة
القداس هو الشروع في التألم .لن تشعر بذلك لوقتك ،ولكنك سترى شيئاً فشيئاً أَنّ أُ َمّك قالت
لك الحق .ف ّكر من بعد اليوم في خلاص النفوس فحسب ولا تكن في هّمٍ من أمري قط " .

11.4 Page 104

▲back to top


01
كاهن في مرحلة التد ّرب
ماذا يعمل دون بوسكو الآن ؟
إنه َذكيّ ،راغب في العمل ،فقير .
ُعرِض عليه ثلاثة أماكن للعمل .َطلبَته أُسرة نبيلة من جينوى ُمرِبّياً لأولادها .في ذلك
الزمان كان كثير من الأسر الغنّية تُفَ ِضّل على إرسال أولادِها إلى المدارس الرسميّة أن تُنزل في دارها
الخاصة مُ َد ِرّساً يُعهد إليه بتعليمهم وتربيتهم .وكانوا ك َلّ م َرّة على وجه التقريب ،يختارون كاهناً
تظهر فيه ضمانات الرّزانة .وأخبر نبلاء جينوى دون بوسكو أن مرَتّبه سيكون عشرة آلاف ليرة
في العام ،وهو مرتّب ممتاز .
ورجا منه سكان البلدة أن يقبل المكانَ الشاغر الذي خلّفَه المُرشد في موريالدو ،وأ َكّدوا له
أنهم سيدفعون له ضعفَي المعاش المألوف .
وعرض عليه خوري كاستلنوفو الأب تشنزانو ( )Cinzanoأن يصير وكيله ،وهو أيضا
يضمن له دخلاً حسناً .
ياللغرابة ! ح َدّثوا كُلّهم دون بوسكو حديثَ المال كأنّ اعتناقَه الكهنوت " وظيفة حسنة "
ينالها آخر الامر ،وله ان يستثمرها للرّبح المادّي .وماما مرغريتا ،وهي امرأة حرصت دائما على
الفلس لكي تكون موازنتها سليمة ،ذ ّكرته وحدها فقالت له ":إذا صرت كاهناً غنياً فلن أدوسَ
بيتَك بقدميّ " .
وأراد دون بوسكو ان ينهي الأمر ،فذهب إلى الأب كافاسّو في تورينو وسأله :
-ماذا يجب عل َيّ أن أعمل ؟
-لا تقبل شيئاً ،هلم الى هنا ،الى المركز الكهنوتي ،فَتُتِ َمّ تدريبك الكهنوتيّ .
كان الأب كافاسّو ينظر نظراً بعيداً .لقد أدرك أنّه لا يحسن برسالة دون بوسكو الإنسانية
والروحّية أن تكتفي بأسرة أو قرية ،وأما تورينو فهي مدينة على قدره :أحياء جديدة وأزمنة
جديدة ،ومسائل جديدة .وسيترتّب على الأب كافاسّو أمرٌ واحد وهو أن َيظلّ ساهراً عليه ،

11.5 Page 105

▲back to top


يدعوه الى الاعتدال .
الاكتشاف الاول :بؤس الضواحي
المركز الكهنوتي دير قديم قريب من كنيسة مار فرنسيس الأسّيزي .في تلك الدار ُيعِ ُدّ عالِمُ
اللاهوت لويس غولا ( ، )Gualaيعاونه الأب كافاسّو ،خمسة وأربعين كاهناً لكي يصيروا ُرسُلاً
ِلزمانهم وللمجتمع الذي سيجب عليهم أن يعيشوا فيه .
إن الاستعداد يدوم عامين (كان على وجه استثنائي ثلاثة أعوام لدون بوسكو ) .كان
العمل يدور ك َلّ يوم حول محاضرتين ،يُلقي إحداهما في الصباح الأب غوالا ،ويُلقي الأخرى في
المساء الأب كافاسّو ،وكان الكهنة في أثناء النهار ُيرسَلون الى بيئة المدينة ليقوموا بخدمتهم :
المستشفيات ،والسجون ،وأعمال البرّ ،البنايات ذات طبقات كثيرة ،والدور الشعبية ،
وسقائف البيوت ،والوعظ في الكنائس ،والّتعليم الدينّي للأطفال ،وإسعاف المرضى وكبار
السن .
لا تلقى المحاضرات لتعرض نظريّات لاهوتيّة ،بل للبحث في الاختبارات اليومّية التي
يعيشها الكهنة ال ُّشبان بين أهل المدينة .نقول اليوم إنهّم ُيرسلون ليحللوا تحليلاً حيّاً الحالةَ
الاجتماعيّة والدّينيّة ،ليعودوا ويف ِكّروا في عملهم الرعائي الذي يقومون به .أوجز دون بوسكو
ذلك كلّه بخمس كلمات " :كنا نتعلم أن نصير كهنة " .
الأب كافاسّو كاهن قصير القامة نحيل أحدب ،ولكنّه يعمل بنشاط لا حدّ له :التعليم
والوعظ ،والاعترافات ،والسجون .
صار الاب كافاسّو منذ 1311المرشد الروح َيّ لدون بوسكو ،أي إن دون بوسكو يعترف
لديه ويسأله نصائحه قبلَ كُلّ أمر ذي شأن يعزم عليه ،ويظهر له مقاصده ويُلزم نفسه ب ُحكمه .
كان دون بوسكو إلى ذلك الحين لا يعرف سوى فقر الريف .إنه لا يعرف ماهو البؤس في
الاماكن حول المدن .قال له الأب كافاسّو " :اذهب إلى هناك وانظر إلى ما حولك " .
شهد ميشيل روا ( " )Ruaجال منذ أول إأيام الأحد في المدينة لي َطّلع على حالة ال ّشبان
ال ُخلُقية " فأخذه اضطراب عظيم لزمه لزوما .الضواحي بُقَع غَليان وتمرّد ومناطق بؤس .
المراهقون م َشرّدون في الشوارع ،لا عملَ لهم ،فاسدو الاخلاق ،مستعدون لأسوءِا الأفعال .
وأضاف الأب روا " :صادف عدداُ من الاحداث كبيراً من كلّ سِنّ ،تائهين في الشّوارع
والسّاحات ،ولا سيما حول المدينة ،يلعبون ويتضاربون ويكفرون ويفعلون ما هو اسوأ من
ذلك " .
سوق الاذرع الفتيّة

11.6 Page 106

▲back to top


اكتشف بالقرب من السوق المركزي في تورينو "سوق الأذرع الفتيّة ."كتب الأب لموان :
"كان الجانب المجاور لبورتا بالاتسو ( )Porta Palazzoيغصّ بالباعة الج ّوالين لعود الثقاب ،
ومسّاحي الاحذية ومنظّفي المداخن ،وخدَم الإِسطبلات ،ومو ّزعي أوراق الدعاية ،ووكلاء
سماسرة السّوق ،وكّلهم صِبيان مساكين يتعيّشون بما يتيسّر لهم من العمل يوماً بعد يوم .
روى دون بوسكو نفسه في ذكرياته أنّ أول جماعات الصبيان الذين استطاع أن يَتّقرب
اليهم "كانوا حجّارين وبنّائين وجصّاصين ومبّلطي الشوارع ،وآخرين يأتون من بلاد بعيدة " .
وكان أولاد الأسر الفقيرة ،ولا عمل لهم ،يبحثون عن أيّ شغل كان ،بشرط أن يدرّ
عليهم ما يعيشون به .كانوا أول "نتاج" لتجمّع المهاجرين في " المنطقة السوداء " التي أحدقت
بالمدينة منذ ذلك العهد .
كان دون بوسكو يراهم يتسلّقون سقالات البنّائين أو يبحثون عن عمل في متجر ،فيجوبون
الشوارع وهم ُيطلقون نداء منظّفي المداخن .وكان يراهم يُقامرون في زوايا الأزِقّة ،ووجوههم
مقطّبة عليها أمارات العزم على أي عمل كان في سبيل الحصول على مكان حسن في ضوء
الشمس .
واذا حاول أن يتّقرب إليهم ،ابتعدوا بحذر وازدراء .لم يكونوا مثل صبيان البكّي يطلبون
حكايات أو ألعاب الخفة .كانوا " الذئاب" ،والحيوانات الضّارية التي رآها في حلمه ،ولو كان
يرى في أعماق تلك العيون الخوف أكثر من ال ّضراوة .
الثورة الصناعية
هؤلاء الأولاد في أزِقة تورينو هم " نتيجة مش َوّهة" للحدث الذي بدأ يقلب العالم راساً على
عقب ،إنه حَدَث " الثّورة الصناعية " .
في السنة 1260سجّل جيمس واط ( )Jams Wattاختراع "الآلة البُخارية" .كانت هذه
الآلة تستعمل القوّة المنبعثة من الحرارة ،فتحرّك الرافعات وسيور الحركة .إنّ آلة واحدة من آلات
واط (وقوتها مائة حصان ) تنتج قوة تساوي قوة 338رجلاً ،فاذا استُعملت في معمل للغزل
أمكن الحصول على ما ينتجه 288الف رجل .وكان يكفي للعناية بالآت الغزل 228عاملا
مج ّمعين تحت سقف بضعة مستودعات .
أخذت المعامل والعمال (و ُسمّوا أيضاً الكادحين ) تبرز غلى الوجود .كان ال َشّعب في
الماضي يُقسم الى فلاّحين وتجّار وصنّاع .وكانوا يحسبون في عداد الصناع ( وهم العمال الذين
يستعملون آلاتٍ ملكاً لهم في مصنعهم الخاص بهم ) الحاكة الذين يُعالجون القطن والصوف
بأذرعهم .

11.7 Page 107

▲back to top


إن الانتاج ،وقد ضاعفته المعامل ،خفض أسعار الانسجة بغتة ،ووسّع أسواقها كثيراً
ج ّداً .وشوهد في الوقت نفسه ازدياد كبيرجداً في استعمال الحديد (لصنع الآلات والأنوال
والسكك الحديد ) واستخراج الفحم من الأرض ( ولاب َدّ منه لدفع الآلات البخاريّة ومعالجة
الحديد ) .
إِن انشاء السكك الحديد بمقدار كبير ،والسفن البخارية ،وسائر وسائل النّقل ،يعود إلى
ذلك الزمان أيضاً .
وفي تلك ال ّسنوات أيضاً أحرز الطب والرعاية الصحية انتصارات متوالية على الأوبئة الأكثر
فتكاً كالطاعون والجدري ،فنَما عددُ السكّان في أوروبا نموّاً مدهشاً ،فارتفع من 138مليونا في
1388الى 268في . 1328
وتضاعف عدد المعامل (اي الصناعة ) تضاعفاً لا يوقفه شيء ،فأدى الأمر إلى وقوع أزمة
عند الصّنّاع ،فوثب سيل من الناس يطلبون العمل في المدينة بعد ما هجروا الريف ،فطُبعت
المعامل بطابع خاص :انها مراكز يقوم فيها عدد كبير من العمّال بالعمل عينه ،وهم خاضعون
لصاحب العمل .
قامت في انكلترة أيضاً مُدُنُ الفحم ومدُن الحديد ومدن الصناعات النسيجية .تلك
هي الثورة الصناعية :ولدت في انكلترة ،وعبرت بسرعة إلى فرنسا وألمانيا وبلجيكا وأميركا .
يرى كارلو شيبولا ( )Carlo Cipolla(تاريخ الافكار السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،ج ) 2
أَن ذلك التغيير كان واحداً من التغييرَين الأعظمين اللذين حدثا في تاريخ الانسان .
اولهما ضائع في ظلمات الازمنة .كان الناس " مجموعة من عصابات الصيادين لا نظام لها ،
قصار القامة ،شرسين أشرار " فلما حدثت ثورة العصر الحجري الحديث تح َوّلوا إلى زراعي نبات
ومربّي مواشٍ " .بين صياد العصر الحجري القديم ومُزارع العصر الحجري الحديث هوّة ،
والفرق هو الفرق الذي يفصل بين حالة المتوحش والمدنيّة " .إن هذا التب ّدل الجذري الأول في
تاريخ الانسان حدث على َم ِرّ آلاف السنين ،فأتيح للناس الوقت لكي ينسجموا وذلك التب ّدل .
وأما الثورة العظيمة الثانية ،الثورة ال ّصناعية " ،فقد اجتاحت الكرة الأرضية ،وبدّلت
الحياة ،وقلبت أنظمة الجماعات الانسانية القائمة كّلها ،في اثناء سبعة أجيال أو ثمانية " ( أي في
متئة وخمسين او مائتي سنة ) فوجد الفكر البشري نفسه امام مسائل جديدة ضخمة تتطلب حلًاّ
سريعاً يذهل العقول .
التقدم العظيم المعروض على العالم
إن الثّورة الصّناعية فتحت أبواب عالم كلّه جديد ،ومصادر للطاقة جديدة غير معروفة :

11.8 Page 108

▲back to top


الفحم الحجريّ والنفط والديناميت " .ان اكتشاف واط تبعته سلسلة من الاختراعات المماثلة "
مكّنت من استثمار طاقات جديدة للانتاج ،وللخراب أيضاً .
إِن النتائج الصّناعية كانت عظيمة لا يُحصى لها عدد حتى إِنه يسعنا القول :الماضي في
1328لم يمضِ فحسب بل مات .
النوع الانسانيّ ينمو نمواً انفجاريا 228 :مليونا في ، 1228مليار ومائتا مليون في 1328
وملياران ونصف المليار في . 1028
ان الرخاء الذي تنشره الثّورة الصّناعية لم يُدرك َقطّ من قبل " .في بلد من العصر السابق
للصناعة ،يُنفق نصف الدّخل على القوت .جميعُ ال ّدخل ،عندما تقَع المجاعات ،وكانت
كثيرة ،غيرُ كافٍ لمج َرّد البقاء .زال الجوع عن كل بلد صناعيّ ،القوت لا يكلّف سوى ربع
ال َدّخل " .
تبدَّلت تبديلاً تامّاً شديداً العادات والافكار والمعتقدات والتعليم والاسرة .إِن الأجيال
الجديدة تجابه مسائل كبيرة عسيرة .لنذكر تكاثر السكان من غير مراقبة ،والأسلحة التي تزداد فتكاً
وتف ُكّك الدولة التقليديّة وتلويث البيئة وإِهمال كبار السَّنّ .
قال جياكومو مرتينا ( " )Giacomo Martinaأيّاً كانت المسائل القائمة ،فقد استطاع النوع
الانسانيّ بالثّورة الصناعية ،أن يقهر الطبيعة إلى حد بعيد ،وأن يمحو المسافات ويحطم كثيراً من
العقبات المادّيّة التي كانت قد كيّفته طوال آلاف من السنين " .
الثمن الهائل الذي دفعه الانسان
ولكنّ التقَ ُدّم الكبير ،ولا سيما في أول مائة سنة ،كّلف الانسان ثمناً هائلا " .ان قلة
صغيرة جداً من الناس الأثرياء فرضت عبودية حقيقية على جماعة لا تحصى من الكادحين " كما جاء
في الرسالة الباباويّة ( الأشياء الجديدة . )Rerum Novarum
في العصر الجديد للنوع الإِنساني تُحفر جورة مظلمة :المسألة العمالية .في المدن الصناعية
تتألف طبقة جديدة ،طبقة الكادحين ،ولا ثروة لهم سوى أذرعهم وأولادهم .إِنّ الاحوال التي
يعيش فيها الكادحون هي احوال فظيعة .
نستشهد بتحقيق دوليانس ( )Doll’eansوفيللرمي ( : )Villerme’في السنة 1328اخذ
نصف سكان انكلترة يتك َدّسون في المدن .إن "مساكن" العمال هي على العموم سراديب تتجمع
في الواحد منها الأسرة كلها ،ولا هواء فيها ولا نور ،وهي عفنة بسبب من الرطوبة ومجاري

11.9 Page 109

▲back to top


الاقذار .ليس في المعامل من قوانين صحية .
إن الاجرة لا تسدّ رمق الجائع ،ولا تم ّكن أبداً من الحصول على غذاء كافِ ،والطعام المعتاد
هو حساء البصل .إِن تفكك الأسر ،وانتشار إِدمان شرب الكحول ،والبغاء والإجرام ،وتفشّي
أداواء جديدة سببتها بعض الصناعات او الأحوال التي تقام فيها (السل وتصوّن الرئة) امست
احداثا عمّت الجماهير .
لا يعمل في المعامل الرجال والنساء فحسب ،بل هناك ايضاً صغار غدت حياتهم كابوساً .
فان النعاس والتعب يسّببان كثيراً من الحوادث ،لأنهم كانوا وقوفا على اقدامهم طوال ساعات
العمل وي ُحظر عليهم القعود .إن حياة هؤلاء الصغار البؤساء قصيرة جداً .
كتبت مرغريتا لاسكي ( " : )Laskiيج َمّع الأولاد في الأحياء الشعبية من لندن ،ثم
يُساقون إلى محطة السكة الحديد ويك َدّسون في الشاحنات ،ويُرسلون إِلى معامل الغزل في لانكشاير
)Lancashire (للعمل .إِن كثيراً منهم لا يمشون إِلَاّ بكَدّ ،ويستمرّ العمل كلّ يوم اثنتي عشر
ساعة ويزيد .ان عمل النسيج تقوم به الآلة ،ولا حاجة الى رجل لكي يعنى بالآلة ،بل يكفي
لذلك صبي .إِنهم يسقطون من النعاس والّتعب في عزلة المعامل المظلمة .يدوم العمل من الفجر
إِلى الشفق وليس من فراغ لطعام الغداء .إِن الأمراض تفتك بالعمال الصّغار .
في نحو السّنة 1328كان الكادحون الفرنسيّون والبلجيكّيون والألمان في أحوال مماثلة
لأحوال الكادحين الانكليز .إِن أُسرة الكادحين لا تستطيع البقاء إلّا بجهد ،وليس لديها ولا
فرنك لتدفع أُجرة الطبيب وثمن الأدوية والثياب .أظهر إحصاءٌ أنّ 66ولدا من 188ولد ،
يموتون في نانت (فرنسا) قبل سِنّ الخامسة .إنّ ُمع ّدل حياة العامل بين السنة 1338و 1318هو
12الى 10سنة .في هذه السنوات (وقد تق َدّم الكلام على ذلك ) ثار عمّال ليون وهم ينادون :
"نعيش ونحن نعمل ،ونموت ونحن نحارب " ففرّقوهم بنيران المدافع .
مــذبحة الأبرياء في ايطاليا أيضا
وصلت الثورة الصناعية إلى ايطاليا متأخرة لقلّة الرأسمال والموادّ الخام .أُنشئت معامل
النسيج الأولى في لومبارديا – البندقية النمساوية (معمل روسي ROSSIفي سكيو Schioالسنة
، 1312ومعمل مارزوتّو Marzottoفي فالدانيو Valdagnoالسنة . ) 1336ابتدأت ال ّصناعة
الآلية في ميلانو السنة 1316وكان النموّ الاقتصادي بطيئاً عسيراً .
كتب رودولف موراندو ( )Morandoيصف الحياة في المؤسسات النسيجية في لومبارديا :
"في معامل الحرير ،وهي مؤسسات كبيرة يعمل فيها من مائة الى ، 288كانوا يشُغلون أكثرّية من

11.10 Page 110

▲back to top


الصغار .إن الأعمال التي ُيعهَد بها اليهم تتّصف بطابع آليّ شديد حتى إِن هؤلاء الصغار المساكين
يصبحون ُبلهاً أتمّ وجه .إِن العمل يستمر ثلاث عشرة ساعة في الشتاء ،وخمس عشرة أو ست
عشرة ساعة في الصيف .في معامل الحرير التي يسّيرها الماء ،ينقطع العمل أحياناً ،فيُفرض على
الصغارِ العملُ في الليل كلّه .إِن مكان العمل رطب غير صحّي ،والنهوض من النوم مٌب ّكر ،وإن
الوقوف على القدمين على نحو متعب يسبب أحياناً كثيرة تصلّب الغدد ،والتهابات الكساح ،
والاورام الباردة كما شهد بذلك طبيب المنطقة الصناعية .وهكذا مات في لومبارديا 12الف ولد في
رَيعان الصبا " .
وصلت الثورة الصناعية الى تورينو السنة 1311بعواقبها المنتظرة .ان الضريبة على الَحبّ
والحرير قد انخفضت إنخفاضاً ملموساً ،فاضطُرّ أرباب العمل الى تحسين زرعهم لكي يقاوموا
هبوط الأسعار .وفي السنة 1330وافق كارلو البرتو على إنشاء ال ِسّكة الحديد من تورينو إلى
جينوى ،وعاد فحص مشروع القناة بين جينوى ونهر البو ( )Poوفي السنة 1311قدّم
ميداي ( )Medailمشروعه لإنشاء نَفَق سكة حديد فريجوس ( . )Frejusوفي السنة بعدها
ن ّظمت الجمعيّة الزراعية شؤونها وجعل الملك ما له من أرضٍ في بوّلينزو ( )Pollenzoتحت
تص ّرفها لتجربة طرق جديدة للزراعة .
نمت المدينة نمواً سريعاّ .ففي السنين بين 1333و 1313ارتفع عدد السكّان من 112ألفاً
إلى 132الفا :أي زيادة قدرها 12بالمائة .وتقدّم عمل تنظيم المدينة تق ّدماً سريعاً .في هذه
السنين العشر بُنيت 288دار جديدة يزدحم فيها 2آلاف أسرة .وظل معدّل حركة الهجرة
متواصل السير ،وبلغ ذروته في 1328 – 1310وقد ذُكر أّنه بلغ 28الفاً ان لم يكن مائة ألف .
وصلت تورينو أُسَر فقيرة اة أحداث وحدهم من وادي سيزيا ( )Sesiaووديان لانتسو
)Lanzo(ومن مونفرّاتو ( )Monferratoومن لومبارديا ،فرأى دون بوسكو في ورشات البناء
"أطفالاً في سِنّ الثامنة أو العاشرة بعداء من بلدهم ،يعملون عند البنائين فيقضون أيامهم على
سقالات خطرة ،في ال ّشمس والرّيح ،ويرقون سلالم شديدة الإِنحدار ،وهم يحملون الكلس
والآجرّ ولا يلقون من المساعدة سوى زجر خشن وضربات " .
كانت الأسرة العمّاليّة تصعد في المساء إِلى سقائف البيوت ،وهي وحدها المساكن التي بوسع
العمال دفع أجرتها .وكان دون بوسكو يصعد إليها ليراها فيجدها " منخفضة ،ضيّقة كئيبة ،
قذرة .إنها تستعمل للنوم والطبخ ،وتستعمل احياناً معامل لأسَرٍ برمّتها " .
يحســب حســابه
إِن عصابات من الاحداث تائهة ،وخصوصاً يوم الأحد ،في الأزقّة وعلى شاطئ نهر البو .

12 Pages 111-120

▲back to top


12.1 Page 111

▲back to top


إنهم ينظرون إلى الناس " المعطّرين المبتهجين " وهم ي ّمرون غير مبالين ببؤسهم .
حسب دون بوسكو حسابه بسرعة .إِن هؤلاء الصبيان يحتاجون إِلى مدرسة ،وعمل يهيئ
لهم مستقبلا أكثر ضماناً ،وانهم يحتاجون الى ما يمكّنهم من أن يكونوا أحداثاً ،أي الى ما يلبّي
شهوتهم للركض والقفز في فسحات خضراء ،من غير أن يظلّوا على الأرصفة ،وإنهم يحتاجون إلى
لقاء الله ليكتشفوا كرامتهم ويُظهروها .
لم يكن أول من استنتج مثل هذه الاستنتاجات ،ولم يكن وحده في ذلك .إِن ضرورة
مساعدة الجماهير الشعبية أمر شعر به في ذلك الزمان حتى كارلو البرتو .
فالملك في همّ على الخصوص "من الثورة الاخرى" التي في الجو ،الثورة السياسية التي
انفجرت في 1313 – 1312والتي قيل لها في ايطاليا "النهضة " .إِنه منقسم بين أفكار أنصار
الحكم المُطلق (وقد اقسم كارلو فيليتشي بأن يدافع عنه حتى الموت ) وبين افكار الأحرار الذين
يضغطون ضغطاً متضاعفاً ،لينالوا دستوراً ووحدة ايطاليا .راقب بعينه النمسا (وكانت عدوّةً
لكلّ ترضية للأحرار ) وانتقل بحذر من مواقف أنصار الحكم المطلق إلى تيارات الاحرار الاكثر
اعتدالا ،فاتصل بمسّيمو دازيلو ( )Massimo d’Azeglioوقيصر بالبو ()Cesare Balbo
وجياكومو دوراندو ( . )Giacomo Durandoآلت به هذه المسيرة الطويلة إِلى ان يكون رائد
النهضة الاولى .ولكن الملك كان أيضاً في همّ من الأحوال الاجتماعية لمملكته .كان يساند كلّ
مبادرة إِلى الإِحساس وتعليم الشعب .
كان الكهنة ورجال ال ّسياسة منقسمين هم ايضاً في ذلك الزمان ،بحسب ميولهم الموافقة او
المخالفة لأفكار الحرّيّة ،ولكنهم يجتمعون في صف واحد في ساحة المعركة ،لمكافحة بؤس الناس
المادّي وال ُخلُقيّ .
شهدت تورينو في تلك السنوات قيام سلسلة متنوعة من المدارس الشعبية من أجل العمال .
ففي العام الدراسي 1311 – 1318بلغ عدد مدارس الذكور المساعدة ،عشرة ،فيها 022
تلميذا وكان للإناث تِسعُ مدارس فيها 210تلميذة .وفي السنة 1312فُتحت مدرستان للآليات
والكيمياء التطبيقية لتعليم العمال ،وفي السنة ، 1316كما كتب كارلو اغناطيوس جيولو
)Giulio("تقدم 288عامل لثماني مدارس ليلية عائدة لاخوة المدارس المسيحية " .
وأمّا دون بوسكو فقد ركّز نفسه على مسألة الأحداث ،وتنبّه الأب كافا ّسو لذلك وعزم على
دفعه إِلى ابعد ما أمكن .
01
"اسمي برتلماوس غارلي"

12.2 Page 112

▲back to top


سّمى أهل تورينو الأب كافاسّو "كاهن المشنقة" إنه ينزل إلى السجون ليعزّي السجناء ،
واذا ُحكم على واحد منهم بالموت ،تسلّق العجلة وإيّاه ،وأخذ يشجّعه الى أن يَ ِصلا إلى مكان
العقوبة بالموت .
كان في ذلك الزمان أربعة سجون في تورينو .إنها في البروج القريبو من بروتا بالاتسو
)Porta Palazzo(وفي شارع القديس عبد الاحد ،وبالقرب من كنيسة القديسين الشهداء ،وفي
سراديب مجلس الشيوخ .
ذات يوم هَمّ الأب كافاسّو بالذهاب لاحدى زيارته المعتادة ،فدعا دون بوسكو الى
مرافقته .إِنّ الأروقة المظلمة ،والجدران المعتمة ال َرّطبة ،ووجوه السجناء الحزينة الشاحبة
أزعجته إِزعاجاً شديداً .شعر بالغَثَيان وأحسّ بأنه يكاد يختنق .
ولك َنّ الامر الذي أحزنه أكثر من سائر الامور هو منظر الأحداث وراء قضبان الحديد .
كتب :"رأيتُ عدداً كبيراً من الصبيان في سِنّ الثانية عشرة إلى الثامنة عشرة كلّهم صحتهم
جيدة ،وأقوياء ويبدون أذكياء .رأيتهم هناك لا عمل لهم يأكلهم القمل ،محرومين الخبز الروحيّ
والمادّي فراعني منظرهم " .
عاد إِلى السجن عدّة مرات مع الأب كافاسّو وأحياناً وحده وحاول أن يتحدّث اليهم لا بإلِقاء
التعليم الدينّي ،والح ّراس يراقبونه ،بل بكلام الصداقة .كان ر ُدّهم عليه في أول الامر م ّراً ،
فاض ُطرّ الى تحمّل شتائم فظّة ،ولكن هذا او ذاك منهم خفّ حذرُه رويداّ رويداّ ،وصار الحوار اكثر
صداقة .
وهكذا استطاع أن يعرف حكايتهم المحزنة :تَدَهوُرهم والغيظ الذي جعلهم يصيرون شيئاً
فشيئاً كالوحوش الضارية .كان " ذَنبُهم في أكثر الأحيان السرقة ،وسببه الجوع أو اشتهاء شيء
يزيد على القوت غير الكافي ،وأيضا الحقد على الأغنياء الذين كانوا يستغلّون عملهم ويتركونهم في
البؤس .
لم يصنع المجتمع إليهم شيئاً ،وكان ُيغلق عليهم هناك .
كان قوتهم الخبز الأسود والماء ،وكان يجب عليهم أن يطيعوا قسراً السّجّانين وهم أنفسهم

12.3 Page 113

▲back to top


يخافونهم فيضربونهم لأقلّ الأسباب شأناً .وكانوا يُحَبسون في زنزانات جماعية يُصبح فيها أسوأهم
الأسياد المطلقين .
كتب دون بوسكو " :ما أثّر فيّ الخصوص هو ان كثيراً منهم كانوا ،لدى خروجهم
عازمين على تبديل حياتهم لتصير حسنة " (ولو لخوفهم من السجن) "ولكن بعد وقت قليل ،كان
ينتهي بهم الأمر الى السجن مرّةً أُخرى " .فحاول أن يكتشف السّبب فاستنتج " :إنهم متروكون
وشأنهم " ليس لهم والدون أو إن والديهم ينبذونهم ،لأن السجن " ألحق بهم العار للأبد " .
"قلت في نفسي :إ ّن هؤلاء الصبيان يحتاجون إلى صديق لهم في خارج بيوتهم ،يُعنى بهم
وُيسعفهم وُيعلمهم ويقودهم إلى الكنيسة ايام العيد ،فلا يعودون عندئذ الى السجن ."
فنجح يوماً بعد يوم في أن يتّخذ له منهم بعض الأصدقاء .إِنّهم يُصغون أحسن من ذي قبل
إلى " دروسه للتعليم الدينّي من وراء قضبان الحديد ."كتب " :كّلما أفهمتهم كرامةَ الانسان
شعروا بالفرح في قلوبهم ،وعزموا على أن يح ّسنوا سيرتهم ."
ولكن كثيراً ما ُخرّب كلّ شيء عندما يعود اليهم ،فوجوههم مته ّجمة ،وأصواتهم المته ّكمة
تُتمتم أقوال الكفر .ولم ينجح دون بوسكو ك َلّ مرّة في الإصلاح الامور ،وذات يوم أخذ يبكي .
كانت تلك لحظة من الحيرة فسأل بعضُهم :
-لماذا يبكي هذا الكاهن ؟
-لانه يُحبّنا .لو رأتني أُمّي هنا لبكت هي أيضاً .
خوارنة الرعايــا ينتظــرون
خرج دون بوسكو ذات يوم من السجن فعزم عزماً لا يُزعزع " :يجب علينا مهما كّلف
الامر ،ان نَحول بين أولاد صغار في هذه السَّنّ وبين ما يُفضي بهم إلى السجن .أريد أن أكون
منقذ هذه الشبيبة ."كتب :"أَطلعتُ الأب كافاسّو على نيتّي هذه وبحثت عن وسيلة لأحقّقها
بالعمل ،كما نصحني ."
كان كهنة آخرون في تورينو يبحثون عن َحلّ لمشاكل الأحداث ويتبعون اتجاهات مختلفة .
كان في تورينو ست عشرة رعية :اربع عشرة في المدينة واثنتان في الضواحي .كان الخوارنة
م ّطلعين على مشكلة الأحداث ولكنهم كانوا يلبثون ينتظرونهم في المواهف والكنائس من اجل درس
التعليم الدينّي في المساء ،ويوم الأحد ،وأيام الصوم الكبير .إنهم يأسفون على "ذلك الوقت
السعيد" الذي فيه كان المهاجرون الصغار يَصلون ،وهم يحملون رسالة توصية من خوري الريف
الى خوري المدينة .إنهم لا يفطنون أن قواعد السلوك هذه قد زالت بدافع من نموّ المدن ،وأن
"ذلك الوقت السعيد " لن يعود .

12.4 Page 114

▲back to top


فيجب اكتشاف خطط جديدة ،والسلوك في طرق جديدة ،ويحسن بالكهنة المساعدين
المنصرفين الى الاهتمام بالدفنات والعمادات أن يجرّبوا رسالة متنقلة بين الحوانيت والمعامل
والاسواق .
عولجت في ميلانو حيث الثورة الصناعية قائمة منذ سنوات ،مسألة الأحداث المشرّدين ،
فأمكن المرء أن يشاهد من بعد ذلك اليوم شبكةً من المؤسسات الملائمة لحاجات ا لعصر :هي
المصلّيات .في السنة 1328ن ّظم التقويم السنوي للأبرشية جدولا لخمسة عشر مصلّى ،تعود
خبرة بعضها غلى عشرات السنين .شرع الأب لودفيكو بافوني ( )Ludovico Pavoniفي مصلّاه
في بريشيا ( )Bresciaمنذ 1380لخدمة الصبيان "الفقراء الأمّيين السّيء السمعة " .
واما في تورينو فان المسألة ما زالت بلا حًلّ .إِن خوارنة الرّعايا متردّدون .في السنة 1316
ذهب كهنة تورينو إلى ميلانو ليزوروا مشروعات الشبيبة ،فكانت نتيجة حوارهم :"إن خوارنة
الرعايا في مدينة تورينو ،وهم مجتمعون من أجل مؤتمرهم ،بحثوا في ملاءمة المصلّيات لحاجات
الوقت فَقُ ِد ّرت المخاوف والآمال ح َقّ قدرها ،ولما كان كل خوري رعيّة غير قادر على تحمّل عبء
مصلّى في رعيته ،فقد شُ َجّع الكاهن يوحنا بوسكو على السير في مصلاّه الى أن يُتّخذ قرار آخر ."
بينما خوارنة الرعايا يتردّدون ،الكهنة الشّبان يعملون .
تجــــرية الاب كـــوكّي
كان أ ّولهم الأب كوكّي ( ، )Cocchiوهو كاهن جاء من دروينت ( )Druentوهي بلدة في
الريف .رُسم كاهناً في السنة 1336إِذ كان يوحنا بوسكو يُنهي سنته الاولى لدرس الفلسفة في
معهد الكهنوت .
انشأ السنة 1311في موسكينو ( ، )Moschinoوهي َمحَلّة شديدة الفقر ،سيّئة السمعة من
قرية فانكيليا ( ، )Vanchigliaأول مصلّى في تورينو (و كان قد حاول ذلك في السنة ) 1318
وجعله في حماية الملاك الحارس .كان المصلّى في أرض رعية البشارة من جهة نهر البو .
الأب كوكّي كاهن لطيف ،رقيق الاحساس ،له افكار برّاقة وحدسُ المنشئين أصحاب
المبادرات ،ولكن ليس له دائما الثبات ولا استدراك مُحَقّقي الأعمال .وأفكاره تابعة للأحرار ،
وقد اتخذ موقفاً معارضاً للخطّة السياسية العائدة الى رئيس الأساقفة والبابا :وهذا ما جعله من
الذين ُيشتبه في أمرهم ،وإن كانت محبته النشيطة تهزّ جمود كثير من إخوانه في الكهنوت .
كان في السنة 1328 – 1310من الذين ب َعثوا الحياة في "جمعية المحبة لخير الاحداث الفقراء

12.5 Page 115

▲back to top


المهملين " وساهم بعد مدة في "معهد الصناعيين الأحداث" ومصلّى القديس مارتينو ،والمدرسة
الزراعية في مونكوكّو ( )Moncuccoوهي أيضاً لخير أحداث الطبقات المحرومة .
وفي الوقت الذي قام الأب كوكّي بنشاطه ،ألقى كهنة آخرون بأنفسهم في العمل الرسولّي
بين الأحداث .إِنهم كهنة "مح ّررون" من عبء الالتزامات الرعائية فواظب كثير منهم أولا يزالون
يواظبون على الذهاب الى المركز الكهنوتّي ويتعاشرون معاشرة أخوية بسبب تجاربهم الحيّة التي
يحاولون القيام بها معاً .
ذكر دون بوسكو " أن الأب كافاسّو نفسه كان منذ سنين كثيرة ُيلقي ك َلّ يوم أحَد من الصيف
درساً في التعليم الديني إلى الاحداث ُأجراء البنّائين ،في غرفة تابعة لموهف كنيسة مار فرنسيس
الأسّيزي ،غير أَنّ عبء أشغاله جعله ،ويا لسوء الحظ ،يكفّ عن عمل أمسى عزيزاً عليه " .
ودون بوسكو نفسه ،كما قلنا،ماإن دخل المركز حتى انضمّ إلى صفوف هؤلاء الكهنة .
لقد لقي الارتياب والعداء ،والكنهة لقي أيضاً صبياناً ظّلوا متعلقين به " .صادفتُ عصابة من
الأحداث ،تبعوني في الازفة والساحات لا بل في موهف كنيسة المركز " .
فأراد الأب كافاسّو أن يسلّم إليه مواصلة درس التعليم الديني الذي ُيلقيه إِلى البنّائين
الصّغار ،ولكنّ يوحنا بوسكو ،بعد تجربته التي هزّت نفسه هزة عنيفة في السجون ،فكرّ في شيء
آخر أكثر متانة .
أراد أن يحقّق ،كما قال للأب كافاسّو ،مركزاً يجد فيه الصبيان الذين تركتهم أُسرتهم
صديقاً ،ويعرف الذين يخرجون من السجن أنه سيكون لهم فيه عون وسنَد ،مركزاً غير مرتبط
برعيّة ،بل بشخصه ،ويعمل لا يوم الأحد فحسب للتعليم الديني ،بل يمتّد عمله طوال
الاسبوع ،بالصداقة والإِسعاف واللقاءات في مكان العمل .
تلاوة صلاة السلام عليك في أوّل الامر
بدأ العمل بذلك المشروع على وجه فيه شيء من البساطة ،في صباح الثامن من كانون
الأول (دسمبر) 1311(وقد تحلّى منذ ذلك الوقت بالطرافة التي اتّصف بها مصلّى دون
بوسكو) ،وفي السنة عينها انشا الأب كوكّي أوّلَ مصلّى في تورينو ،وحدث ذلك بعد وصول دون
بوسكو الى المركز بخمسة وثلاثين يوماً .
وروى هو بنفسه ذلك المشهد الذي له من اللباقة والبساطة ما للأثر الأدبي الرفيع :
"في يوم عيد العذراء البريئة من الدنس ،كنتُ ألبس الثياب الطقسية لأقيم القداس ،
فرأى الشماس المعهود اليه بالخدمة في الموهف ،واسمه يوسف كوموتّي ( ، )Comottiفتى في
زاوية ،فدعاه إلى أن يأتي فيخدم القداس فأجاب خَ ِجلاً :

12.6 Page 116

▲back to top


-لا أعرف
-هلُ َمّ .أُريد أن تخدم القداس .
-لا أعرف .ما خدمته قطّ .
-ياللحيوان الكبير ! إِذا كنت لا تعرف خدمة الق ّداس ،فماذا تجيء إلى الموهف ؟
قال ذلك غاضباً وأمسك بمنفضة للريش وضرب به ظَهرَ الفتى المسكين ورأسه ،وبينما كان
الولدُ ُيطلق ساقيه للريح رفعتُ صوتي معترضاً :
-ماذا تفعل ؟ لماذا تضربه ؟
-لأنه جاء إلى الموهف من غير أن يعرف خدمة القداس .
-لقد أسأتَ في عملك .
-ما شأنك وإيّاه ؟
-إّنه واحد من أصدقائي .إِذهَب فَأتِ به للوقت :أنا أحتاج غلى أن ُأكَلمَّه ."
عاد الصبي مطأطئ الرأس :شعره مقصوص وسترته مبّقعة بالكلس .إِنه مهاجر صغير
والراجح أنّ ذويه قالول له :عندما تصل إلى تورينو ،اذهب الى الق ّداس .جاء ولكنه لم يجرؤ على
دخول الكنيسة بين المؤمنين اللاّبسين الثّياب الحسنة ،فحاول أن يدخل من الموهِف ،كما جرت
عادة الناس في كثير من قرى الريف .
" سألتُه بلطف :
-هل حضرت القداس ؟
-كلاّ .
-تعالَ احضره .وسأكّلمك بعده على مسألة َتسرُّك .
وعدني بذلك ،وأقمتُ القداس وفرغت من الشكر ،فذهبت به الى فسحة صغيرة ،
وسألته وأَنا أبتسم :
-ما اسمك يا صديقي العزيز ؟
-برتلماوس غارلّي ( . )Garelli
-من أ ِيّ بلـــدٍ أنت ؟
-من أستي ( . )Asti
-مــا صنعتك ؟
-بّنـــاء .
-أأبوك حـــيّ ؟
-كلاّ ،لقد مـــات .

12.7 Page 117

▲back to top


-وأُ ّمــــك ؟
-لقد مـــاَتت أيضـــاً .
-كم لك من العمـــر ؟
-ستّ عشرة سنــة .
-أتعرف القـــراءة والكتابة ؟
-كـــلاّ .
-أَتعـــرف أن تغّنــــي ؟
مسح الصبي عينيه ونظر إليّ مدهوشاً وأجاب :
-كــــلاّ .
-أَتعـــرف أن تصــــفّر ؟
أَخذ برتلماوس يضحك .وذلك ما كنت أُريد .لقد بدأنا نصير صديقين .
-هــل تناولتَ القربان المقدس المناولة الاولى ؟
-كــــلاّ .
-هــل اعترفـــتَ ؟
-نعــم ،لمــا كنتُ صغيـــراً .
-أتذهب الى درس التعيم الدّينيّ ؟
-لا اجرؤ عليه ،لأنّ الصبيان الأصغر مني يسخرون بي .
-إذا عّلمُتك التعليم الديني وح َدك ،أفتجيء إليه ؟
-بكــلّ ارتيـــاح .
-في هذا المكان بعينه ؟
-بشرط ألاّ أُضــــرَب .
-كـــن ناعم البــال .أنت صديقي الآن ولن يضربك أحد .متى تريد أن نبتدىء ؟
-عنـــدما تريد .
-في الحـــال ؟
-بكـــلّ ســرور ."
جثا دون بوسكو على ركبتيه وتلا صلاة " السلام عليك يا مريم " .قال لابنائه الآباء
السالسّيين بعد خمس وأربعين سنة " :جميع البركات التي نزلت علينا من السماء هي ثمرة تلك
الصلاة الأولى ،السلام عليك يامريم ،التي تلوتها تلاوة حارة وبنَيّة مستقيمة " .

12.8 Page 118

▲back to top


تلا دون بوسكو تلك الصلاة ثم رسم إشارة ال ّصليب قبل أن يبتدئ ،ولكنّه رأى أن
برتلماوس لا يرسمها أو قام بحركة تشبه إشارة الصليب شبهاً بعيداً فعّلمه بلطف كيف يفعل
ذلك ،وفسّر له بلهجة بلد أَستي ،(وكلاهما منه) لماذا ُيسمّى الله "أباً" .وقال له آخر الأمر :
-أودّ أن تأتي في الاسبوع القابل ،يا برتلماوس .
-ِبكلّ سرور .
-ولكن لا تأتِ وحدك .إِئت بأصدقائك معك .
كان برتلماوس غارلّي البنّاء الصغير ال َسّنّ من استي ،أولَ سفير لدون بوسكو إِلى العمّال
الأحداث في حيّه ،فروى لهم لقاءه وهذا الكاهن اللطيف "الذي كان يعرف أَن يصّفر هو أَيضاً"
وبّلغهم دعوته .
"في الحال " :كلمة تستعمل سِمَة
في الحوار الذي بينه وبين برتلماوس غارلّي وردت كلمة "في الحال" .تبدو هذه الكلمة
كسائر الكلمات ،ولكنها حبّة ،إذا زرعتها ،أعطتك نبتة .
في ذلك الزمان ) 1311("في الحال" شعار جماعة من الكهنة برمتها في تورينو .كان
الناس متردّدين في الثورة الصناعية الاولى ،يتعذر عليهم العثور على ُمخ َطّطات ُمعَ َدّة إعداداً تامّاً
وبرامج للعمل ،فقذف هؤلاء الكهنة بكل نشاطهم ليعملوا "في الحال" شيئاً في سبيل الاحداث
الفقراء والبؤساء .
ولكن هذه الكلمة "في الحال" ظلّت ،على وجه خاصّ ،ِسمَة دون بوسكو ،ثم سِمَة
أَبنائه السالسيّين الذين اختصّوا بعده بأنهم صاروا رجال "التد ّخل السريع" بين الفقراء .
سنعود في الصفحات اللاحقة الى الكلام على دون بوسكو والمسالة الاجتماعية ،ولكن نَودّ
أَن نقول منذ الآن ،كيف أ َنّ الضرورة وتعذّر الانتظار دفعاه الى العمل .
يجب أن يع َمل شيء ما "في الحال" لأ َنّ ال َصّبيان الفقراء لا يستطيعون انتظار
الإِصلاحات ،والخَطط المن َظّمة وتبديلات النظام .أجل ان كلمة "في الحال" غير كافية " .اذا
صادفت امرأً يموت جوعا ،َفلا تعطه سمكة بل عّلمه الصيد " .ذاك صواب .ولكن عكس هذه
العبارة صواب أيضاً :"إذا صادفتَ امرأً يموت جوعا فأعطه سمكة لتسنّى له أن يتعلّم الصيد" .
كلمة "في الحال" غير كافية ومثلها التدخل الحالّي ،ولكن ماذا ينفع إعداد مستقبل يختلف عن
الحاضر ،اذا مات الفقراء جوعا في اثناء ذلك ؟
اتّجه دون بوسكو وابناؤه السالسيّون نحو شعار "في الحال" ،نحو التدخل السريع ،

12.9 Page 119

▲back to top


فأعطوا الأحداث الّتعليمَ الديّني والخبزَ والتدريبَ ال ِحرَفي والصنعة يحميها عقد حسن ،وانتظروا أن
ُيعِ َدّ الخططَ كاثوليك آخرون ،يزاحمهم الاشتراكيون والشيوعيون والفوضويون ،ليهجموا فيب ّدلوا
الدولة الحّرة التي "تتجاهل" ِبرئاء منُازعات العمل ،اي انها تترك الأقوياء يُهِيمنون والضعفاءَ
ُيسحقون .
01
مصلّى الصبيان البنّائين

12.10 Page 120

▲back to top


في منبر كنيسة مار فرنسيس الأسيزي كاهن شابّ يعظ من صميم قلبه .بالقرب من المذبح
الجانبي أُناسٌ من الصبيان البنّائين جلوس على درجات حاجز الخورس ،وقد غلبهم النعاس ،
فاستند الواحد غلى كتف الآخر .
اجتاز دون بوسكو الكنيسة ولمس كتف أولهم فاستيقظوا كّلهم مرتبكين ،فتبسّم وسألهم
بصوت خافت :
-لماذا تنامون ؟
فقال كبيرهم بصوت أجش :لا نفهم شيئاً .
وأضافَ جارهُ :مهما يكن من أمر فإن هذا الكاهن لا يتكلم من أجلنا على الاطلاق .
-هلمّوا معي !
فسار بهم وهو يمشي على رؤوس أصابع قدميه إلى الموهف .روى دون بوسكو ،وهو
متأثر ،لأبنائه لسالسيين الأولين :"كان هؤلاء كارلو بوتسيتّي ( )Buzzettiويوحنا غاريبولدي
)Gariboldi(وجرمانو ( ." )Germanoكانوا بنّائين صغار السّن من لومبارديا ،وقد ظلّوا
بجانبه ما بين ثلاثين وأربعين سنة وعرفهم جميعُ الناس في فالدوكّو " ،كانوا عند ذلك صبياناً
بسطاء ،فأصبحوا اليوم معلّمي صنعة " (ذكريات المصلّى ،ص . ) 120
وصل إلى الموهف برتلماوس ايضًا وأصدقاؤه وازداد عددهم ،فساعدهم دون بوسكو على
الصلاة ،وألقى إليهم إرشاداً ملائماً حيّاً ،على نحو حوار تتخللّه احداث وأخبار مدهشة ،ثم
جلسوا الى مقاعد الكنيسة ليحضروا ق ّداس دون بوسكو .
ولكن وقت الصباح حتى الظهر طويل ،والصبيان ،بعد القداس والرغيف الصغير
للافطار ،يرغبون في اللعب ،فأخذوا يركضون في ساحة المركز ،وبهم شيء من القلق ،فعندما
يمرّ بعض الكهنة يتوقف ك ُلّ شيء .
بيدَ أن الأب غوالا والأب كافاسّو متف ّهمان ،فأذِنا لصبيان دون بوسكو إذناً رسميّاً باللعب
كلّ يوم احد ،في الساحة الصغيرة التابعة للمركز .لم يُلغَ ذلك الإذنَ َقطّ مدة ثلاث سنوات ،مع
ان الصبيان الذين كانوا خمسة عشر لما مًنح الاذن ،صاروا ثلاثة وعشرين بعــد ثلاثة أشهر ،
وثمانين في الصيف الذي بعده ،وقبول ذلك معناه التخلّي من الهدوء جميع أّيام الأحد ،والحرمان

13 Pages 121-130

▲back to top


13.1 Page 121

▲back to top


من قيلولة بعد الظهر .فثمانون صبي تحت النوافذ أشبه بحفلة غناء اول مرة ،ولكنهم في المرة
العاشرة يف ّجرون أعصاب أي امرئ كان .
صور صغيرة ولكن أرغفة صغيرة ايضاً
أدرك دون بوسكو انه لا ينبغي التمادي في الأمر ،فكان ،عندما تتيح الأحوال الجوية
الفرصة السانحة ،يذهب بالصبيان الى التنزّه بعد الظهر ،على تلة بالقرب من السواقي ،والى
معابد السيدة العذراء .
كان ينوي في هذا الشتاء الاول ،ألاّ يقبل إلا الأحداث "الأكثر عرضة للخطر ،ولا سّيما
الذين خرجوا من السجن " ،ولكن دون بوسكو لم يقوَ طوال حياته على صرف صبّي طلب البقاء
معه ،ففي وقت قليل تألفت فرقته ومعظمها من "الحجّارين والبنّائين وعمّال الجص والمبلّطين أتوا
من نواحٍ بعيدة " ،ولم يستطيعوا ،لمختلف الأسباب ،العودة الى بيوتهم في فصل البطالة (كانون
الأول "دسمبر" – آذار "مارس " ) .
كان الأب غوالا والأب كافاسّو يحثّان كهنتهما الشبان على القيام بتجارب شبيهة بتجربة دون
بوسكو ن فاخذ الأب كاربانو ( )Carpanoوالأب بونتي ( ، )Ponteوهما أصغر سنّاً منه بستّ
سنوات ،يجمعان منظّفي المداخن الأحداث ،من وادي أستي ،وتَطّوع الأبوان غوالا وكافاسّو
لاستماع اعترافات الصبيان ،وكانا يأتيان فيح ّدثانهم ويساعدانهم .
كتب دون بوسكو وهو مرتبك قليلاً " :كان الناس يعطونني بسخاء صوراً ونشرات وكتباً
صغيرة وأيقونات وصلباناً صغيرة " ،ولكن لهؤلاء البنائين الصغار وهؤلاء الذين خرجوا من
السجن حاجات أمَسّ من حاجاتهم إلى الوراق والأيقونات .فنبّه أذهان الناس " فزوّدوني بوسائل
لإِلباس الذين يحتاجون الى ذلك ،وبغذاء لإِطعام الآخرين ،مدة عدة اسابيع ،وعلى الاقل الى
ان يستطيعوا ان يكسبوا بأنفسهم خبزهم بعملهم " .
صار شغل دون بوسكو الشاغل طوال الاسبوع البحث عن عمل للذي لا عمل له ،
والحصول على شروط أصلح للذي وجد عملا " .كنت أزورهم في أماكن عملهم في المعامل
والورشات .كان الصبيان يشعرون بفرح عظيم عندما يرون صديقهم يهتمّ بهم ،وكان ذلك يس ّر
أيضاً أرباب عملهم ،فيرتاحون الى أن يولوا حمايتهم أحداثاً يَلقون إسعافا طوال الأسبوع وأيام
الأعياد " .
كان الذين يخرجون من السجون يسبّبون المشكلة الأعسر حلاّ .كان يحاول " ان يجدَ لهم

13.2 Page 122

▲back to top


فرداً فرداً عملا عند معلّم حسن السمعة ،وكان يذهب اليهم ليراهم في اثناء الاسبوع ."وكانت
النتائج حسنة " :كانوا يتعودون ان يعيشوا عيشة سوّية وينسون الماضي ويصبحون مسيحيين
صالحين ومواطنين شرفاء " (ذكريات المصلّى ،ص . ) 122
كان دون بوسكو يعود كل سبت الى السجون ليواصل اشدّ رسالته عسراً " .كنتُ أذهب إلى
السجّون ومعي أكياس مليئة بالتبغ أو الفاكهة أو الأرغفة الصغيرة ،وغايتي دائماّ ابداً ،أن أخدم
الأحداث الذين انتهى بهم الأمر الى ذلك المكان ،لسوء الطالع ،فأجعلهم أصدقائي وأرغّبهم في
المجيء الى المصلّى عندما يخرجون من السجن " .
اثنا عشر قياساً موسيقياً
2شباط (فبراير) . 1312كان عيد إطّهار مريم ،وكان عيداً إلزاميّاً .علّم دون بوسكو
صبيانه الخمسة والعشرين الغناء .كَتب " :إنّ لقاءاتنا أيام الأحد والأعياد ،لولا الموسيقى ،
لظّلت جسداً بلا روح " .كانوا يُغَنّون بأعلى أصواتهم في دروب التّلال ،ولكنّهم تعلّموا أيضاً أن
ُيرّتلوا ترتيلاً لطيفاً مديحاً بسيطاً للسيدة :"امدحوا مريم " .
في عيد الا ّطهار ذاك ،نظر المؤمنون في أثناء الق ّداس بدهشة غلى هؤلاء الخمسة والعشرين
من الغرباء الأطوار يُحسنون التراتيل فيكسبون عطفهم .
إن هذا المديح لمريم ،الوجيز جداً (اثنا عشر قياساً موسيقيًا بسيطاً ) سيطير من مصلّى الى
مصلّى ،ومن مدرسة سالسيّة إلى مدرسة سالسيّة ،ولا يزال يمكن سماعه في يومنا ( )1031يرّتلُه
صبيان من شمال الهند .وقد سمعته أنا بنفسي في وسط مدن الأكواخ في ضاحية برازيليا البائسة .
إنّه أمر يدعو إلى الابتسام أن يفكّر المرء بأن النجاح البسيط جداً الذي أصابه دون بوسكو ،
يكاد أن يكون معاصراً (ولا فرق بين الحدَثين سوى ثلاثة وثلاثين يوماً ) لحدَث موسيقي أشهر
كثيراً :ففي 0آذار (مارس) أقام الموسيقار الشاب يوسف فيردي ( )Verdiفي سكالا مدينة ميلانو
حفلة تمثيل نابوكّو ( )Nabuccoالذي فيه النشيد فا بنسيورو ( )Va’pensieroالذي غزا بعدئذ
أوروبا بشهرته .
الصبي الصغير من كارونّو
ها هو ذا الربيع .إنّ البنّائين الأحداث الذين ذهبوا إلى بيوتهم في أثناء فصل الفراغ من
العمل ،يعودون مرّة أخرى إلى تورينو .إن فرقة دون بوسكو تنمو من يوم أحد إلى يوم أحد آخر .
فمن كارونّو غيرينغلّو ( ( )Caronno Ghiringhelloفي أيامنا كارونّو فاريزينو ، )Varesino
وهي ناحية من ولاية ميلانو ،وصل أيضاً يوسف بوتسيتّي الشقيق الصغير لكارلو .إنّه في سِ ّن

13.3 Page 123

▲back to top


العاشرة فتعلّق بدون بوسكو تعلّقاً شديداً ولن ينفصل عنه أبداً .
فمن ربيع 1312الى فجر الواحد والثلاثين من كانون الثاني (يناير) 1333وهو تاريخ وفاة
دون بوسكو ،كان يوسف بوتسيتّي بجانبه شاهداًهادئاً للتاريخ البشري والإلهّي العائد إلى هذا
الكاهن .إن كثيراً من أحداث سيرة دون بوسكو ،لو لم يشاهدها البّناء الصغير من كارونّو ،بعينه
البسيطتين ،وكان دائماً على خطوتين من الأب بوسكو ،لكانت صَُنّفت بين الخرافات في عصرنا ،
عصر الشك وإزالة الاساطير .
" إذا لم يبقَ عندي سوى لقمة خبز " . . .
إنّ ما يجعل الصبيانَ يتعلّقون بدون بوسكو هو لــطفه الودّي الصادق .شعروا بذلك
اللطف ،وشاهدوه في أعمال حسّيّة ،وحركات مُؤثّرة ،فدون بوسكو مستعدّ لتلبيتهم في كل لحظة
من النهار .
إذا احتاجوا غلى تعّلم القراءة أو احتاجوا الى ان يقوموا بعملّيات الحساب الاربع ،وجد دون
بوسكو الساعات أو الأشخاص لتلقى اليهم الدروس .
إذا كان ر َبّ َعملِهم سّيئ المعاملة ،أو اذا كانوا بطّالين ،اهتم بهم ،وجّند أصدقاءه لكي
يَجدوا لهم عملا أو ر َبّ عمل صالحاً مسيحياً .
حتى اذا احتاجوا الى المال ،فإنّهم يعلمون ان دون بوسكو مستعِ ٌدّ لإِفراغ محفظته في
أيديهم .
اذا كان يومهم كئيباً ،متعباً قالوا له " :تعال غلى مشاهدتنا " فذهب اليهم ،ودخل المعامل
والورشات .فمشاهدته والتحدّث اليه لحظات من الفرح عندهم .
وإن جملةً التي سمعه كثير منهم يقولها ،والتي حفظوها في ذكرتهم حفظهم لكنز ،
هي " :اني أحّبك حباً عظيماً حتى إني ،اذا لم يبقَ عندي في يوم من الايام ،سوى لقمة خبز ،
لقسمتها بيني وبينك " .
واذا حدث ما َيضطرّه الى توبيخ واحد منهم ،فانه لا يتر ّدد ،ولكن لا يفعل ذلك أبداً بمرأى
من الآخرين ،لكيلا يُخجله .إذا وعد شيئاً فإنّه مستعِدّ لأن يلقي نفسه في النار للوفاء بما وعد .
عمل في إثناء تلك السنوات كثير من الكهنة على صنع الخير إلى الاولاد الفقراء .إن موقفهم
يَتّصف بصفة مشتركة بوسعنا أن نسميها "العطف الجديّ" .يكفي أت يُقرأ نظام القديس لويس
بافوني ( )Pavoniوالكتب المدرسيّة لإِخوة المدارس المسيحية :يجب على المربّي أن يكون لطيفاً مع
الاولاد ،ولكن من غير أن يؤذَن لهم بأن يفرطوا في رفع صوتهم أو في إظهار فرحهم بالضجّة ،يجب

13.4 Page 124

▲back to top


أن يفرض الصمت والتفكّر وإلاّ هاجَ "الوحش الصغير " الكامن في الصبي .
ِلعَطف دون بوسكو صفة غير تلك الصفّة .إنه يتحلّى بالفرح .لقد أنشأ جمعية الفرح ،فإنه
يعرف قيمة الفرح المتف ّجر ،وإطلاقَ العنان للقوى المضغوطة في هذه الأنبوبة من المواد المتفجرة التي
ُنسمّيها الشبيبة .كان هو نفسه يش ّجعهم بقوله لهم " :العبوا واقفزوا وضجّوا ،الأمر المهم عندي
هو أن لا ترتكبوا خطيئة " .
الهواء الطلق والفسحة التي يمكن الركض فيها حتى ينقطع النفس ،هما المحيط المثالي عند
دون بوسكو .أجل ،إنه يراقب الأحداث الذين عنده ،لكيلا يؤذوا أنفسهم او غيرَهم .بيد ان
مراقبته لهم لم تكن مراقبة تشلّ الحركة ،بل تشجّعها .فهو يشعر انه يجب على المَربيّ أن لا يبقى
بعيداً من فرح الأحداث ،بل يجب عليه أن يشارك فيه ،وينظّمه اذا لم ينشأ من نفسه ،ويجب عليه
ان يحول دون ما قد يهدم ذلك الفرح .
فأحبّه جميع الصبيان وتعلّقوا به تعلقاً مطلقاً ،فكان لقاؤه ساعةَ عيد عندهم .
لاقى في شارع ميلانو بالقرب من دار الحكومة للمدينة ،صبياً يعود من شراء أشياء ُع ِهد اليه
بشرائها .يداه مشغولتان بقنّينة زيت وكوب خل ،ولكن ما إن رأى دون بوسكو حتى أسرع اليه
وهو يصيح " :صباح الخير ،يا دون بوسكو ! ."وكان الزيت والخل يتأرجحان تأرجحاً َخ ِطرًا في
الوعائين .
فضحك دون بوسكو لمشاهدته إيّاه سعيدًا ومازحه " :أُراهن على أنك لا تقدر أن تعمل
مثلي " ،وأخذ يصفّق .فوقع الصبي في الفخّ ،وقد استولى عليه سروره بالقاء ،فوضع القنينة
المطليّة بالزيت تحت ذراعيه ،وصّفق بيديه على قدر ما استطاع وهو يصيح " :عاش دون
بوسكو ! " فانزلقت القنينة والكوب وتحطّما فبقي متجهماً .
-ما أتعسني .إن أمي ستضربني في البيت .
فقال له دون بوسكو :
-لا تقلق .هذه مصيبة ُتمكن معالجتها في الحال .فدخلا حانوتاً واشترى دون بوسكو زيتاً
وخلّا.
" الرئاسة للبابا والسيف لكارلو البرتو"
في نيسان (أبريل) 1312تورينو في عيد .تزوّج فيّتوريو عمانوئيل ول ُيّ العهد بنت
أرشيدوق النمسا رانييري ( )Ranieriنائب ملك لومبرديا – فينيسيا .فجرى في أَيام العيد حدَثان
استثنائيان :على شرفة قصر السيدة ُعرِض الكفن المقدس ،وعُفي عن ثوار السنة 1321الذين

13.5 Page 125

▲back to top


كانوا لا يزالون في المنفى .
تلك خطوة حذرة اخرى خطاها كارلو البرتو نحو الاحرار المعتدلين .وفي السنة التي بعدها
َن َشر في بروكسيل منَف ٌيّ آخر من البيمونته اسمه جيوبرتي ( )giobertiكتاباً أحدث ضجة
كبيرة :أَوَّلية الايطاليين الخُلُقية والمدنَيّة .في هذا الكتاب الأفكار المهمة لاصلاحات الأحرار
المعتدلين الذين قيل لهم " الغولف الجُدد" ( . )Neo Guelfiأَ َكّد جيوبرتي أ َنّ عظمة إِيطاليا
مرتبطة ارطباطاً غير قابل للفصل بعظمة البابوية .ولذلك يجب أَن يتحَقّق استقلال إِيطاليا بواسطة
تحالف الدولات الايطالية في رئاسة البابا .القول " :الرئاسة للبابا والسيف لكارلو البرتو " هو
شعار أنصار الغولف الجدد (. )Neo Guelfi
ابتهج كارلو البرتو بذلك ،ولكنه ظلّ ينظر إِلى النمسا بعين الارتياب .في تورينو مناضل
آخر لآراء الأحرار المعتدلين اسمه قيصر بالبو ( )Balboيكاد يفرغ من تأليف كتاب آخر أحدثَ هو
أيضاً ضجّة :آمال ايطاليا ،فأبلغه الملك على نحوٍ خفيّ موافقته ولكنّه نصح له أيضاً أن يطبعه
في باريس .وفي الوقت نفسه أَرسل الملك الى الحكومة الفرنسية التابعة للويس فيليب احتجاجاً
رسميّا لأ َنّ الجنرال برّوني ( " )Perroneالذي حكمنا عليه بالشنق" نال قيادة عالية في ليون .عاد
برّوني ،وهو من الاحرار ،الى البيمونته وهو يحظى بجميع مظاهر الإِكرام في السنة ، 1313وقد
صار من تشرين الاول (اكتوبر) الى تشرين الثاني (نوفمبر) في تلك السنة ،رئيس الوزارة عند
كارلو البرتو .راقب دون بوسكو ذلك كلّه فازداد حذرُه من السياسة .
"ثوبك رقيق جدّاً "
38نيسان (أبريل) . 1312مات في كييري الاب كوتولنغو .في بيته الصغير مئات من
المرضى المصابين بداء عضال .استدعاه قبل بضع سنوات وزير المالية وقال له :
-أأنت مدير البيت الصغير للعناية الالهية ؟
-كلا ،أنا مستخدم بسيط عند العناية الالهية .
-قد يكون ذلك .من أين لك الوسائل لإِعالة جميع هؤلاء المرضى ؟
-لقد قلتُه لك :من العناية الالهية .
ان هذا الرجل تعَوّد أن يضع قدميه راسختين على الارض وان يفحص الوارد والصادر
والميزانية ،فذهب عنه صبره فقال :
-ولكن أيها الأب الجليل ،المال ؟ النقود ؟ من أين تأتي بها ؟
-أتعود الى سؤالك ؟ لقد قلتُه مرتين :إِنّ العناية الِإلهيّة ترزقنا كل شيء ولم تَدعنا قط

13.6 Page 126

▲back to top


نحتاج الى شيء .سأموت وستموت أنت أيضاً يا سيدي الوزير ،ولكن العناية الالهية ستواصل
اهتمامها بفقراء البيت الصغير .
لما أخذ صحة الاب كوتولنغو تضعف ،استدعاه الملك كارلو البرتو نفسه الى القصر
الملكي ،فقال له بلهجته الجافّة :
-يا أبتِ ،هلاّ تُفكّر في أنَّك أَنت أَيضاَ خاضع لشريعة الموت التي لا ترحم .فماذا يكون
في ذلك اليوم مصير مئات من الايتام والعجزة والمصابين بداء عضال الذين آويتهم في بيتك ؟ .
بينما الملك يتكلم كان كوتّولنغو ينظر بطرف عينه من النافذة الكبيرة التي ُترى منها الساحة .
كان ُيسمع صوت وقع اقدام بضعة جنود ،فما إِن كان يصل رَهطٌ منهم حتى يقف تجاه الآخر
فقال :
-يا صاحب الجلالة ما الخبر ؟
-هذا تبديل الحرس .إِن الرهط القادم يحلّ محلّ الرهط الذاهب .
فابتسم كوتولنغو وقال :
-هذا هو الجواب على سؤالك .سيجري في البيت الصغير تبديل بسيط للحرس ،
سيذهب الأب كوتولنغو وتَر ِسل العناية الالهية خلفاً له .
جرت الامور كما قال .لما تُوفّي ،خلفه الاب انكليزيو ( )Anglesioوواصل البيتٌ الصغير
عيشتَه بهدوء بين سوق المدينة الكبيرة وأبنية مشروعات المركيزة بارولو .
فتذكّر دون بوسكو عند ذاك أوّل لقاء له وكوتولنغو .كان قد وصل قبل قليل الى تورينو ،
فذهب الى البيت الصغير ليزوره ،فسأله الاب كوتلونغو عن اسمه ،وعن المكان الذي أتى منه ،
ثم قال بلهجة الساهي المتهكّم :
-وجهك يوحي الاطمئنان .هلُمّ اعمل في البيت .لن ينقصك العمل .
عاد اليه دون بوسكو ليستمع الى اعتراف المرضى ،ويصرف بضع ساعات مع الاطفال
المعوقين ،وصادفه كوتولنغو ذات يوم (وكاد الفتى دومينيكو بوسّو Bossoحاضرا ) ،فأمسك
بأصابعه شيئاً من نسيج ثوبه فجسّه ثم قال :
-إِنه رقيق ج ّداً .عليك بنسيج أمتن لأ َنّ كثيراً من الصبيان يتعلّقون بثوبك .
كان يتحدث حديث الله من غير تكلّف
أخذ الأولاد يتعلقون بثوب دون بوسكو تعلقا جدِّيّاً ،فكلما مرّ الزمان ازداد عددُ صبيان
المصلّى ،فتجاوز المائة ،ولم يكونوا محتاجين الى الخبز والعمل فحسب ،بل الى الايمان الذي يغذي

13.7 Page 127

▲back to top


حتى عندما يكون الخبز نادراً .ولم يكن دون بوسكو من انصار الانسان بمعزل عن الله ،بل كاهن
الله فعٌني بأن َيلقوا الله .
كتب " :كنت أدهش وأنا ارى طوال الاسبوع ولا سيما أّيام الاعياد وكرسّيي للاعتراف
يُحدق به الأحداث فينتظرون أحياناً وقتا طويلا ليتسنى لهم أن يعترفوا " .
لم يكن الاعترتف امراً يسيرا عند الصبيان ،فكان دون بوسكو يساعدهم بأَن يوحي اليهم
وسائل بسيطة ج ّداً " :إِذا كنت لا تحسن التعبير عن فكرك ،فاسأل المعرّف أن يساعدك فذلك
كافٍ .سيسألك بعض الأسئلة وينتهي الأمر كله " .
كتب بيترو ستيلا ( " : )Pietro Stellaكان دون بوسكو يستعمل الاعتراف ،وهو شديد
الاحساس بمعنى الخطيئة وبحياة الصداقة مع الله ،ولم يكن قاضياً فحسب بل كان على الخصوص
أباً ،يرغب في أن يّنمي في الاحداث صلة السلام مع الله .في السنين التي قضاها في المركز ،كان
على يقين يتضاعف رسوخا من أَنه لن يقود النفوس الى الله بالقسوة ،بل بالرفق."
وكانت النتيجة الطبيعية للاعتراف ،تناول القربان المقدس ،وكان كثير من الصبيان يُقبلون
عليه ك َلّ اسبوع .
وكان دون بوسكو ،حتى في المحادثات العا َدّية ما بين الالعاب والنزهات ،يتح َدّث حديث
الله .ولم يكن يتكلف شيئا من الجهد وهو مع الصبيان ليتبادل وإِياهم النكات أو الحكايات
وليتحدث حديث الله.
وكان في أعظم نشوات الفرح ينظر اليهم فيقول :
-ما أعظم سرورنا عندما سنكون في الفردوس !
وكانوا يتجادلون أحياناً وكان لهم أن ينتقلوا في اسئلتهم من الخير الى الشر والى الحياة والى ما
بعد الموت ،فكان يسأله بعضهم :
-وأنا هل أخلص ؟
فيجيـــب :
-معاذ الله أن تذهب إِلى جهنم ! أتظنُّ الله خلقَ الفردوس لتيركه فارغاً ؟ أجل إن الزحف
الى فوق يتطلب تضحيات ولكني أُريد أن نتلاقى هناك بأجمعنا .ويا للعيد الذي سنقيمه !
01
المركيزة والكاهن القصير

13.8 Page 128

▲back to top


صيف السنة . 1311أَتمَّ دون بوسكو سيرَه طوال السنوات الثلاث للتدرّب في المركز ونزل
الأب كافاسّو إلى حيّ فالدوكّو ،وذهب إلى اللاهوتي بوريل ( ، )Borelالمرشد الروحي للملجأ
الذي أنشأته المركيزة بارولو ،وقال له :
-أَوَ ُدّ أن أُرسل إليكَ هنا كاهناً صالحاً فيَحسن أن يعطى غرفةً ومعاشاَ .
-ولكن ليس هنا عمل كافٍلي وحدي .فماذا ُيطلب ِإليه أَن يَعمل ؟
-دعوه ُح ّراً .إِذا لم نجد له عملاً في المدينة ،أرسله رئيس الاساقفة مساعداً لخوري رعية
في الريف ،فيعود أحداث مصلّاه الى الشارع ،الأمر الذي سيكون مأساة حقيقية .
-اذاً وافقتُ على ذلك .سأُحَدَّثُ المركيزة بالأمر .
عاد الأب كافاسّو الى المركز ،وقال لدون بوسكو :
-أعِ َدّ أمتعتك واذهب الى الملجأ .ستعمل عند الأب بوريل وسيكون لك متّسع من الوقت
لِتهتمّ بصبيانك .
ال ِمسح تحت الثوب الفخم
كان للمركيزة جوليا فرنسواز دي كولبير ( )Colbertمكان الصّدارة غي مجتمع أهل تورينو
هاجرت من فرنسا في أيام الثورة ،فتزوجت المركيز كارلو تنكريد فالّيتّي دي بارولو
)Tancredi Falletti di Barolo(وكان في السنة 1322محافظ تورينو .
تُوِفّي المركيز السنة 1333فتركها من غير ولد ،وخّلف لها ثروة عظيمة ،فلبست المركيزة
وهي في سن الثالثة والخمسين ،تحت ثيابها الأنيقة ،مِسحَ التوبة ،ووقفت ك َلّ مالِها على مساعدة
الفقراء .
وصرفت خلال عدة أشهر ثلاث ساعات كلّ يوم في سجون النساء ،فتح ّملت الشتائم
وأسباب التحقير ،بل تلَقّت ع َدّةَ ضربات ،لكي تساعد هؤلاء النساء المسكينات وتعّلمهنّ .وقد
نالت آخر الأمر من السلطات أن يُفصَل بين سجون النساء وسجون الرجال ،فنُقِلت السجينات
إِلى بناء أَصلح للصحة عملت على تهيئته .
وانشأت ايضا دوراً للايتام ومنازل للشبات العاملات ،وبَنَت في فالدوكّو ،بالقرب من

13.9 Page 129

▲back to top


بيت كوتولنغو ،"ملجأ" للبغايا اللواتي كنّ ُيردن أن يعشن حياة جديدة ،وفتحت بالقرب من
المكان "بيت المجدلّيات" للفتيات المع َرّضات للخطر الخُلقي ،وهنّ دون سِنّ الرابعة عشر .
في تلك السنة 1311عينها شرعت في تشييد بناء ثالث هو "المستشفى الصغير للقديسة
فيلومينا " ،من أَجل البنات الصغيرات المريضات أو المعوقات .
كانت المسؤولة الاولى عن تلك المشروعات الخيرية الثلاثة ومع ذلك ظلّت أنيقة رشيقة فكان
منزلها موعداً لأشهر أهل الفكر في ذلك العصر .عمل سيلفيو بلّيكو ( )Silvio Pellicoامينَ ال ِسّرّ
لها ،وعندما كتب سجوني كان كميل كافور ( )Cavourصديقاً لها ونجيّا ،وكان الكاتبان بالزاك
)Balzac (ولامارتين ( )Lamartineيراسلانها وُيطلعانها على ما يجري في فرنسا .
ذهب اللاهوتي بوريل إلى المركيزة فقال لها :
-وجدتُ لمستشفاك الصغير مرشداً روحياً اسمه دون بوسكو وهو آتٍ من المركز .
-انا موافقة ،ولكن المستشفى الصغير لا يزال في مرحلة البناء فسنعود الى التحدث بهذا
الأمر بعد ستة أشهر .
-لايا سيدتي المركيزة .يجب إِدخال دون بوسكو في العمل في الحال ،وإلاّ أُرسِل الى مكان
آخر .إِن الاب كافا ّسو أوصانا به بإلحاح وكلّمني على مصلّى أَنشأه هذا الكاهن وأضاف :اذا لم
نسعفه كان إخفاقه خسارة .
فطلبت المركيزة زيارة من الاستعلامات ،ثم اقتنعت فأجرَت على دون بوسكو معاشاً سَويًاّ
قدره 688ليرة وخصّته بغرفة بالقرب من غرفة الأب بوريل على غير بعد من الملجأ .
وأمّا دون بوسكو فما إِن التقى والمركيزة ،حتى رغب في الحصول على استعلامات مفيدة
وضمانات ،وتَقّبل أن يخدم الملجأ ولكَنّه اشترط ألاّ يُض َطرّ إِلى ترك صبيانه .وكان يطلب خصوصا
أن يتاح له تمام الحرية في استقبال الصبيان الذين يريدون رؤيته في أيام الاسبوع .
كانت المركيزة قد قاربت سِنّ الستين ،ولكنّها كانت قد احتفظت على وجه تام بمزاجها
الحازم المستقيم ،فأعجبتها تلك الصراحة ،فأذنت للكاهن أن يجمع صبيان مصلّاه في أرض
ضيّقة بجانب المستشفى الصغير الذي كان يُبنى ،وعندما يصبح الامر ممكنا ،تَدَعه يتصرف
بغرفتين في داخل البناء ،فيجعل منهما معبداً لهم .
تمّ الأتّفاق على عمله هناك ،ولكن المكان ضيق لمشروعه .
كان الحملان يتحولون الى رعاة
12تشرين الأول (اكتوبر) لسنة ، 1311يوم السبت .دون بوسكو غارقٌ في افكاره .
يجب عليه في صباح الغد أن يقول لصبيانه إِن المصلّى سينتقل إلى ضواحي فالدوكو " ولكن عدم

13.10 Page 130

▲back to top


تحقّقي من تلك الاماكن والوسائل والناس تركني في حالة قلق .وفي تلك الليلة حلمتُ حلماً جديداً
بدا لي تابعاً للحلم الذي حلمته في البكّي وأنا في سِ َنّ التاسعة " .
رأى أيضاً جيش الذئاب فأراد الهروب "ولكن امرأة عليها ثياب الراعية ،اشارت لي بان
أصحب هذه العصابات الغريبة ،وكانت تسير في المقدمة .قطعنا ثلاث مراحل ،وفي كل وقفة
كان كثير من هؤلاء الذئاب يتح َّولون الى حملان .وغلبني التعب فأردتُ القعود .ولك َنّ الراعية
دعتني إِلى مواصلة السير .فاذا بنا في فسحة واسعة وبجانبها رواق داخليّ وفي آخره كنيسة .كان
عدد الحملان يزداد كثيراً ،وجاء رعاة آخرون ليحرسوها ،ولك َنّ قليلا يثبتون ،فحدث عند ذاك
أشياء غريبة .تحوّل كثير من الحملان إِلى رعاة ،و ُعنوا بالآخرين ،ودعتني الراعية إلى أن أنظر
نحو الجنوب ،فنظرت فرايت حقلاً ...فقالت لي :أُنظُر مرة أُخرى ...فرأيت كنيسة رائعة
كبيرة ...وفي داخل تلك الكنيسة شريطاً أبيض كُتب عليه بأحرف كبيرة :هنا بيتي ،ومن هنا
ينطلق مجدي " .
وختم دون بوسكو كلامه بعد عشرة أسطر : :لم أُومن بذلك كثيراً .ولكنّي فهمتُ الأمور
كلّما تحققت بعدئذ .فقام هذا الحلم وحلم آخر مقام برنامج في الأمور التي عزمت عليها ."
واما الحلم الآخر فقد رواه للأب بربيرس ( )Barberisوللأب لموان ( )Lemoyneفدوّناه
لوقتهما ( ويمكن المرء أن يقرأه في المجلد الثاني من ذكريات السيرة ،ص )230وهو في معظمه
تكرار للحلم الأول ،على شيء من الاختلاف .نستذكر بعض عناصره المميزة :
"قالت لي سيدة :أُنظر .فرأيتُكنيسة صغيرة منخفضة وساحة صغيرة وعدداً من
الاحداث كثيراً ...ولكن الكنيسة ضاقت بي وبالأحداث فخاطبت السّيدةَ مرّةً أُخرى فأرتني
كنيسة أخرى اكبر كثيراً ،وبيتًا على غير بعد منها . . .ورأيت حولي عدداً كبيراً من الأحداث .. .
رأيت كنيسة واسعة جداً ،وحولها كثير من الأبنية وفي وسطها نَصب جميل ."
أين دون بوسكو ؟ واين المصلّى ؟
13تشرين الاول (اكتوبر) ،يوم الأحد .بشّر دون بوسكو صبيانية بنقل المصّلى الى القرب
من الملجأ ،ف َسّببَ كلامه بعض الاضطراب .فاندفع دون بوسكو وصورّ ما رآه في الحلم حقيقة
راهنة ،وأخذه الفرح ،فب ّشر "ان هناك مكاناً واسعاً ينتظرنا وهو كُلّه لنا ،لكي نغنّي ونركض
ونقفز ،وَسَنُسَ ُرّ بِه ،وكان كلُّ واحدِ ينتظر بفروغ الصبر أن يرى ذلك الشيء الجديد" .
28تشرين الأول (اكتوبر) ،يوم الاحد .اجتاز الصبيان حواجز مكتب الرسوم
الزراعّية ،ونزلوا إلِى منخفض فالدوكّو .كان يمتد حتى الضفة الغربية لنهر الدورا ( )Doraساحة

14 Pages 131-140

▲back to top


14.1 Page 131

▲back to top


كُلّها مروج وحقول فيها مجموعات من الدور المتفرقة ،وكان "البيت الصغير" العائد الى كوتولنغو
"وملجأ " المركيزة بارولو قريبَين من ملاهٍ ودُورٍ ريفيّة يعيش فيها الناس بسلام .لم يعرف الصبيان
إلى اين يذهبون ،فأخذوا يدقّون الأبواب ويصيحون :
-دون بوسكو ! أين دون بوسكو ؟ أين المصلى ؟
كان الناس يرون أحياناً كثيرة مثل هؤلاء العصابات من الرّعاع ،فاقتنعوا بتن الامورَ ستعود
عليهم بالسوء فرفعوا صوتهم :
-وأيّ مصلّى ؟ وأي دون بوسكو ؟ إذهبوا ! انصرفوا من هنا ،وإِلاّ جعلناكم تركضون
للهروب من ضربات المذاري !
"سمعتُ تلك الضجّة وسمعها اللاهوتي بوريل ( )Borelفخرجنا من البيت ،فسكنت
الضجة وأسرعوا للقائنا " .
كان هناك مكان يزيد عن الحاجة للعب والركض ،غير انه لم يكن من موضع يسوده الهدوء
للصلاة والاعتراف وإقامة القداس .
-إن المكان الواسع الذي وعدتكم به لم ينتهِ بناؤه الى الآن ،ولك َنّ الذين يريــدون ،
يستطيعون الصعود إِلى غرفتي وغرفة الاهوتي بوريل .
فكانت النتيجة ،في يوم الاحد ذلك ،وفي سائر أيام الأحد حتى كانون الاول (دسمبر) ،
أشبه بحالة سمك السنمورة في البرميل " .فقد غ ّصت الغرفة والأروقة وسائر الأماكن بالصّبيان .
كنّا اثنين لاستماع الاعترافات ،ولكن عدد الذين يريدون الاعتراف مائتان " ومَن َيسعه أَن يجعل
الهدوء يسود مائتي شاب وهم ينتظرون ؟
"كان الواحد منهم يريد أن يوقد النار في حين أ َنّ آخر يريد إِطفاءها ،وكان الواحد ينضّد
الحطب والآخر يُلقي عليه الماء .السطل والملقط ومغرفة النار والابريق والمقاعد والأحذية
والكتب ،كان ذلك كلّه مقلوباً رأساً على عقب لأنهم يريدون كلّهم أن يرّتبوا الاشياء."
في هذه الاسطر لدون بوسكو شيء من المبالغة الفَرِحة ،ولكن الذي عاش وقتاً طويلا بين
الصبيان يعرف أن المبالغة ليست كبيرة .
مرّت ستة أَيـام أحد على تلك الحال ،اصطفّ فيها صفوفاً مائتان من الأحــداث في
الضحى ،وساروا وراء دون بوسكو ،وهم أشبه بجيش صغير ،ليذهبوا إِلى القداس في جبل
الكبوشيين أو الى كنيسة سيدة التعزية أو الى ساسّي ( . )Sassi
اللاهوتيّ بوريل يصحبهم مرات كثيرة :إِنه كاهن بسيط شعبيّ سمّاه الناس الكاهن
الصغير لقصر قامته .إِنّه يعمل بلا كلل ولا ملل .لقد تولّى رعاية دون بوسكو الشاب ،وأخذ
يساعده مساعدة الصديق بلطف وبماله أيضاً .

14.2 Page 132

▲back to top


ورّحب الصبيان أحسنَالترحيب بعظات الكاهن القصير ،لأنه يلفظها بلهجة بورتا بالاتسو
)Porta Palazzo(الممتعة ،ويمزجها بالامثال والمزاح والنكات .وّلما قالت بعضهم للأب بوريل
إِنه يجب عليه أن يعظ بطريقة أكثر وقاراً أجاب " :إِن العالَم يدعو الى الضحك فيجب الوعظ
بطريقة تدعو الى الضحك ."
نُدًف الثلج تنفجر في المنقل
3كانون الاول (دسمبر) .هُِيّأت آخر الامر الغرفتان اللتان خُ ًصّتا بالمعبد ،وقد حان
الوقت لذلك ،لأن الثلج يتساقط منذ أول الليل تساقطاً مر ِوّعاً .
وفي صباح الغد الثلج كثيف والبرد شديد ج ّداً ،فجيء بمنقل كبير إلى المعبد .ذكر يوسف
بوتسيتي أن نُدَف الثلج كانت ،وهو يجتاز الساحة ،تهبط في النار فتنفجر فيها .
وجاء الصبيان مع ذلك ،فوجدوا مذبحاً صغيراً وبعض المقاعد .كتب دون بوسكو
ببساط " :أقيم القداس ،واعترف عِ َدّةُ أحداث وتناولوا القربان المقدس ،فبكيتُ لأََنّه بدا لي ان
المصلّى سيكون من بعد ذلك ثابت دائم ."
كان على خطأ .فقد بكى مرة ُأخرى لا من الفرح ،ولكن من الحزن قبل أَن يحصل على
مكان دائم ثابت للمصلّى .
بيد أن دون بوسكو وجد منذ الثامن من كانون الاول (دسمبر) 1311شيئاً سيلزم
المصلّى :وجد له اسما .ُسمّي مصلّى مار فرنسيس السالسيّ .لماذا ؟ شرحه دون بوسكو ":لأن
المركيزة أمرت برسم صورة ذلك القديس في مدخل المكان ،لأن نشاطنا يتطَلّب كثيراً من الهدوء
والوداعة .جعلنا أنفسَنا في حماية مار فرنسيس السالسي لكي ينال لنا ِحلمه العظيم ."
وأَراد دون بوسكو أن يفرَح صبيانه ،فاشترى كرى خشب ودوائر صغيرة للعبة الهدف
وطوّالات )1((ولم تكن لعبة كرة القدم قد اختُرِعت ) وواصل مساعدته لأفقرهم بالغذاء والثياب
)1راجع ص ، 62حاشية .2 ، 1
والاحذية .
أَمَّا وقد حصل على غرفة ،فانه يأمل أن يزوّد أذكى صبيانه بشيء من التعليم .فكان
الأولاد يقتطعون عند المساء ساعتين من نومهم ،ويأتونه فرقاً صغيرة ،ووجوهها مس َوّدة من
السحام أو مبيضة من الكلس ،وعلى اكتافها الرنس لتدفع عنها البرد ،وهي سعيدة بأن تحصل

14.3 Page 133

▲back to top


على شيء من الدروس .ولكن الكتب والثياب وادوات للعب تتطلب المال .وكان دون بوسكو
يشعر بالحياء والارتباك .إِنه يكره الذهاب إلى أُسرة غنية ليطلب الصدقة ،فش ّجعه الأب بوريل
بقوله :
-اذا كنت تريد خير صبيانك حَقّا ،يجب عليك أن تَتَقّبل هذه التضحية أيضاً .
فتقّبلها دون بوسكو .وكانت أوّل أسرة قصدها ،بعد ما أَعدّها الأب بوريل لاستقباله ،
أسرةَ الفارس غونلاّ ( )Gonellaفشعر بالخجل يصبغ وجهه بالحمرة حتى أُذنيه ،لما مدّ يده ليتلقّى
الليرات الثلاثمائة الاولى .
سأل دون بوسكو مديرا سالسيّاً بعد 12سنة ،أن يذهب ليتلقّى صدقة ،فسمعه يقول " إِنه
ينقصه رباطة جأش دون بوسكو " ،فظهرت على وجهه أَمارات الجِدّ وقال :
-لا تعرف كم كلفني طلب الصدقة .
لم تذهب عنه تلك الكراهية قط كما أَنّه لم يتخ َلّ قطّ عن كرامته ،فهو ليس بالخجول ولا
بالمبتذل .قالت الأ َسر النّبيلة فيه :
-يُخََيّل إِلى المرء أنَّه أشبه بملاك يدخل .
كان دون بوسكو يُفكّر بصبيانه ويقوم أيضاً بما الزم نفسه .كان قد أُوضِح لَه أَنّه يحصل على
الضيافة والمعاش ،لكي يقوم بعمله الكهنوتي بين النساء المنكوبات والفتيات اللواتي في الملجأ ،
وكان يقول صراحة إِنَّهَ لا يصلح لتلك الخدمة ،ولكنه يقوم بواجبه قياماً حسناً .
نُبيح لنفسنا في معرض لكلامنا أن ند َوّن أمراً يُذكر .أ َكّد دون بوسكو دائماً أ َنّ رسالته هي
خدمة الصبيان لا البنات ،ولكن هذا النفي لم يَ ِصر قَطّ كراهية ،فتقبّل دائماً وببساطة معــاونة
النساء ووجودهن :من البنت الصغيرة التي كانت تحرس بقراته في سوسّامبرينو ،وهو يدرس ،
حتى مؤازرة الأمهات في فالدوكّو (أ ُمّ ُه وأُمّ الأب غاستالدي والخالة مريانّا ،اخت
ماما مرغريتا ) .كان مشغل السيّدات ،كما كان يقال له ،بلزق مستوصف الصبيان .نهض
دومنيك سافيو من فراشه ،في أَيام شتاء السنة ، 1322وقد انهكه الحمى ،وذهب يستدفئ في
النار التي أوقدتها الخالة ماريانّا وكانت مريضة هي أيضاً ،ووّبخها بما للمراهقين من التش ّدد ،لأنها
تندب حظّها وتتذمر للبلايا التي " أنزلها الله بها " .إن الكراهية للنساء والارتباك الذي زُ ِعم أَن
وجود النساء سَبّبه لدون بوسكو ،هما ،في رأينا ،أمران اصطنعهما كتبةٌ لسيرته أّثر فيهم ميل الى
التقشف غير سليم .

14.4 Page 134

▲back to top


إخفاق في كنيسة مار بطرس المقيد بالسلاسل
ُيرَ ّجح أ َنّ دون بوسكو أ َمّل منذ الاشهر الاولى التي قضاها في الملجأ أن يجعل المركيزة تُب َدّل
رأيها ويقنعها بأن تخصّ بالبناء الذي يٌشاد الصبيانَ المشرّدين لا البنات الصغيرات .وكان في خاطر
المركيزة نَيّة مخالفة تماماً ،وهي أن يترك بعد حين دون بوسكو الصبيان ،ويوقف نفسه على
مشروعاتها .
كان الوهم متبادلاً .وكلّما مرّ الوقت ازداد عدد الصبيان وضجيجهم ،فأُتِلَفت شجيرات
ورد ،وأظهرت الراهبات قلقهن من تجاور هؤلاء الصبيان و " المجدليّات " ،وكانت المركيزة
ترغب رغبة تشتدّ يوما بعد يوم في ذهاب المصلى عن مكان مشروعاتها .
ولكن ناك مشكلة :إلى أين يذهبون ؟ كانت الاحلام تُنعش آمال دون بوسكو ،ولكنها
ليست خرائط جغرافية واضحة .
حاولوا في أيام الصوم الكبير لسنة 1312أن يغادروا المكان مغادرة جزئية فاجتمع تلامذة
صفوف الأكبر سِنّاً في كنيسة مار بطرس المقّيد بالسلاسل من أجل التعليم الديني اليومّي (وكان
مفروضاً على جميع الصبيان في ايام المجيء والصوم الكبير) .وكان ُيطلق ذلك الاسم على كنيسة
منذورة للصليب ،بلزقها مقبرة لم يُدفن فيها أحد منذ عشر سنين ،وكان للمقبرة ( وهي ما زالت
ظاهرة في ايامنا في حَيّ فالدوكو) مدخل مسقوف وساحة كبيرة حولها أروقة .
كانت الاجتماعات من أجل التعليم الديني قد جرت بكلّ نظام ،وكان المسؤول عن المقبرة
الاب تيزيو ( )Tesioصديقاً لدون بوسكو ،فسأله دون بوسكو في شهر أيــار (مايو) أن يكرّر
التجربة على وجه أوسع فينتقل المصلّى كُلّه الى كنيسة مار بطرس المقّيد بالسلاسل وساحاتها .
كان على الاب تيزيو ان يغيب عن تورينو يوم الاحد الموافق 22ايار (مايو) فأجاب :
-َهلّم وصبيانك في الخامس والعشرين ،وهكذا تقوم مقامي من أجل القداس .
رّبما ارتكب الكاهن خطأين .كان يعتقد أن مصلّى دون بوسكو مؤلف من بضعة صبيان ،
هؤلاء وحدهم الذين رآهم ُيصغون إلى التعليم الديني أيام الصوم ،في نظام حسن .يضاف إلى
ذلك أنه كان يعتقد (كما رأى ذلك في سائر المشروعات للصبيان) أنهم بعد القداس والطقوس
الدينية في الكنيسة ،يعودون إلى بيوتهم ،وقد أكلوا رغيفهم الصغير في ساحة الكنيسة .
جرت الامور على وجه اختلف كثيراً عما تص َّوره ،إذ رات خادمةُ الكاهن جماعة ضخمة من
الصبيان تك َّدسوا في الكنيسة كلّها .ولما انتهى القدّاس التقطوا رغيفة الافطار في الهواء وضجّوا
ضجيج العاصفة في الساحة وتحت الأروقة .فذهلت الخادمة وكانت تربّي بعض الدجاجات تحت
الحنايا ،ثم ثار ثائرها وأخذت تصرخ وتركض وتضرب بمقبض المكنسة ،في حين ان دجاجاتها

14.5 Page 135

▲back to top


أصابها الذعر فطارت يُطاردها الصبيان .ووصلت الخادمة في وثبتها الى دون بوسكو وانهال عليه
أيضاً بالشتائم .وكان ألطف لقب وُفّقت ِإلى اطلاقه عليه " :مدََنّس الاماكن المقدسة " .
أدرك دون بوسكو أن خير ح َلّ هو الذهاب " .آثرت أن أوقف الألعــاب :ذهبنا ،وفي
خاطرنا أن نعود يوم الاحد القابل على وجه اكثر هُدوءاً ."
كان ذلك الامر حادثاً لا شأن له ،لو لم يقع في أحوال مؤثرة .أَعلن الأب روا في أثناء
التحقيق عن أخبار دون بوسكو " :بعد مدّة طويلة روى لي امرؤ من لانتسو ( )Lanzoيُدعى
ميلانوتّي ( ، )Melanotteوقــد شهد مــا جرى ،أن دون بوسكو ،من غير أن يضطرب او
يغضب ،التفت إلى الصبيان وقال :يا للمسكينة ! إنّها تأمر بالذهاب في حين أَّنها ستكون في القبر
يوم الأحد المقبل " .
لما عاد الأب تيزيو ،روت له الخادمة ذلك كله روايتها لكارثة الألعاب فكتب الى البلدية
طالباً أن تحظر الألعابُ كُّلها في حدود المقبرة ( ولربما فعل ذلك لكيلا يرجع عن وعده لدون
بوسكو ) .
قال دون بوسكو وقد َأخذه الحزن " :آسف وأنا أَقول ذلك ،فإ ّن هذه الرسالة كانت آخر
رسالة كتبها الاب تيزيو " .فقد تُوفّي هو وخادمته بغته في اسبوع واحد .
01
المصَلّى المتنقّل

14.6 Page 136

▲back to top


عاد أولاد المصلّى الى الاجتماع في الملجأ ،بعد التجربة المشؤومة في كنيسة مار بطرس المقيد
بالسلاسل ،ولم تفعل المركيزة أي شيء كان لكي تمنعه ،ولكنها ذ َّكرت دون بوسكو ان المستشفى
سيُد َّشن في 18اب (أغسطس) .ومن الواضح أنّ الصبيان سيجدون الأبواب مغلقة بعد ذلك
اليوم .
12تموز ( يوليو) . 1312وصلت رسالة إلى دون بوسكو أُذن له فيها ،بناء على توصية
رئيس لاساقفة " ،أن يستعمل معبد طواحين المدينة ليُلقي الى الصبيان التعليم الدينّي من الظهر
الى الساعة الثالثة الزوالية ،وُيحظر عليهم دخول الساحة الثانية للأبنية " .
إن كنيسة يستعملها ثلاث ساعات يومَ الاحد ليست قصراً ملوكياً ،ولكَّنها شيء يُتيح لهم
البقاء .ذكر دون بوسكو " :أَخــذنا المقاعد والمساجد ،والشمعدانات وبعض الكراسي
واللوحات والإطارات الصغيرة كأنّنا مهاجرون ،واتّخذنا لنا مقاماً مقرّنا العام في الاماكن المذكورة
آنفا " .
كانت طواحين المدينة في الساحة الكبرى ،ساحة عمانوئيل فيليبرتو ( ، )Filibertoالى
اليمين للنازل الى نهر دورا ( ، )Doraولا تزال تقام الى يومنا في هذه الساحة الفسيحة سوق المدينة
اليومية الزاهية الالوان ،وُترَتّب فيها صفوف مترا َصّة للبضائع المعروضة للبيع .
" القّنبيط ،يا اولادي الاعزاء " . . .
لم يكن دون بوسكو راضياً عن هذا التدبير الجديد ولا الصبيان انفسهم .كتب " :لم يكن
بالإمكان إقامة القداس ولا منح البركة في المساء ،ولم يكن بالامكان أيضاً تناول القربان المقدس ،
وهو العنصر الجوهري لمؤسستنا .حتى وقت اللعب كانت عرضة للبلبلة ،اذ كان على الصبيان أن
يلعبوا في الشارع أو في الساحة الصغيرة ،تجاه الكنيسة حيث تمرّ العــربات والخيل " .وختم
كلامه " :اض ُطرِرنا الى الاكتفاء بذلك المكان فكنّا نصبو الى موضع أفضل ."
استأجر مكاناً في الطبقة الارضية للكنيسة ،وتفنّن في إلقاء التعليم الدينيّ والدرس هناك .

14.7 Page 137

▲back to top


حاول الأب بوريل أن يشدّد عزيمتهم كلهم ،بعظة صارت مشهورة وأطلق الصبيا ُن عليها
اسم عظة القنّبيط .إسته َلّ الكاهن القصير عظته بكلام أضحكهم جميعاً " :إن القنّبيط اذا لم يُقلع
من مكانه ،وُيغرس في مكان آخر ،لا يصير جميل المنظر ولا ينمو .وتلك حالة ُمصلاّنا .لقد نُقل
من مكان الى مكان ،وغرس فيه فنما نمّواً عجيبا ."وذكر تاريخ المصلّى ثم ختم كلامه بقوله :
" أترانا نبقى هنا م َدّةً طويلة ؟ لا يأخذنا القلق .فلنثق بالرب ،فمن الثابت أنّه يباركنا ويعيننا
ويفكّر فينا ."
ولكن بدأت بعد بضعة ايام من ايام الاحد ،سلسلة من الازعاجات .
بعث بعضهم برسالة من امانة ِسرّ الطواحين ِإلى البلديّة كُتِب فيها جدول من الشكاوى
الجسيمة :إن الصبيان يسبّبون للكنيسة وللأبنية دماراً كبيراً ،وإِنهم " يؤلفون تجمعاً قد يُتلاعب به
في حــال وقوع ثورة " ( وتلك شكوى عظيمة الخطر في ذلك الوقت ) وهم " مزرعة لسوء
الاخلاق " .
ُخمش جدار برأس مسمار ولكن لا ثورة هناك ولا سوء أخلاق .والعنصر الواحد ذو الشأن
( وهو الذي سبب الرسالة) غضب مستأجري البيوت المجاورة .فإنّ العناء والاصوات
والالعاب ،وما فيها من ضجة ،تفسد سلام يوم الاحد .
فََتكدّر دون بوسكو كثيراً من افتراء الكذب عليهم ( وهو ُيخّلف دائما بعض الآثار ) وتك َدّر
أَقلّ كثيراً من القرارات التي َبّلغها .إن البلديّة لا ُتلغي الاذن الممنوح ولكنها لن تجدّد في أول كانون
الثاني ( يناير ) الترخيص المعمول به .سوف تصله الرسالة الرسمية التي يرد فيها النكول عن
الاذن ،في شهر تشرين الثاني ( نوفمبر) وعليه في أثناء ذلك ،أن يحاول " التعُّقل" .
حاول دون بوسكو التعقل فصارت كنيسة الطواحين من ذلك الحين مكاناً للتجمع
فحسب .فهو يذهب بهم من هناك لكي يلعبوا في المروج البور على ضفّة نهر الدورا .وأمّا الصلاة
فانهم يذهبون ليقيموها في كنيسة سيدة العمود ،او في ساسّي أو سيدة الحقول .كتب " :كنت
أقيم القداس في تلك الكنائس وأُفَ َسّر الانجيل .وعند المساء كنت ألقي عليهم شيئا من التعليم
الديني ،وأقصّ بعض القصص ،ثم ننشد معاً بضع تراتيل للحمد ،ونقوم بجولات ونزهات
حتى ساعة عودة الصبيان الى بيوتهم .رّبما خطر ببال بعضهم ان هذه الحالة العسيرة سوف تبدّد
فكرة إِقامة المصلّى كما يُبدّد ال ُدّخان .جرى نقيض ذلك فازداد عدد الصبيان زيادة عظيمة " .
" خُذ ،يا ميشيل الصغير ،خُذ "
وقع لدون بوسكو في ايلول ( سبتمبر) بالقرب من الطواحين مصادفةٌ من أهمّ مصادفات
حياته .كان ال ِصّبيان يزدحمون أمامه ليحصلوا على أيقونة .وكان واقفاً على انفراد صبّي صغير في

14.8 Page 138

▲back to top


السن الثامنة ،وعلى ذارعه اليسرى عصابة سوداء للحداد ،فقد تُوفي أبوه قبل شهرين ،
فلا يَحسُن به أن يُقحم نفسه في كومة ال ِصّبيان ،ويدفع بمرفقيه لكي يحصل على مكان له .ذهبت
الأيقونات ولم يبقَ له منها شيء ،فدنا منه دون بوسكو وقال له :
-ُخذ ،يا ميشيل الصغير ،خُذ .
يأخذ ماذا ؟ إن هذا الكاهن الغريب الاطوار ،وقد رآه للمرة الاولى ،لم ُيعطه شيئا .بسط
إليه يدَه الُيسرى وحدها وتظاهر بقطعها قطعتين بيده اليمنى .رفع الصبي عينيه كمن يسأل فقال له
الكاهن :
-سنفعل كل شيء كلانا مناصفة .
ما الذي رآه دون بوسكو في تلك اللحظة ؟ لم يَقُله قطّ .صار ذلك الولد ذراعه اليمنى ،
وأول َخلَف له على رأس الرهبانية السالسية واسمه ميشيل روا ( . )Rua
لم يفهم تلك الجملة لا في تلك اللحظة ولا بعدئذ ،طوال سنين كثيرة ،ولكنه تعلّق بهذا
الكاهن وقد شعر بنفسه سعيدا ،وهو بالقرب منه ،وكان الحرارة قد غمرته .
إن ميشيل الصغير يسكن المعمل الملكي للسلاح حيث كان أبوه مستخدماً .مات أربعة من
إخوته ،وهم في سن الصغر ،وهو بنفسه نحيل ج ّدًا ،ولذلك لا تدعه امه يذهب كثيراً الى
المصلى .ولكنه يصادف دون بوسكو عند إخوة المدارس المسيحية حيث يواظب على الصفّ الثالث
الابتدائي .
روى بعدئذ " :لما كان دون بوسكو يأتي ليقيم لنا القداس ويعظنا ،فما إِن كان يدخل
المعبد ،حتى يُخيل أن تيّار كهربائيا يسري في هؤلاء الاولاد الكُثُر .كنا ننهض ونخرج من مواضعنا
ونزدحم حوله فكان لا يصل إِلى بعد وقت طويل .لم يكن بوسع الاخوة الطيّبين ان
يمنعوا ما يبدو قلة للنظام .لم يكن يح ُدث شيء من ذلك عندما كان يأتي كهنة آخرون " .
ُكتب انتزعها من نومه
في تشرين الاول ( اكتوبر) وقع حدث ذو شأن :ُنشر تاريخ الكنيسة لاستعمال
المدارس :ذلك أول الكتب المدرسية التي كتبها دون بوسكو من أجل صبيانه ،بعد ما انتزعها
من نومه ،وهو يستضيء بمصباح وقوده الكاز ،وأحكمها بسرعة ،وكتبها بِ َخطّ لا يُقرأ .لم
يكن تاريخ الكنيسة مصنفاً ِعلميّاً ،ولن يكون أي كتاب من كتب دون بوسكو ،مؤَلفًا عِلميّاً ،
إنّه اقرب الى المؤلف الشعبّي ،يلائم ذهن صبيانه المتواضع ،وثقافتهم المحدودة .في الكتاب
كلام على الباباوات وأزهى أحداث الكنيسة وموجز لسيرة القديسين ،ووصف أعمال الاحسان

14.9 Page 139

▲back to top


التي ازدهرت في جميع الازمنة عند شعب الله .
وتبعه بعدئذ التاريخ المقدس ( )1312ونظام المتر العشري ( )1310وتاريخ
إيطاليا . )1322(
ووجد دون بوسكو من الوقت ما مكّنه ،وهو يؤلّف الكتب المدرسية ،من كتابة كثير من
الكتب والكراريس الاخرى :سِيَر القديسين ،وكتب مطالعة لترويح القلب ،وكُتيبات للصلاة
والتعليم الدينّي .لم يكن أيّ واحد منها تحفة رائعة ،ولكن كل منها يُظهر محبته لصبيانه وللشعب
البسيط والكنيسة .وكانت عدة من تلك المؤلفات سبب المتاعب ،فقد وصل الامر ببعضهم الى
محاولة البطش به للحيلولة بينه وبين التأليف .
ثلاث غرف في بيت موريّتا
في تشرين الثاني ( نوفمبر) وصلت رسالة البلدية وقد ابتدأ الشتاء .كتب " :لم يبقَ الجوّ
ملائماً للنزهات والجولات في خارج المدينة ،فاتفقتُ واللاهوتي بوريل أن نستأجر ثلاث غرف ،في
بيت موريتّا " ( وقد زال عن الوجود في أيامنا ) " .قضينا أربعة اشهر في ضيق في االغرف
الثلاث لبيت موريتّا .ولكننا كنا مسرورين بانه يسعنا استقبال الصبيان وتعليمهم وتمكينهم من
الاعتراف " .
وذكر دون بوسكو ،وهو يبتسم أَنّه اضطُرّ في تلك الاماكن ،الى مخالفة مقصده الثاني من
مقاصده القديمة في معهد الكهنوت :أَراد أن ُيلهيَ الصبيان في مكان ضيق ج ّداً ،فعاد الى القيام
بألعاب بهلوانية ،ولم يك َفّ عنها بعدئذ لأن النتائج كانت باهرة .
وبدأ أيضا يساعده اللاهوتي كاربانو ( )Carpanoفي برنامج منظّم لمدرسة ليلية ،يختلف
كثيراً عن الدروس التي ألقاها في بعض الفرص السانحة حتى ذلك الوقت .
كان التعليم الرسمي والمدارس الليلية ملائمة لتلك الاختيارات الواقعية التي تجاوز فيها دون
بوسكو مواقفَ المحافظين فوجِد موافقاً لمواقف الأحرار .قال دون بوسكو لرئيس لاساقفة ،وقد
أَظهر القلق " :ليس الامر في معرفة من أين تَستمِدّ المبادرةُ الجديدة وحيَها .يجب البحث في
طبيعتها ،فاذا كانت صالحة وُ ّجهت توجيهاً مسيحياً يُفسدها الروح العد ُوّ للدين " .
علامة استفهام كبيرة عن المصلّى
كانون الاول (دسمبر) .ساءت صحة دون بوسكو على وجه يدعو الى القلق .إنِّه مرشد
للمستشفى الصغير الذي يأوي إليه البنات المريضات من سِنّ الثالثة الى الثانية عشرة ،وهو

14.10 Page 140

▲back to top


مشغول في السجون ،وفي بيت كوتولنغو ،وفي معاهد التربية في المدينة ،ويعمل في مصلاّه ،
وي ّدرس في الليل ،ويذهب إلى الصبيان ليزورهم في مكان عملهم .
وأنذر شتاء السنة 1316 – 1312بالبرد الشديد .فالشتاء يتأخَر في تورينو وهذا من حسن
الطالع ،ولكنه يغطّي الأزقّة الضيّقة بكُوَم كثيفة داكنة اللون من الثلج المتجلد ،فيحفظ البرد
المتواصلَ المضني طوال عدة أشهر .
اظهرت رئتا دون بوسكو في تلك الأشهر ضعفاً يدعو الى القلق َف َشعَر اللأهوتي بوريل
بالامر ،وأخبر المركيزة بارولو فأعطت دون بوسكو مائة ليرة من اجل المصلّى وأمرته "أن يتوّقف
عن أعماله كّلها حتى يتعافى على وجه تام " .
فأطاع دون بوسكو بالتوقف التام عن كل ما عليه ،الا ما يعود الى صبيانه ،ولم يحصل من
ذلك على خير عظيم ،وما لبث أَن شعر بذلك .ولكن قلقه على صحته أمر قليل الشأن عند ذاك إِذ
قيس بالغيوم السوداء التي تتراكم على المصلّى .كتب بلهجة الاسى " :في ذلك الوقت انتشرت
إِشاعات غريبة جداً .سمّى بعض الناس دون بوسكو ثورياً ،وقال غيرهم انه مجنون بل فاسد
العقيدة " .
وأول من َوسَموا مشروعه بعلامة استفهام كبيرة هم خوارنة الرعيّة في الناحية .ففي المجلس
الذي عقدوه في اول 1316كان أحد موضوعات ورقة العمل هو التعليم الديني للِصبيان ،فانتهز
خوري كنيسة الكرمل الفرصة السانحة ،لُيعرب عن قلقه في شأن مصلّى دون بوسكو :إِن
الصبيان ينفصلون عن الرعايا ،وينتهي بهم الأمر الى أنهم لا يعرفون حتى خوريهم .أتُرى ذلك
خيراً أم شراً ؟ إن سائر الخوارنة مثله في قلق .
سارع دون بوسكو الى القول " :لم تكن المسألة مسألة طموح مستهجن أو حسد .كانوا
يريدون حقاً خلاص النفوس " .
أرادوا أن يوضحوا الحالة ،فأرسلوا اليه موفدَين من لدنهم .
أعاد دون بوسكو في ذكرياته تدوين الحوار ( ولا شك في أنه ك ّرره كثيراً طوال تلك
السنين إذ كان فيه أ ِدلّة حيوية لدعم مشروعاته ) .ننقل اجزائه الجوهرية .
-إِنّ مصلاّك يُبعد الأحداث عن الرعايا ،يا دون بوسكو ،لماذا لا ترسلهم إليها ؟
-لأنّ أَكثرهم لا يعرفون الخوري ولا الرعيّة :يكادون ان يكونوا كُلُّهم غرباء ،جاؤوا
ليجدوا عملا ،من وادي أوستا ( ، )Val d’ Aostaوالسافويا ( ، )Savoiaوبيلا ( ، )Biella
ونوفارا ( ، )Novaraولومبارديا ( . )Lombardia
-لماذا لا ُتساعدهم على الانضمام الى الرعايا التي يعيشون فيها ؟

15 Pages 141-150

▲back to top


15.1 Page 141

▲back to top


-ذلك غير ممكن ،فاختلاف اللهجات ،وتبديل المساكن عقبتان كبيرتان .قد يسعنا أن
نجرّب ذلك ،شريطة ان يأتي خوري فََي َع َرّف على الذين يعودون اليه ،ويسير بهم إلى رعيّته .
ولكن حتى هذا الح ّل عسير :فإنّ كثيراً منهم لا يرعون النظام وسيرتهم غير صالحة .فإنّهم لا
يتقبلون تلقّي الدروس الدينية وإِقامة الصلاة إِلاّ إذا استميلوا باللعب والنزهات ،فعلى كل رعية
أن تحصل على مكان صالح لاجتماعات ولألعاب تلذّهم .
-ذلك أمر مستحيل ،فليس لدينا مكان ،والكهنة مشغولون بأمور أُخرى يوم الأحد .
لقد روينا سابقاً أَن النتيجة ُبّلغت دون بوسكو بعد بضعة ايام " :لم يكن بإمكان ك َلّ منهم أَن
يحصل على مصلّى في رعيته .ولذلك يشَجِعّ الخوارنةُ دون بوسكو على السير في عمله ."
لقد جاء الجواب على العلامة الاولى للاستفهام ،ولكن في الربيع جاءت سائر علامات
الاستفاهم وكانت أشدّ خطراً .
مصلّى يختلف عن غيره
إِنّ الميزات الرئيسة لمصلّى مار فرنسيس السالسي قد برزت إذن .أدرك دون بوسكو ما
وصلت اليه تجربات مصليّات ميلانو وبريشيا ( )Bresciaومار فيلبّس نيري في رومة .كان قد
اقتفى آثار الأب كوكّي ( )Cocchiفي تورينو ،ولكنه طبع المشروع بطابعه الخاص .أصبح المصلّى
في يديه مشروعا طريفاً ،يختلف عن سائر المصلّيات لما فيه من الميزات .
سنحاول ان نُدوّن جدولها ولو على وجه ناقص وغير أمين .
كانت المصّليات التقليدية تابعة للرعايا .فأنشأ دون بوسكو مصلّى تجاوز مؤسسة الرعيّة ،
فأصبح " رعِيّة الأحداث الذين لا رعية لهم " كما سماه بعدئذ رئيس الاساقفة فرانسوني
. )Fransoni (
ان وجود الكاهن بين الأحداث ،إِذا اقترن " بالعطف الممزوج بالجِدّ" ،يقلّ من البشاشة
ويكره الضجة .وأما دون بوسكو فقد فتح عهد " العطف الممزوج بالفرح" ،فالكاهن هو بنفسه
ينشّط الالعاب والاسترسال في الفرح .
كانت المصليات التقليديّة تقتصر على أيام الأعياد ،وكثيراً ما كانت تقصر لقاء الأحداث على
ساعتين أو ثلاث ساعات بعد ظهر يوم الأحد ،فوسّع دون بوسكو لقاء الأحداث حتى شمل يوم
العيد كَلّه ثم شمل الاسبوع كلّه ،والدروس والزيارات الى أماكن العمل .
إِنّ الصبيان الذين يذهبون الى مصلّى مألوف ،يذهبون إلى رعيّة ويجدون أنفسهم في كنيسة
معروفة ومحدودة .وأمّا مصلّى مار فرنسيس السالسي ،وقد زادت في نمّوه على وجه غير متوقع الهجرة
المستمّرة ،فإنّ الصبيان يذهبون إليه طالبين دون بوسكو ليقضوا النهار معه .إن مركز المصلّى

15.2 Page 142

▲back to top


ليس المؤسسة المؤلفة من الرعية – الكنيسة بل شخص دون بوسكو ووجوده الدائم المنعش .إِن
العلاقة ،في لغة اليوم ،ليست علاقة رسميّة بل شخصية .
إن سائر المصلّيات تنتقي أَحسن الصبيان ،ووالدوهم هم الذين يق ّدمونهم ويضمنون حسن
سلوكهم .نميل إِلى القول إن دون بوسكو يقوم بانتقاءٍ مخالف رأساً على عقب .يبدأ مصلاّه
بأحداث خرجوا من السجن ،ولا يعرفون أين يجدون صديقاً ،ويواصل عمله بانتقاء بنّائين صغار
بعداء من أُسرهم .إِن الصبيان " المشردّين المعرّضين للخطر" ظلّوا نواة هذا المصّى الذي بقيت
أبوابه مفتوحة دائماً أبداً لجميع الصبيان .من الواضح أن دون بوسكو اضطُ َرّ الى أَن يطالب صبيانه
بح َدّ أدنى من حسن الاستعداد والتعاون ،بيد أ َنّ دون بوسكو لم يصرف نظره عنهم قطّ ،بل ثابر
على كسبهم واحداً أو حاول ،فنجح حينًا وأَخفق آخر .
حادث شنق في أل َسّندرية
في السنة 1316حُكم بالموت على شا ًبّ في سِنّ الثانية والعشرين ،أصبح صديقاً لدون
بوسكو في السجن وحُكم على أبيه أيضاً في الوقت نفسه .كان ينتظر تنفيذ الحكم في أِل َسّندرية ولما
ذهب دون بوسكو مُكتئباً إِلى الشاب ،أخذ الشاب يبكي وطلب إلى دون بوسكو أن يرافقه في
رحلته الاخيرة ،فشعر بالعجز ولم يق َو على أن َيعده بذلك .
وسار رجال الشرطة بالمحكوم عليهما .
وكان على الأب كافا ّسو أن يلحق بهما في الحافلة البريدية لكي يسعفهما في الساعات
الاخيرة ،فما ان علم أنّ دون بوسكو رفض ،حتى دعاه وصاح به :
-ألا ترى أن في ذلك قساوة ؟ تهيّأ فسنركب القطار معاً الى أِلسَندرية .
-لن أستطيع أبداً تَ َح ُمّل ذلك المنظر .
-ع ّجل ،لا ندع القطار ينتظرنا .
وصلا الى ألِسَنّدرية عند المساء ،قبل يوم تنفيذ الحكم .فلما رأى الشاب دون بوسكو يدخل
زنزانته ،ألأقى بذراعِه حول عنفه ،واسترسل في الشهيق فبكى هو أيضاً ،وصرفا الليلة الأخيرة ،
في الصلاة والتحدث إلى الله .وفي الساعة الثانية من الصباح منحه حلّ خطاياه ،وأقام القداس
من أجله في الزنزانة ،وشكرا معاً .
دقّ جرس الكاتدرائية دقة الموت وفُتح باب الزنزانة ،ودخل رجال الدرك ،ومعهم الجلاّد
فجثا على ركبته كما تقضي العادة ليستغفر المحكوم عليه بالموت .ثم رُبطت يدا الشابّ ،ولفّت
عنقه بالحبل .

15.3 Page 143

▲back to top


وبعد بضع دقائق خرجت من الباب الكبير للسجن ،عربةُ المحكوم عليه ،وبجانبه دون
بوسكو ،وتبعتهما عربة فيها أبو الشابّ ،ُيساعده الأب كافاسّو ،وكان الجمع يزدحم في الشوارع
صامتا .
فلما ظهرت المنصّة عن بعد ،والمشانق منصوبة عليها ،امتقع لون دون بوسكو ثم أُغمي
عليه .وكان الاب كافاسّو يراقبه ،فتدخّل بسرعة ليوقف العربتين ويُنزله .
وصل الموكب المفجع إلى المنصّة ،وأُنفذ الحكم .فلما أَفاق دون بوسكو من إِغمائه ،كان
كل شيء قد تَمّ ،فبقي شديد الخجل وتمتم للاب كافاسّو :
-اني آسف على هذا الشاب ،فقد كان يثق بي ثقة عظيمة .
-لقد فعلتَ ما استطعت وأمّا الأمور فَدَعها لله .
اذار (مارس) . 1316جاء الى دون بوسكو الأب موريتّا ( )Morettaوهو كاهن صالح .
انه يمسك بيده رزمة من الرسائل .
كتب دون بوسكو " :ان الجيران ،وقد أرهقتهم ضجّة في ذهابهم وإيابهم أعلنوا
أّنهم سيذهبون جميعاً إذا لم تتوقف اجتماعاتنا لوقتها " .
رغب في ان يقاوم .أيكون أ َنّ ما من أحد يستطيع تح ُمّل الأحداث ؟ الم يكن هؤلاء الكهول
أحداثاً أيضًا ؟ وضع آخر الأمر ي َده على كتف صديقه الأب موريّتا وقال :
-دع عنك القلق ،اننا ذاهبون .
لا يدري إلى اين يذهب ،ولكن الربيع مقبل ،ويا لحسن الطالع ،فلا حاجة بهم إلى
ملجأ .
11
الاحتضار في المرج
والقيامة تحت سقف المستودع

15.4 Page 144

▲back to top


أَفلح دون بوسكو في استئجار مرج حوله سياج في مكان غير بعيد من بيت موريتّا .كان
يكفي للذهاب اليه السير خمسين خطوة .
عندما يمشي المرء اليوم في الشارع السيدة معونة المسيحيين الى اليمين ،فانه يرى قبل ان يجتاز
شارع تشينيا ( )Cignaمجموعة ضخمة من البيوت .
كان مرج فيليبّي ( )Filippiفي ذلك المكان وفي وسطه ما هو أشبه بكوخ كبير فكانوا
يرِتّبون فيه ادوات اللعب .وكان ك َلّ يوم أحد ثلاثمائة من الصبيان يطاردون بعضهم بعضا حوله
ويلعبون على هواهم .وكان دون بوسكو يجلس في زواية الى مقعد ويستمع الى الاعترفات .
في نحو الساعة العاشرة كان يدقّ الطبل ،فيصطف الأحداثُ صفوفاّ فيدوي البــوق ،
فيذهبون إلى كنيسة سيّدة التعزية أو إلى الكبّوشيين فيقيم دون بوسكو الق ّداس ،ويوزع القربان
المقدّس ثم يتناولون طعام الإِفطار .
انض َمّ صب ٌيّ معاون بنّاء اسمه بولس ،منذ أول وصولــه من بلده ،إلى جماعة الصبيان
الذاهبيين إلى جبل الكبّوشيين ،وقد روى :
" أقيم الق ّداس فتناول كثير منهم القربان المقدس ،ثم ذهبوا جميعاً الى ساحة الدير لطعام
الافطار .رآني دون بوسكو فدنا مني وقال :
-ما اسمك ؟
-باولينو ( )Paolino
-هل فطرت ؟
-كلا يا سيدي ،لأني لم اعترف ولم أَتناول القربان المقدّس .
-ولكن لا حاجة إِلى الاعتراف والتناول لكي تفطر .
-ماذا يجب ؟
-أن يكون لك شهية للطعام .
فسار بي إلى القَفّة وأعطاني ملء يديه خبزاً وثماراً ،ثم نزلتُ معه ولعبتُ في المرج حتى
الليل .منذ ذلك الحين لم أترك المصلّى طوال عدة سنوات ،ولا دون بوسكو العزيز الذي صنع الي

15.5 Page 145

▲back to top


خيراً عظيماً " .
ذات مساء بينما الصبيان يلعبون رأى دون بوسكو وراءَالسياج صبَيّا في نحو الخامسة عشرة ،
فدعاه :
-أُدخُل .من أين جئت ؟ ما أسمك ؟
لم يجب الصبيّ .
-ما بك أأنتَ مريض ؟
فتردّد ثم فتح فاه وقال الكلمة حسب :
-انا جائع .
القفّة فارغة .أرسل دون بوسكو من يأتي بخبز من أُسرَة قريبة وتَرَك الصبّي يأكل ناعم
البال .ثم شرع الصب ُيّ في التكلم كأنه يريد أن يزيل عبءاً عن قلبه :
-إِني س ّراج ،ولكن الذي أعمل عنده صــرفني لأني لا أُجيد العمل .بقيت أُسرتي في
البلد .في هذه الليلة نمتُ على درجات الكاتدرائية ،وفي هذا الصباح أردتُ أَن أسرق لأني كنتُ
جائعاً .ولكني خفت .حاولتُ أن أَطلب الصدقة ولكن قيل لي " :صحتك حسنة وأنتَ قوي البنية
فاذهب فاعمل " ،ثم سمعت صبياناً يصيحون هنا فدنوت .
-اسمع ،انا أُعنى بك في هذا المساء وهذه الليلة .سنذهب غداً الى ر َبّ عمل صالح ،
وسترى أنه يستأجرك واذا اردتَ أن تعود الى هنا أيامَ العيد كنتُ مسروراً .
-سأعود راغباً .
في أشهر الاقامة في مرج فيليبّي تح َّولت الاشاعات الغريبة التي تنتشر في شأن دون بوسكو الى
إِنذار بثلاثة أخطار :مقاومة السلطة المدنية ،واليقين بأَن دون بوسكو مجنون ( فتركه لذلك
معاونوه ) وتوُقّع ايقاف كلّ شيء على أثر عدم تجديد أجار مرج فيليّبي .
المركيز والحرس
كانت تلك السنوات سنوات ثورة ،ودخول ثلاثمائة من الأحداث باب المدينة صفوفا
منتظمة على صوت البوق والطبل يسبّب قلقاً لمدير الشرطة .كتب الأب لموان " :لم تكن المسألة
مسألة أولاد فحسب بل مسألة شبّان طوال القامة أقوياء ،أصحاب جرأة لا يتورّعون من حمل
سكين لا يفارقهم " .
فاستدعى دون بوسكو المركيز ميشيل دي كافور أبو كميل وغوستاف ومحافظ المدينة ومدير

15.6 Page 146

▲back to top


الشرطة أيضاً فابتدأ الحوار على نحو ديبلوماسّي ،ثم تُوبع بالتهديد العنيف .أدرك دون بوسكو
أنَّهم يفرضون عليه بغتة أَن يجعل حَ ّداً لعدد أحداثه ويتجَنّب إدخالهم المدينة صفوفاً ،ويصرف
الاكبر سِناً ،لانهم أش ُدّهم خطراً ،فرفض ،فأخذ كافور يصيح :
-ما لك تهتم بهؤلاء الرعاع .دعهم في بيوتهم .لاتتحمل هذا العبء ،وإلا فإ َنّ حالتكم
كّلكم ستسوء .
فأجاب دون بوسكو بحزم :
-إِني أعلّم صبياناً مساكين التعليم الدينّي ،ولا يمكن أن يسيء ذلك الامر الى أحد ،فضلاً
عن اني اقوم بك ِلّ شيء بإِذنٍ من رئيس الأساقفة .
-أيعرف رئيس الاساقفة هذه الاشياء كّلها ؟ عظيم .أمّا والحالة هذه ،فأنا ذاهب
لأح َدّث فرانسوني ( )Fransoniوسيكون عليه أَن يُنهي جميع هذه الحماقات .
لم يُنهِ المطران فرانسوني شيئاً ق ّط بل دافع عن دون بوسكو .
ومن ذلك اليوم أخذ حرس الشرطة يطوفون على حدود المرج الذي يلعب فيه الصبيان .لم
يعبأ دون بوسكو بالأمر ،ولكنّه أخذ يعيش وهو في قلق شديد .يكفي أن يرتكب أصغر مخالفة
فيُقضى على مصلاّه .إن كافور قوة عظيمة .
أتُرى دون بوسكو مجنونا ؟
إِنّ دون بوسكو نفسه ،على غير قصد منه ،تسبّب في ما دعا الى الاشاعة أنّه قد جُنّ .أراد
أن يش َجّع صبيانه لدى نقلهم من مقبرة الى طاحون ،ومن بيت متهدم الى مرج ،فأخذ يروي لهم
أحلامه .
تكلّم على مصلّى واسع مهيب وكنائس ومدارس ومعامل والاف من الصبيان ،وكهنة
يتفرّغون لخدمتهم .ان ذلك كلّه لا يوافق الحقيقة كما هيَ وما تتصف به من البؤس ك ًلّ يوم .
ان الصبيان وحدهم يصلحون لأن يحلموا ،وأعينهم مفتوحة وهم يؤمنون بدون بوسكو .
ك َرّروا في البيت وفي أماكن العمل ما رواهُ لهم فلا عجب إِذا استنتج جمهور الناس " :مسكين ! لقد
أصبح ذلك عنده هوساً .إِن الحالة في وسط هذه الضوضاء المستمرّة كلها ستنتهي به إلى مستشفى
المجانين " .
لم يكن الامر كلاماً خبيثاً أطلقه في الهواء بعضهم بل رأي شائع .ذكر ميشيل روا :
" خدمتُ القداس في مصنع السلاح ،وكنتُ أستعد للذهاب إذ سألني المرشد " :إلى أين
تذهب ؟ " " .الى دون بوسكو ،هذا اليوم يوم الأحد " " .أَلا تعلم ؟ إِنّه مريض ولا يشفى من

15.7 Page 147

▲back to top


مرضه إِلّا بجهد " .فاصاب الخبر سويداء قلبي وأَحزنني حزناً لا يوصف .لو علمت أَنّ أبي
مريض لما أحزنني ذلك حزنا أشدّ منه .أَسرعتُ إلى المصلّى فذهلتُ اذ وجدت دون بوسكو مبتسماً
شأنه في سائر اللقاءات " .بلغ من شغفه بأحداثه أنه جن " :كان ذلك المرض موضوع الحديث
حينذاك في تورينو " .
فحاول الأب بوريل صديقه ومعاونه الذي يُحبّه كأخ له أن يرّده عن رواية أحلامه قال :
-إنك تتكَلّم على كنيسةٍ وبيت وحديقة من أجل الألعاب ولكن أينَ هذه الاشياء ؟
تمتم دون بوسكو :
-لا أَدري ،ولكنها موجودة لأني أراها .
حاول ذات يوم الأب بوريل أن يجعله " يتعقّل " وهو في غرفته ولكن من غير جدوى ،فطفق
يشهق وخرج وهو يقول " :يا صديقي المسكين دون بوسكو ! لقد هَلك حقا ."
يبدو أَن دار المطرانية انتدبت مراقباً لكي يطلع على الدرجة التي وصل اليها اختلال عقل
دون بوسكو .واتفق اثنان من اصدقائه الصدوقين ،هما الأب فنسان بونزاتي ( )Ponzatiوالأب
لويس ناسي ( )Nasiمن جهتهما على أن ينتزعاه من هذا المأزق المؤلم .
وال ّراجح أنهما أَع ّدا ما يلزم لفحص طبّي جِدّي في مستشفى الأمراض النفسانية حيث يتسنى
له أن يتلقّى المعالجة اللازمة ( وكانت حالة الطبّ في ذلك الوقت كما هي اليوم في بعض القرى
النائية من العالم الثالث ) .
كان دون بوسكو ذات مساء يقوم بالتعليم الدينّي إذ وصلت عربة مغلقة إغلاقا ُمحكَماُ ،فنزل
منها الأب بونزاتي والأب ناسي ودَعَواه الى مرافقتهما الى نزهة .
-أنتً متعب فلأن تستنشق الهواء قليلاً سيكون مفيداً لك .
-أقبل بطيب خاطر .آخذ قبعتي وأتبعكما .
ففتح الباب احد الصّديقيَن وقال له :
-اصعد .
ولكنّ دون بوسكو أحسّ بالفخ فقال :
-بعدكما ،ُشكراً .
فألح الزائرون عليه ثم أبيا إِفساد الخطّة فرضيا بالصعود قلبه .فما إِن صارا في داخل العربة
حتى أغلق دون بوسكو الباب بحركة سريعة وأمر الحوذي :
-إلى مستشفى المجانين ! اسرع ! انهما مُنتَظران هناك .
دار المجانين او مستشفى الأمراض النفسانية غير بعيدة .كان الممرّضون ينتظرون كاهناً
مريضاً فرأوا كاهِنَين قادمين .فاضطُرّ المرشدُ إلى التدخل ليُنقذ التاعسَين .

15.8 Page 148

▲back to top


كانت السّخرية شديدة الوطأة ،فإِذا أُمعنَ النظر فيها تبّين أنّ ما فعل دون بوسكو أ ّشد مما
فعل صديقاه .وقد استاء منها عندئذ الأب بونزاتي والأب ناسي غاية الاستياء .ثم عادا بعدئذ
صديقَين صدوقَين لدون بوسكو ،ولا سّيما الأب ناسي الذي صار باعثا للنشاط الموسيقي في
المصلّى .
غير أم جميع الناس في أثناء ذلك تخلّوا من دون بوسكو ،فكتب بلهجة الأسى " :كان جميع
الناس يهربون منّي ،وتركني معاون َيّ وحدي بين أربعمائة صبي " .
تلك اللحظة التي فيها تتولى عن المرء " سلامة الرأي " وتنهار .فدون بوسكو إما قِدّيس وإما
مجنون ،ومن العسير الجزم بين الأمرين فهذه اللحظة أشبه باللحظة التي فيها ألقى فرنسيس
الأسّيزي ثيابه عند قدمَى أبيه ،وذهب وهو يقول " الآن يحق لي أن أقول :أبانا الذي في
السماوات " ،وهي أشبه باللحظة التي فيها ألأقى كوتولنغو آخر فلوسه وقال ،وقد ُسري عنه :
" سنرى الآن هل " البيت الصغير " هو مشروعي أم مشروع الله " .من يسعه أن يعتب على أناس
نفوسهم صغيرة ،و ّهمهم الحذَر والتعقل ،إذا ظنوا فرنسيس وكوتولنغو وبوسكو مجانين ؟
إنّ الحالة غريبة جداً حتى إِنها بلغت بدون بوسكو نفسه الى الارتياب في أحلامه .روى دون
بوسكو في محاضرة ألقاها في 18أيار ( مايو) 1361وأوجزها الشماس الانجيلي بونيتّي ( )Bonetti
لوقته ،أنّه رأى في الحلم في تلك الايام ،مسكناً قريباً من المرج سيكون له ولأحداثه .وفي صباح
الغد قال للأب بوريل من غير أن ُيعِلّق على قوله بشيء " :الآن حصلنا على البيت " فدعاه
اللاهوتي إلى الذهاب لمشاهدة ذلك البيت .فذهبا اليه :فاذا هو مسكن لنساء يدعو سلوكهن إلى
الريبة ،فخزي دون بوسكو وصاح " :هذه وساوس شيطانية والحالة هذه " خجل من نفسه
ولكن الحلم نفسه عاوده مرّتَين ،فصلى دون بوسكو باكياً " :اللهم أنِرني وأخرجني من هذا
الالتباس " .وعاوده الحلم مرة رابعة فقال له صوت " :لا تخف .إن الله على كل شيء قدير " .
الاحتضار في المرج
في تلك الأيام وصل الى المرج أصحابه ( أترى المركيز قد أرسلهم ؟ ) فانحنوا على قطع
الأرض التي داستها بلا شفقة ثمانمائة من القباقيب والجزمات ،فدعوا دون بوسكو وقالوا له :
-ما هذا :أنّ المرج يُحوّل الى صحراء !
-إن مرجَنا سيُصبح على هذا المنوال طريقا من الأرض المعبّدة .
-عذرا أّيها الأب العزيز ،ولكن لا يمكن أن تدوم الحالة هذه ،اننا نعُفيك من دفع الأجرة

15.9 Page 149

▲back to top


ولكننا مضطَرّون إِلى صرفك .
كانت المهلة خمسة عشر يوما لكي يرحل عن المكان .
كان دون بوسكو أشبه بمن ُصعق .فبعد ما نزل به من الهوان في الأيام الماضية جاءه هَمً
الحصول لوقته على مرج آخر ،ولكنه لم يجد هذه المرة شيئاً .فمن يؤجر مجنونا ؟
كان الخامس من نيسان ( ابريل ) 1316وهو يومه الاخير في مرج فيليبّي ،من أشد أيّام
حياته مرارة .
ذهب والصبيان إلِى سيدة الحقول فت َكلّم في أثناء القداس ،ولكنّه لم يطلب لقلبه أن يأتي
بالنكات المفرحة ،ولم يذكر القنّبيط الذي يعاد غرسه .نظر اليهم كما ينظر المرء الى العصافير التي
يريد امرؤ خراب عشها ،ودعاهم الى الاستنجاد بالسيدة :إِنهّم على ك ِلّ حال في يديها .
حاول عند الظهر محاولة أخيرة لدى الاخوة فيلّيبي ،فلم يحصل على شيء .أتُراه ُيضطَرّ الى
توديع صبيانه ؟
كتب " :في مساء ذلك اليوم كنت أنظر ُمع َجباً الى جمهور الصبيان الذين يلعبون .كنت
وحدي منهوكا وصحتي غير حسنة فاعتزلت وأخذت أسير ذهابًا وإِياباً وحدي ،وأنا لا أقوى على
حبس دموعي .ناديتُ :اللهمّ قل لي ما يجب علي فعله ."
الجذر المغمور الذي تف ّرع منه كل شيء
ففي تلك الايام وصل لا رئيس للملائكة بل رجل قصير القامة يُتَأتئ ،اسمه بانكرازيو
سُوافي ( )Pancrazio Soaveوهو صانع صودا ومسحوق للغسيل .سأل دون بوسكو :
-أأنت تبحث عن مكان لتقيم معملا ؟
-لا معملا ،بل مصلى . )1(
-لا أرى الفرق بين الشيئين ولكن على كلّ حال ،المكان موجود ،تعالَ فانظره .إِنّه
للسيد فرنسيس بيناردي ( )Pinardiوهو رجل كريم الخلق .
اجتاز دون بوسكو ،وهو لا يزال في البقعة التي يقال لها فالدوكّو ،مسافة قدرها نحو مائتي
)1الكلمتان في الايطالية متشابهتان في اللفظ )laboratorio , oratorio ( :(حاشية من المترجم .)
متر ،فوجد نفسه تجاه " بيت حقير له طبقة واحدة وسلّم وشرفة من الخشب المسوس وحوله جنينة
ومروج وحقول " ،وعلى بعد قليل منه ،"البيت ال ّداعي الى الريبة :الذي رآه في حلمه .
" أردتُ أن أرتقي السلّم ولكن بيناردي وسُوافي قالا لي :لا تفعل ،إن المكان الذي يعرض عليك

15.10 Page 150

▲back to top


هو خلف .كان ذلك المكان مستودعاً " .
إِن الحُجاج الذين يجتازون الساحة بجانب كنيسة السيّدة معونة المسيحيّين لا يزالون يرونه في
الآخر ،في زاوية من الأبنية :إنّه الجذع المغمور المتواضع الذي تفرّع منه مشروع دون بوسكو
الجبّار .كُتِب باحرف ضخمة " معبد بيناردي " لأنه اليوم معبد صغير غنّي بالزينة والرسوم
الجدارية كما أَعاد بناءَه الآباء السالسيّون السنة . 1020
لمّا وصل إليه دون بوسكو في ذلك اليوم الخامس من نيسان (ابريل) 1316لم يكن سوى
مستودع حقير ،منخفض يستند من جهة الشمال الى بيت بناردي ،وحوله جدار صغير يجعل منه
ما يشبه الكوخ ،وكان قد ُبني قبل قليل ،واستعمله صانع قبّعات معملاً له ثم استعملته
الغسّالات مكاناً للغسيل ،لأ َنّ ساقية تجري بالقرب منه ثم تصبُّ في نهر دوار على بعد قليل .
وطول المستودع 12متراً وعرضه ستة وفي جانبيه غرفتان صغيرتان .
فكاد دون بوسكو ان ير َدّ العرض قال :
-إِنه منخفض ج ّداً ،لا يسعني أن استعمله .
فقال بيناردي :
-سأُصلحه كما تريد ،وأحفر وأجعل له درجات ،وأُب َّدل خشب الأرض ولكني أُريد أَن
تقيم فيه معملك .
كرّر الأب بوسكو قوله :
-لا معملا بل مصلّى ،معبداً صغيرًا لأجمع فيه الصبيان .
إِن التباس الكلمتين على بيناردي أمر يسهل فهمه :كانوا في ذلك الزمان يبنون بالقرب من
الأنهار كثيراً من المعامل والمصانع .تر َدّد بيناردي لحظة ثم صاح بغتة :
-معبد ؟ هذا أحسن .إِنيّ مرتّل فسآتي لأساعدك وسآتي بكــر َسّيين ،واحد لي والآخر
لإِمراتي .
لم يجزم دون بوسكو الأمر بعد ،ثم قال :
-إِذا وعدتني بأن تخفض الأرض خمسين سنتيمتراً فإِنّي أقبل .
أبى استئجاره شهراً شهراً بل دفع ثلاثمائة ليرة ( وهي اكثر من نصف معاشه لعمله في
المستشفى الصغير ) ومن حقه استعمال المستودع الصغير والأرض الضيّقة التي حــوله ليلعب
الصبيان هناك .
عاد راكضاً الى جماعة الصبيان فتوسطهم وصاح :
-تشجّعوا يا أَبنائي .لقد وجدنا مصلّى ! سيكون لنا كنيسة ومدرسة وساحة للقفز
واللعب .يوم الأحد نذهب الى بيت بيناردي .

16 Pages 151-160

▲back to top


16.1 Page 151

▲back to top


كان ذلك اليوم أحد الشعانين ،الأحد الذي بعده عيد الفصح ،عيد القيامة
ّلما دّقت الاجراس
وفى فرنسيس بيناردي بوعده فجاء البناؤون من غير إبطاء فحفروا وثّبتوا الجدران والسقف ،
وجدّد النّجارون الأرض وجعلوا فوقها خشباً .يبدو الأمر مستحيلا في مدة ستة أيّام ولكن لا ننسىَ
أ َنّ نهار العمل كان حينذاك من اثنتي عشرة ساعة الى أربعة عشرة .يومَ السبت كان البناء قد
جُدّد .
وضع دون بوسكو على المذبح الشمعدانات والقنديل وصورة متواضعة لمار فرنسيس
السالسي .
كان يوم الثاني عشر من نيسان ( أبريل) يوماً عظيماً فَدَّقت أَجراس الكنائس في المدينة كّلها
دقّاً طويلا ،ولكن لم يكن من جرس بالقرب من مستودع بيناردي إنما هي مَوّدة دون بوسكو التي
دعت صبيانه الى منخفض فالدوكّو .
و َصلوا إليه موجات متتابعة فملأوا المعبد الصغير والأرض الضيّقة والمروج المجاورة .
حضروا بصمت وخشوع بَ َركة المعبد ،وق ّداس دون بوسكو ،وقد أقامه لوقته بعد البركة ثم
التقطوا الرغيف الصغير وهو يُلقى اليهم في الهواء ،وتفرقوا في المرج وتفجّر الفرح ،الفرح بأنّهم
حصلوا آخر الامر على بيت " كله لهم " .
10
معجزة البنّائين الصغار

16.2 Page 152

▲back to top


ذكر دون بوسكو في خمس صفحات من ذكرياته " ال َدّوام النموذجي" الذي عمل به طوال
سنين كثيرة في مصلّى فالدوكّو ،وهو دوام فيه إِفراط ،هذا أقل ما يمكن القول فيه .أَعتقد أ َنّ قليلا
من الناس يجرؤون اليوم على أن يعرضوا مثل ذلك الدوام على صبيان يواظبون على مصلى ايام
الآحاد .
" كانت الكنيسة تُفتح بكرة فتتبدئ الاعترافات حتّى القدّاس ،وموعده في الساعة الثامنة ،
ويتأخر أحياناً الى الساعة التاسعة لخدمة جميع الذين كانوا يرغبون في الاعتراف " .
القداس ،فتناول القربان ،ثم تفسير الانجيل وقد ب ّدل به بعد بضعة ايام من أيام الأحد
رواية متسلسلة للتاريخ المقدس " .وبعد الوعظ يأتي الدرس حتى الظهر ."
كان دون بوسكو يمنح نفسه ساعة فحسب ليأكل ويستريح .في الساعة الواحدة بعد الظهر
تبتدئ الفرصة :ُكرى الخشب والطوّالات ،والبندقّيات والسيوف الخشب ،وأدوات الرياضة
البدنيّة .في الساعة الثانية والنصف التعليم الدينيّ ثم تلاوة السبحة ،وقد استم ّرت الى الحين
الذي فيه صار بوسع الأحداث أن يرتلّوا صلاة الغروب ،وكان يتبعها إِرشاد وجيز ،وترتيل
الطلبات والبركة بالقربان المقدّس .
"وعند الخروج من الكنيسة وقت للتصرف بحرية " فكــان بعضهم يتابع درس التعليم
الديني ،وغيرهم يتمرّنون على الغناء أو يقرأون ولكن معظمهم يلعبون ويركضون ويقفزون حتى
المساء " .كنت أنتهز الفرصة السانحة في أَثناء هذه الألعاب الصاخبة للاقتراب من ك َلّ صبيّ ،
فأهمس في أُذن الأول أَن يُ َحسَّنَ طاعته ،وفي أُذن الآخر أن يكون أكثر إِقبالا على التعليم الديني ،
وللثالث أنصح أن يأتي فيعترف وهلُ َمّ جراً " .
ِإنــه كاهــن
كان دون بوسكو يلعب بل يقوم بألعاب البهلوان أحياناً ،وقد ذكر الأمر صراحة ،ولكنه
كان على الخصوص كاهناً ،وهو يعرف عند الضرورة أن يكون حازماً بلطف .والبرهان على ذلك
هذا الحدث من أَحداث كثيرة .

16.3 Page 153

▲back to top


دعا صبيّاً عِدّة مرّات إِلى تناول القربان المقدّس فوعد ك َلّ مرة ولكنّه لم يفِ بوعده .وكان بعد
الظهر من بعض الأيام يلعب بنشاط كبير ،فأوقفه دون بوسكو وطلب إِليه أن يصحبه غلى الموهف
لأمرٍ ما .
اراد أن يأتي كما هو ،ليس عليه سوى قميصه ،فقلت له :البس سترتك فتعالَ ،فلما
وصلنا الى الموهف قلت له :
-أجثُ على هذا المسجد .
-مــاذا تريد ؟
-أُريد ان أستمع إِلى اعترافك .
-لم استعدّ له .
-أَعرفُ ذلك .إِستع َدّ ثم أَستمعُ إلى اعترافك .
-احسنتَ إذا ارغمتني كما فعلتَ ،ولولا ذلك لما عزم ُت عليه قطّ .
وبينما أَتلو صلاة الفرض ،استعدّ قليلا ثم اعترف وشكر ،ومن ذلك الحين ظ َلّ مواظبًا على
القيام بواجباته الدينيّة " .
الوداع على الدورة
عندما يُقبل الليل ،يعود جميع أهل المصلّى إلى المعبد من أجل صلوات المساء ،وهي تنتهي
بنشيد ثم ُيشاهَد أمام المستودع منظر مؤثّر يتصف بالفرح .
كتب دون بوسكو " :عند الخروج من الكنيسة كان ك ُلّ واحد يقول :الى اللقاء ،من غير
أن يفارق أصحابه .كنتُ اقول مراراً :اذهبوا الى بيوتكم ،فالليل مُقبِل ووالدوكم ينتظرونكم .
فكان كلامي يذهب أدراج الرياح .فكان عليّ ان أدعهم يتجمعون وأن يشابك سَتّةُ من أقواهم
بنيةً بين أذرعهم ،ليُقيموا شبه مَقعد أجلس عليه كأنّه عرش ،طوعاً أو كرهاً ،ثم كانوا يصطفّون
عدة صفوف وهم يحملون دون بوسكو على مقعد أذرعهم ويتق ّدمون وهم يُغنّون ويضحكون
ويضجّون حتى يصلوا الى الدورة ( ،عند تلاقي جادة كورسو ريجينا التي كان يقال لها جادة القديس
مكسيموس ن وشوارع اخرى) .وكانوا ينشدون هناك أيضاً بعض الأناشيد ثم يسود سكوت تام
فيمكنني ان اتمنى لهم جميعا ليلة سعيدة .فكانوا يجيبون بما بقي لهم من صوتهم :ليلة سعيدة !
فكنت أنزل من عرشي ،فيذهب ك َلّ منهم إِلى أُسرته ،في حين أنّ أُناساً من أكبرهم سِنّا يرافقونني
الى بيتي ،وانا نصف ميت من التعب ."
همس كثير من الصبيان في أُذنيه " :تعالَ اليّ ،دون بوسكو ،لا تدعني وحدي خلال

16.4 Page 154

▲back to top


الاسبوع ."فكان البناؤون في ورشات البناء في تورينو يشاهدون منذ يوم الاثنين منظراً غريباً :
كاهن يشمر ثوبه ،ويتسّلق السقالات ،بين أكياس الكلس وأكداس القرميد .كان دون بوسكو
يقوم بخدمته في المستشفى الصغير والسجون ومدارس المدينة ،ثم يصعد الى فوق ليلقى صبيانه .
كان قدومه عيداً ،فالأسرة التي يعودون اليها عند المساء ليست في أغلب الاحيان أُسرةَ أبيهم
وأُمهم ،وقد لبثا في بلدهما ،بل أُسرة ع ّمهم أو أحد أنسبائهم أَو أحد مواطنيهم ،وأحياناً أُسرة
رب العمل وقد سّلمهم والدوهم اليها .لا يشعر الصبيان بكثير من العطف ،فاذا صادفوا صديقاً
صدوقًا يُحبّهم ويساعدهم كان ذلك عندهم عيداً .
ولما كان دون بوسكو يحُّبهم ،فإنِّه يتوقف لكي يتبادل ور َبّ العمل بعض الكلمات .إِنه
يريد ان يعرف أُجرتهم ووقت استراحتهم ،والفرصة التي ُتتاح لهم لكي يق َدّسوا الأعياد الدينية .
كان من أول الذين طالبوا بعقود عمل قانونية ،لا جل هؤلاء الصبيان وسهر على أَن يحافظ عليها
أربابُ العمل .
كان يزور أصدقاءه الصغار ويحصل على أصدقاء غيرهم .شهد الأب روا " :كان يزور
المعامل التي كان فيها كثير من الأجراء ،ويدعوهم كَلّهم الى مصلاّه .وكان يخصّ باهتمامه
الصّبيانَ المهاجرين من بلدهم " .
دون بوسكو يبصق الدم
دون بوسكو إنسان ،ولِقوى الانسان حدود .أخذت صحته ،بعد الإِرهاق العصبي الذي
أَصابه في الربيع ،تتدهور تتدهوراً خطِراً منذ أول أيام اشتداد الحرّ .
كانت المركيزة بارولو تُقَ ّدره كثيراً فدعته في أول أيار ( مايو) ، 1316وكان الأب بوريل
حاضراً ،فوضعت أمامه قدراً من المال عظيماً ،خمسة آلاف ليرة أي معاش ثماني سنوات وقالت له
بلهجة من يأمر :
-الآن خُذ هذا المال واذهب حيث تشاء للراحة التامة .
فأجاب دون بوسكو :
-شكراً لك ،إنك سخيّة جدّاً ،ولكنّي أَ ِصر كاهناً لأعنى بصحتي .
-ولا لتقتل نفسك .بلغني أنضّك تبصق الدم .إِنّ رئتيك تتمزقان شَ َذر مذر .كم من
الوقت تستطيع أن تبقى على هذه الحال ؟ كُ َفّ عن الذهاب الى السجون ،والى بيت موتولنغو ،
وقبل كل شيء اترك هؤلاء الصبيان مدة من الزمن .إِن الأب بوريل سيٌعنى بهم .
رأى دون بوسكو في هذه الوصايا كلَّها محاولة من المحاولات الكثيرة لتنحيته عن أحداثه ،
فر َدّ ر ّداً خشناً :

16.5 Page 155

▲back to top


-هذا أَمر لن أرضى به .
فعيل صبر المركيزة فقالت :
-اذا كنتَ تأبى للكلام اللطيف ،فسأقول كلاماً قاسياً .إنك تحتاج إلى
المعاشات التي أُعطيك لكي تتابع سيرك .أصغِ اصغاءً حسناً الى ما اقول لك :إِما أَن تتخلى عن
المصلى ،وتذهب فتستريح ،أو أصرفك .
-إنِّي أُوافق .يَسعك تَجدِي كثيراً من الكهنة تجعلينهم مكاني ،ولكن ليس لصبياني مَن
ُيعنى بهم ،فلا يسعني ان أتركهم .
لفظ دون بوسكو كلمات فيها بطولة ،ولكنّه كان على خطأ .يبدو أن المركيزة ُتعَذّبه ،
والحق هو أنها على صواب وسَتُبدي الأشهر القابلة ذلك .دون بوسكو كاهن قدّيس ،ولكنه شابٌ
في الواحدة والثلاثين من عمره وعنيد .لم يدرك بعدُ حَ َدّ الاعتدال .أظهرت المركيزة ،وكانت في
الحادية والستين ،أنَّها أَكثر تعُّقلاً منه .وهي أيضا امرأة قدّيسة .بعد هذه المنازعة الشديدة كما جاء
في شهادة الأب جياكوملي ( " )Giacomelliجَثت أَمام دون بوسكو و َطلَبت بركته " ،وأضاف الأب
جياكوملي " :لَم تكن تفعل مثل ذلك معي ."
فكتبت رسالة وسّلمتها لوقتها إلى الأب بوريل ،ومن الواضح أَنها نَوت أن يُبِلّغها دون
بوسكو ،وقد أوجزت وجهة نظرها على النحو هذا :
.1 "إنِّي أوافق وأُثني على مشروع تعليم الصبيان ( وان كنت أَرى أَنه غير مستحسن في
جوار مشروعاتي في سبيل فتيات معرّضات للخطر الأخلاقي .
.2لما كنتُ في ضميري أنّ صَدر دون بوسكو يحتاج الى راحة تامة ،فاني سأَستَمِرّ في
ان أدفع له معاشاً صغيراً اذا ابتعد عن تورينو الوقت اللازم ليسترجع صحته ،وهو أمر أرغب فيه
من صميم فلبي لاني أق ّدره تقديرا عظيما " .
إذا لم ُيطِع دون بوسكو فستجد من يقوم مقامه مرشدا للمستشفى الصغير .والى ان يَتم
الأمر ،أوصلت إليه مع ذلك ،بطرق منحرفة ن هبةً قدرها ثمانمائة ليرة .
بصق دون بوسكو الدم على نحوِ يدعو الى القلق .ويُرجّح كثيراً أن رِئَتَيه أُصيبتا بترشّح يعود
إلى السلّ .وكان مع ذلك يفكّر في المستقبل .في الخامس من حزيران ( يونيو) 1316استأجر ثلاث
غرف في طبقة بيت بيناردي ،كّلها يخمس عشرة ليرة في الشهر .
وفي ذلك الحين عاد المركيز دي كافور إلى مضايقة المصلّى ،فأرسل ك َلّ يوم أحد ستّة من رجال
الشرطة ليراقبوا دون بوسكو .قال دون بوسكو للأب بربيرس السنة " : 1322آسف على أني لم
أحصل على آلة تصوير .ما كان أجمل المنظر لو تّيسر لنا أن نرى مرة اخرى هؤلاء المئات من
الاحداث المقبلين عل َيّ بسمعهم ،وسَتّة من الحرس الوطنيّ في زّيهم ،وأذرعهم متشابكة ،واقفين

16.6 Page 156

▲back to top


اثنين اثنين ،منتصبين كالأوتاد في ثلاثة أماكن من الكنيسة ،يُقبلون هم أيضًا بسمعهم على
العظة .كانوا يخدمونني خدمة عظيمة ،وهم يراقبون أحداثي ،وقد أُرسلوا إلى هنا ليراقبوني أنا
بنفسي .كان هذا او ذاك ُيكفكف دمعه .ما كان أجمل ان يُصّوروا وهم جاثون بين الأحداث ،
ينتظرون دورهم بالقرب من كرسِيّي للاعتراف ،لأن العظات التي ألقيتها كانت من أجلهم أكثر
منها لأجل الاحداث :كنت أتكلم على الخطيئة والموت والدينونة وجهنم " .
" يا رب لا تدعه يمــوت "
أول يوم احد في تموز ( يوليو) . 1316قضى دون بوسكو يوماً مُضنياً في المصّلى والحرارة
شديدة ،وبينما هو يعود إلى غرفته في الملجأ أُغمي عليه ،فنُِقل إلى سريره " :سعال والتهابات حادةً
وبصق دم متواصل " .يُر َجّح كثيراً أن هذه الكلمات تعني " ذات الجنب تصحبها حمّى شديدة ،
وبصق دم " وهو التحام اضطرابات عظيمة الخطر في ذلك الزمان ،ولا سيّما عند مريض سبق أنه
عانى من بصق الدم .
" بعد بضعة أيام عُدِدت هالكا ."زُوّد بالقربان المقدس ومسحة المرضى فذاع الخبر لوقته في
ورشات البنّائين الصغار ،وفي ورشات الاحداث العاملين في المحركات " :دون بوسكو يوشك
أن يموت " .
وصل كلّ مساء إلى غرفة الملجأ الصغيرة ،حيث يُحتضَر دون بوسكو ،جماعات من الصبيان
المساكين ،وقد أخذهم الذعر .إنهم لا يزالون يلبسون ثيابهم التي لوّثها العمل ،ووجوههم
بيضاء من الكلس .لم يتناولوا الطعام لكي يركضوا نحو فالدوكّو .إنهم يبكون ويصلّون :
" يا رب لا تدعه يموت " .
منع الطبيب كلّ زيارة وحظر الممرض ( الذي أقامته من غيرإبطاء المركيزة عند سرير دون
بوسكو) على أ ِيّ كان دخول غرفة المرض .إن الصبيان لَبائسون .
-دعني أنظر اليه على الأقل .
-لن أدعوه إلى الكلام.
-عندي كلمة واحدة فحسب أقولها له .
-لو علم دون بوسكو أنيّ هنا فلا شكّ في أنه كان أدخلني .
ظلّ دون بوسكو ثمانية أيام بين الحياة والموت .وفي اثناء تلك الايام الثمانية لم يشرب صبيانٌ
يعملون في شمس حارة كالرصاص المصهور ،جرعة من الماء ،لكي ينتزعوا من السماء شفاءه .
تتابع البناؤون لي َل نهار في معبد سيدة التعزية .كان هناك دائمًا واحد منهم جاثياً

16.7 Page 157

▲back to top


أما السيدة ؟ اذا أغمض التعبُ الأعين ،بعد اثنتي عشرة ساعة من العمل ،فهم يقاومون
النوم لأنه لا ينبغي أن يموت دون بوسكو .
ووعد العذراء مريم أُناسٌ منهم ،بما للاولاد من سخاء عفوي ،أن يتلوا السبحة طوال
حياتهم ،ووعد غيرهم أن يصوموا على الخبز والماء مدة سنة .
أصيب دون بوسكو يوم السبت بأش َدّ نوبة ،فَقَد قوّتَه وصار أق ُلّ جهد يتقيأ الدم ،ولما
جاء الليل خاف كثير من الناس أن يأتي أجَله ،ولكنه لم يأتِ ،بل جرى خلاف ذلك فأتاه
التحسّن :تلك هي النعمة التي انتزعها من العذراء هؤلاء الصبيان الذين لا يسعهم أن يبقوا بلا
أب .
بعد الظهر من يوم الأحد في آخر تموز ( يوليو) اتجه دون بوسكو الى المصلّى ،وهو يتوكأ على
عصا ،فطار الصبيان إلى لقائه فاض َّطره الكبارُ منهم إلى العودة على كرسيّ ،ورفعوه على أكتافهم ،
وحملوه حتى الساحة ،حملَهم لمن نال الظفر .أصدقاء دون بوسكو يُغنّون ويبكون وهو أيضاً
يبكي .
دخلوا المعبد الصغير ،وشكروا الربّ معاً ،ولما ساد السكوت ،وقد توتّرت الأعصاب ،
استطاع دون بوسكو أن يلفظ بعض الكلمات :
-إنّي مدين لكم بحياتي ،ولكن كونوا على يقين منذ اليوم من إني أبذلها كلّها في سبيلكم .
هذه أهم كلمات لفظها دون بوسكو في حياته .إنّها " النذر الرسمّي " الذي به نذر نفسه
للاحداث ،ولهم دون سواهم .وكلماته الأخرى التي هي تتمة لتلك ،قالها وهو على سرير
الموت " :قولوا لصبياني إني انتظرهم جميعاً في الفردوس " .
بذل ما كان له في ذلك اليوم من القوى المحدودة ج ّداً ،في التحدث الى الأحداث فرداً فرداً
" لكي يبدّل أموراً قابلة بالنذور والوعود التي ألزم كثير منهم أنفسهم بها ،من غير التروّي
الكافي لما كنت في خطر الموت " .ذلك عمل غاية في اللطف .
فرض الاطباء على دون بوسكو نقاهة طويلة وراحة تامّةً ،فصعد الى البكّي الى بين أخويه
وا ِمّه ،ولكن وعد صبيانه فقال :
-عندما تتساقط الاوراق أكون هنا م َرّةً أخرى بينكم .
" المحفظة أو الحياة "
سافر راكباً حماراً وتوقف في كاستلنوفو " لأنّ الحمار هزّه كثيراً " ،ووصل عند المساء الى
البكّي .
دوت ساحة الدار بضجة الفرح التي أحدثها أولاد أَخوَيه ذكورًا وإناثاً ،وهم يرحّبون به .

16.8 Page 158

▲back to top


بنى انطون لنفسه بيتاً صغيراً ازاء البيت الذي سكنه لما كانوا صغارا .ُرزِق خمسة أولاد :فرنسيس
في الرابعة عشرة ،ومرغريتا في الثانية عشرة ،وتريز في التاسعة ،ويوحنا في السادسة ،وفرانسواز
وهي طفلة كلها حياة تناهز الثالة .وبنى يوسف أيضاً إزاء المسكن الوالدي بيتا يسكنه وامرأته
وماما مرغريتا وأولاده الأربعة :فيلومينا وقد أصبحت الآن في الحادية عشرة ،وروز دومينيكا في
الثامنة وفرانسواز في الخامسة ،ولويس الذي لا يزال يستهل في معهده .
أقام دون بوسكو عند يوسف .إن هواء التلال ومودة الام الوادعة والرحلات التي تزداد
طولا عند المساء خلال الكروم حيث بدأ العنب يح ّمر ،أعادت إليه الحياة والقوى .كتب حيناً بعد
آخر إلى الاب بوريل ليحصل على اخبار صبيانه .شكر " الأب باكيوتّي ( )Pachiottiوالأب بوزيو
)Bosio (والأب فولا ( )Volaوالأب تريفيروا ( " )Triveroالذين يمدّون له يد المساعدة .
ذهب في أثناء نزهة في شهر آب ( اغسطس ) حتى كابريليو ( )Capriglioوبينما هو راجع
خلال حرج صغير ،سمع صوتاً خشنا يأمره :
-المحفظة أو الحياة !
فأجاب مرعوبا :
-أنا دون بوسكو لا مال عندي .
وتفرّس في الرجل الخارج من العلّيق ،وهو يلّوح بمنجل صغير ،وواصل كلامه بلهجة
أخرى :
-كورتيزي ( )Corteseأأنت تريد قتلي ؟
عرف في الوجه ذي اللحية شاباً صار صديقه في سجون تورينو ،ويذ ّكره الصبي هو
أيضاً فودّ لو استطاع ان يتوارى في الارض .
-دون بوسكو اغفر لي ،أنا شقي .
وروى رواية متقطعة ،رواية محزنة ،كثيراً ما يحدث مثلها .خرج من السجن فلم يُقَبَل في
بيته " .حتى والدتي أدارت لي ظهرها .قالوا لي إني عار الأسرة " .أما العمل فمن العبث ذكره .
فما إن يعلم الناس أنّه سُجن حتى يغلقوا الباب في وجهه .استمع دون بوسكو الى اعترافه قبل أن
يصلا الى البكّي ثم قال له :
-تعال الآن معي ؟
وق ّدمه لذويه قال :
-التقيتُ وهذا الصديق القديم ،وسيتناول طعامَ العشاء معنا هذا المساء .
وفي صباح اليوم الثاني أعطاه بعد الق ّداس رسالة توصية إلى كاهن وبعض أرباب العمل

16.9 Page 159

▲back to top


الصالحين في تورينو ثم قّبله .
تشرين الاول (اكتوبر) . 1316أعَدّ دون بوسكو ،وهو ناعم البال ،في أثناء نزهاته
الطويلة وحده ،مشروعه للمستقبل القريب .عندما يعود إلى تورينو يذهب فيسكن الغرف التي
آجره إياها بيناردي ،وهناك يضيف الذين لا أُسرة لهم ،ويتقبّل قليلاً منهم ك َلّ مرة .
ولكن المكان غير موافق لكاهن وحده ،ويا لسوء الحظ .فعلى مسافة غير كبيرة من هناك
بيت يدعو إلى الريبة :بيت الجمال ( )Bellezzaونزل " البستانية " ( )Giardinieraحيثُ َيغنّي
السكيرون حتى نصف الليل فلا بدّ له من أن يسكن معه شخص يصونه من سوء الظن وأحاديث
الغيبة التي تنتشر بسرعة .
خطرت أُمّه بباله ،ولكن كيف يقول لها ذلك ؟ مرغريتا في سن الثامنة والخمسين .إنها في
البكّي مَلكة .كيف ينتزعها من بيتها وحفدائها وعاداتها اليومية الوادعة ؟ لرّبما شعر دون بوسكو
بتشجيع لأن الناس يتوقّعون قحطاً ينزل بالريف .كان الحصاد سنة 1316رديئا وكانوا ينتظرون
للسنة 1312ما هو أرداً منه .
استنجد ذات مساء بكل شجاعته وقال :
-يا أُمي لماذا لا تصحبيني فتصرفي بعض الوقت معي ؟ استأجرتٌ ثلاث غرف في فالدوكو
وسأوي فيها عن قريب الصبيان المشردين .قلتِ لي ذات يوم إنك لن تأتَيني إذا صرتُ غنيّاً .
وهاءنذا الآن فقير ،ُمثقَل بالدّيون .ثم هناك خطر على الكاهن اذا سكن وحده في هذا الحّي .
لبثت العجوز تفكّر .ذلك عَرض لم تتوقعه ،فألحّ دون بوسكو بلطف :
-الا يحلو لكِ أن تقومي مقامَ الأم لصبياني ؟
فتمتَمَت :
-إذا كنتَ تعتقد أ َنّ الله يشاء ذلك فأنا قادمة .
غرباء لا شيء عندهم
3تشرين الثاني ( نوفمبر) يوم الثلاثاء .الأوراق تتساقط بفعل ريح الخريف .ذهب دون
بوسكو الى تورينو وتحت ذراعه كتاب القداس وكتاب الفرض بضغط عليهما .ماما مرغريتا تمشي
بجانبه ،وهي تحمل على ذراعها قفّةً فيها قليل من الثياب والطعام .
كان دون بوسكو قد بلّغ قرارته قراراته في رسالة كتبها الى الأب بوريل ،وكان الأب القصير قد

16.10 Page 160

▲back to top


أظهر من اللطف ما جعله ينقل من غرفة الملجأ إلى غرف بيت بيناردي الأمتعة القليلة التي يملكها
دون بوسكو .
سلك الحاجّان الطريق الطويلة مشيًا على الاقدام ،فلما وصلا الى الدورة عرفها كاهن
صديق لدون بوسكو فدنا منهما لُيسَلّم عليهما فرآهما مُتعبين ،يعلوهما الغبار فقال :
-ها إنك راجع أيها العزيز دون بوسكو .كيف حالك ؟
-لقد تعافيتُ ،شكراً .جئتُ بوالدتي .
-ولكن لماذا جئتما مشيًا على الاقدام ؟
-لانه تنقصنا هذه – وم َّررَ إلإبهام على السبّابة وهو يبتسم .
-أين تسكنان ؟
-هنا في بيت بيناردي .
-ولكن ماذا تعملان لتعيشا من غير دَخل ؟
-لا أدري ،إنّ العنايةَ إلالهية ستف ّكر بالامر .
فتمتم أخوه في الكهنوت وهو يهزّ رأسه :
-أنتَ أنتَ دائماً أبداً ، -وأخرج من جيبه ساعة ،وكانت في ذلك الزمان شيئاً نادراً ثميناً ،
وق ّدمها له قائلاً - :وددتُ لو كنتُ غنيّاّ لأساعدك .أفعلُ ما بوسعي .
دخلت مرغريتا قبله مسكنها الجديد :ثلاث غرف صغيرة فارغة تدعو الى الحزن ،فيها
سريران وكرسيّان وبعض القدور فابتسمت وقالت لابنها :
-في البكّي كان شغلي كثيراً ك َلّ يوم ،لأرتب الأثاث وُألُّمعه ،وأغسل القدور ،وأما هنا
فسيمكنني أن أكون أكثر هدوءاً .
استراحا ثم أخذا يعملان ناعمَي البال .فبينما تصلح ماما مرغريتا شيئاً من الطعام ،علّق
دون بوسكو صليباً بالحائط ،وصورة للسيدة العذراء ثم هيّأ السريرين لليل .وأخذت الأمّ وابنها
ُيغنّيان معاً وكان يُقال في الأغنية :
" الويل للعالم اذا ادرك أننا غرباء ،لا شيء عندهم . " . . .
سمعهما صبي اسمه استفان كاستانيو ( )Castagnoوشاع الخبر بين أحداث فالدوكّو :
" عاد دون بوسكو ! "
11
مستودع للبارود يوشك أن ينفجر

17 Pages 161-170

▲back to top


17.1 Page 161

▲back to top


كان الأحد القابل الموافق 3تشرين الثاني (نوفمبر) 1316يوم عيد كبير .أُض ُطرَ دون
بوسكو الى القعود على كرسيّ في وسط المرج ،فتحلق الأحداثُ حوله ،فاستمع الى اغانيهم
وتهانئهم .
وكان قد ذهب كثير منهم إليه في البكّي ،واضطّروه إلى تقديم رجوعه ،وعرضوا عليه
الاختيار بين امرين :اما أن تعود إلى فالدوكّو وإما أن ننقل المصلّى إلى هنا .
عارض الأب كافا ّسو رجوعه هذا ،قبل الأوان ،بناء على نصائح الاطباء ،وبّلغه رأي
رئيس الأساقفة .كتب دون بوسكو " :يؤذن لي بالعودة إلى المصلّى شريطةَ أن لا أعظ سنتين " وأَقرّ
لوقته " :لم أُطع " .
الغرف مضاءة مليئة بالصبيان
كان أ ّولُ شاغل لدون بوسكو العودة الى دروس المساء وتوسيعها " :استأجرتُ غرفة
أخرى .نُقيم الدرس في المطبخ وفي غرفة أُخرى وفي الموهف والخورس والكنيسة .كان بين
التلاميذ صِبيانٌ كثيرو الطيش يَعيثون فساداً أو يقلبون كل شيء رأسا على عقب .وفّقتُ بعد بضعة
أشهر إلى استئجار غرفتين أُخريين " .
ذكر شهود ذلك الزمان " :كان يبتهج المرء عندما يرى عند المساء الغرف مضاءة وهي مليئة
بالصبيان والشبان ،واقفين وبيدهم كتاب ،وأمام السبورة ،أو يكتبون على المقاعد ،أو يخّطون
حروفا كبيرة في دفاترهم وهم قاعدون أرضا " .
جاء الأب كاربانو ( )Carpanoوالاب ناسي ( )Nasiوالأب تريفيرو ( )TRIVEROوالأب
باكيوتي ( )Pacchiottiليساعدوه .ان مسألة "هوسه" قد زالت عن الوجود في أثناء مرضه ونقاهته
الطويلة ،واذا كان دون بوسكو مصاباً بهَوس فقد أثبتَ قدرته على بصق الدم لكي يحققه .
لا تزال علاقاته بالمركيزة بارولو متوّترة بعض الشيء ،ولا مناصّ من ذلك عندما يمكن كل
منهما أن يقول " :أَلم أكن على صواب ؟ " .رأت المركيزة ما توقعته يتحقق :إنهار دون بوسكو
وقارب الموت .لقد اضطُ َرّ الى الاستراحة الطويلة والنقاهة ،واستمر المصلّى في نشاطه بادارة الأب

17.2 Page 162

▲back to top


بوريل .وأدرك دون بوسكو أنه أصاب إذا لم يتخ َلّ عن المصلّى أيّاً كان الثمن .ومهما يكن من أمر ،
فانه يتع َذّر عليه بسبب حالته الصحية أن يعود الى عمله في المستشفى ،ولذلك لم يجدّد عقدُهما .
ذهب دون بوسكو حيناً بعد آخر ليعظ البنات الصغيرات وكفّت المركيزة عن دفع معاش له ولكنّها
أرسلت اليه ،عن يد الأب بوريل والأب كافاسّو ،هبات سخية من " أجل أولاده" حتى السنة
1361وفيها تُوُفّيت .
البابا ماستاي فريتّي "بِيوس التاسع"
في الاشهر الأولى للسنة 1316كتب في تورينو الصحاف ًيّ الشهير دي بوني ( : )De Boni
إني اشعر بالضجر عندما أجول في الامتار المربعة لهذه المدينة المربّعة ،وفيها يتكلم جميع الناس
بصوت خافت ،ويمشون مشياً وئيدا .لا أحب الجليد الُقطبّي الذي يتراكم جبالا ،وتلك
الشوارعَ المستقيمة على قدر ما الناس مائلون ،وآراء الأحرار الحذرة هذه التي يفوح منها رائحة عظة
الأحد ،والتي تتلو ك َلّ يوم جمعة سُبحة التقدم الكاثوليكي كما يُنادي به الكونت بالبو ،باركه
الله " .
أثبتَ دي بوني أنه لم تكن له موهبة النبؤة .تورينو مستودع بارود يوشك أن ينفجر حقاً .
كان الكونت بالبو يُمَِثّل آراء الأحرار المعتدلين التي كان لها ،لا بعد سنوات ،بل بعد أشهر مفعول
زلزال في إيطاليا كلّها .
في حزيران ( يونيو) من تلك السنة انتُخِب مطران إيمولا ( ، )Imolaالمطران " الغير
المتح ّزب " ،الكردينال ماستاي فرّيتي ،ليكون بابا فتسمى بيوس التاسع .إنّه رجل شديد
التقوى بسيط ،وليس بسياسي ولا يؤيد أفكار الأحرار ولكنه يشعر شعوراً عميقاً بك ًلّ ما هو
إنساني ،ولذلك أجرى بسرعة الإِصلاحات المنتظرة منذ سنين كثيرة في الدولة الباباويّة والتي
ُتعَ ٌدّ إصلاحات تحرّرية ،وفي تلك التسمية كثير من الالتباس .
لم تمضِ بضعة أيام على انتخابه ( 12تموز يوليو) حتى مَنح عفواً سياسيّا واسعاً ،مخالفاً
بذلك رأي كثير من كرادلته ،فأطلق سراح كثير من السجناء الأحرار ،ولا ذنب لهم سوى أنّهم
اشتركوا في حركات تحررية .
أراد أن يتفهّم موقف السجناء فذهب مراراً ،وهو متنَكّر إلى سجن قصر سانت انجلو
)Castel Sant’ Angelo (وتَح َدّث إليهم ،فأشاع الذعر بين مدراء السجن ،وزار المستشفيات
" ليستمع " إلى شكايات الناس .
وفي الأشهر التي تبعت ،جعل ح ّداً لسوء استعمال الشرطة لسلطتها ،وأعلن عزمه الثابت
على أن يرى الديبلوماسيّة النمساويّة تراعي أكثر من قبل استقلال الكرسي الرسولي .

17.3 Page 163

▲back to top


وفي ربيع السنة 1312مَنح الصحافةَ بعض الحرّية وأنشأ مجلس دولة يشترك فيه علمانّيون
يَنتخبهم الشعب ( فهو يشبه المجلس النيابي بعض الشبه ) ،ور َخّص إنشاء حرس وطني ( جيش
شعبي ) .
حيّا الناسُ البابا بيوس التاسع تحيتهم للبابا الذي كانوا ينتظرونه بتلهف ،بعد صدور كتاب
جيوبرتي أ ّولّية الايطاليين .أشادوا بذكر البابا ماستاي إشادَتهم بالذي سيحقّق الوحدة
والاستقلال لايطاليا في جو من الحرّيّة .ااشت ّدت الحماسة ،فحيثما ذهب بيوس التاسع ،لم يسعه
أن يُفلت من الاستعراضات ومظاهر التكريم والسير بالمشاعل في الليل .
ولم يكن الأحرار وحدهم موافقين على سلوك بيوس هذا السبيل ،فقد نادى الذين يميلون إلى
الاشتراكية وممثلو " اليسار الديمقراطي" هم أيضاً بالمعجزة .حتى مترنيخ ( )Metternichالمستشار
النمساوي المقتدر ،حارس السلطة المطلقة والحفاظ على النظام القديم صاح متأسّفاً " :توقعتُ
كل شيء إلاّ بابا متحرراً " .
لم يكن بيوس التاسع بابا متحرّراً ،ومع ذلك اضطرّته الأحداث والأحوال نحو سنتين إلى
القيام بعمل يدعو إلى الالتباس .
أراد مترنيخ في صيف السنة 1322أن يضمن أمنه من بابا متحرر ،فأرسل حامية نمساوية
احتلت المدينة الباباويّة ف ّراره ( )Ferraraففسّر الأحرار هذا العمل على أنّه القطيعة الحاسمة بين
الكرسي الرسولي والنمسا ،وعدّوهُ الشرارة لحرب استقلال وشيكة .عرض كارلو البرتو
)Carlo Alberto (جيشه على البابا وعرض غاريبالدي ( )Garibaldiمن أميركا أن يضع جيش
متطوّعيه في تصرفه ،وكتب إليه مازّيني ( )Mazziniمن لندن رسالة عباراتها متلهبة .
كذا صار بيوس التاسع حامل راية الحرية الوطنية ولم يخطر له قطّ أن يسبب حرباً ،ولك ًنّ
الاحداثَ سبقته ،فالجوّ السائد جوّ حرب الاستقلال ،وهم يَدعون إليها باسمه .
اصطدام دون بوسكو " بالكهنة الوطنييّن
تورينو بعد روما مركز المظاهرات لصالح بيوس التاسع واعماله " المتحررة" .
كان رئيس الاساقفة محافظّا متشدداً فظل محتاراً تجاه تطورات الحالة .إنه يشك كثيراً في أن
البابا يتلقى " توجيهاته" عن بعد من قبل الأحرار ،ولك ُنّ غيره من مطارنة البيمونته ( وهم مطارنة
فوسّانو Fossanoوبنيرولو Pineroloوبيّلا )Biellaانحازوا عن قصد وبحماسة إلى " الاتجاه
الجديد التحرري في الكنيسة " .في السنة 1313كتب جميع مطارنة البيمونته وسردنيا على وجه
التقريب رسائل رعائية وطنية .

17.4 Page 164

▲back to top


كتب بيترو ستيلا ( " : )Pietro Stellaحتى دون بوسكو ساهَم ولا ريب في الآمال التي
ع ّمت إيطاليا ،وكانت تبدو مراعية لمقام البابا والسلالات الملكية القديمة صاحبة السلطة " .في
الطبعة الثانية لكتابه تاريخ الكنيسة الصادرةفي مطلع العام 1313س ّمى صاحبَ نظرية الأحرار
"جيوبيرتي الكبير " " ،ولكن هذا الشعور لم يطل أمده " لأن هذا الوصف زال عن الطبعة
اللاحقة " .فقد وقع بسرعة الاصطدام بالكهنة الوطنيين ،وحُفرت حفرة بعيدة الغور بينه وبين
الآباء كوكّي ( )Cocchiوتريفيرو ( )Triveroوبونتي ( . " )Ponte
والرجح أنّ هذا الاصطدام وقع لما أخذ يظهر بوضوح أ َنّ كثيراً من الاحرار أرادوا أن
يستخدموا البابا لأمر واحد هو هدفهم السياسي ولا سيما بعد خطابه في 20نيسان حين أزال بيوس
التاسع الالتباس ازالة نهائية .
وابل من الحجارة شديد
في أثناء ذلك ،والى جانب التاريخ الكبير ،كانت تتوالى في سهل فالدوكّو المنخفض ،
أحداث التاريخ الصغير اليومي :التعب الخَفّي لخير الصبيان ،والكفاح الصامت في سبيل دفع
الديون .
فقد أفلح دون بوسكو في كانون الأول ( دسمبر) 1316في استئجار جميع غرف بيت
بيناردي ،والأرض المجاورة له ،من بانكرازيو سوافي ( 218ليرة في السنة ) .
ور َمّمَ جدار سياج المرج المستعمل للالعاب ،وأقام في طرفيه بابًا وشبكة من القضبان
الحديد ،فهكذا لن يستطيع الرعاع الوقحون الذين يملأون يوم الأحد نزل " البستانية" وسائر
البيوت المجاورة ،التسرب الى الساحة وإزعاج الصبيان .
وحوّل دون بوسكو جزءاً من المرج إلى جنية لزرع البقل ( وهناك الآن حانوت صغير لبيع
أشياء دينية) فأطلق عليها الصبيان اسم " جنينة ماما مرغريتا" .فالدراهم للمطبخ نادرة ج ّداً ،
بعد ما ينفق على الاستئجار ،ولمساعدة الاحداث ،وماما مرغريتا فلاّحة صالحة تسعى للاقتصاد
في الصرف بزرع الخس والبطاطا .
في المروج المجاورة تتــلاقى يوم الاحد عصابات من الأوباش ،يقامرون بالدراهم ،
ويشربون الخمر التي يشترونها في قناني ضخمة من " البستانية" ويحلفون ويشتمون الأحداث
القادمين إلى المصلّى .كان دون بوسكو يقترب منهم بصبر ،ويرضى بأن يجالسهم ليلعب معهم
بالورق ،وقد استطاع رويداً رويداً أن يجذب بضعة منهم ،ولكن حدث غير مرة أَنّه بينما يشرح
التعليم الدينّي في الهواء الطلق ،لجأ الصبيان على كره منهم الى المعبد ،تحت وابل من الحجارة
شديد .

17.5 Page 165

▲back to top


كان دون بوسكو يعرف حقّ المعرفة أنّ الأحداث الخمسمائة الذين يجمعهم في مصلاّه ليسوا
سوى غيض من فيض المشردّين في المدينة ،ولا رادع لهم ولا وازع ولا خبز أحيانا .
كانت بورغو فانكيليا ( )Borgo Vanchigliaغير البعيدة من الدوكو موبوءة بعصابة من
الرعاع ،تضايق رجال الدرك ،وتعيش على سرقة محفظات النقود وسلال الطعام من الناس
العائدين من السوق .وكثيراً ما كانوا يتحاربون في معارك رهيبة فظيعة تنتهي بضربات
السكاكين .
كان دون بوسكو ،إذا َمرّ بالمكان يلقي بنفسه أحياناً بين المتحاربين ،محاولاً " بلكمات
ولطمات " ان يفصلهم بعضهم عن بعض ،فأصابته ضربة قبقاب في وجهه .قيل له في الحلم :
لا " بالضرب " ولكن للاحلام أيضاً استثناءات .
كاهــن ســارق
وكان من الوسائل التي استعملها ليأتي بصبيان صالحين إلى المصلّى أن يدخل حانوتاً يعمل فيه
الأحداث فيقترب من رب العمل ويقول له :
-أتريد أن تسّرني ؟
-إذا امكن الأمر ،يا أبتِ .
-إنّه ممكن .يوم الأحد ُترسل ال ّي هؤلاء الصبيان ،الى المصلّى في فالدوكّو سيتأتّى لهم ان
يتعلّموا شيئاً من العقيدة الدينية فَتَتَحَ ّسن سيرتهم .
-إنهم يحتاجون كثيراً إلى تحسين سيرتهم .إنهم كسالى قليلو الحياء .
-لا ،هيئتهم حسنة ،أما ترى ذلك ؟ اذاً اتّفقنا :يوم الأحد أنتظركم في المصلّى .
سنلعب معاً ونلهو .
وتختلف الوسيلة مع فئة أُخرى من الأحداث .وبينما الاب بوريل يَهتم بالمصلّى ،يجول دون
بوسكو في الساحات وشوارع أطراف المدينة .هناك جماعات من الأحداث يقامرون في الأرصفة ،
فبينما اوراق اللعب تدور تًكدّس الدراهم ( وتبلغ أحياناً خمس عشرة ليرة ) في وسط منديل .
راقب دون بوسكو الحالة مراقبةَ حسنة ثم خطف المنديل بسرعة ،وهرب فدهش الأحداث
وقفزوا على أقدامهم وركضوا خلفه وهم يصيحون :
-الدراهم ! رد علينا الدراهم !
رأى هؤلاء الصبيان المساكين ك َلّ شيء إلا كاهناً سارقاً .فظَلّ دون بوسكو يركض إلى
المصلّى وصاح :

17.6 Page 166

▲back to top


-أردها عليكم إذا أمسكتموني .هلمّوا ! اركضوا !
اجتاز بالمصلّى ثم بابَ المعبد ،والأحداث يطاردونه .كان في تلك الساعة الأب كاربانو أو
الاب بوريل يعظ في المنبر جمعاً متراصّاً من الصبيان فبدأ مشهد تمثيلية :يمثل دون بوسكو دور البائع
الجوّال فيرفع المنديل ،وهو لا يزال في يده ويصيح :
-نوغا ! نوغا! من يشتري نوغا ؟
فيُظهر الواعظ أنَّه يخرج عن طوره :
-أُخرُج من هنا ،يا قليل الحياء ،لسنا هنا في ساحة عامّة .
-ولكن لا بد لي من بيع النوغا .وههنا عدد كبير من الصبيان .ألا يدخل أحد في
المزايدة ؟
يجري الحوار بلهجة العامة ،فيتلّوى الاحداث من الضحك ،ويُصغي القادمون الجدد إلى
هذه المنازعة وهم مشدوهون ،اين هم ؟
ويواصل المتحاوران كلامهما في أثناء ذلك ،فير ُدّ أحدهما على الآخر ردوداً مضحكة ،
ويجيب ك ُلّ منهما الآخر أجوبة سريعة رشيقة ،فيؤول الكلام الى المنازعة على القمار وعبارات
الكفر ،وسعادة العيش بسلام مع الله ،فيأخذ في الضحك عندئذ الذين وصلوا خلف دون بوسكو
هم ايضاً ،ويُقلبون برغبة على المسألة التي يبحث فيها .
وينتهي الأمر بالشروع في تراتيل الطلبات فيدنون من دون بوسكو ويقولون له :
-أُتعطينا الدراهم إذن ؟
-بعد لحظة ،بعد البركة .
ولدى خروجهم من الساحة يعطيهم المال ويضيف إليه طعام العصر ،ويحصل على وعدهم
" بأنهم سيعودون الى اللعب هنا " .ولقد بقي الكثير منهم هناك .
أغاني السكّيرين وصراخهم
شهد استفان كاستانيو ( )Castagnoوهو صٌبّي من ذلك الزمان " :كان دون بوسكو دائماً
أول الذين يشتركون في الألعاب ،وباعث النشاط فيها .لا أدري كيف كان يفعل ذلك ،فقد كان
في جميع زوايا الساحة ،وفي وسط ك ًلّ زمرة .كان يرقب ك َلّ شيء بشخصه أو بعينه .كان شعرنا
أشعث ،وكنّا أحياناً قَ ِذرين نتدخّل في كل شيء ،غرباء الاطوار .وكان يحلو له أَن يكون مع
الاش َدّ فقراً .كان يحب أصغر الأولاد كأنه أُمهم .كنا نتضارب م ّرات كثيرة فنُوسِع بعضنا بعضاً

17.7 Page 167

▲back to top


ضرباً ،فكان هو يفصلنا .كان يرفع يده كأنه يريد الخبط ولكنه لم يضرب قطّ ،كان يقبض على
أَذرعنا فيُبعد الواحد عن الآخر " .
وذكر يوسف بوتسيتّي " :عرفت مئات من الصبيان جاؤوا الى المصلّى وليس لهم ِعلم ولا
شعور ديني ،فبَ َّدلوا سلوكهم بعد وقت قليل .وكانوا يتعلّقون بالمصلى تعلُّقاً شديداً حتى إِنهم لم
يفارقوه بعد ذلك ،وكانوا يعترفون ويتناولون القربان المقدّس ك َلّ يوم أحد " .
والمزعج خصوصاً في الصيف هو ملهى " البستانية" العائد الى بيت " الجمال" وكان يقصده
خلق كثير .فمن المعبد الصغير ،عندما يُضَطرّون إِلى ترك الأبواب والنوافذ مفتوحة ،ُتسمع َأغاني
السكّيريِنِ وصراخهم ،وفي بعض الاحيان تقع مشاجرات عنيفة فتطغى على صوت الواعظ .
وحدث أَ َنّ دون بوسكو اض ُط َرّ الى النزول من المنبر فنزع الكتونة والبطرشيل ودخل الملهى وهدّد
الناس باستدعاء رجال الدرك .
واشتدت الحاجة الى ح ِلّ مسألة المعاونين له ،فإ َنّ الأب بوريل والأب كاربانو وسائر الكهنة
مشغولون أحياناً كثيرة في أماكن اخرى يومَ الاحد .أين يجد من يراقب ويعلّم التعليم الدينّي ،
وعلى الخصوص من يُدَ َرّس في الليل ؟
تذ َّكر دون بوسكو أ َنّ " الحملان كانوا يتح َّولون في الحلم إلى رعاة " فاخذ يبحث عن معاونين
من بين الصبيان وشرع يُهيئهم فاختار احسن الأحداث من بين الأكبر سناً ،وألقى اليهم دروساً
خاصّة بهم .كتب الأب لموان ( " : )Lemoyneإِن هؤلاء المعّلمين الصغار ،وكانوا في أ َّول الأمر
ثمانية أو عشرة ،أدّوا شهادة حسنة ،ثم إن بضعة منهم صاروا بعدئذ كهنة ممتازين " .
وجاء بعض العلمانّيين الصالحين من المدينة فساعدوه :واحد منهم صائغ ونحّاسان
وصيدليّ وسمسار ونجّار .
11
" اني يتيم وقد جئت من وادي سيزيا "

17.8 Page 168

▲back to top


ذكر دون بوسكو حادثة مفجعة وقعت في شتاء . 1312 – 1316
كان صبّي في الرابعة عشرة قد جاء الى المصلّى بعضَ الوقت فسمع أَباه ،وكان يسكر ك َلّ
مساء ،ينهاه عن الذهاب الى بيت دون بوسكو ،فأظهر الصب ُيّ الطاعة ،ولكنّه است ّمر في فعله ،
فاغتاظ الرجل وكان عطارا ،وهدّد ابنه بان يش َقّ له رأسه إذا لم يًطع .
عاد الصبي مساء الاحد من المصلّى متأ َّخرا ،فلقي أباه غارقاً في السكر ينتظره ،وبيده فأس
صغيرة فرفعها وهو يصيح :
-ذهبتَ الى بيت دون بوسكو !
فذُعر الصبي وهرب فلحقه الرجل ،وهو يصرخ بأعلى صوته :
-إذا امسكتك قتلتك !
الشجرة والضباب
وأَخذت الأم ،وقد رأت ك َلّ شيء ،تركض هي أيضاً في إثر زوجها لتنزع السلاح من
يده .وصل الصب ُيّ الى المصلّى بعد ما جرى بكل ما ت ُمكنه سِنّه من السرعة ،فسبق أباه بمسافة
حسنة ،ولكنه وجد الباب مُغلقاً .فقرع مذعوراً ثُمّ أعياه التعب ،ولم يَر أحداً يأتي ليفتح الباب ،
فتسلّق شجرة توت عالية قريبة ولم يكن فيها ورق يخفيه ،ولكن الليلة ليلة ضباب .
فوصل الس ِكّير يلهث وبيده فأسه الصغيرة ،فخبط الباب بعنف وا تفق أنّ مرغريتا رأت من
نافذتها الولد يصعد شجرة التوت ،فخفّت الى الباب لتفتحه بعدما أخبرت دون بوسكو .فما إِن
فُتح الباب حتى أَسرع الرجل لوقته الى السلم ،فصعد الى غرفة دون بوسكو ،وصاح ُمه َدّداً أيّاه :
-أيَنَ ابني ؟
-ابنك ليس هنا .
-بل إنه هنا . -فتح الأبواب والخزانات على مصاريعها – سأ ِجده فاقتله .
فتد َّخل دون بوسكو بحزم وقال :
-ياسيدي ،قلتُ لك إِنه ليس هنا ،ولكن ،ولو كان هنا ،فإن هذا البيت ليس لك ،

17.9 Page 169

▲back to top


ولا يحقّ لك أن تدخله .فإ َمّا أن تخرج أو استدعي رجال الدرك .
-لا تتعب نفسك ،أيها الاب ،فاني ذاهب الآن الى رجال الدرك ويجب أن َتر ّد عليّ ابني .
-تمام ! لنذهب معاً .عندي بعض الأمور الصغيرة أرويها لهؤلاء الأسياد على سلوكك .
ستكون الفرصة سانحة ممتازة .
وكانت هناك حكايات يريد الرجل إخفاءها ،فتراجع وهو يتمتم التهديدات .
فدنا دون بوسكو وأُمّه من شجرة التوت ودعا الصبي بصوت خافت ،فلم يتلّ َقّ جوابا فألَحّ
بصوت أعلى ،من غير جدوى .فخاف وقوع مصيبة ،فصعد ومعه سلم ورآه محملقاً فهزّه ،فأخذ
الولد يصرخ وهو في هياج وحنق ،فكادا يسقطان كلاهما من الشجرة ،فاضطُ َرّ دون بوسكو الى أَن
يقمعه وهو يتمتم :
-ما هذا أبوك ،هذا دون بوسكو ،لا تخف !
فسكن روعه رويداً رويداً ،وأخذ يبكي بكاء هادئا .وأفلَح دون بوسكو في إِنزاله ،ودخل
المطبخ فأع ّدت له ماما مرغريتا طعاماً ساخناً ،وبسط دون بوسكو فراشاً لكي يتم َكّن من النوم
بالقرب من النار وفي اليوم الثاني أرسله الى ر َبّ عمل صالح في بلدة مجاورة ،لكي يُنقذه من غضب
أبيه ،ولم يستطع العودة إلى بيته إلا بعدَ ما مضى بعض الوقت .
ولربما نكأ هذا الحداث جرحاً في قلب دون بوسكو .فما من صب ٍيّ واحد من صبيانه يعرف الى
أين يذهب في المساء لينام .إنِّهم ينامون تحت الجسور او في مآوِ ليلية قذرة .ف ّكر منذ بعض الوقت
في إيواء المتروكين أَكثر من غيرهم .
كانت محاولته الأولى مساء يوم من أيام نيسان ( ابريل ) السنة . 1312كان بيت بيناردي
ينتهي بمستودع صغير للشعب اليابس ،فأَع َدّ العدّة لينامَ هناك ستة من الاحداث فكان الإخفاق
تامّاً .ففي صباح اليوم الثاني هرب الضيوف وقد أَخذوا الأغطية التي أعارتهم إيّاها ماما مرغريتا .
ّك ّرر دون بوسكو التجربة بعد بضعة أَيام فكانت أسوأ من الأولى :ذهبوا بالعشب والتبن .
ولكَنّه لم ييأس .
صب ّي ُمبَلّل صقعه البرد
كان المطر في يوم من أيّام أيّار ( مايو) يهطل مدراراً ،وما كاد دون بوسكو وأُمُّه يفرغان من
تناول طعام العشاء حتى قُرِع الباب ( نتابع رواية الحادث كما جاء في الصفحات التي كتبها دون
بوسكو ) .قرعه صب ٌيّ مبلل صقعه البرد وهو في نحو الخامسة عشرة قال :

17.10 Page 170

▲back to top


-إِني يتيم وقد جئتُ من وادي سيزيا ( . )Sesiaأنا بّناء ولكنّي لم أجد عملاً بعد .أشكو
البرد ولا اعرف إِلى أين اذهب .
قال له دون بوسكو :
-أُد ُخل قف بجانب النار .إنّك مبّلل كثيراً فقد تصاب بأذى .
أَع َدّت له ماما مرغريتا شيئاً من الطعام ثم سألته :
-والآن إِلى أَين تذهب ؟
-لا أدري .كان عندي ثلاث ليرات لما وصلتُ الى تورينو ولكنّي صرفتها كَلّها .
سكت وأخذ يبكي :
-رجاءً لا تصرفيني .
فكرت مرغريتا بالأغطية التي ُسرقت :
-يمكننا أن نحفظك ولكن هل من أحد يقول لي إنِّك لن تسرق ُقدوري ؟
-لا ،يا سيدتي .أنا فقير ولكني ما سرقت قطّ .
كان دون بوسكو قد خرج تحت المطر لكي يأتي ببعض الَلّبن فأتى بها ،وصنع بعض القواعد
فوضع عليها بضعة ألواح خشب ،ثم ذهب فسحب فراش سريره ووضعه فوق الألواح وقال :
-ستنام هنا ،يا بُنَيّ ،وستبقى طالما تحتاج إلى ذلك .إن دون بوسكو لن يطردك .
دعته أُمّي الحنون إِلى تلاوة الصلوات فأجاب :لا أعرفها .
-ستتلوها معنا .
وهكذا كان ،ثم ألقت اليه عظة وجيزة على ضرورة العمل والأمانة والدين " .
نظر السالسيّون بمو َدّة إلى هذه العظة الوجيزة لماما مرغريتا نظرتهم إلى أول " كلمة المساء"
وهي كناية عن بضع عبارات يقولها المسؤول عن البيت لينهي النهار .كان دون بوكو َيعُ ّد هذه
العادة " مفتاح الخلق الكريم والتقدم والنجاح " .
بيد أن ماما مرغريتا لم تكن مقتنعة كثيراً بالتأثير الفعّال لكلماتها ،إذ د ّون بوسكو في
ذكرياته " :قُفل المطبخ ولم يُفتح إلا في الصباح وهكذا حُفظت الأشياء من السرقة " .
كان ذلك الصبي أوّلَ يتيم يدخل بيت دون بوسكو ،وأصبحوا في آخر السنة 1312سبعة
ثم صاروا بعدئذ آلافاً .
وكان الصبي الثاني في الثانية عشرة وكان من أهل المدينة .صادفه دون بوسكو في جادّة
القديس مكسيموس ( وقد صارت جادة الملكة مرغريتا ) .كان يبكي وجبينه مستند إلى شجرة .
فَقَدَ أباه وتُوَفّيت أمه قبل سنة فطرده صاحب الدار ،بعد ما استولى على الأثاث ،ليستوفي الاجرة

18 Pages 171-180

▲back to top


18.1 Page 171

▲back to top


التي لم تُدفع له ،فسّلمه دون بوسكو إلى ماما مرغريتا ،ووجد له عملا في محلّ تجارة ،وقد نجح في
الحصول على منزلة حسنة وظل دائما صديق المحسن اليه .
وكان الثالث يوسف بوتسيتّي ( )Buzzettiالبّناء الصغير من كارونّو غير ينغلّو
. )Caronno Ghiringhello (دعاه دون بوسكو نفسه مساء يوم من أيام الأحد وهو ي ِوّدع
الآخرين فأمسك بيده وقال :
-أتريد أن تأتيَ فتعيش عندنا ؟
-بكلّ سرور .
-إذاً سأكلم كارلو أخاك الكبير على هذا الموضوع .
وافق الأخ الكبير الذي يجيء الى المصلّى منذ سِتَ سنوات ،وواصل يوسف ،وهو في
الخامسة عشرة ،عملَ البناء في المدينة ،ولكن بيت ماما مرغريتا صار بيته .
كان الحلاق الصغير يرتجف كالورقة
ثم جاء كارلو غاستيني ( . )Gastiniذات يوم من أيام السنة 1313دخل دون بوسكو إلى
حلاق ،فدنا منه صب ُيّ صغير لكي يطلي لحيته بالصابون فسأله :
-ما اسمك ؟ كم عمرك ؟
-كارلينو ،عمري احدى عشرة سنة .
-يا عزيزي كارلينو ،اصنَع رغوة من الصابون حسنة .وأبوك كيف حاله ؟
-مات فليس لي سوى أُمّي .
-آه يا بنيّ المسكين ،ياللمصيبة !
فرغ الصب ُيّ من بسط رغوة الصابون عليه .
-احسنتَ ،إذاً ابدأ في العمل ،تشجّع ،خذ الموس واحلق لي ذقني .
فاستولى القلق على رب العمل فتدخل بقوله :
-رجاءً ،يا أبتِ المحترم .إن الصب َيّ لا يعرف الحلاقة .إَنّه يبسط الصابون فحسب .
-ولكن لا ب َدّ له من البدء في العمل هذا اليوم أو ذاك ،أليس كذلك ؟ فيحسن إذاً أَن يبدأ
بي .الى العمل يا كارلينو !
حلق كارلينو الَلّحيتَين وهو يرتجف كالورقة ،ولما شرع يدير الموس حول الذقن َعرِق ،
فخدَشَه بعض الخدوش الكبيرة وجرحه بضعة جروح ولكنه قام بعمله .فقال دون بوسكو
مبتسماً :

18.2 Page 172

▲back to top


-أحسنتَ ،أحسنت ،يا كارلينو .أ َمّا وقد صرنا صديقَين ،فُأريد أن تأتي فتزورني حيناً
بعد آخر .
أخذ غاستيني يكثر من المجيء الى المصلّى وصار صديقا وفيّاً لدون بوسكو .
في صيف تلك السنة وجده دون بوسكو يبكي عند الحلاق فسأله :
-ماذا جرى لك ؟
-تُوفّيت والدتي فطردني صاحب الدار .أخي الكبير جنّدي ،وإلى أين أذهب الآن ؟
-تعالَ معي .
وبينما هما ينزلان إلى فالدوكّو ،سمع كارلو غاستيني تلك الجملة التي سمعها بعدئذ كثير من
الأحداث :"اترى ؟ إنِّي كاهن مسكين ولكن ولو لم يبقَ عندي إلاّ لقمةُ خبز فسأقسمها بيني
وبينك " .
هيأت ماما مرغريتا سريراً آخر .وبقي كارلو أكثر من خمسين سنة في المصلّى .كان َفرِحاً
نشيطاّ فصار العريف الماهر لجميع الحفلات .كانت تمثيلياته الصغيرة تُضحك جميع الناس ولكنه
كان عندما يتكلم على دون بوسكو يبكي كالطفل ويقول :أحَبّني .كان ُيغَنّي دورا تعلّمه جميع
الناس على ظهر قلبهم " :يجب عليّ أن أعيش – سبعين سنة – هذا ما قاله لي – بابا يوحنا " .
كانت تلك النبؤة من النبؤات التي لا يُحصى لها عدد يقولها دون بوسكو نصف ضاحك
ونصف جادّ .مات كارلو غاستيني في 23كانون الثاني ( يناير) من السنة 1082وكان له من العمر
سبعون سنة ويوم واحد .
ح ّول دون بوسكو غرفتين مجاورتين إِلى مهجع فيه ثمانية أسِ َرّة وصليب وصورة للسيدة
العذراء ولوحة فيها " :الله يراك " .
كان دون بوسكو يُقيم الق ّداس مب َّكراً عند الصباح فيحضروه الصبيان ،وهم يتلون صلوات
الصباح والوردّية .ثم كانوا يذهبون الى العمل في المدينة وفي جيبهم رغيف صغير .كانوا يعودون
لطعام الظهر والمساء .وكانت الحساء وافرا ،وكان لون الطعام المُعَ َوّل عليه للغذاء رهينَ بُقول
جنبية ماما مرغريتا والدراهم في محفظة نقود دون بوسكو .
لقد أخذت الدراهم تسبب له مسائل محرجة ج ّداً منذ تلك الأشهر الأولى ،وسوف تسَبّبُه له
غيرها طوال حياته .لم تكن معاوِنته الاولى " كونتسّة" بل أمه .طلبت تلك الفلاحة الفقيرة أن
يُرسل إليها من البكّي جهازُ زواجها والخاتم والحلق والقلادة ،تلك الأشياء التي حافظت عليها
بحرص إلى ذلك الحين ولم تلبسها قطّ منذ وفاة زوجها ،وباعتها لُتطعِم الصبيان الأولين .

18.3 Page 173

▲back to top


رئيس الاساقفة يصدم رأسه
هذه الصيغة الاولى لاول بيت سالسّي أَطلق دون بوسكو عليها اسم " البيت التابع لمصلّى
مار فرنسيس دي سال " .نَبّه موران فيرث ( " : )Morand Wirthهذا عنوان ذو مغزى .إِنّه يدلّ
على أَنّ المصلّى في نظر المؤسس يحتفظ بطابعه ال ُممَّيز " .
في شهر ايار ( مايو) 1312أَنشأ دون بوسكو جمعية مار لويس من اجل صبيانه ،فالذي
يدخلها يعزم على ثلاثة أُمور :القدوة الحسنة ،واجتناب أحاديث السوء ،والاقبال على الاسرار .
وما لبث الجمعية أن صارت جماعة من الشبان تعاهدوا على التّعاون للتّقدم في ال ّصلاح .
بعد شهر ،في 21حزيران ( مايو) احتفل بأبُّهة بأولِ عيد لمارلويس دي غوانزاغا ،فعرض
دون بوسكو هذا القديس الفتى َعرضَه لمثال الطهارة .وجاء رئيس الاساقفة ليثّبت الذين لم يكونوا
قد ثُبّتوا .
روى دون بوسكو " :وُضع التاجُ على رأس رئيس الاساقفة فلم يت َذكّر في ذلك الحين أنَّه لم
يكن في الكاتدرائيّة ،فرفع رأسه بغته فصدم التاجُ سقف المعبد ن فضحك الحضور كُّلهم وكان هو
أَول من ضحك ،فتمتم المطران فرانسوني :يجب تكريم صبيان دون بوسكو ووعظهم وأَنا
مكشوف الرأس " .
وذكر دون بوسكو تفصيلاً آخر ُم ّهماً ج ّداً لديه " :ُنظّم بعد التثبيت نوع من محضر الجلسة
دُ َوّن فيه ال ّسرّ واسم الإشبين وكنيته واسم المكان والتاريخ .ثم ُجمعت البطاقات وفُرزت بحسب
مختلف الرعايا ،و ٌحملت الى رئيس الاساقفة لكي ٌترسل إلى خوارنة الرعايا التي تعود اليها " .
فقد وافق رئيس الاساقفة بهذا العمل موافقة فعلية على المصلّى وع ًدّه " رعيّة الأحداث
المش َرّدين " وثَبّت تأييده لدون بوسكو عند خوارنة رعايا المدينة ،وكانوا لا يزالون يتر ّددون في
رأيهم .
في ايلول ( سبتمبر) اشترى دون بوسكو أول تمثال صغير للسيدة العذراء َكلّفه سبعا
وعشرين ليرة ،ولا يزال هناك في معبد بيناردي ،يَجِده الدّاخلُ في العتمة إلى اليمين .حمله
الصبيان وطافوا به في الأماكن المجاورة كلما احتُفِل بالأعياد الكبيرة للسيدة العذراء ( والأماكن
المجاورة هي بضعة بيوت ومطعم " البستانيّة " وفيه روَّاده السكّيرون الصاخبون ،وساقيتان
صغيرتان لرِ َيّ الحقول والبساتين ،وزقاق على جانبيه التوت كان يجتاز الساحة التي تُرى في
أيامنا بجانب كاتدرائية السيّدة معونة المسيحيين " .
الشارات المثّلثة الألوان في أثناء القداس الحبري

18.4 Page 174

▲back to top


ضغط " دعاةُ الحرّية" خلال أشهر السنة 1312على كارلو البرتو لكي يفتح الطريق لبرنامج
إصلاحات ،ولكنّ الملك كان يراقب النمسا ،ويريد أن يحتفظ بزمام الأمور .كان يخطو خطوة
إلى الامام ،ثم خطوة الى الوراء وهو دائم الترّدد .
في ايلول ( سبتمبر) كان الموسيقار نوفارو يعمل في شارع الوردة الحمراء الرقم ( 18وهو في
أيامنا شارع العشرين ايلول سبتمبر )63فوضع النغم لنشيد أرسله اليه غوفريدر ماميلي
)Mameli (من جينوى .لن يكون تحفة فنية ولكنّ هذه الأنغام الموسيقية القليلة وعنوانها " يا إِخوتنا
في ايطاليا " ستصبح نشيد النهضة الايطالية .
اول تشرين الأول ( اكتوبر) .اجتمع عند المساء في حديقة آل ريباري ( )Ripariحشد كبير
من أهل تورينو ليصفّقوا للبابا وللملك .وبينما الحشد راجع فرقتّه الشرطة بغلظ ،وكان ذلك أمر
من الملك .
وفي ذلك الشهر صرف كارلو البرتو الكونت سولارودلا مرغريتا ( )Solaro della Margarita
وزير الخارجية منذ اثني عشر عاماً .وكان يمّثل السياسة المحافظة الموالية للنمسا .
حظرت الشرطة في الأيام بعدئذ المظاهرات الشعبية التي تنادي " :عاش بيوس التاسع ! "
وأخبر الملك " أنه يف ّكر في إِصلاحات ولكنه يريد أن يلتزم الشعب الهدوء " .
38تشرين الاول ( أكتوبر) .أُعلِن أنه سيكون للنواحي والولايات مجالس تنتخبها
القاعدة .ولكن لن يكون الناخبون جميع المواطنين بل الملّاكون الذين يدفعون الضرائب والمعّلمون
والذين يشغلون وظائف رسمّية فحسب أي أثنان في المائة من جملة السكان ،وصارت مراقبة
الصحافة أَخفّ وطأة .
أول تشرين الثاني ( نوفمبر) .ذهب كارلو البرتو إلى جينوى ،فرافقه خمسون ألف شخص
إلى طريق مونكالييري ( )Moncalieriوهم يُغنّون ويلّوحون بالأعلام .
في ذلك الشهر بعينه وقّع كارلو البرتو وليوبولدو دي توسكانا وبيوس التاسع على مقدّمات
" العصبة الإِيطالية" أي مقدّمات الوحدة الجمركية بين الدول الثلاث .كان الأمر يبدو اتجاهاً
واضحاً نحو " تحالف الدّول الايطالية " التي أنبأ به جيوبيرتي .
1كانون الأول ( دسمبر) عاد كارلو البرتو من جينوى ،فخرجت مدينة تورينو كلّها
لاستقباله وطلب تلامذةُ معهد الكهنوت أيضاً الاذن بالاشتراك في المظاهرة ،فرفض الاذنَ المطرانُ
فرانسوني وهو عدوّ لكل تجديد مت ّحرر ،ومع ذلك ترك ثمانون من الاكليريكيين معهدَ الكهنوت
وانضمّوا الى الجمع .
ان تحدّيهم لرئيس الاساقفة يكاد يكون استفزازاً .في أثناء القداس لعيد ميلاد السنة 1312

18.5 Page 175

▲back to top


في الكاتدرائيّة ،اجتمع الاكليريكّيون في دار الخورنّية وعلى صدورهم الشارة المَثّلّثة الألوان ،
فكانت النتيجة إغلاقَ معهد الكهنوت في الأشهر الاولى للسنة . 1313
نار حسنة في الموهف
في شهر كانون الأول ( دسمبر) هذا لم يّدعُ دون بوسكو الاحداثَالكبيرة تشلّ نشاطه .ان
الصّبيان قد أصبحوا الآن عدة مئات ،ثمانمائة على ما قال الأب لموان ،ويأتي بعضهم من أحياء
بعيدة ج ّداً .فتشاور دون بوسكو والأب بوريل والأب كربانو فوجدوا أَنّهم متّفقون :يجب فتح
مصلّى آخر في القسم الجنوبيّ للمدينة .
كان على جانِبَي الجادّة التي يقال لها اليوم " كورسو فيتّوريو " أكواخ حقيرة تسكنها
غسّالات ،وكانت حبال الثياب المغسولة المنشورة في الشمس والهواء تصبغ هذا الجانب من تورينو
الذي يقال له بورتا نوفا ( الباب الجديد) بلون النشاط الفلاّحي .وكان أهل المدينة الميسورون
يقصدونه للتنزه بعد ظهر يوم الأحد ،في حين أ َنّ جماعات الأطفال البطّالين يلعبون لعبة الحرب .
حصل دون بوسكو على موافقة رئيس الأساقفة فاستأجر من السيدة فالينتي ( )Vaglientiبيتاً
صغيرًا ومستودعاً ومرجاً بالقرب من جسر الحديد ،باربعمائة وخمسين ليرة في العام ،ثم أخبر
صبيانه بهذه العبارات :
" أصدقائي ،عندما يزداد عدد النّحل زيادةً مُفرطة فإنّ قسماً منه يذهب فيسكن مكاناً
آخر .إنّنا سنحذو حذوه .سنفتح مصلّى آخر ونُقيم أسرة جديدة .إن الذين منكم يعودون إلى
القسم الجنوبي من المدينة لن يُض َطرّوا الى قطع هذه المسافة الكبيرة .سُيمكنهم منذ عيد البريئة من
الدنس الذهاب إلى مصلّى مار لويس في بورتا نوفا ،بالقرب من جسر الحديد " .
بارك الأب بوريل المصلّى الجديد في 3كانون الأول ( دسمبر) ، 1312وصار الأب كربانو
مديره في ذلك الشتاء الشديد ج ّداً .ذهب اليه وتحت معطفه حزمة حطب ليوقد ناراً في الموهف
ويستدفئ بها هو والصبيّان الأوّلون .
24
حمّى السنة 0111

18.6 Page 176

▲back to top


في السنة 1313انفجرت الأمم الاوروبية انفجار مستودعات الذخيرة .
اندلعت نيران الثورة على الخصوص في المدن :في باريس ( 21 – 23شباط فبراير) وفينّا
13(أذار مارس )وبرلين ( 2اذار) وبودابست 12(اذار) والبندقية ( 12اذار) وميلانو ( 13
اذار) .
كان يمكن المرء أن يشاهد الحروب والمعارك من المتاريس التي تقام في المدن ،ففي خلال
شهرين اشتعلت أُوروبّا كلها .
كان الانفجار شاملاً عامّاً حتى إن القيصر نقولا الروسي ساءل نفسه مذهولا في 3نيسان
( ابريل) " :ما الذي بقي قائما في أوروبا ؟ " ،وُأطلق منذ ذلك الحين في اللغة المشتركة على أي
بلبلة تحدث أو على شيء من الفوضى الثامنة والأربعين .
وسنكتفي بالاشارة إلى أهمّ الأحداث التي أّثرت تأثيراً عميقاً في حياة دون بوسكو ، ،ولا سيما
أحداث تورينو والبيمونته التي كيّفت سلوكه واختياراته .
خلف المتاريس الأحرار والوطنيون والع ّمال
لا يمكن المرء فهم زلزال 1313إذا لم يحفظ في ذاكرته ثلاثة عوامل مهمّة متشابكة :التّيارات
المتحرّرة التي كانت تحارب لإقامة أنظمة دستورية وبرلمانية مكانَ الاستبداد المطلق ،وتَش ُّوق الأمم
الى الاستقلال من الامبراطورية النمساوية ،والحركات العمّالية التي كانت تكافح في سبيل عدالة
اجتماعية اكبر .
يمكننا التعبير عن ذلك برسم هذه الصورة :كان يحارب جنبا الى جنب خلف متاريس
مختلف العواصم الاوروبية المتحرر الذي كان يريد دستوراً ،والوطنيّ الذي يطالب باستقلال وطنه
من الغريب ،والعامل الذي يحارب ربّ العمل وقد فرض عليه العمل من اثنتي عشرة إِلى اربع
عشرة ساعة .
كافحت الحركة العمالية على الخصوص في باريس ،فأقامت المتاريس في 21شباط
( فبراير) في الاحياء الشرقية ،فشقّت الطريق للسنة 1313وكان النصر خاطفاً كالبرق ،فقد
ُخلِع لويس فيليب عن عرش مملكته ،وشوهد أهل الطبقة الوسط والعمال يتآخرون حول أشجار
الحرّية ،يباركهم الكهنة ،وأُعلن الح ُّق على العمل ،وخُفِض يوم العمل الى عشر ساعات ،

18.7 Page 177

▲back to top


وفُتحت " المعامل الاجتماعية " .
ولكن بعد أربعة أشهر على اثر أخطاء جسيمة ارتكبها العمال وتعصّب أهل الطبقة الوسط ،
جرى قمع خاطف كالبرق أيضاً .فقد هجم على باريس ،حيث تجمع مائة وأربعون الف عامل ،
الجنرال كافينياك ( )Cavaignacفي معركة حامية الوطيس دامت اربعة ايام ( 26 – 23حزيران
يونيو ) وكان القمع شديداً وعاد يوم العمل إلى اثنتي عشرة ساعة .
إن هذا القمع دفع العمّال الى ترك " الاشتراكَيّات الانسانية " لاعتناق الماركسيّة وهي أش ُدّ
قساوة وأقل رحمة ،فقد كتب ماركس البيان الشيوعي في كانون الثاني ( يناير) . 1313
كان للحركة العمّالية في ايطاليا محاربون خلف متاريس ميلانو وحدها .إِن ثورة 1313
الإِيطالية سادها الاحرار الذين يطالبون الملوك أصحاب السلطة المطلقة بالدستور ،
و وطنّيون يدعون إلى حرب تحرّر من النمسا .فالنمسا تحتل أراضي لومبارديا وفينيسيا وتشدّد
قبضتها على كثير من اُلّدول الأخرى .
في ثورة 1313الايطالية ثلاثة أطوار :الدساتير ،والفتن الشعبية على النمسا ،وحرب
الاستقلال التي تز ّعمها كارلو البرتو .
ُس َمّي الدستور " نظاما "
إِن الناس في تورينو السنة 1313يفكّرون بالحرب وهم يشعرون بأَنها ستقع عن قريب ،
إنِّهم يتكّلمون على السياسة :ينتقدون ويضعون المشروعات ويطلقون النداءات .الحدث الجديد
هو ظهور الصحف السياسية " الحرة " التي ستضاعف عددها شهراً بعد شهر بسبب حرّيّة
الصحافة ،ولها نصيب كبير في توجيه الرأي العام .
إنّ المدير الشاب للنهضة وقد صدرت في 12كانون الأول ( دسمبر) 1312هو كميل
بنسو دي كافور الرجل القويّ عند الأحرار .ففي أوّل كانون الثاني ( يناير ) صدرت
لا كونكورديا ( = La Concordiaالوفاق ) العائدة إلى اليسار الديموقراطي الشعبي ويديرها فاليريو
، )Valerio (في 26كانون الثاني ( يناير) بدأت في الظهر لوبينيوني ( = L’opinioneالرأي )
لدورندو ( )Durandoوفي حزيران ( يونيو) ظهرت غازيتّا ديل بوبولو (=Gazzetta del Popol o
صحيفة الشعب ) لبوتيرو ( )Boteroالعنيفة السليطة ،وفي تموز ( يوليو) الكونسيلياتوري
= Concikiatore (الموِفّق ) ومديرها الأب غاستالدي ( )Gastaldiالذي صار بعدئذ رئيس أساقفة
تورينو ،والأرمونيا ( =Armoniaالتآلف ) لغوستاف كافور شقيق كميل ،وآراؤها مستوحاة من
العقيدة الكاثوليكية على وجه واضح .
38كانون الثاني ( يناير) .أَعلنت الاخبار في نابولي أَ َنّ الملك فرديناندو منح الدستور وأ َنّ

18.8 Page 178

▲back to top


الناس في ميلانو يقاطعون النّمساوييّن ،فذهب مجلس تورينو البلديّ إلى كارلو ألبرتو وطلب منه
ال ُدّستور .
قضى كارلو ألبرتو بضعة ايام في القلق ،وخطر له ان يستقبل .إنِّه لا يجرؤ على الحنث
باليمين التي أقسمها لكارلو فيليتشي قبل خمش وعشرين سنة .وأمّا وليّ العرش فيتّوريو عمانوئيل
فانه يعارض الاستقالة معارضة شديدة :لا يحقّ لأبيه الذي لم يَدعُه قطّ الى التدخّل ولو قليلا في
شؤون الدولة ،أَن يتركه وحده في العاصفة وهي على أش َدّها .
2شباط ( فبراير) .جمع كارلو ألبرتو المجلس الاستثنائيّ للتّاج ،وأعلن أَنّه مستع ٌدّ للنظر
في مشروع لل ّدستور ( يقال له نظام ) فيه تراعى حرمة الدين وشرف الملك ،ولكنه دعا أعضاءَ
المجلس البلديّ الى أن يحوُلوا دون تج ُمّع الشعب في الساحات فهو لن يقبل ضغطاً عليه .
18شباط ( فبراير) وجّه بيوس التّاسع نداء الى الشعب وهو في غليان شديد ،فدعا الناس
الى الإِمساك عن المطالبة بإِصلاحات لا يسعه منحهم إيّاها ،وختم كلامه بهذا القول " :أُّيها الاله
العظيم بارك إيطاليا واحتفظ لها نعمة الايمان العظيمة " .واما زعماء الرأي العام وقد عزموا على أن
يجعلوا من بيوس التاسع وسيلة لمحاربة النمسا ،فتركوا جانباً " الاصلاحات المستحيلة " و" نعمة
الايمان " وأشاعوا في إيطاليا كّلها العبارة " أّيها الاله العظيم بارك ايطاليا " فحسب .
صار ذلك الدُعاء شعار الاحرار وعلامة الحرب ،وحاول بيوس التاسع من غير جدوى إزالة
الالتباس ،فلم يُفلح كثيراً ،ولا ريب في أنّ دون بوسكو بدأ عند ذاك يشكّ في حركة المحافظين
الجدد ويبتعد عن الأحرار .
وصلت في الايام بعدئذ الى تورينوأخبار الدستور الممنوح في فيرانزي ( 12 ( )Firenze
شباط فبراير) والثورة التي اندلعت في باريس ( 23شباط) .
فعزم الناس على تنظيم " عيد للشكر على الوعد بالنظام " .فملأت ساحةَ فيتّوريا الرحبة
الوفود التي استُق ِدمت من جميع أنحاء البيمونته وليغوريا وسردينيا وسافويا ،ودُعيت جميع منظّمات
تورينو للتظاهر بحشودها ،ونزل المركيز روبرتو دازيليو ( )Roberto d’Azeglioنفشُه إلى فالدوكّو
ليدعو دون بوسكو وصبيانَه .
حديث بين دون بوسكو والمركيز منفردين
أعاد دون بوسكو في ذكريات المصلّى التي كتبها بيده تدوينَ الحوار الذي دار بينه وبين
المركيز ،وَيرُجّح كثيراً أن الكلمات التي وردت فيه ليست هي عينها التي لفظت ( فقد كتب دون
بوسكو بعد خمس وعشرين سنة) ولكننا نعتقد أنه حوار مهم ج ّداً ،لأ َنّ دون بوسكو ( الذي فكّر
فيه بعد سنين كثيرة ) يُفهمنا موقفه من السياسة منذ ذلك الزمن ،ولذلك نثبت فقراته الجوهرية .

18.9 Page 179

▲back to top


" حُ َدّد لنا مكان خاصّ في ساحة فيتّوريو ،مع جميع المؤسسات ،أيّا كان اسمها وغايتها
زحالتها .ما العمل ؟ اذا رَفَضتُ أُعلِنتُ عدواً لا يطاليا .واذا رضيتُ وافقتُ على مبادئ كانت
تبدو لي عواقبها وخيمة .
-لتعرف المدينةُ أ َنّ مشروعك لا يخالف الأنظمة الحديثة .سيكون ذلك خيرا لك :ستزداد
الهبات وستكون البلدية سخيّة وساكون أنا ايضاً سخياً في العطاء .
-يا سيدي المركيز ،إِني عازم عزماً ثابتًا على أن أكون بعيداً من كل ما له صلة بالسّياسة ،
فلا معَ ولا على .
-فماذا تريد أن تعمل ؟
-أعمل ما استطيع ،ولو قليلا ،في سبيل الشّبان الم ّشردين ،فأسعى بكل ما لد َيّ من
قوة ،ليصيروا مسيحيّين صالحين في أُمور الدين ،ومواطنين صالحين في المجتمع المدنّي .
-إنِّك على خطأ .إذا ثابرتَ على هذه المبادئ فسوف يتخلى منك جميع الناس .
كان دون بوسكو على يقين من خلاف ذلك :لو ُعني بالسياسة لكان الناس تخلّوا منه
وخصوصاً لو أَظهر مشاركته في تص ّرفات حرّة .واستطرد بعناد :
-أُدعُني الى أيّ شيء يمكن فيه الكاهن أن يعمل للمحبّة ،تجدني مستعداً لبذل حياتي وكلّ
ما عندي ،وكلن أريد أن أبقى غريباً عن السياسة في الحاضر والمستقبل .
العصابات العدوة لرجال الكنيسة تهيج
كان الموكب السّائر الى ساحة فيتّوريو مهَيبا :خمسون ألف يسيرون في الشّوارع أمام الملك
وهو على جواده .رفض رئيس الأساقفة إِقامة القداس وترتيل " إّياك ُنسَبّح اّللهمّ " في كنيسة
السيدة العذراء التي تشرف على ساحة فيتّوريو ،وأذِن أن ُتمنحَ البركة بالقربان فحسب .
خالف الاكليريكيّون أمر رئيس الأساقفة فتق َّدموا في الموكب ،وهم يحملون الشّارة المثلّثة
الألوان ،وعلى الاثر أُغلق معهد الكهنوت للاقتصاص ،ولربما كانت هذه القرارات النقطة التي
جعلت الإِناءَ يطفح .
في مساء الثاني من أذار ( مارس) هجم جماعات من المته َوّسين على د ُور اليسوعيين بالقرب
من كنيسة الشهداء والكرمل ،فكسروا الزجاج وحطموا الابواب .
وفي الغد التَفّت الجماعات نفسها حول ال ّراهبات الم ّسمات " سيّدات القلب الاقدس" وهم
يتلفّظون بعبارات التهديد ،وقد ج َّددوا هجماتهم من غير انقطاع سبعة أيّام فردّهم على أعقابهم
الحرس ك َلّ مرة ،وفي الايام بعدئذ ترك المدينة اليسوعيّون والراهبات المذكورة .

18.10 Page 180

▲back to top


وغذّت البلبلةَ الجامعاتُ العدوة للدين .كانت تتشَ َّدق تحت نوافذ المركز الكهنوتي :
"الموت للأب غوالا" وحاولت غزوَ قصر المركيزة بارولو لأنّه شاع أَنّها تُضيف خمسة عشر
يسو ّعيًا .
1اذار ( مارس) .وقع كارلو البرتو على النّظام برأي من مجلس التاج ،فأُلغيت ال ُّسلطة
المطلقة للملك ،وبدأ النظام البرلماني .
وجرى ما يبدو غريباً ،فإنّ تورينو لم ترّد على ذلك بمظاهر حماسّية ،بل استمرّت المشاغبات
الصّاخبة واشتدّت عداءً لرئيس الأساقفة والكهنة وأنصار ال ُّسلطة المطلقة .
3اذار ( مارس) أُنشئ الحرس الوطنّي لإِعادة النظام إِلى المدينة ،فافتُتِح الاكتتاب في
ساحة سان كارول فاكتتب خمسمائة من المواطنين في بضع ساعات .
ميلانو تثور وتطلب النجدة
شاعت أخبار خارقة العادة خلال بضعة أيّام .ثارت فينّا وصرف الامبراطورُ مّترنيخَ 3(
اذار مارس) ومنح بيوس التاسع الدستور ( 11أذار) .وقعت الثورة في برلين وبودابست
12(أذار) .ومن أشَ َدّ الأخبار دويّاً البندقيّة ثارت على النمساويين ( 12أذار مارس) وأن
ميلانو بدأت ثورَتها على الجيوش النمساويّة التي يقودها راديتزكي ( 13 ( )Radetzkyأذار
مارس ) .
أَقام كارلو البرتو قيصر بالبو مؤّلف كتاب آمال ايطاليا رئيساً للوزراء ،وذهب الأب انطون
روسميني الى رومة ليكون ممّثلا للبيمونته لدى البابا .
وفي 10آذار وصل الى ميلانو الكونت اريزي ( )Areseحاملاً أخباراً وَعُرضاً .في اللجنة
المركزية للثورة تَيّارٌ جمهوريّ قوِيّ عد ٌوّ لكارلو البرتو ولكن تَيّار غابريو كازاتي ( )Gabrio Casati
صديق البيمونته تفوّق عليه ،فطلب مساعدةً عسكريّة من كارلو البرتو .
فنظر مجلس الوزراء والملك في الموقف .ماالعمل ؟ فعزموا قبل ك َلّ شيء على ارسال جيوش
الى الحدود لتحميها من كل تسرّب نمساوي يُحتمل وقوعه ،فذهب لواء من حرس الملك الى نهر
التيشينو ( . )Ticino
وكانوا في أثناء ذلك لايزالون يتحاربون في ميلانو ،وفي 28اذار ( مارس) عِرض هدنةّ
الفريق راديتزكي القائد العام لجيوش الامبراطور ،فَرفِض عرضه وفي 22أذار استولى رجال
لوتشيانو مانارا ( )Manaraعلى بورتا توزا ( )Porta Tosaفتخلّى النمساويون عن ميلانو ،و ُطرِدوا
أيضاً من البندقيّة ،حيث أُطلق سراح دانيال مانين ( )Daniele Maninمن السّجون ،فنودي به
رئيساً لجمهورية القدّيس مرقس .

19 Pages 181-190

▲back to top


19.1 Page 181

▲back to top


وصاح الجمع في شوارع تورينو :(الحرب ! الحرب! " .
22اذار ( مارس) .وصل الى تورينو عند المساء ممثّلو ميلانو المنتصرة ،فطلبوا أن يتد َّخل
الجيش لوقته ،قبل أن يُعاود النمساويون الهجومَعلى المدينة ،واشترطوا شرطين :تبنّي الألوان
الإيطالية الثلاثة مكانَ العلَم الأبيض وتأخير دخول الجيش البيمونتّي ميلانو ما بعد النصر .
" الحرب للنمسا ! "
عزم مجلس الوزراء على الحرب ،فوافق كارلو البرتو ،وأُعلنت الحرب على الَنّمسَا ،فظهر
الملك في شرفة القصر الملكي في ساحة كاسّتلو ،ولَوّح بالعلم الإيطاليّ فحيّا الشعبَ الذي صاح
" الحرب للنمسا ! " .
في تلك الليلة أَس َرّ كارلو البرتو الى صديق له " :لو لم أعلن الحرب لكنتُ خسرت الدولة
ووَقعَت الثّورة .وأَمّا وقد أُعلِنَت الآن ،فهناك خطر عل َيّ بأن أخسر العرش إذا لم نربح ،ولكني
مستعدّ لذلك " .
تلقى القائد با َسّالاكوا ( )Passalacquaالأمر بان يجتاز نهر التيتشينو ـ وهو يرفع العلم المثلّث
الألوان وعليه رمز سافويا بأعلى اللون الابيض .
21أذار ( مارس) .رئيس الأسقف في الكاتدرائيّة حفلة صلاة بمحضر من الملك وولّي
العهد ،ولما خرج المطران فرانسوني صَفّر الناس له وشتموه .
ذهب في الليل كارلو البرتو وابنه الى الجبهة على رأس 68ألف رجل ،فاحتشد لِتُحيَيه جمع
عظيم في شارع نهر البو وساحة فيتّوريو .كان ذلك أَشبه ِبعيد مهيب ،ولكن الحرب أمر من نوع
آخر .
في الأيام التي بعدها تركت تورينو جميعُ الألوية وصودرت الخيل كَّلها من أَجل المدفعيّة
والحافلات ،فخَيّم على المدينة ،وقد خلت من العربات ،سكوت غريب يجري فيه تيار من
الخوف .
تجدّدت الضجّة عند المساء تحت نوافذ رئيس الاساقفة فأرسل اليه وزير الداخلية من أَبلغه
أنهم سوف يكونون اه من " الشاكرين إِذا غاب عن المدينة مدة من الزمن " ،فذهب المطران
فرانسوني إلى سويسرا .
فأمر النائب العام الذي قام مقامَه برفع الصلوات من أجل المحاربين ،وأوصى لخوارنة
الرعاية بأن يساعدوا أُسر الذين ُيستدعون الى الجيش ،وأَذن للمزارعين بالعمل أيّام الاحد في
حقول اخوتهم الذين ذهبوا الى الحرب .

19.2 Page 182

▲back to top


فعمدت السلطات الى تدابير مؤلمة ولكن ضرورية ،ف ُعزِل أعلى الموظفين الذين عُدّوا
رجعيّين ،عن المناصب الرسمية ،في حين أَنهم كانوا ،قبل بضعة أَشهر ،أخلص الذين يعملون
للملك ،و ُس َرّح حاكم تورينو نفسه المرشال لاتور ( . )la Tour
المعارك الحقيقية والمعارك للتمثيل في فالدوكّو
كان ال ِصّبيان أَنفسهم يستنشقون جوّ الحرب ،فكان الأشدّاء من فانكيليا ( )Vanchiglia
وبورغو دورا ( )Borgo Doraوبورتا سوزا ( )Porta Susaيخوضون نعارك حقيقّية في المروج حول
فالدوكّو ولم تكن المعارك للمزاح ،فقد كان هؤلاء الصبيان يتسلّحون بالعصي والسكاكين
والحصى ،ويوسعون بعضهم بعضاً ضرباًعنيفاً .كان دون بوسكو يخرج أحياناً كثيرة من بيته لكي
يدعو رجال الدرك ،وُيلقي بنفسه معهم بين زمرة المتح ّمسين .
ذات يوم رأى على غير بعد منه صبّياً في الخامسة عشرة يغرز سكينة في جوف خصمه ،
ف ُحمل الى المستشفى على عجل فمات الصبي وهو يتمتم " :ستدفع لي الثمن " .
َذكر دون بوسكو بلهجة الأسى " :كانت هذه التحدّيات لا نهاية لها " .فكانت العصابات
تتّحد احياناً لتقذف " بيت خوري الرعية" بالحصى ،فكانت الحجارة تنزل كالمطر على القرميد
والنوافذ فيرتعد لها من الخوف يوسف بوتسيتّي ( )Buzzettiوالآخرون .
أراد دون بوسكو ان يجتذب ال َصّبيان الى المصلّى ،فاستعمل هذا الجوّ ،جوّ الحرب ليخترع
لعبة جديدة .كان صديق من أصدقائه اسمه يوسف بروزيو ( )Brosioمن رجال ال ّدرَك في
الماضي ،فإِذا جاء الى فالدو ّكو لَبس بزّته العسكرية فأثارت الحماسة والتوقيرَ في الأشهر تلك ،
فأَوحى اليه دون بوسكو أن يؤلف مع ال َصّبيان فوجاً مصغّراً وأَن يعّلمهم مناورات الحرب
وحركاتها .
فرضي بروزيو وحصل من الحكومة على مائتي بندقيّة من طراز قديم وب ّدل ببطانة البندقيّات
عصا ،ونَفخَ بالبوق و َشرع في التمرينات :السير الى الأمام ،وتغيير الأتّجاه ،والإِغارة
بالحربة ،والتراجع والهجوم .كان الفوج يقيم تمثيليات يُصَفّق الناس لها كثيراَ ويتولى ايضاَ
المحافظة على النظام في الكنيسة .
ذات يوم من أّيام الأحد ،بينما الجمع يتابع المناورات بش َغف بعد الظهر ،وقد اجتذبه اليها
صوت البوق ،وقعت الكارثة ،فإن الجيش " المغلوب" تشَتّت شذَر م َذر ،وطارده المنتصرون وقد
استولى عليهم نشوة الظفر ،فالتجأ إلى جنينة ماما مرغريتا و َطمَس بأقدامه الخَسّ والبقدونس
والبنادورة .

19.3 Page 183

▲back to top


فتألمت " الماما" ألماً شديداً وقد شهدت الكارثة ،وتمتمت لابنها الواقف بجانبها " :أُنظُر ،
أُنظر يا يوحنّا ما الذي فعلوا :لقد أَتلفوا لي ك َلّ شيء ."
" دعني أعود الى البيت"
وُير َجّح أَن مرغريتا ذهب عنها رباط جأشها في اللّيلة التي تبعت تلك الاحداث .ذهب
ال َصّبيان ليِناموا فوجدت نفسها على عادتها أمام كومة من الثياب لا بُدّ لها من ترقيعها .تركوا لها في
آخر السرير قمصاناً ممزّقة ،وبناطل مفتّقة ،وجوارب مثقوبة وقد وجب عليها أن نرقّع ذلك كَلّه
وهي تستضيء بنور سراج وقوده الزيت ،لأنه ليس لديهم ما يلبسون عند الصباح غير ذلك .كان
دون بوسكو واقفاً بجانبها يضع الرقع على مرافق ال َسّترات ،و يصلح الأحذية .
تمتمت بغتة :"يوحنا ،إنِّي متعبة ،دعني أعود إلى البكّي .أعمل من الصباح إلى المساء ،
وأنا عجوز مسكينة ،وهؤلاء الأولاد يُتلفون لي ك َلّ شيء ،لقد عيل صبري " .
لم يرِو لها دون بوسكو نكته لَُيسرّي عنها ولم يَنبِس بكلمة ،وما من كلمة ُتع ِزّي هذه المرأة
المسكينة .أتى بحركة فحسب :أشارَ إلى الصليب المعّلق بالجدار ،ففهمت الفلاحة العجوز ،
فحنت رأسها على الجوارب المثقوبة والقمصان الممزّقة ،وعادت الى الخياطة ولم تتحدث قطّ بعدئذ
حديث العودة الى بيتها .
قضت السنين الاخيرة من حياتها بين هؤلاء الصبيان الضجّاجين ،القليلي التربية ولكنهم
يحتاجون إلى أُمّ ،واكتفت بأن ترفع عينيها أَكثر قليلاً من ذي قبل الى الصليب لكي تسترجع رباط
جأشها .إّنها العجوز المسكينة المتعبة .
حربٌإإِيطالَّية في لومبارديا
28اذار ( مارس) .يبدو من الأخبار التي تصل أنّ أَحلام " المناصرين للبابا" أخذت
تتحّقق بسرعة خاطفة ،فمن الولايات الباباوية انطلق 12الف جندي على رأسهم القائد دوراندو
لتأييد جيش كارلو البرتو ،ومن توسكانا سبعة آلاف متطوع يقودهم مونتانلي ( ، )Montanelli
وأَعلنت بارما وسردينيا في استفتائين أَنهما ُتريدان الانضمام الى البيمونته .
6نيسان ( ابريل) .جرفت الحماسة الجماعيّة فرديناند ودي نابولي ،فأَعلن الحرب على
النمسا ،وسلّم الى القائد غليوم بيبي ( ) pepeجيشاً عدد رجاله 16ألفاً ليشترك في الحملة .إن
الحرب التي تدور رحاها في لومبارديا حربٌ إِيطاليّة .
وصلَت إلى تورينو أخبار سارّة ،فقد أحرز الجيش أولَ انتصاراته في موازامبانو

19.4 Page 184

▲back to top


)Mozambano(وغويتو ( 0-3 ( )Goitoنيسان أبريل ) وغادر غريبالدي أميركا ومعه " اللواء
الايطالي " في 12نيسان .
وفي 22نيسان جرت في البيمونته الانتخابات السياسيّة الأولى لِتسمية 281من النواب
فانتُخِب جيوبرتي في تورينو ونُحّي كافور .
38نيسان .عاد جيوبرتي من المنفى فاستقبله الناس استقبالَهم للظافرين .وظُنّ نفسه رجلَ
العناية الإلهيّة ،وعقد مجلسُ النواب جلساته في ردهة السويسريّين في قصر الملكة ونودي بجيوبرتي
رئيساً للمجلس .
وقاد اليسار الديموقراطي الغوغائيان فليريو ( )Valerioوبروفريو ( )Brofferioوأوربانو
راتاتسي ( ، )Urbano Ratazziفاستهل الَيسارُ َع َمله بالطعن في كارلو ألبرتو وشتمه ،زاعما أنّه
خائن ،وطلب إعادة النظر في دعاوى العام 1321والعام 1331وكانت صحف اليسار عنيفة .
إنها موافق أقل ما يقال فيها إِنها غير مؤاتية ،ورحى الحرب تدور .
ارتعب البلاط الملكي ،فأحرقت الملكة آدلائيد ( ، )Adelaideوهي بنت أرشدوق
نمساوي ،رسائلها الشخصيّة ،واغتاظ كارلو البرتو في معسكره أشد الغيظ .
ولكن لم يمضِ وقت طويل حتّى ينصبّ ماء بارد كالجليد على حماسة الايطاليين وغضبهم .
11
ِإنهيار الآمال
في 22نيسان ( أبريل) 1313و ّصل الى رومة الكونت رينيون ( )Rignonأرسله كارلو

19.5 Page 185

▲back to top


ألبرتو ،فطلب الى بيوس التّاسع تأييداً مادّياُ ومعنويّا من أجل الحرب ،فأجابه البابا أَنه قدّم التأييد
المادي بارساله دوراندو و 12ألف جندّي الى نهر البو ( . )Poوأمّا التأييد المعنويّ فلا بُ َدّ له من أن
يف ّكر بالامر " :لو كان بوسعي ان أوقّع " ماستاي " ،لأخذتُ القلم ولَتمّ الأمر في بضع دقائق لأنّي
إيطالي ،ولكن يجب أن أُوقّع " بيوس التاسع" ،ويجب على رئيس الكنيسة ان يكون خادم ال ّسلام
لا خادم الحرب " .فكر في الأمر يومين آخرين ،وقد فحص المؤ َرّخون في ذينك اليومين بالمجهر من
غير جدوى .يبدو أَنّه في هذه الساعات الثماني والأربعين ُذكر في التقارير من النمسا والمانيا أَن
جماهير من الكاثوليك متمرّدة على الكرسّي الرسوليّ :فهناك خطر الانشقاق .
نهاية الالتباس
23نيسان (ابريل) .أعلن بيوس التّاسع في خطاب الى الكرادلة ،أَن إِصلاحاته لا تعود
إلى آراء الاحرار بل إلى مشاعر انسانيّة مسيحيّة .إِن َحلّا يعني حرباً تُشَ ّن على الجرمانّيين تسبّب
في نفسه اضطراباً شديداً .إنّه لا يسأل الله الحرب بل الحرب بل الوفاق والسلام .أَعلن أيضاً استعداده لأن
يصير " رئيس نوع من الجمهورية الجديدة تُحََقّق مع شعوب ايطاليا " .
أزال البابا بهذه الكلمات ما أحاط به من الالتباس الكبير على أثر صياحات الاحرار الذين
استخدموه لأغراضهم ،وعلى أثر بعض مواقفه المترددة .فان هذه الكلمات أَنزلت بأحلام
" المناصِرين للبابا" ضربة قاتلة وإن كانت ترفض رئاسة " الجمهورية " فحسب ولا ترفض رئاسة
" تحالف من الممالك " .
وعلى الأثر بعث بيوس التاسع برسالة الى الامبراطور ،فطلب أن يؤذن للاقطار الايطالية
بالاجتماع ال َّسلمي في أ َمّة واحدة .تلن حركة موافقة لرغبته السل َمّية ولكنها وهم من سذاجته .
كانت الحماسة قد ثارت ثورة خاطفة ،فانقلب الموقف رأساً على عقب بسرعة خاطفة ،
فوقع شغب في ساحة الحرب ،وفي مختلف العواصم الإيطالية ،فأمر ليوبولدو ملك توسكانا
وفرديناندو ملك نابولي جيشهما بالعودة .وذهب ملك نابولي الى أبعد من ذلك ،فعمد الى انقلاب
سَّبب معارك عنيفة بين المتظاهرين وقوة الحكومة فحلّ المجلس ( 12أيار مايو) .
وبقيت قوى نابولي بإمرة بيبي ( )Pepeوقوى باباويّة بإمرة دوراندو ،مع كارلو البرتو على أنها
قوى متطوّعة يؤيدها الطلاّب الجامعّيون التوسكانيّون .
كان يوم 38أيار ( مايو) آخر يوم ُمشرق في تورينو اذ بلغتهم بشرى انتصار غويتو ( )Goito
واستسلام بسكييرا ( )Peschieraفزُيّنَت الشّوارع وأُنيرت النّوافذ وصاح النّاس " :عاش كارلو

19.6 Page 186

▲back to top


البرتو ملك ايطاليا ! " .
ولك َنّ الأيام ال ُمرّة تبعت على الأثر اذ استولى راديتزكي على فيتشينزا ( )Vicenzaواحتّل بادوفا
)Padova (وتريفيز ( )Tervisoومستري ( . )Mestre
أَخذت الحرب تُثقل كا َهل تورينو ،فلأعمال التجاريّة تضعف ،ولا مال للتداول وأُغلق
كثير من المحلات التجارية ،وكثر عدد العاطلين عن العمل ،وأضرب صانعو الأحذية والخياطون
عن العمل لِقّلة أُجرتهم .
ويُضاف الى ذلك كلّه ما يشاع من أنّ العاصمة ستُنقل الى ميلانو .فمدينة مثل تورينو لا
بلاط فيها ولا اعمال اداريّة ،تعني مدينة نصف عاطلة عن العمل .أخذ يرتجف من الخوف
صاحبو العمارات الذين بَنَوا كثيراً في السنوات الماضية وعلى عاتقهم كّلهم معاً رَهن قدره 632
مليوناً .
الصحون و " حصة الطعام" في المصلّى
في ذلك الجوّ من الفقر المنتشر شُ َدّ الحزام على البطون في مصلّى فالدو ّكو أيضاً .عندما يعود
عند الظهر العمال الصغار الذين يعيشون مع دون بوسكو ،فإنهم يذهبون الى المطبخ وصحنهم في
يدهم ليحصلوا على حصتهم .إن القدر التي تغلي على النار تحتوي على الأرزّ والبطاطا والمع ّجنات
واللوبيا أَو على خليطٍ ُمغ ًذّ يُنصَح به في وقت الحرب أي كستنة مجفّفة مغلية مع طحين الذرة
الصفراء .
كان دون بوسكو يوزّع الحساء ويُتََّبلّه بالنكات " :ك َرّم الطّباخ بشهيتك للطعام " " ،من
اراد ذلك النم َوّ أَكثر من الأكل " " ،وددتٌ لو أعطيتك قطعة من اللحم ولكن ليس عندي منه شيء .
ومع ذلك إذا أتفّق لنا أن نجد بقرةً لا يملكها أحد فسوف نُقيم عيداً عظيماً " .
وأمّا الفاكهة بعد الطعام فتفاحة ،لا تفاحة لك َّل واحد بل تفاحة واحدة يَق ِذف بها دون
بوسكو في الهواء فيأكلها الذي يلتقطها .
المقصف لجميع أهل المصلّى هو " المضخّة التي تصبّ الماء بسخاء وهو بارد صحّي " .
وفي أثناء الطعام تقفز دجاجة من دجاجات ماما مرغريتا ،وهي تفوق ،لتنقر حصتها من
الفتات .
الخبز ثروة الفقير .عند المساء َيعطي دون بوسكو ك َّل واحد 22فلساً لكي يشتري الخبز
لنفسه ،والسبب هو أ َنّ الذوق شيء في حين أَن الصّحةَ شيء آخر .فمن كان بطنه سليما ،ولا
يهمّه طيب المذاق ،يشتري كعك الجندي ،فيحصل على قدر حسن منه ،في حين أن آخرين
يفضلّون الخبز المألوف المصنوع من العجين الصلب أو من العجين الطريء .

19.7 Page 187

▲back to top


وبعد طعام الظهر وكذلك بعد طعام المساء وهو مماثل على وجه تام لطعام الظهر يغسل ك ُلّ
واحد صحنه ،ويضع ملعقته في جيبه .
من كانت شهيته للأكل شديدة ،يمكنه الذهاب قبل الطعام إلى جنينة ماما مرغريتا ليأخذ
شيئاً من الخس ،وُيعدّ لنفسه سلاطة بشيء من الزيت والخل بشتريه بما أ َدّخره من المال .
إن الاحوال عسيرة ،فك ُلّ صبّي يحسب حسابه بدقة الى ما يقارب الفلس ،لي َّذخر شيئا .
فن تدبير الأمور شائع كثيرا .يبلغ الأمر بصبيّ الى بيع فراشه بأربعين فلسا إلاّ اذا ردهّ دون بوسكو
عن ذلك قبل فوات الأوان .وأرادت ماما مرغريتا أن ت ّذخر الفلوس التي تدفع للحلاق فقصّت
شعر الصبيان .ذكر الدكتور فيديريكو تشينيا ( " : )Cignaكانت القّصّة بالمقص تترك في رأسي
كثيرأً من السلالم .فشكوت الأمر ،فقالت الى تلك المرأة القديسة :ان هؤلاء السلالم سُتصعدك
الى الفردوس " .
إنّه لألم شديد أن لا يحصل المرء على الطعام الكافي لتغذية أولاده ولو استعمل النكات ،وغير
ان ذاك الألم لم يكن أشدّ ما عاناه دون بوسكو .
الولاء للبابا وآفاته
كتب بيترو ستيلا ( " : )Pietro Stellبعد خطاب بيوس التاسع ،لم يخلُ الجوّ من ساعات
توترّ شديد بين الكهنة المجاهدين في الطليعة في مشروعات الشبيبة ،بين الأب كوكّي ( )Cocchi
والأب بونتي ( )Ponteمن جهة ،ودون بوسكو من جهة أخرى .ولكنهم كانوا يشعرون كُّلهم
شعورًا مُرهفاً بالوقت الدقيق الذي تمرّ به كنيسة تورينو .ففي ذلك الوقت خصوصاً أح َسّ الكهنة
الوطنيّون أَنّه لا ينبغي إِهمال اّتباع الشعب في أُمنياته للوحدة ،إِذا أُريد نَجاحُ ال َدّين " .
وكان دون بوسكو من جهته لا يرى غنى عن الولاء للبابا قبل كل شيء ( فإلى الصبيان الذين
صاحوا الى ذلك الحين " عاش بيوس التاسع ! " طلب أن يصيحوا " عاش البابا ! " واشَتّدت
شكوكه الكبيرة التي كانت عالقة بذهنه مِن قب ُل بشأن نشاط الاحرار .
نحن نعلم اليوم ،بعد أكثر من قرن من كلام المؤرخين ،أنّ وحدة إيطاليا كانت فتحاً
عظيماً ،ولكن لم يُحصل عليها بأحسن الوسائل .كانت النهضة حَدَثاً من صنع البورجوازيّين
والطبقات الوسط ،ولم يشترك فيها الشعب إِلاّ في بعض المدن .إن الجماعة الفلاّحيّة الكبيرة التي
كانت تمثّل سبعين بالمائة من السكان ظلّت غريبة عنها ،إن لم ًتكن عدوّة لها صراحة .
كان دون بوسكو فلاّحاً ،وكان يُحسّ كراهية غريزية لتلك " الحركات" التي يُو َّجهها مُحامون
دُهاة َوسياسيّون دسّاسون .كان " الشعب الحقيقّي" مدعوا في نظرهم الى أمر واحد وهو بذل دمه

19.8 Page 188

▲back to top


في ساحات الحرب .أمّا في رأيه فكانت الحرب عقاباً من عند الله وكارثة للشعب الضعيف
َفحسب .
أَجَل ،عندما يَنظر المرء إلى الأمور هذه النظرة ،فان دون بوسكو َيظهر محدودا ،ولكنه
يُثبت أيضاً أنه بعيد النظر ،ولا سيما في توجيه مشروعه الناشئ ،فقد اختار طريقاً ( الولاء للبابا
من غير اي ارتباط بالاحزاب ) مَ َكّنت مصلاّه المتواضع من ان يتحوّل الى رهبانية عالَميّة .إن تدوين
التاريخ بالافتراضيات هو لعب باليانصيب ،ولكنّنا على يقين من أنّه لو نزل دون بوسكو الى الشارع
لينشر ال َعلَم المّثلث الألوان ،ولكنّا تكلمنا عليه اليوم كلامنا على كاهن مساعد طيّب ،من ضاحية
تورينو .
إِنّ تعّلق دون بوسكو بولائه للبابا سَبّب له في حينه كثيراً من خيبة الأمل .فان كاهنَين كانا
يعملان في مصلّى مار لويس خالفا ما نهى عنه ،وقادا الأحداث ،وهم يحملون الأعلام
والشّارات ،الى المسيرات السياسية ،وحوّلا العظات الى اجتماعات سياسيّة نشيطة ،فاضطُ َرّ
دون بوسكو الى منازعتهما .
وكانت الحالة في فالدو ّكو أَسوأ ،فقد أَلقى أحد معاوني دون بوسكو عظة دَوَّت فيها " الحرّية
والتح ّرر والاستقلال " طوالَ الخطاب .كتب دون بوسكو " :كنتُ في الموهف ،أُريد بفروغ
الصبر أن أُنهي البلبلة ،ولكنّ الواعظ ما إن منح البركة حتى دعا الكهنةَ والاحداثَ الى الانضمام
اليه ،فأَخذوا ينشدون بأعلى أصواتهم الأناشيد الوطنّية وهم يلوّحون بالأعلام تلويحاً عنيفاً ،
وذهبوا بأجمعهم فساروا صفوفاً حول جبل الكبّوشيين ،ووعدوا هناك وعداً قاطعاً بألاّ يعودوا الى
المصلّى إلا ليسُتقبلوا استقبالاً له صفة وطنية " .
كتب الأب لموان ( : )Lemoyneإن مصلّى فالدوكّو ظ َلّ فارغاً على وجه التقريب عدة
أسابيع ،فنزل عدد الصبيان من 288الى أقلّ من مائة .
وكتب دون بوسكو بلهجة الأسى " :لم يحاول أحد من الكهنة أن يعود ،في حين أنّ الاولاد
طلبوا الصفح ،وأكّدوا انهم ُضَّللوا ،ووعدوا بالطاعة والعمل بالقانون .ولكنّي بقيتُ وحدي
وهناك نحو خمسمائة من الأحداث ولا عون لي سوى عون اللاهوتي بوريل حيناً بعد آخر :لا أدري
كيف استطعتُ أن أظ َلّ قائما ،وأنا أعمل على هذا النحو المُرهق " .قال الاب لموان إِن الأكبر سِنّاً لم
يعودوا وان المعدّل الوسط لسِ َنّ الصبيان صار من ذلك الحين أقلّ مما كان عليه قبلاً .
الاخبار المفجعة
إنّ الشطر الثاني من 1313شهد سلسلة من الأخبار المفجعة .في حزيران ( يونيو) ُقمعت

19.9 Page 189

▲back to top


بقنابل المدافع ثورتا براغة ( )Pragaوباريس ومن 23الى 26تموز ( يوليو) وقع في مرتفعات
كوستوزا ( )Custozaالاصطدام الحاسم بين النمساوييّن والبيمونته ،وكانت هزيمة كارلو البرتو
شديدة ج ّداً حتى إنهم لم يستطيعوا أن يُعِدّوا الدفاع عن ميلانو .
وصل الخبر إلى تورينو في 20تموز ( يوليو) فسّبب بلبلة كبيرة ،فاض ّطُ َرّ الحرسُ الوطني الى
احتلال ساحة القصر ( . )Piazza Castelloفي ا آب ( أغسطس) ُأمِر بتعبئة الأفواج الستة
والخمسين العائدة الى الحرس الوطنّي .وتوَلّت لجنة يرئسها روبرتو دازيليو ( )D’Azeglioالمحافظة
على النظام .
واستم ّرت المشاغبات في الأماكن البعيدة من وسط المدينة .وكانت دُور النبلاء والكهنة على
الخصوص هدفاً لأعمال الشغب .
في 6آب ( أغسطس) أسرع جيوبرتي الى مركز القيادة العامّة للملك ،وناشده ألاّ يُوقّع على
الهدنة ،ولك َنّ كارلوألبرتو كان مقتنعا أن الجيش لم يبقَ صالحا للحرب ،فأمر القائد سالا سكو
)Salasco (في 0آب أن يُوقّع عليها .كان ذلك اعترافاً بالهزيمة ونهاية للآمال .
فثار ثائر رجال السّياسة في تورينو على عجز القادة وحًِيلِ الكهنة ،فشرعوا من غير تردّد في
إجراء تحقيقات برلمانيّة لمعاقبة المذنبين .كانت العاصمة في غليان شديد .كتب فرنسيس كونياسّو
" : )Cognasso (وجب اتخاذ تدابير شديدة فبُ َّدلت الحكومة ،و ُحظِر بيع الصّحف في الشوارع
وإعلان بيانات سياسيّة ،والاجتماع في السّاحة للجدل " .
اطلاق الرصاص في معبد بيناردي
كتب دون بوسكو في وصف ذلك الزمان " :كان الناس يرون في ك َلّ شتيمة تتناول الكاهنَ
وال ِدّينَ شتيمة ُمستَحقّة ،فقد هُجم عليّ أنا بنفسي عدة مرات في بيتي وفي الشارع .كنتُ ذات يوم
أُلقي درس التعليم الدينّي فدخلّت رصاصة بندقية قديمة من نافذة ،وثقبت ثوبي بين ذراعّي
وخصري ،وذهَبَت فتركَت أثراً كبيراً في الجدار " .
كان دون بوسكو في معبد بيناردي ،فذُعر الصبيان من تلك الضربة غير المتوقعة ،فتولّى
طمأنتهم بكلام هزل ،مع ان طلقة البندقية التي أخطأته قيد شعرة قد هزّته ه ّزا .قال ":هذا
مزاح ثقيل .إَنّه يُزعجني من جهة ثوبي .فليس لي سواه ولكنّ السّيدة العذراء تُحَبّنا " .
اقتلع أَحد الصبيان القذيفة من الجدار وكانت طلقة من الحديد رديئة الصنع .
" وكنت مرة أُخرى بين حشد من الصبيان ،فهجم عليّ مجهول في وضح النهار ،وبيده
ِسكّين ،وقد استطعتُ أن أركض بك َلّ ما أمكنني من ال ّسرعة فأدخل غرفتي وأُغلق بابها .وقد نجا

19.10 Page 190

▲back to top


الأب بوريل أيضاً بمعجزة من طلقة مسدس " .
وكان كثير من الصحف تُذكي نار البغض للكهنة ،وصدرت عناوين ضخمة فيها عداوة
لدون بوسكو " :اكتشاف الثورة في فالدوكّو" " ،كاهن فالدوكّو وأعداء الوطن " .
العمل لإخراج كهنة من نوع جديد
لم تكن هذه العداوة الشديدة تؤلم دون بوسكو فحسب بل كانت تجعله يف َكّر .كتب " :كان
تفكير فيه هذيان يُظهر عداوة للرهبانيات وعلى وجه عام لرجال الدين وجميع أصحاب السلطة في
الكنيسة .كان ذلك الصراخ ،صراخ الغيظ والازدراء للدِين ،يُبعد الشبيبة عن حسن الخلق
والتقوى َفعن الدعوة الى اعتناق الحياة الاكليريكية " .
وكان دون بوسكو يرى أن الخطر الأشَ ّد هو نضوب الدعوات الكهنوتية .ولم يُضِع دون
بوسكو وقته في ندب سوء أحوال الزمان بل استعراض المشكلة بوضوح " :ماذا يمكنني عمله في
سبيل مساعدة الدعوات ؟ " .
بَدا له أن الشعب لا يعادي الكهنة لأنهم لا يشتركون في حرب الاستقلال الايطالية ،بل
لان معظم الكهنة " ليسوا من الشعب " .إنّ الدعوات تنشأ في الأسَر الّنبيلة والأرستقراطية ،أو
على الأقلّ ،في الأسَر التي تعيش في رخاء ،في حين أن دعاة العهد الجديد هم العمّال .
إِذا كان هذا هو السبب الحقيقّي ،ف َحلّ المشكلة ليس في الاشتراك في معركة نوفارا كما حاول
الاب كوكّي ( )Cocchiبعدئذ .
كتب دون بوسكو " :في ذلك الوقت كشف الله كشفاً واضحاً عن الطراز الجديد للكهنة
الذي اراد اختياره :لن يكونوا بعدئذ من الأ َسر الميسورة .يجبُ اختيار الذين يعملون بال ِمعول أو
المطرقة ،لينضمّوا إلى صفّ الذين يريدون الحياة الكهنوتية لأنفسهم " .يجب أن يكون
الاكليروس من الشعب العامل الفقير .
فأخذ دون بوسكو يعمل لوقته وفقاً لهذه الخطة بما لديه من الوسائل الضعيفة .
اختار ثلاثة عشر من الأحداث الذين يُقبلون على المصلّى ،ودعاهم إِلى حضور دورة من
الرياضة الروحية .أضافهم دون بوسكو طوال النهار ولكن " لم يكن لديه َأ ّسرة من أَجلهم جميعاً ،
فكان عدد منهم يذهبون عند المساء الى بيوتهم ليناموا فيها " .
في أثناء تلك الرياضة اهتّم دون بوسكو بدروس أخلاق هذا او ذاك ،ليعرفه فيختاره إذا رآه
صالحًا للدعوة الكهنوتية .كتب الأب لموان " :كان الهدوء السائد في تلك الايام يضادّ الاضطراب
الشديد الذي يسود المدينة " .

20 Pages 191-200

▲back to top


20.1 Page 191

▲back to top


واختار من هؤلاء الثلاثة عشر في أثناء السنة بعدها ،أربعةً كانوا أَفضلهم وواصل تجربته .
كتب ":هكذا كان مصلاّنا الوضيع يتر ّسخ في حين كانت تجري الأحداث الجسيمة التي
أوشكت أن تغيّر وجه السياسة الايطالية ووجه العالم أيضاً " .
أخبار مفجعة من رومة
13آب ( اغسطس) .عاد الى تورينو أ َّولُ الألوية المهزومة .إن الج َوّ لا يوحي بهجة العيد
ولكن الشعب استقبل بعطف هؤلاء الجنود المتعبين الذين علاهم الغبار .
12ايلول ( سبتمبر) .عاد الملك إلى تورينو ،فاستقبلوه استقبالا بارداً كئيباً .في المدينة
إشاعات غريبة :هناك جيوش فرنسية قادمة فتعاود الحرب بمعونتهم ،الملك ُيزمع ان يستقيل ،
الثورة تؤذن بالاندلاع .
11تشرين الأول ( اكتوبر) .أقام كارلو البرتو رئيساً للوزراة القائدَ بروّني ( )Perrone
الذي كان قد حُكِم عليه بالموت شنقاً في السنة . 1321وحاول يوسف غاريبالدي الذي حُكم
عليه بالموت في السنة 1331أن يقوم بعمل القرصان لمحاربة النمساويين في بحيرة ماجّوري
. )Maggiore (واستمرت الاضطرابات في المجلس ( حيث طالب اليسار بالعودة إلى الحرب ) وفي
المدينة .كتب كونياسّو ( " : )Cognassoإن أهل جينوى من لواء سافويا يتركون الثكنات عند
المساء ،ويأتون ساحة كاستلّو ويُحدثون بلبلة فيصرخون :عاش الملك ! عاشت الجمهورية !
عاش السلام ! عاشت الحرب ! سكنانا رديئة ! طعامنا رديء ! " .
في نصف تشرين الثاني ( نوفمبر) وصلت أخبار سوء من رومة .قتل الجمعُ بلّيغرينو روسّي
)Pellegrino Rossi (رئيس الوزراء المعتدل لبيوس التاسع ،وفرض "أهل المدينة"على البابا أن
يدعو المجلس التأسيسي وأن يشترك في مجاربة النمسا .
فطاف بشوارع تورينو جماعة من الهائجين وهم يصيحون " :ليسقط بيوس االتاسع ! ليسقط
الوزراء الرجعيون ! عاش قاتل بلّيغرينو روسّي ! الحرب ! الحرب! " .
بدأ الخوف ينتشر ،الخوف من ان تبتدئ الثورة فيتجدّد الارهاب ،وقد أوشك تشرين
الثاني ( نوفمبر) أن ينتهي ،فوصل من رومة خبر يقول أن بيوس التاسع قد هرب :تظاهر بأَنه
يريد الانقياد للجمع ،ولكنه تنكّر فلبس ثوب كاهن بسيط ولجأ الى غايتا ( )Gaetaفي مملكة
نابولي .
وأّثر في كارلو ألبرتو ضغط الجماعات الديموقراطّية والمظاهرات الشعبية فقبل استقالة برّوني
وأقام جيوبرتي رئيسا للوزراء ،فحلّ المجلسَ في 38كانون الأول (دسمبر) وأعلن اجراء

20.2 Page 192

▲back to top


انتخابات جديدة .
بدأت السنة 1313في حماسة الآمال فانتهت في إيطاليا في ضباب الحيرة ،وانتهت في الأمم
الاخرى بنار القمع وحديده ،فبعد باريس وبراغة قُذفت فيَنّا أيضاً بمدافع قائد ،وأُلغي برلمان
برلين في كانون الاول ( دسمبر) .
علامتان تدعوان إلى الرجاء في فالدوكّو
في منخفض فالدوكّو ،حيث يتراكم الثلج عندما يبتدئ الشتاء ،تلقّى دون بوسكو
بتواضع علامتين تدعوان الى الرجاء .
لبس واحد من صبيانه الثوب الكهنوتي أوّل مرة ،واسمه اسكانيو سافيو ( )Ascanio Savio
وهو من بلده وقد تردّد على المصلّى منذ ان كان يُقام بالقرب من " الملجأ" .وجب الآن أن يدخل
معهد الكهنوت ،ولكن معهد تورينو ُمغلَق ،ومعهد كييري في طريق الاغلاق ،فأذِنَت له الهيئة
الادارية الاسقفية بأن تقام حفلة لبس الثوب الكهنوتيّ في دار كوتولنغو وأن يبقى بعد ذلك في المصلّى
ليساعد دون بوسكو .
لم يبقَ دائماً فقد دخل بعد أربع سنوات معهد الكهنوت ،وصار كاهناً أبرشياً ،ولكنه
قال في دون بوسكو " :أحببته حُبّي لأبي" وكتب دون بوسكو قس شأنه " :عهدت إليه لوقتي
بجانب من المراقبة ودورس التعليم الدينّي وادارة بضعة صفوف ،وهكذا اخذ حملي يخّفف " .
ذلك اول َحمَل يصير راعياً .
وأمّا الحدث الثاني فقد كان من نوع يختلف اختلافا تامّا .
أُقيم في المصلّى عيد رسمّي وقد استعدّ بضعة مئات من الأحداث لتناول القربان المقدس ،
فأقام دون بوسكو القداس وهو مقتنع أ َنّ في بيت القربان حقّة مليئة بالقدسات ،في حين أنها شبه
فارغة ،ويا لسوء الحظ ،فقد نسي يوسف بوتسيتّي المسؤول عن الموهف ( وعن أي شيء ليس
هذا الصبي مسؤولا ؟ ) أن ُيعِدّ حَقّة أخرى ،وفطن للأمر بعد كلام التقديس وقد فات الأوان .
فلما أخذ الصبيان يتقدمون ليتناولوا القربان المقدّس ،أدرك دون بوسكو أَنّه يجب عليه
إعادتهم الى مكانهم ،فأبى ان ُيسِلّم بذلك فأخذ يوزّع القدسات القليلة التي في قعر الحقة .
فاذا بشيء يدهشه بوتسيتّي المسكين الذي يمسك بالطبق :عدد القدسات لا
ينقص ،وتناولَ القربَان جميعُ الصبيان .
روى الحدث بوتسيتّي مذهولا لرفاقه ،وقد رواه السّنة 1361للسالسيين الأولين وكان دون
بوسكو حاضراَ عندئذ فأ َكّد ،وعلى وجهه علامات الرزانة " :أجل كان في الحَقّة قليل من

20.3 Page 193

▲back to top


القدسات ،ومع ذلك أمكنني أن أناول جميع الذين تقدّموا الى المائدة المقدسة وكانوا كُثُراً .كنتُ
متأثراً ولكن هادئاً وف ّكرت أَنّ معجزة التقديس أكبر من معجزة التكثير .تبارك الرب في ك َلّ
شيء " .
بينما تهزّ ايطاليا أحداثٌ لها دو ٌيّ بعيد ،فان الرب في زواية مجهولة من ضاحية تورينو يكّثر
صامتاً وجوده بين صبيان كاهن فقير .تلك علامة ِسرّية ولكنها مُنيرة جِ ّداً .
11
دون بوسكو والسياسة والمسألة الاجتماعية
سياسة " أبانا الذي في السموات "
في السنة 1313تلقّى دون بوسكو أول صدمة مفجعة من السياسة ،واختار خُ َطّة تركها إرثاً

20.4 Page 194

▲back to top


لرهبانه السالسيين الأولين .
أوجزها بعد سنين كثيرة للمطران بونوملّي ( )Bonomelliراعي ابرشية كريمونا
" : )Cremona (أدركت أنّه اذا أردتُ عمل شيء من الخير وجب علي ترك كل سياسة جانباً .لقد
صنت منها نفسي وهكذا أمكنني أَن أصنع شيئاً من غير التعرض لعقبة ،لا بل حصلتُ على عون
من حيث لم أتَوقّع " .
إذا ف َكّر المرء مليّاً في سلوك دون بوسكو ،لا في أحداث 1313فحسب بل في أوقات غيرها
كثيرة حافلة بالسياسة وبالسياسة الكبرى ،بدا لَه أَنّه يمكن اختصارها على الوجه التالي :
أولا – اقتنع دون بوسكو بنسبيّة سياسة الاحزاب ،وع َدّها عنصراً قابلا للتب ُّدل في الحياة
( صار برّوني رئيس وزرارة لذلك الملك الذي أراد أن يبعث به إلى المشنقة ،كان لا تور La Tour
موالياً ولاء مطلقاَ لكارلو البرتو ،ومع ذلك عزله ذلك الملك نفسه لأنه " لم يبقَ موالياً . ) ..."
َأكّد بحزم " :لن أكون لحزب من الأحزاب " .فاعتمد أُسُساً أمتن من اليمين أو اليسار :النفوس
يخّلصها والأحداث الفقراء يقوتهم ويربّيهم .تلك هي السياسة التي سمّاها سياسة " أبانا الذي في
السموات " .
ثانياّ – نبّه ب َحّاثَةٌ إِلى أَن دون بوسكو أ ّكد امتناعه من العمل للسياسة ،وهو مع ذلك َعمِل
لها كثيراً ومال ،في أغلب الأحيان ،إلى المحافظين وأنصار النمسا .إن هذا التنبيه يبدو لنا
صحيحاً إلى ح ًدّ ما ،إذا لم تُؤخذ عبارة " أنصار النمسا " بمعنى الذّم ،بل قُصد بها أنّ دون بوسكو
نظر الى النمسا م ّراتٍ كثيرة نظرة العطف .فقد رَُبّي في معهد الكهنوت ( كما أشرنا اليه ) تربية
محافظة ودُعي الى النظر الى النمسا َن َظرهُ إِلى حامية للبابا ،رُبّيَ كذلك لا بمطالعته لكتب السياسة ،
ولكن بقراءته رسائل البابا وخطاباته .
فكان من الطبيعي أن يسلك ذلك السلوك ،وُير َجّح أنّه لم َيعُ َدّه سلوكاً سياسيّا بل مسألة
إيمان ،أو على الأقلّ ،مسألة ولاء للبابا .
ثم إنّ دون بوسكو كان يعرف كثيراً من أهل تورينو الأحرار والديموقراطيين ،لا كما صاروا
اليوم أسطوريين في كتب التاريخ ،بل كما كانوا في حقيقة الحياة اليومية ،محتالين دسّاسين يلعبون
على الحبلين ( مثلهم كمثل بروفّيريو . )Brofferio
ثالثاً – ويحدث أحياناً لامرئ مثل دون بوسكو أن يُضطَرّ ،مع رغبته في العمل بسياسة
" ابانا الذي في السموات " ،الى أن يبدي رأيَه فيميل الى هذه الجهة او تلك ،فدون بوسكو في
مثل هذه الاحوال ينحاز الى جهة البابا ،أي إنِّه يعتنق رأي البابا .

20.5 Page 195

▲back to top


في يوميات الاب بونيتّي ( 2 ( )Bonettiتموز يوليو ) 1362نقرأ ما قال عندئذ " :وجدتُ
نفسي اليوم في بيت بين جماعة من الديموقراطيين فتع ّرض الحديث لعدة أشياء لا شأن لها ثم تناول
المسائل السياسية لذلك اليوم ،فأراد هؤلاء الاحرار الطيّبون أن يعرفوا رأي دون بوسكو في زحف
أهل البيمونته إِلى رومة ( كان ذلك ثماني سنوات قبل أحداث بورتا بيّا ) فأجبتُ صراحة إنِّي مع
البابا ،أنا كاثوليكي أُطيع البابا طاعة عمياء ،اذا قال البابا لاهل البيمونته " :تعالوا الى رومة " ،
قلت أَنا أيضاً " :اذهبوا اليها " .اذا قال اذا قال البابا إ َنّ زحف أهل البيمونته غشّ وعمل منكر ،قلت
القول عينه .إِذا اردنا ان نكون كاثوليكيين وجب علينا ان نَُفكّر ونؤمن تفكير البابا وإيمانه " .
كان دون بوسكو مع البابا ،قبل أن يجادل وقبل أن يلمح الى رأيه .في 1313 – 1312
مال دون بوسكو بعض الوقت الى الغُولف الجدد : )1(لا لا قتناعه بان ذلك أفضل ،بل لأن ذلك ،
في رأيه ،موقف البابا .وبعد خطاب البابا في 20نيسان ابريل 1313عاد الى رأي المحافظين ،لا
لأنه اتجاهه الفكري ،بل لأنه رأي البابا ،اذا بدّل موقفه ،ب ّدله هو أيضاً على الأثر " .اذا
قال البابا لاهل البيمونته :تعالوا الى رومة ،أنا أيضاً على قوله " .
دون بوسكو والمسألة الاجتماعية
في السنة 1313نشر كارل ماركس البيان الشيوعي .إِنه بدء ثورة أَقل ضجة من الفتن
التي وقعت في تلك السنة ،ولكنها ذهبت إِلى ما هو ابعد منها وأعمق .إ َنّ هذا الموقف الشيوعي
الجذري العنيف من " المسألة الاجتماعية " لا يزال يهّز أُمم شمال أُوروبا بعد عشرات السنين .إنّه
تنديد قاطع بالطبقات المستغلّة إلى الثورة العنيفة " لقلب النظام" المبنّي على الظلّم .
)1كانوا ينادون :الرئاسة للبابا والسيف لكارلو ألبرتو (راجع ص ( )123حاشية من المترجم) .
أيّاً كان موقف دون بوسكو من المسألة الاجتماعية ؟ كتب بيترو ستيلا ( : )Pietro Stella
" لا يبدو أَنّه ساءل نفسه عن تب ّدل الطبقات .لا يبدو أَنه أَدرك التأثير العظيم للفقر ،وهو حدث
مرتبط بالانقلابات الاجتماعية ( الكتاب المذكور ،ج ، 2ص . ) 06 – 02
إذا قُصد القول ان دون بوسكو لم َيرَ رؤية " علمية" الحالة الاقتصاديّة الاجتماعيّة ولم يتكلم
عليها بعبارات فنّيّة ( رأسمال ،قوة العمل الخ ) .....فنحن موافقون .ولكننا لا نُوافق إذا قُصد
القول إنّ دون بوسكو لم يفهم عصره ،وترك المشاعر الطيّبة وحدها تقوده .
أكّد الاب لموان ( )Lemoyneالذي أ َسرّ اليه دون بوسكو بآرائه طوال سنين كثيرة " :كان

20.6 Page 196

▲back to top


من الذين أدركو منذ البدء ( وقد قاله ألف مرة) أنّ الحركة الثورية ليست إعصاراً عابراً ،لأن كثير
من الوعود للشعب كانت مُحقّة ولأن كثيراً منها كانت تلّبي ُأمنيّات الشعب العامل العميقة في العالم
كلّه .كانوا يرغبون في الحصول على المساواة لجميع الناس ،وتحسين حالتهم ،وكان دون بوسكو
يعترف أ َنّ الثروات صارت احتكاراً لجماعة من الرأسماليين القساة ،وأ َنّ أرباب العمل كانوا
يفرضون على العامل ،وهو وحده وأعزل ،عقوداً كلّها ظلم في مسألة الأجرة وفي مسألة دوام
العمل على حدٍ سواءً ( ذكريات سيرة دون بوسكو ،ج ، 1ص . ) 38
كان دون بوسكو على حدود عهدين للعالم وللكنيسة إذن .
كان أهل ال ِحرَف ،في القرون التي تق ّدمت الثورة الصناعية ،يجتمعون في " جمعيات" مهنية
جامدة لها سمة القرون الوسطى ،ولكنها كانت تتولى حمايةَ العمال إلى ح ًدّ ما .كان عدد الفقراء
كبيراً ،ومع ذلك لم يكن قطّ أشبه بالحشد الضخم التاعس لبني الشعب المتروكين لأنفسهم من غير
سَند ،وقد خلقتهم المعامل في القرن الأوّل للثورة الصناعية .كان المثال الذي تقتدي به الكنيسة
للتدخّل في سبيل المساكين هو " الإحسان المَُن َظّم" كما انشأه منَصور دي بول ( . ) 1662 – 1231
في العهد الصناعي الجديد ،نُبذت " الجمعيات الحرفية" الى النفايات ( ومن بين أَسباب
ذلك النبذ انتصار مبادئ الحريّة ) ولا ُحرَيّة لحشود بني الشعب سوى الحريّة بأن يكونوا فريسة
أرباب عمل أقوياء ج ّداً يستغلّونهم كما يشاؤون .إنّ الأحرار يحرصون على حظر تنظيمات جديدة
تدافع عن حقوق العمال ،إسوة بالجمعيات الحرفية القديمة .
لم يكن من خُ َطط حسنة حاضرة ،ولا برامج للعمل ،كما قلنا في الصفحات السابقة ،
وكان الناس حائرين كما هو دائماً في أول حقبة تاريخية ،فسخّر كثير من رجال الكنيسة عزيمتهم
للعمل الفوري في سبيل الشعب التاعس ،نافضين الغبار عن وسائل الاحسان التابعة لمار منصور
دي بول .ولكن سرعان ما ادركوا أ َنّ الاحسان غير كافٍ .انه لا يزال غير كافٍ حتى في شكله الجديد
المتقدم من الجهة الاجتماعية ،أي المدارس الصناعية وورشات التدريب .كان يجب الكفاح في
سبيل العدالة الاجتماعية ومؤسّسات وقوانين تضمن حقوق العمال .كانت الطريق طويَلة لقّلةِ
الفهم في حلقات السلطة العليا وللمقاومات العنيفة التي أبدتها الدول التح ّررية .
في السنوات الاولى للثورة الصناعية الايطالية ،ألقى دون بوسكو بنفسه في الأحوال
الجديدة بدافع الحاجة الماسّة ،وقد نذر نفسه نذراً تامّاَ للعمل في سبيل الصبيان الفقراء .إ َنّ
خطته الفوريّة للتدخل السريع صارت العلامة المميزة بدون بوسكو ورهبانه السالسّيين الاوليين
( لأنه ليس بوسع الفقراء ان ينتظروا الاصلاحات والخطط المُنظّمة ) .فالتعليم الدينّي والخبز
والتعليم المهنّي ،والصنعة يحميها عقد حسن ،هذه الأشياء هي البرنامج " العاجل " الذي كان
أبناء دون بوسكو يحقّقونه في سبيلهم .

20.7 Page 197

▲back to top


ويبدو لنا أن هذا الاختبار لم يكن عفويّا فحسب ،فقد اصبحت الحالة أكثر وضوحا على مرّ
الايام ،وازداد وعي دون بوسكو للعصر الذي دُعي ليعيش فيه ،ووعيه لرسالته وما فيها من عظمة
وما لها من حدود .
ما معنى القول " ترك كلّ سياسة جانباً ؟ "
قال دون بوسكو في السنة 1313للمطران بونوملي " :أدركت أَنه ،إذا أردتُ عملَ شيء
من الخير ،وجب عل َيّ ترك كل سياسة جانباً " .
كلمة سياسة لا تعني تحالف الاحزاب فحسب بل تعني ،عند ذاك ،موقف الانسان من
المسألة الاجتماعية :أَن يكون مع تحرير الاسعار أو عليه ،وتد ُخّل الدولة في شؤون العمل ،
والتعاونيات على مثال أوين ( ، )Owenوالنقابات ،والتشريع الاجتماعي الذي طالب به في ألمانيا
المطران كيّتلير ( )Kettelerالخ ...
" ترك كل سياسة جانباً " يعني أيضاً الابتعاد عن التدخل في المنازعات الاجتماعية ،وهي
جزءٌ من برنامج الأحزاب السياسّية ،فلم يشأ أن يكون مع واحد على آخر .ولو صُِّنف كاهناً
اشتراكّياَ ،لكان فَقَد لوقته ك َلّ مساعدة تأتيه من الميسورين ،وكان يحتاج عندئذ إلى المساعدة لأنه لم
يشأ أن يترك الأحداث مشرّدين في الشارع .إِنه يفعل الخير ،بل يفعل كثيراً من الخير حقّاً
للفقراء .
مخطط بسيط بدائي
اختار مخ َّططاً بسيطاً لكي يدعو الى التفكير الأغنياءَ والميسورين الذين يجب عليهم أن
يساعدوه " :إ َنّ الفقراء ُمع َرّضون لخطر وهو أن تجرفهم الثورة ،لأن البؤس لا ُيطاق ،وإن هذه
الحالة لا تليق بشعب مسيحي ،فيجب على الاغنياء أَن يجعلوا خيراتهم في متناول الفقراء .واذا لم
يفعلوا ذلك ،لم يكونوا مسيحيين .إن الفقراء بدافع البؤس سيطالبون أن يقاسمهم الأغنياء
خيراتهم ويضعون السكين على اعناقهم .إنهم سيف َجّرون الثورة التي ستجلب البلبلة والعنف كما
جرى في أيام الارهاب في الثورة الفرنسية .سيكون ذلك كُلّه نتيجةَ قساوة الأغنياء الذين أبَــوا
مساعدتهم على الخروج من البؤس " .
إذا رجعنا الى المثل الانجيلي كان دون بوسكو السامريّ الشفيق الذي لقي مَن جرحه
اللصوصُ ،فأخرجه من الحفرة وحمله الى الفندق وأنفق عليه لمعالجته .إنه ليس سياسّياً ُيسرع الى
وضع خطّة لسَ َنّ قانون غايته قمع اللصوصوية .

20.8 Page 198

▲back to top


كلما مرّت السنون ادرك أنّ العمل " الفوري " لا يكفي ،وأن للاحسان حدودًا واضحة .
وهو يعرف أنّه ليس وحده في الكنيسة ،فقال بضع مرات للسالسيّين " :أجل ،يجب أن يكون في
الدنيا أناس يهتمون بالشؤون السياسية ،لينصحوا وليحذّروا من الاخطار ،أو ليقوموا بغير ذلك ،
ولكن هذا السعي ليس لنا ،نحن الفقراء " ( ذكريات سيرة دون بوسكو ،ج ، 16
ص " ، ) 201لا تخلو الكنيسة من أناس يُحسنون معالجة هذه المسائل العويصة العسيرة .في
الجيش أناس ُجعلوا للمحاربة ،وأناس ُوكل إليهم الاهتمام بالامتعة وسائر الاعمال ،وهي أيضاً
ضرورية للتعاون في سبيل النصر " ( ذكريات السيرة ،ج ، 3ص . ) 132
يمكن الجدل في هذا الامر وهو أن يُفَ َّضل المرء التد ُّخل الفوري والامتناع من الخوض في
مناقشة سياسة بغية الحصول على المساعدة من جميع الجهات ،ولكن لا ُيمكن الجدل في النتائج التي
أصابها الذي فضّل الَتّد ُخّل الفوري :وهي معجزة حقيقية لخير الأحداث الفقراء ،اعترف بها
حتى الذين يف ّكرون تفكيرا مختلفا ،بل الذي خرج من دُور دون بوسكو الخيرية ،فكافح في سبيل
الفقراء بمشروعات مختلفة .
( هذان مثلان فحسب :ساندرو برتيني Sandro Pertiniتلميذ قديم لفاراتسي Varazze
واشتراكي ملحد صار رئيس الجمهورية الايطالية فكتب الى الاب بورِلّا Borellaمعلّمه " :إني
أُدرك اليوم أ َنّ الح َبّ غير المحدود الذي ُأكنّه للمظلومين التعسين بدأ ينشأ فيّ لما كنت أعيش بالقرب
منك .إن حياة قدّيسك الجديرة بالاعجاب لَقّنتني المبادئ الأولى لهذا الحب " .وأكّد المؤرخ
جياكومو مارتينا Martinaفقال " :كان يبدو ان سالسيّي الجيل الأول ،عندما يَصِلون الى مدن
اقليم رومانيا التي يسكنها " الحمر" وأعداء رجال الكنيسة ،سيخفقون لا محالة .ولكن كان يجري
خلاف ذلك ،فكانوا يهجمون بصبيان المصلّى والجوقة الموسيقيّة ،فيصيرون في وقت قليل أصدقاء
جميع الناس فيقولون :هؤلاء ليسوا كهنة كسائر الكهنة ) .
وماذا لو اختار موقفا آخر ؟
هناك أمرٌ يبدو أكيداً :لو اختار دون بوسكو أن يخوض النّقاش الاجتماعي ،لَفَتح قليلاً
من المدارس وورشات العمل .ولرَبّما كان اختياره اكثر مدعاة للجدل اليوم ،فقد أكد هو بنفسه
في 21حزيران ( يونيو ) " : 1331ماذا ينفعنا أن ُنلقي بأنفسنا في السياسة ؟ فما الذي
نحصل عليه بقوانا ؟ لا شيء سوى أن نصبح على الأغلب عاجزين عن مواصلة أعمالنا
الخيرية " ( ذكريات السيرة ،ج ، 16ص . ) 201
إذا اختصرنا موقفه أشدّ اختصار أمكننا القول إن دون بوسكو بين أمرين لا ب َدّ له من اختيار
أحدهما :

20.9 Page 199

▲back to top


-وإمّا محاربة نتائج الظلم الاجتماعي ( بمساعدة الصبيان الفقراء وذلك بأن يطلب ويقبل
مساعدة أ َيّ كان لِإنشاء المدارس وورشات العمل ) .
-أو محاربة أسباب الظلم الاجتماعي ( باكتشاف أشكال جديدة للتنديد العلني وبإنشاء
جمعيات للعمالا الاحداث وبرفض التعاون والاحسان من قبل أشخاص ُمغلَق عليهم في نظام
سياسّي اقتصاديّ مبّني على الاستغلال ) فتكون العاقبة ،على وجه واضح ،نضوب ينابيع
الإِحسان وترك الصبيان الفقراء لمصيرهم .
في الحالة الأولى ُينقذ الشبيبة من الأخطار الفورية ،ولكن هناك خطر وهو أن " يستخدمه "
أصحاب النظام القائم ،لأنه يربّي عمّالا مطيعين مستخذين فلا يزعجون الأقوياء آخر الأمر .
في الحالة الاخرى ،يطلب تبديل النّظام ،ولكن هناك خطر العجز عن مجابهة المشاكل
الفوريّة التي تسحق الفقراء .
كان الإِختبار مفجعاً ،لا عند دون بوسكو وحده بل عند كثير من رجال الكنيسة .فأياً كان
الحلّ المختار لا ُيعمَل " ك ُلّ " ما يجب عمله .
إِختار دون بوسكو الطريق الأولى لحاجات الوقت الماسّة .وعندما يعترف بحدودها يشعر
بتأييد يأتيه من عمل الكنيسة كلّه " :لنترك لرهبانيات أخرى ،أشد منا بأساً ،المواقف السياسيّة
والعمل السيّاسي .واما نحن فنذهب إِلى الفقراء تواً " .
المواهب في الكنيسة كثيرة لخير الجماعة .تلّقى دون بوسكو موهبة التدّخّل السريع لخير
الصبيان الفقراء .إنها موهبة تختلف عن مواهب غيرها ولا تنقصها وقد نالها كهنة آخرون وكانت
كلّها غنيّة بالثمار المفيدة لشعب الله .
11
0111سنة عميقة كلّها شوك
كتب دون بوسكو " :كانت السنة 1310عميقة كلّها شوك ،فقد كلّفتنا تعبا مُضنياً وبذلاً
جسيماً " .

20.10 Page 200

▲back to top


ابتدأت السنة بنبأ محزن من ُأسرته .ففي 13كانون الثاني ( يناير) تُوفّي أخوه أنطون وفاة
شبه فجائية وهو في الاحدى والاربعين فقط .كان في الأوقات الاخيرة ُيكثر من المجيء الى المصلّى
ليلتقي وأ َمّه مرغريتا وأخاه وكانوا يتكلّمون على الغلات الضعيفة والضرائب الباهظة التي كانت
الحكومة تُثقل بها كاهلَ الفلاحين لتمويل الحرب ،وكان ُيطلعهما على أخبار الاولاد السبعة الذين
ينمون نم َّوا طبي َعّيا .
كانت الاعوام قد قرّبت بين الأخَوَين .وكان يبدو بعيداً ج ّداً الوقتُ الذي فيه كانت
علاقاتهم باردة .
في أول شباط ( فبراير) رئس كارلو البرتو افتتاحَ المجلس النيابيّ الذي نشأ عن الانتخابات
الاخيرة ،فاستقبلته الأكثرية اليساريّة الكبيرة بسكوت العداء .وهتف الناس في الشوارع :
" عاشت الحرب ! ليسقط الكهنة ! عاشت الجمهورية ! " ،وظهرت في الصفحات صورٌ
كاريكاتوريّة بذيئة لبيوس التاسع " الخائن لايطاليا" .وفي صحيفة الفسكيتّو ( =Il Fischietto
الصفير الصغير ) هُجي دون بوسكو بتهكم غليظ ،فسمّوه " الفدّيس ومجري المعجزات في
فالدوكّو " .
عادت عصابات ال ًّرعاع إلى هجماتها بالحصى على بيت بيناردي ،وقد استأجره كًلّه دون
بوسكو .
إِذا خرج دون بوسكو طلب بروزيو ( )Brosioالدركي أن يرافقه ،وهو الذي روى " :لما
كنا َنمرّ في الجادة التي يقال لها اليوم جادة الملكة مرغريتا كانت جماعة من الأوباش الصغار يشتمون
ُك َلّ مرّة دون بوسكو ويرفعون أصواتهم بشتائم قبيح ،أَو يغنّون أَغاني بذيئة ،فأَردتُ ذاتَ يوم أن
أصفعهم ،ولكن دون بوسكو وقف واستطاع أن يدنو من بعضهم واشترى ثماراً من بائعة غير
بعيدة وقدّمها لأصدقائه كما كان يسمّيهم " .
إخفاق " صديق الشبيبة "
دون بوسكو مشغول البال بالأذى الذي تلحقه بالشبان الصحف العدوّة لل َدّين ،فهي تُباع
في الشارع وُتعَلّق بالجدران .الجرائد الكاثوليكيّة قليلة ،وينقصها ما يستهوي الناس .

21 Pages 201-210

▲back to top


21.1 Page 201

▲back to top


ما أكثر هموم دون بوسكو ،ومع ذلك فقد أضاف اليها ه َمّ إنشاء صحيفة ونشرها وإدارتها .
سمّاها صديق الشبيبة وكان ُيخرجها ثلاثة أعداد في الاسبوع وكان يساعده في إعدادها الأب
كاربانو والاب كيافيس ( . )Chiavesوكان يطبعها عند سيبراني – فيريرو ( . )Speirani Ferrero
أفلس دون بوسكو بعد وقت قليل .كان عدد المشتركين في الثلاثة الاشهر الاولى 132وفي
الثلاثة الأشهر الثانية 116عدد الصحف التي طبعت ، 61واضطُرّ دون بوسكو الى أن يدفع
لصاحب المطبعة 222ليرة كانت دَينًا عليه .
ولكنه لم يندم على ذلك َقطّ ،فقد حاول عمل الخير فاصطدم أوّل مرة بما عند الصالحين " من
طمأنينة في قلّة الوعي " .سوف يجرّ الصحافةَ الكاثوليكيّة في إِيطاليا وراءَه كما تُ َجرّ سلسلة ثقيلة مدةً
تزيد على مائة سنة .
الحرب مرة أُخرى
في أثناء ذلك عاد جوّ تورينو جوّ حرب
في 28شباط ( فبراير) استقال جيوبيرتي فخلفه وزير الحرب كيودو ( )Chiodoفي رئاسة
الحكومة .كان اليسار الديموقراطيّ ،وهو سيّد الموقف ،يحرّض الناس على العودة الى الحرب .
في 2آذار ( مارس) قدّم المجلس النيابي طلباً الى الملك " :إنّ ن ّواب ال ّشعب يحثّونك على العمل
وإعلان الحرب .إنِّنا واثقون بجيشنا " .
12اذار .نُقِضت الهدنة وعادوا الى الحرب بعد ثمانية أيام .ذهب 22ألف رجل الى
الحدود ،ومضى الملِك الى َأِل َسّندرية ولكن لا حماسة عند الجنود هذه المرّة .رفض لواء سافويا
السير ،وهرب أُناسٌ من الجنود فقُتل بعضهم بإطلاق الرصاص عليهم .
في لومبارديا هتف راديتزكي ( )Radetzkyبشعاره الجديد للجنود " :إِلى تورينو ! " .
23أذار .انتهى ك ُلّ شيء وخسر كارلو البرتو المعركة والحرب ،وعمّت الفوضى وتشتّت
الجنود في الطرق ،لا سلاح لهم ولا قيادة ،وهم يهتفون " :الى البيت ! ليدفع الَثّمنَ بيوس
التاسع ! ليدفع الثمن الأغنياء ! ليدفع الثمن مريدو الحرب ! نحن نعود الى بيوتنا " .
في الساعة الأولى من الصباح استقال كارلو البرتو وذهب الى المنفى وكذلك ذهب ابنه الشاب
فيتوريو عمانوئيل ولم يقبل أن يخلف أباه .
البقَيّة الباقية من الحرية

21.2 Page 202

▲back to top


كانت البلاد وتورينو في حالة يُرثى لها .فلما علم الناس أ َنّ النمساويين فرضوا 288مليون
ليرة تعويضاً من أضرار الحرب واحتلوا الِسّندرية ،ثار ثائر المعارضة الديموقراطيّة وتكَلّموا صراحة
على إِعلان الجمهورية ،وطالبوا بالعودة الى الحرب حتى النهاية .
لم يبقَ من النار التي التهبت التهاباً كبيراً السنة 1313سوى قليل من الجمر .فالمجاهدون
الذين التقوا جنباً الى جنب خلف المتاريس في الربيع ،ُغلبوا كلهم على وجه التقريب ،والوطنيون
الذين طالبوا بالاستقلال أسكتتهم المدفعّية النمساويّة ،وعاد العمال الى العمل 12ساعة في
اليوم ،وأُلغيت الدساتير الح َرّة كُلّها على وجه التقريب وبقي " النظام " في البيمونته وحده .
ومع ذلك فقد ثبت أن هذه البقيّة الباقية من الحرّية كانت ذات شأن عظيم .حتى سائر
البذور ،وبذور الحرّيّة والمساواة التي بَدَت مبعثرة في رواسب القمع ،َنمَت رويداً رويداً على مرّ
الأعوام .
غرق " الكهنة الوطنيين"
في نوفارا ( )Novaraغرق الكهنة الوطنيون البيمونتيون أيضاً .اقتنع الاب كوكّي ( )Cocchi
أنَه يجب إتّباع الشعب ،فقاد جماعة كبيرة من صِبيان مصلّى فانكيليا للاشتراك في معركة نوفارا ،
فلّما وصل ال ُشّبّان المائتان إِلى فرت ِشلّي ( )Vercelliلم يحصلوا على اعتراف قائد الفرقة بأَنهم جنود ،
فلم يجدوا لانفسهم طعاماً ولا مأوى لليل ،وصادفوا جنوداً من أهل البيمونته المنهزمين ،فعادوا إلى
تورينو ،ودخلوا المدينة ليلاً وهم نصف أموات من التعب .كان ذلك الحَدَث هزيمة للكاهن
المذكور .
ظَ َلّ مصلّى فانكيليا ُمغلقًا عدة أشهر وعاش الأب كوكّي مختبئا ،وعاد الى الظهور في تشرين
الأول ( اكتوبر) فانشأ مع كاهنين آخرين مشروع ملجأ خيرّي لطلاب الصناعة الصغار ،ومن
هناك انبثقت المؤسسة الكبيرة لطلاب الصناعة الصغار .فقد أدّت الأمور إلى الاعتراف بان نهج
دون بوسكو " غير السياسّي " نهج حسن .
11ليرة للبابا
ازداد سكّان تورينو في أَثناء تلك الاشهر بقدوم عشرات الآلاف من اللاجئين ،فكانت
الحياة عسيرة ،وأُجرة المساكين عالية ج ّداً ،في حين أن الرواتب منخفضة .تكلّم اللاجئ
الاشتراكي الفرنسي كورديروا ( )Coeurderoyعلى ما في الأحياء الشعبيّة من بؤس شديد .ليس
هناك صناعة نشيط ،وفُرِض على المال المُتَدا َول ضرائب باهظة ،واليد العاملة لا تزال وافرة في
السوق ،مع أنه تُبنى دُور جديدة بلا انقطاع ،وتُؤجر قبل أن يَتِمّ بناؤها .
كان بيوس التاسع لا يزال في المنفى في غايتا ( ، )Gaetaفدعا المركيزُ غوستاف كافور والأبُ

21.3 Page 203

▲back to top


فالينوتّي ( )Valinottiالنّاسَ إلى جمع المال بإسم " درهم مار بطرس " .فساهم صبيانُ المصّلى فيه ،
وجمعوا ما عندهم من فلوس ،فسّلموا الى اللجنة في آخر أذار ( مارس) 23ليرة ورسالة تمنّيات
طيّبة الى البابا .
في 2أيار ( مايو) وصل الى دون بوسكو رسالةٌ من السفير الباباويّ " :إِنّ قداسة البابا شعر
بما أثلج صدوره لمّا تلّقى هبةَ طلاّبكم الصّناعيين الفقراء الو َدّية البريئة ،وعبارات تعلّقهم التي
شاؤوا أن يضمّنوها اليها .أرجو ان تبّلغهم كم كانت تلك الهيبة سارّة وقُ َّدرت كثيراً لأنها أتت من
الفقير " .وشكر البابا هو أيضاً فأرسل رزمة فيها 228سبحة لم تَصِل الى تورينو الاّ في 21
نيسان ( ابريل ) . 1328
قلبان صغيران " للشكر على نعمة "
21حزيران ( يونيو) عيد يوحنّا المعمدان ،وهو عيد دون بوسكو .عزم كارلو غاستيني
)Gastini (وفيليتشي رفيليو ( ، )Reviglioعلى ما في تلك الأيام من الشدة ،أن يهُديا هديّة صغيرة
الى دون بوسكو ،وقد اتفقا على ذلك في الخفاء منذ أشهر ،فأذّخرا من ثمن خبزهما ،وحرَصا على
جمع قليل مما ا ّذخراه وعلى ما أتاهما من الحلوانات الصغيرة .ولكن ماذا يشتريان والأسعار عالية كما
تُقرأ في واجهات الحوانيت ؟ اتّفقا آخر الامر على شراء قلبين صغيرين من الفضّة ،كالقلوب التي
يشتريها الناس ليقدّموها للسيددة مريم العذراء " شكرا على نعمة حصلوا عليها " .كان اختيارها
غريبًا ولكن لطيفا شديد التأثير .
في المساء قبل العيد ،لما ذهب جميع أهل المصلّى الى مضاجعهم ،قصدا باب غرفة دون
بوسكو فقرعاه ،وقدمّاهما له ،والاحمرار يعلوهما حتى آذانهما .
كتب الأب لموان ( " : )Lemoyneفي الغد عرف جميع أهل المصلّى أمر الهديّة وقد أخذهم
شيء من الحسد " .
أربعة صبيان ومنديل أبيض
غاستيني ورفيليو صبيّان يرقبهما دون بوسكو .في السنة 1313اشتركا في الرياضة الروحيّة
مع الأحد عشر الآخرين .وفي تلك السنة عادا الى الاشتراك فيها مع تسعة وستين آخرين فُقسما الى
فريقين .كانت الفكرة العالقة بذهن دون بوسكو ك َلّ حين هي " تتُبّع جملة من الصبيان ومعرفتهم
واختيارهم " لأنه ُيرجى أن تكون لهم دعوة كهنوتيّة .
لما انتهت الرياضة الروحيّة ،دعا يوسفَ بوتسيتّي ( )Buzzettiوجياكومو بليا ( )Bellia
وكارلو غاستيني ( )Gastiniفيليتشي رفيليو ( )Reviglioوقال لهم :

21.4 Page 204

▲back to top


-هناك حاجة إِلى مساعدتي في المصلّى .
-إِلى مساعدتك كيف ؟
-قبل ُك َلّ شيء تعودون الى دروسكم ،الى دروس مكثّفّة تدخل فيها اللاتينية أيضاً ،ثم
-إذا شاء الله تصيرون كهنة .
نظر الأربعة بعضهم الى بعض في عيونهم ،فوافقوا واشترط دون بوسكو شرطاً واحداً ،
فأخرج من جيبه منديلا أبيض وعبث به بيديه :
-اسألكم أن تكونوا في يدي مثل هذا المنديل فتطيعوني في كل شيء .
من بين الأربعة كان بلّيا ( )Belliaوحده قد أتمّ جميع الصفوف الابتدائية ،فسّلمهم دون
بوسكو في آب ( أغسطس ) الى يَدي الاهوتي كيافيس ( )Chiavesلكي يعّلمهم الايطالية تعليماً
مكثّفا ،وفي ايلول ( سبتمبر) سار بهم الى بيت يوسف في البكّي و ّدرسهم اللاتينية .
في تشرين الأول ( اكتوبر) عادوا الة تورينو في الوقت الموافق ،ليشتركوا في تشييع الجنازة
التي أقامتها المدينة كلها لكارلو البرتو ،وقد توفّي في بورتو في البرتغال .
فوج بورغو فانكيليا
في ذلك الشهر ،شهر تشرين الأول ،أعاد دون بوسكو فتح مصلّى الملاك الحارس في بورغو
فانكيليا ،بعد ما حصل على موافقة رئيس الأساقفة ،وكان المصلّى كناية عن مستودَعَين
للعربات ،وغرفتين ،وغرفة أكبر هُيئت لتكون معبداً .وكانت الأجرة تسعمائة ليرة في السنة .
و ُعهد بادارته الى الأب كربانو ( )Carpanoبعدما ترك للأب بونتي ( )Ponteمصلّى مار لويس .
أستونفت في بورغو فانكيليا المعارك الضارية التي كانت العصابات تشّنها ،فأرسل دون
بوسكو الدركي بروزيو ( )Brosioالى الأب كربانو لكي يساعده ،فجهّز بروزيو هنا أيضاً فوجاَ
شديد البأس سريعاً الى اللعب وسريعاً أيضاً الى كيل الضربات عندما تدعو الحاجة إليها .
روى بروزيو " :ذات يوم أحد تَقدّم أربعة من الأوباش ،وقد تسلّحوا بالحجارة والعصيّ
والسكاكين يريدون دخول المصلّى وبلغ الخوف من المدير أنه كان يرتجف كالورقة .وأ َمّا أنا فلما
رأيتُ أنهم ُمص ّممون حقّاً على الهجوم أَغلقت الباب وجمعت من الصّبيان أكبرهم سِنّاَ ،ووزّعتُ
عليهم بندقيّات من الخشب ،وقسمت الأحداث الى أربع فصائل ،وأمرتهم ،اذا هُجِم عليهم ،
أن ير ّدوا كلهم معاً في ك ِلّ مكان ،على الهاجمين ،عندما أشير لهم بذلك ،وأن يخبطوا بلا شفقة .
ثم جمعتُ الصغار وكانوا يبكون من الخوف ،وخبأتهم في الكنيسة ووقفتُ حارساً عند باب
المدخل ،والهاجمون يحاولون قلبه بضربهم له بكل قواهم .وذهب بعض الناس في أثناء ذلك فّنبه
جنود الخيّالة فوصلوا وسيوفهم مسلولة " .

21.5 Page 205

▲back to top


وانتهى الأمر بخير في هذه المرة .
في 13تشرين الثاني ( نوفمبر) جاء الأب جياكوملّي ،صاحبُ دون بوسكو في معهد
الكهنوت في كييري ،فسكن عنده ولبث في فالدوكّو سنتين ،فاستطاع دون بوسكو بمساعدته
وبمساعدة طالب الكهنوت أسكانيو سافيو أن يزيد عدد الصبيان الذين يُضافون " ،الداخليين" ،
فبلغ . 38فصاروا 36في السنة ،1322و 26في ، 1323و 112في، 1321وفي السنة
1368صاروا 128و 688في السنة ، 1361وكان أكبر ما بلغ عددهم . 388
وظلّت حياة هؤلاء الصبيان فقيرة جدّاً :إنِّهم في الشتاء يُعانون الصقيع في الكنيسة والأماكن
الاخرى ما عدا المطبخ وغرفة فيها موقد يشعل فيه الحطب ،الفراش من الصوف أو الشعر هو
شيء فاخر مقصور على بضعة منهم ،في حين أن معظمهم ينامون على اكياس من الورق اليابس أو
التبن .سلّم دون بوسكو المال القليل الذي تملكه الجماعة إلى يوسف بوتسيتّي ،وقد بلغ السابعة
عشرة في 1310فتعجب من تلك الثقة العظيمة .أيام الآحاد كان يشترك هؤلاء الصبيان
" الداخليون" في حياة الصبيان الخمسمائة الذين يملأون المصلّى وفي العابهم ونزهاتهم .
28تشرين الثاني ( نوفمبر) .ألغى فيتّوريو عمانوئيل في بيانه في مونكالييري
) Moncalieri (المجلسَ مرّة أُخرى ،ودعا الناخبين ،البالغ عددهم تسعين ألفاً ،الى انتخابات
جديدة .وقد لامَ بكلمات شديدة اليسارَ الديموقراطيّ بأَنه خرب الأمّة ،ودعا الناخبين الى ارسال
اناس أَكثر اعتدالا الى المجالس .
وجرت الانتخابات في 0كانون الأول ( دسمبر) في بدء شتاء يُنذر بأن يكون بارداً كئيبا .
ووافق النواب صامتين على معاهد الصلح .فكتب كونياسّو ( " : )Cognassoلم تكن المعاهدة
معاهدة الصلح بل هدنة عشر سنوات .عشر سنوات تمضي في العمل بسكوت " .
أربعة فلوس من أجل البولنتا
في الأيام الأخيرة من ، 1310وبينما يشكو الجوع كثير من الناس حول تورينو ،على ما جاء في
الأخبار ،س َّجل تاريخ دون بوسكو بضعة أحداث عجيبة ،بوسعنا ان نسميها بعبارة لا مبالغة فيها
" المعجزات الصغيرة التي ينالها كاهن من أجل صغار الناس " .
روى المعجزة الأولى يوسف بروزيو الدركي في رسالة الى الأب بونيتّي .

21.6 Page 206

▲back to top


" كنت ذاتَ يوم عند دون بوسكو ،فجاء رجل يطلب الصدقة فقال إِن له خمسة أولاد لم يأكلوا
منذ يوم كله ،ففتش جيوبه ،فلم يجد فيها سوى أربعة فلوس ( عشرين سنتيما ) فأعطاه إيــاه
وباركه .فلما أصبحنا لوحدنا قال لي دون بوسكو إِنه آسف لأنه لم يكن لديه من المال ما هو أكثر ،
فلو كان لديه مائة ليرة لأعطاه إياها .قلت له :
-كيف تعرف أَنه قال الحقيقة ؟ وإذا كان محتالاً ؟
-لا ،إِنه صادق أمين ،بل أُضيف أَنّه نشيط ،شديد التعّلق بأُسرته .
-كيف تعرف ذلك ؟
فأَمسك دون بوسكو بيدي ونظر في عينّي وقال بصوت خافت :
-قرأتُ ذلك في قلبه .
-يا للعجب ! إذا كانت الحالة هذه فإَنّك ترى خطاياي أيضاَ .
فأجابني ضاحكاً :
-أجل ،اني أشمّ رائحتها .
يجب عليّ القول إنِّه كان يقرأ حقاً ما في القلب .فإذا نسيت شَيئاً في أثناء الاعتراف ،أظهر
لي الحقيقة كما هي ،مع أنّي كنتُ أسكن على بعد كيلو متر من بيته .قمتُ ذاتَ يوم بعمل شخيّ
كلفني بذلاً كبيرًا ولم يدرِ به أحد .ذهبتُ الى المصلّى فما إِن رآني دون بوسكو حتى أمسك بيدي ،
وقال لي " :يا لِلأجر العظيم الذي أَعددتَه لنفسك في الفردوس ! " .فسألته " :ماذا فعلتُ ؟ "
فذكر لي ما حدث بحذافيره .
وصادفت بعد مدة في تورينو الرج َلّ الذي كان دون بوسكو قد أعطاه أربعة فلوس فعرفني
فاوقفني وقال لي إَنّه ذهب فاشترى بالفلوس الأربعة دقيقاً من أجل البولنتا فأكل هو وُأسرته حتى
شبعوا .وأضاف :إننا نسميّه في الأسرة " كاهنَ معجزة البونتا" لأ َنّ ما يُحصل عليه من الدقيق
بأَربعة فلوس يكاد لا يكفي لشخصين وكنا سبعة فأكلنا وشبعنا " .
" دعوته باسمه :كارلو ! "
وأمّا المعجزة الثانية فقد روتها المركيزة ماريا فاسّاني ( )Fassatiالتي ولدت في أُسرة دي مسّتر ،
في رسالة كتبتها بالفرنسية " :سمعت هذه الرواية من فَم دون بوسكو بنفسه وقد حاولتُ أن اكتبها
بك َلّ أمانة ممكنة .
ذات يوم جاء من طلب دون بوسكو ليذهب الى شابَ كان من عادته أن يتردّد الى المصلّى ،
وقيل له إنّه مصاب بعلّة شديدة .كان دون بوسكو غائبًا ولم َيعُد الى تورينو إّلا بعد يومين ،فلم
يمكنه الذهاب الى المريض إلاّ في الغد نحو الساعة الرابعة من بعد الظهر .
فلّما وصل الى بيت المريض ،رأى على الباب بساط الرحمة عليه اسم الشاب الذي يبحث

21.7 Page 207

▲back to top


عنه .صعد مع ذلك لِيَرى أهله المساكين ويعزّيهم ،فوجدهم يذرفون الدموع ،فأَخبروه أَن ابنهم
تُوفّي منذ الصباح .فسأل هل يسعه الصعود الى الغرفة التي فيها المتوفّى لكي يراه َم َرّةَ أخرى ،
فذهب به خادم اليها .
قال دون بوسكو :دخلتُ الغرفة فخطر لي أَنّه لم يمت ،فدنوت من السرير ودعوتُه باسمه :
كارلو ! ففتح عينيه وحّياني مستغرباً وهتف :آه يا دون بوسكو ،لقد أيقظتني من حلم رهيب .
عند ذات ذُعر عدّة اشخاص كانوا في الغرفة أشدّ الذعر ،فهربوا وهم يصرخون بأعلى
صوتهم ،وقلبوا الشمعدانات .فأسرع دون بوسكو الى تمزيق الكفن الذي خيط فيه الشابّ ولا
يزال يتكلّم فيقول :خُيّل إليّ أنّي أُدفَع في مغارة طويلة مظلمة ضيقة جدًاّ ،حتى إِني لا استطيع
التنفس إِلا بكدّ .وكنتُ أرى في آخرها ما هو أشبه بفسحة أعرض وأكثر نوراً ،فيها تُحاكم نفوس
كثيرة .فكان َغمّي ورعبي يتضاعفان ك َلّ حين ،لأني كنت أرى عدداً كثيراً من المحكوم عليهم ،
وجاء دوري أخرَ الأمر وحان ان ُأشاركهم في مصيرهم الرّهيب لاني أسأت اعترافي الأخير ،فاذا
بك توقظني " .
وفي أثناء ذلك هرِع أَبو كارلو وُأمّه وقد سمعا أنّ ابنهما حيّ فسلّم عليهما الشابّ من ك َلّ قلبه
ولكنه قال لهما لا َيرجُوا شفاءه .ثم قّبلهما ،وطلب أن يُترك هو ودون بوسكو .
فروى له أنّه كان من سوء طالعه أنّه سقط سقطة عدّها خطيئة مميتة وأح َسّ أنّه في حالة شديدة
من المرض ،فأَرسل يستدعيه وهو مص َمّم على أن يعترف بخطيئته .ولكنّهم لم يجدوه فأتوه بكاهن
آخر لا يعرفه فلم يجروء على ان يكشف عن تلك الخطيئة .وكان الله قد أراه أنّه استحق جهنم من
َجرّاء ذلك الاعتراف الكاذب .
فاعترف لوقته بكثير من التأسَّف ،وما إن نال نعمة الغفران حتى أطبق عينيه ولفظ الروح
بهدوء " .
سَّلة من الكستنة لا تفرغ أبداً
وأما الحدث الثالث ،فقد رواه يوسف بوتسيتّي وأيّده كارلو توماتيس ( )Tomatisوكان من
أَول ال َصّبيان الذين أَضافهم دون بوسكو .
يوم ذكرى الاموات )1(سار دون بوسكو بجميع الصبيان الذين يتر َّددون الى المصلّى يوم
الأحد وأيام الأعياد ،إلى المقبرة ليزوروها ويصلّوا فيها ،ووعدهم باعطائهم عند عودتهم كستنة
مطبوخة ،وطلب شراء ثلاثة أكياس كبيرة منها .
لم تفهم ماما مارغريتا ما أراد ،فلم تطبخ سوى ثلاثة كيلوات أو أَربعة .

21.8 Page 208

▲back to top


وصل يوسف بوتسيتّي " الوكيل الشاب " الى البيت قبل غيره فرأى ما جرى وقال :
-ا َنّ دون بوسكو سيستاء من ذلك فيجب إخباره لوقته .
ولكنّ بوتسيتّي لم يُفلح في شرح الأمر في بلبلة الجماعة ،وقد عادت جائعة كلها ،فأخذ دون
بوسكو السلّة الصغيرة وجعل يوزّع الكستنة بالمغرفة الصغيرة ،وكلها ثقوب ،فصاح به بوتسيتّي
في الهرج والمرج :
-لا ُتعطِ ذلك كلّه ،فلن يكون ما يُو َزّع عليهم جميعاَ .
-ولكن في المطبخ ثلاثة أكياس .
-كلاّ ،ليس سوى هذا ! سوى هذا!
حاول بوتسيتيّ ان يجيبه هذا الجواب والصّبيان يضجّون ويتدافعون كالأمواج المتتابعة ،
فارتبك دون بوسكو وقال :
-لقد وعدتُ جميعَ الصبيان أَن أُعطيهم منها فنُواصل التوزيع طالما بقي شيء منها .
وواصل إعطاءَ ك َلّ واحد مغرفةً فنظر بوتسيتّي ،وهو متوترّ الأعصاب ،الى بضع الحفنات
التي بقيت في قعر السلّة ،والى َصفّ المنتظرين وهو يزداد طولا .وأخذ شخص آخر يُراقب هو
أيضاً .وإذا بالسكوت يسود .إن مئات العيون المُ َحملقة لا تتحول عن هذه السلّة التي لا تفرغ .
فقد كان من الكستنة نصيب لجميع الصبيان ،ولا شك في أنهم في ذلك المساء هتفوا أوّل مرّة
وأيديهم مليئة بالكستنة البخسة الثمن " :دون بوسكو قدّيس ! " .
)1وهو في 2تشرين الثاني ( نوفمبر) عند اللاتين ( حاشية من المترجم) .
11
بيــت وكنيسة
في الأشهر الاخيرة من السنة 1310بعث دون بوسكو بطلب الى وزارة الداخلية ،بغية

21.9 Page 209

▲back to top


الحصول على معونة لمصلاّه .
في يوم من أيام الاحد من شهر كانون الثاني ( يناير) نزلت الى فالدوكّو بعد الظهر لجنة مؤلفة
من ثــلاثــة شيوخ ،اسماؤهم سكلوبيس ( )Sclopisوبــالاّفيتشيني ( )Pallaviciniوكــولّينيو
)Collegno(لتزور المشروع وتضع تقريراً ترفعه الى مجلس الشيوخ والوزراء .
ُس ّرت اللجنة بما رأت ،فقد شاهدت خمسمائة صبّي يلعبون في الساحات والمروج ،
ويصلّون محتشدين في المعبد وما حوله ،وسألوا أسئلة دقيقة عن البيت الذي يلقى فيه الضيافة
ثلاثون من الداخليين .
سأل الكونت سكلوبيس على سبيل المصادفة صبيّاً اسمه يوسف فانزينو ( ، )Vanzinoفعلم
أنه من فاريزي ( )Vareseوأنه حجّار يتيم الأب ،ووفّق أيضاَ في أن يعلم من الصبّي ،بين نوبتين
من الدموع ،أن أُمّه في السجن .سأل الكونت ،وبه شيء من الارتباك :
-إلى أين تذهب لتنام ؟
-كنت انام ،الى هذه الأيام التي مضت ،في بيت ربّ عملي ،ولكن دون بوسكو قبلني
الآن في بيته .
كتب بالاّفيتشيني التقرير المرفوع الى مجلس الشيوخ ،وذلك التقرير مسجّل في الأعمالِ
الرسمية في 1أذار( مارس) .ولقد جاء فيه " :أنّ مؤسسة الكاهن الرفيع الشأن النشيط يوحنا
بوسكو تثبت أَنّها دينية خلقية مفيدة على وجه عالٍ .إذا توقّفت عن أعمالها ،أو زالت عن الوجود
لقلة المال ،نزلت بالمدينة خسارة جسيمة .إِن لجنتنا تلتمس بالحاح من وزير الداخلية أَن يرتضي
بمدّ يد المساعدة الفعّالة الى مشروع عظيم الفائدة والنفع " .
عادت هذه الكلمات على دون بوسكو من جهة الليرات بثلاث ورقات من فئة المائة ليرة ،
منحها مجلس الشيوخ ،وبورقتين من فئة الألف منحها الوزير أوربانو راتاتسي ( . )Rattazzi
ولكن لم تكن الليرات ( وقد وصلت وبوركت) المنفعة الكبرى .ففي بلاد البيمونته
اندلعت ،بعد وقت قليل ،منازعة طويلة الامد هوجاء بين الدولة والكنيسة ،وان زيارة الشيوخ
الثلاثة وتقريرها اللذَين التمسهما دون بوسكو مكّنا المصلّى من التغلب على العاصفة الشديدة من
غير أذى جسيم .
رئيس الاساقفة المعتقل
في كانون الاول ( دسمبر) وقّع ألف من رجال الكنيسة وعشرة آلاف من أهل تورينو على
طلب ُأرسِل الى رئيس الوزارة دازيليو ( )D’Azeglioوكانوا يلتمسون فيه عودة رئيس الأساقفة
فرانسوني ( ، )Fransoniولم يزل منفيّا في جنيف .

21.10 Page 210

▲back to top


كثر الذّهاب والإِياب بين الملك والوزراء ورئيس أساقفة جينوى ولكنّ المطران فرانسوني
استطاع العودة إلى تورينو .
كانت أيّام مستعرة ،وكانوا في مجلس النواب يتناقشون في مشروعات القوانين التي اقترحها
وزير العدل سيكّاردي ( ، )Siccardiوقد طالب الغاء بعض الامتيازات القديمة لرجال الكنيسة :
الحصانة الكنسيّة ( المطارنة والكهنة الذين يرتكبون ذنوباَ تخالف الح َقّ العام لا يُحاكمون من بعد
لدى المحاكم الكنسية ،بل لدى المحاكم العلمانية ) وحقّ اللجوء ( لم يكن للشرطة الى ذلك الحين
أن تعتقل الذين يرتكبون ذنباً ،اذا التجأوا الى كنيسة أو دير) ،وإمكانية زيادة أموال الكنيسة .
في 3نيسان ( ابريل) وافق مجلس النواب ومجلس الشيوخ على قوانين سيكاردي ،وفي 0
نيسان ثبّتها الملك .فهاجت في المدينة لعصابات العدوّة للكنيسة ،وتألفت مواكب من تلقاء
نفسها وفيها اناس يصرخون " :ليسقط الكهنة ! عاش سيكاردي ! " .وكان مكان الالتقاء دار
رئيس الاساقفة ،واقتصر الامر بادئ ذي بدء على الهتافات والشتائم " :الموت لفرانسوني !
الطرد للسفير الباباوي ! " .ثم أُضِيف الى ذلك إلقاء الحجارة ،فتك ّسر زجاج النوافذ ،وحاولوا
تحطيم باب المنزل فاضطُ َرّت فرق الخيالة الى التدخّل وسيوفهم مسلولة .
ردّ رجال الكنيسة على ذلك لوقتهم ،فاحتجّ بيوس التاسع احتجاجاً شديداً برسالة كتبها
الكردينال أنطونلّي ( ، )Antonelliوطلب السفير الباباويّ جواز سفره وغادر البيمونته ،وفي 13
نيسان ( ابريل) بعث رئيس الأساقفة الى جميع الكهنة في الرعايا برسالة عامة سرّية فيها حظر على
كل كاهن المثول لدى محكمة عامّة بغير اذن منه .
في 21نيسان دهمت الشرطة مطبعة بوتّا ( )Bottaالتي طبعت الرسالة العامة ،ومراكز
البريد ،ودار الاسقف ،وحُ ِج َزت الرسالة وعُدّت مح َّرضة على التم ّرد ،ودُعي المطران فرانسوني
الى المحكمة المدنيّة فرفض المثول لديها ،فاعتُقِل وأرسل الى القلعة العسكريّة .
شهدت تورينو برهة من التوّتر الشديد ،فالمقاومة الكاثوليكية قوّية ج ّداً ،واو كانت قليلة
التمثيل في المجلس ( الذي لا يصوّت له سوى اثنين بالمائة من السكان ) .ولما استقبل الكونت
فيالاردي ( )Viallardiرئيسَ الأساقفة فاضت دموعـه ،وتخلّى للاسقف القائدُ العامّ ايمبرور
)Imperor (عن بيته ،وطلبت وفود كثيرة الى الملك أن يزور السّجين .
وفي آخر تموز ( يوليو) توتّرت الحالة بين الحكومة ورئيس الاساقفة ،اذ مرض بيتروديروسّي
دي سانتاروزا ( ، )Derossi di Santarosaوزير الزراعة ،مرضاَ شديداً فطلب الأسرار
المقدسة .فتلقّى الخوري ،وكان راهباً من " خ ّدام العذراء" ،أمراً بأن يفرض على المريض
الرجوعَ عن موافقته على قوانين سيكاردي .فأبى سانتاروزا فمات في 2آب ( اغسطس ) من غير

22 Pages 211-220

▲back to top


22.1 Page 211

▲back to top


الزاد الأخير .
عادت الاضطرابات الى شوارع تورينو ،و ُطرِد رهبان الرهبنة المذكورة ،وطلب وزير
الحرب الفونس لا مارمورا ( )La Marmoraإلى فرانسوني أن يتخلّى عن الأسقفية ،فلما أبى ذلك أمرَ
الدركَ باعتقاله في 2آب وسجنه في حصن فنستريلي ( ، )Fenestrelleبالقرب من الحدود
الفرنسية .وفي 23ايلول ( سبتمبر) نُفي رئيس الأساقفة من هناك الى خارج البلاد .
فهجمت جماعات عنيفة على أديار المدينة ،فاضطُ َرّ رهبان التقدمة ومار برنابا وعبد الأحد الى
التحصن في أديارهم .وفي 11آب جاء أمرءٌ اسمه فولباتو ( )Volpatoإلى فالدوكّو ،ونبّه دون
بوسكو الى أن المصلّى أيضاً سيُهجم عليه عند المساء ،فالأفضل له أن يذهب لوقته مع صبيانه .
فكّر دون بوسكو ،ثم عزم على البقاء .في الساعة الرابعة بعد الظهر نول رتل المتظاهرين
الى القرب من المصلّى .وكان بينهم ،على ما جاء في شهادة الأب لموان ( ، )Lemoyneرجل أحسن
إليه دون بوسكو ،فاوقف الجماعات الاولى وقال :
-لا يحسن الهجوم على المصلّى ،فلن نجد سوى أولاد فقراء وكاهن يعولهم .دون بوسكو
من الشعب مثلنا .فلندعه ناعم البال .
وقع جدال ،ثم اتّجه الرتل إلى جهة اخرى .
الفريق الجديد وأعضاؤه الاربعة
كان دون بوسكو يواصل عمله بسكوت في أَثناء العاصفة .وواصل رفيليو ( )Reviglio
وبّليا ( )Belliaوبوتسيتّي ( )Buzzettiوغاستيني ( )Gastiniدروسهم المكثّفة ،وأوشكوا أن ينهوا
استعدادهم للفحص الذي يتقدم ارتداء الثوب الكنسي .وفرغ ميكيلينو روا ( )Ruaفي صيف
1328من دروسه الابتدائية عند إخوة المدارس المسيحية ،ولم ينسهُ دون بوسكو ،فانفرد به ذات
يوم وقال له :
-ماذا تنوي العمل في العام القادم ؟
-إن َأميّ ح َدّثت مدير معمل السلاح ،فهم يرضون أن أعمل في الورشات ،وهكذا
استطيع مساعدة ُأسرتي .
-وأنا حدّثت امرأً فقال لي معلّموك أن الله الكريم وهب لك ذكاءً حسناً ،فإذا لم تواصل
دروسك كان ذلك أمراً يدعو الى الأسى .أتُوافق على ذلك؟
-أَجل أوافق ،ولكن أميّ فقيرة ومات أبي ،فإلى أين تريد أن أذهب فأَحصل على المال
لأدرس ؟

22.2 Page 212

▲back to top


-أنا أف ّكر فيه .لَك أن تسأل والدتك أمراً واحداً وهو أن تدعك تبدأ دروس اللاتينية .
نظرت أُمه حُنينة ماريا إلى ولدها الطويل القامة الشاحب اللون ،وسمعته يتكلم على دون
بوسكو بحماسة فأجابت :
-إنّي مسرورة ،ميكلينو ،ولكن أتصمد صحتك ،لقد دعا الرب إِليه أربعة من إخوتك ،
وأَنت أكثر منهم هزالا .قل لدون بوسكو لا يَدّعك تفرط في الانكباب على الكتب .
كان ميكلينو يسكن على غير بعد من المصلّى ،وكان قليل الصحة حقّاً ،فتركهُ دون بوسكو
سنتين أخريين في بيت ُأمّه .ولكنه في تشرين الثاني ( نوفمبر) 1328بدأ يرسله الى مدرسة خاصة
للمعلم يوسف بونزانينو ( ، )Bonzaninoوكان في المساء يعيد له هو بنفسه درس الحساب ،ونظام
المتر العشري .وكان بجنب روا الشبان أنجلو سافيو ( )Savioوفرنتشيسيا ( )Francesiaوانفوسّي
)Anfossi (وهم الفريق الثاني المؤلّف من الأربعة الذين كان دون بوسكو يرجو أن يسير بهم الى
الكهنوت .
وبينما بوتسيتّي يساعد دون بوسكو بوم الأحد ،كان ميشيل روا وأنجلو سافيو يذهبان الى
مصَلّيَي فانكيليا وبورتا نوفا حيث كانا يساعدان على مراقبة الأولاد والتعليم المسيحي .
2شباط ( فبراير) . 1321بعد 1أشهر من الدرس المكَّثف نجح الصبيان الأربعة نجاحاً
باهراً في فحص لدى اللّجنة الأسقفية في تورينو ،فتلقّى بوتسيتّي وغاستيني وبِلّيا ورفيليو الثو َب
الكنسي في المصلّى .وتهلّل دون بوسكو فرحاً إِذ بدا له أ َنّ ال ِحملان الأولين َيسلكون الطريق آخر
الأمر لكي يصيروا رعاة .كان على خطأ :من هؤلاء الشبّان الذين يبتدئون في الغد دروس الفلسفة
لم يَصِر كاهناً سوى بلّيا ورفيليو ،ولكنهما لم يبقيا في المصلّى .وأما غاستيني فقد خارت عزيمته بعد
حين ،وبقي بوتسيتّي مع دون بوسكو ولكنه لم يَصِر كاهنا .فما رجاه دون بوسكو في أوّل أمره ،
حقّقه هذا الصبي الطويل القامة الشاحب اللون الذي ظل يعيش مع ُأمّه ،ميشيل روا .
11ألف ليرة وشيء من الدّوار
لبس الشّبان الأربعة الأولون الثوب الكنسي ،ففكّر دون بوسكو في إسكانهم ،ولا يحسن
العيش في مكان مؤجر قد يباع بين ليلة وضحاها لشخص آخر .في يوم من أيام الأحد بينما الأب
بوريل يعظ بعد الظهر ،بادر دون بوسكو فرنسيس بيناردي بقوله :
-إِذا طلبتَ منّي ثمناً مقبولاً فإني أشتري بيَتك كلّه .
-إِني أطلب منك ذلك الثمن المقبول .كم تعرض ؟
-طلبتُ من رجل رصين هو المهندس سبيزيا ( )Speziaأن يُخَمّنه فقال لي إنّه يق َّدر في الأحوال

22.3 Page 213

▲back to top


الحاضرة بثَمَن قدره من ستة وعشرين ألف ليرة إلى ثمانية وعشرين .إِني أَعوض عليك 38ألفا .
-يكون الدفع ع ّداَ ونقداً مرة واحدة .
-أوافـــق .
-صافِحني .نوقَّع على العقد بعد خمسة عشر يوما .
صافحه دون بوسكو ،وأحسّ بشيء من الدوار 38 .الف ليرة في ذلك الوقت تساوي على
مايزيد على خمسين مليون ليرة في أيامنا .أين يجد هذا المالَ في خمسة عشر يوما ؟ كتب دون بوسكو
ببساطة :
" حينئذ ابتدأ عمل رائع قامت به العناية الالهية .في مساء ذلك اليوم أتاني الأب كافاسّو ،
وهو أمر غير معهود في أيام الأعياد ،وقــال لي إنّ امرأة تقيّة ،الكونتّسا كاساتسا ريكاردي
)Casazza Riccardi (عهدت إليه بإعطائي عشرة آلاف ليرة لأصرفها في ما يبدو لي الأفضل
لخدمة تؤول إلى مجد الله .وفي اليوم الذي بعده جاء راهب روسمينياتي فوافق على اقراضي 28
الف ليرة" .كان القرض بفائدة قدرها 1بالمائة ،ولكن الأب روسميني لم يُلِحّ قطّ في تَلَقّي
الفوائد والرأسمال " .وأضاف الآلاف الثلاثة الناقصة الفارسُ كوتّا ( )Cottaوكان قد نُ َظّم عقد
البيع في مصرفه " .
كان ذلك في 10شباط ( 1321فبراير) .ومن العسير أن لا نرى في ما حدث تد ُّخلَ الله ،
واعسر منه عند دون بوسكو ان لا يُواصل سيره إلى الأمام في الطريق ذلك .
" البورسيونكولا " السالسية
في مساء يوم من ذلك الشهر ،بينما ماما مرغريتا ترقّع ثياب الأولاد ،وهم نائمون ،تمتم
دون بوسكو كأنّه يحدّث نفسه :
-والآن أُريد أن أبني كنيسة جميلة إكراماً لمار فرنسيس دي سال .
فسقط الخيط والابرة من يدي مرغريتا :
-كنيسة ! ولكن من أين تأخذ المال ؟ لا نوّفَق الآن في إعطاء هؤلاء الأولاد المساكين الخبز
والثياب ،وأنت تتكلم على كنيسة جديدة .أرجو أن تفكّر في الأمر ملّياً وأن تتّفق والله اتّفاقاً حسناً
قبل أن تزجّ نفسك في مغامرة مثل هذه .
-أُمّاه ،لو كان عندك مالُ أفتعطينه أيّاه ؟
-أجل ،ولكن لا مال عندي .

22.4 Page 214

▲back to top


-والله الذي هو أَكرم وأَكثر سخاء منك أفلا ُيعطيني إيّاه ؟
كيف ًيسع الأم " أن تناقش " مثل هذا الولد ؟
وكان لدون بوسكو من جهة أُخرى أَسباب حسنة في ما أراده :كان معبد بيناردي قد وُسّع ،
ولكنه لم يكن يّتسع للصبيان حتى لو ُو ّسعت مساحته ثلاثة أضعاف .كتب دون بوسكو " :يُضاف
الى ذلك أنّه كان لا بُ َدّ من نزول درجتين لدخوله .كنا نغرق في الشتاء وفي أوقات المطر ،في حين
أننا كنّا نختنق في الصيف من الحر والروائح الكريهة " .
طلب الى الفارس بلانشيه ( )Blanchierأن يرسم المخ َّطط وتعهدّ البناء فريدريكو بوكّا
. )Bocca (قال له دون بوسكو ضاحكاً :
-أُنبّهك أَنه لن يكون لدّي أحياناً مال أدفعه لك .
-عندئذ نعمل ببطء .
-لا ،لا ،ُأريد خلاف ذلك فنسير سيراً سريعاً ويَتمّ بناءُ الكنيسة بعد سنة .
فهزّ فريدريكو بوكّا كتفيه :
-اذاً سنسير سيراً سريعاً ،ولكن أَسرع أَنت أيضاً في دفع المال .
ذكر دون بوسكو " :حُفرت الأسُس فبورك الحجر الأوّل في 28تموز ( يوليو) " 1321
فوضعه الفارس يوسف كوتّا ،وهو واحد من أكبر المحسنين ،وقرأ كلمة الشكر ميشيل روا ،
وألقى الخطاب الأب بارّيرا ( . )Barreraجرت عادة الناس أن يبالغوا في مثل هذه الأحوال فيبحثوا
عن التشبيهات الحسنة الوقع .أتى بارّيرا هو أيضاً بتشبيهه الحسن ،ولكنه لم يوّفق في المبالغة قال :
" إن هذا الحجر هو حَبّة الخردل ،سينمو فيصير مثل شجرة ويأتي كثير من الأولاد فيأوون اليها " .
كان المال سبب صداع كبير .قرع دون بوسكو جميع الأبواب التي يعرفها وغيرها كثيرة ،
ولكن ج ُلّ ما أفلح في جمعه 32ألف ليرة .كانت تنقصه 38الف ليرة .
وجّه مطران بيلاّ ( )Biellaصاحب السيادة لوزانا ( )Losanaرسالة إلى جميع أهل أبرشيته ،
و َذ ّكر " جميع الصبيان البنّائين من بيلاّ" الذين ُيساعدهم المصلّى ،وطلب جميعاً للتبرعات خاصّاً ،
في يوم من أيام الاحد .أمل دون بوسكو كثيراً ،ولكن النتيجة كانت ضئيلة :الف ليرة .
وكان الصبيان هم أيضاً يساعدونه على قدر طاقتهم .ذكر الأب يوحنا توركي ( : )Turchi
" وصلت جدران الكنيسة الى علّو الزجاج الملّون ،و لكني كنت ورفاقي مشغولين في حمل القرميد
الى السقالات " .
أراد دون بوسكو جمع هذه الثلاثين ألف ليرة المباركة التي تنقصه ،فزجّ نفسه في يانصيب عامّ
للمرة الأولى .روى " :تلقّينا ثلاثة آلاف وثلاثمائة هبة وقد تبرّع البابا والملِك والملكة الأم وزوجة

22.5 Page 215

▲back to top


الملك بهباتهم " .و ُعرِضَت الجوائز علانيةً في ردهة كبيرة خلف كنيسة مَار عبد الأحد .وُن َظّم
جدول الجوائز في نشرة مطويّة ضخمة .
سبّب بيع البطاقات كثيراً من الإهانات لدون بوسكو ،ولكن المال الذي تلقّاه بلغ قدراً
حسناً حقّاً 26 :الف ليرة صافية .فكلما وجد نفسه في عسر بعد تلك التجربة ف ّكر في يانصيب .
وفي آخر رسائل كتبها قبل موته ،بيد باتت ترتجف ،أوصى " بقبول دفتر من البطاقات من أجل
يا نصيبي " .
ُك ِرّست الكنيسة في 28حزيران ( يوليو) ( ، 1362وهي لا تزال هناك في أقصى بيت
بيناردي ،وتبدو صغيرة بجانب عظمة كاتدرائية السيّدة العذراء معونة المسيحّيين التي تَمتد الى أبعد
ثلاثة أمتار من بابها ) .إنها " البورسيونكولا" )1(السالسيّة .في داخل تلك الجدران ،مدّة ستة عشر
عاماً ،خفق قلب مشروع دون بوسكو .
كان القديس دومنيك سافيو في حداثته يأتي هناك ليصلّي ،ونذر نفسه لها أمام المذبح الصغير
للسيدة ،الى اليمين .وفي تلك الكنيسة خدم ميشيل ماغوني ( ، )Magoneصبّي كارمانيولا
، )Carmagnola (وفرنسيس بسوكّو ( ، )Besuccoالصبّي الصغير من الارجنترا ( )Argntera
الذي جدّد سنة 1363أخلاق دومنيك سافيو الكريمة إلى حدّ البطولة .
أقام ميشيل روا ق ّداسه الاول هناك .إلى تلك الكنيسة ترددت عدة مرات كلّ يوم طوال
أربع سنوات ماما مرغريتا وهي طاعنة في السن ،متعبة .هناك حصلت على الشجاعة لتعود ك َلّ
يوم الى العمل في سبيل الأولاد الفقراء .
)1أوّل بيت لرهبانيّة مار فرنسيس الأسّيزي وقد صار بعدئذ معبدا بالقرب من مدينة أسّيز ( حاشية من المترجم.)
خزعبلة من الشيطان
كتب دون بوسكو " :كان يمكننا بعد قيام الكنيسة الجديدة أن نتيح للاصغر سِنّاً الراغبين في
الأمر ،الاشتراك في الصلوات وفي دروس الليل والنهار ( فقد كانوا يستعملون معبد
بيناردي والكنيسة والموهف الجديدين ،النهار كله ،غرفاً للدروس ) .ولكن كيف السبيل الى
سدّ حاجة عدد كبير من الأولاد الفقراء الذين كانوا لا ينفكّون يطلبون ان يُضافوا ؟ ...استنتج
بلهجة هادئة " :في هذا الوقت وقت الحاجة القصوى ،عزم على بناء جناح جديد للعمارة " .

22.6 Page 216

▲back to top


كان قد مضى قسم كبير من الخريف ،ولكنهم أكبّوا على العمل بكل سرعة ووصلوا الى
السطح على عجل .بيد أن الأمطار ابتدأت عند ذاك " :حدث طوفان عدّة أيام في النهار والليل .
كان الماء يتصبّب ويجرف الاسمنت الطريء المبّلل فلا يترك سوى القرميد والحجر المغسول " .
وكتب دون بوسكو أيضاً " :في نصف الليل من 2كانون الأول ( دسمبر) ُسمعت طَقّة شديدة
تعالت وتضاعفت على نحو مخيف .هي الجدران تنهار بضجة " .
قال دون بوسكو للصبيان المذعورين " :هذه خزعبلة من الشيطان ولكننا سبُعيد بناء كل
شيء بعون السيدة العذراء " .
كان الشيطان قد أسهم بقسطه ،ولكن الوكيل الأب جيرودي ( )Giraudiالذي استطاع أن
يفحص ما بقي من تلك الجدران أكَّد أنها كانت محشوة بالحجارة ورمل السواقي وكان الكلس غير
كافٍ .أراد دون بوسكو أن يقتصد في النفقات وأراد المَُت َعهّدُ هو أيضاً ان يربح شيئاً ....
كانت خسارة دون بوسكو عشرة الاف ليرة .استطاعوا العودة إلى العمل في الربيع وتمّ البناء
في تشرين الثاني ( نوفمبر) 1323فكتب دون بوسكو " :كنا نحتاج حاجة ماسة الى أمان ،فأسرعنا
في الانتقال إليه واستطعنا تنظيم الصفوف وغرفة الطعام والمهجع ،وإعداد ما يلزم ،وارتفعَ عددُ
الداخليين الى . " 62
11
أرسل الله كلبا

22.7 Page 217

▲back to top


في 12شباط ( فبراير) و 26أذار (مارس) 1313مَنح كارلو البرتو " المساواة في الحقوق
المدنّية" ،منحها البروتستانت واليهود ولم يكونوا الى ذلك الحين سوى " موضوع للتسامح" .
فكّر الكاثوليك أَن البروتستانت ،وقد حصلوا على المساواة في الحقوق ،سيلزمون الهدوء .
فحدث خلافه إِذا رأوا بقلق شيعةَ الفودوا ( )Vaudoisيتأهّب لِشَنّ حملة حقيقيّة من الدعاية
لمذهبهم ،فقد طبعت ثلاث صحف :البشارة والنور الانجيلي والمبجح البيمونتي
)Il Rogantino Piemontese (ونَشرت كتب دعاية وباعتها بثمن بخس ،ون ّظمت حلقات من
المحاضرات .
كان ذلك أول التقاء وَتع َدّدَ الآراء .استاء كاثوليك البيمونته ،ولكنهم لم يكونوا يعرفون
عمل ما هو أحسن من ذلك .كتب دون بوسكو " :كانوا مّتكلين على القوانين المدنيّة التي حمتهم
ودفعت عنهم ،فلم يكن لهم سوى بضع صحف وبضعة مؤلفات ثقافيّة ،فلا نشرة دورية ،ولا
كتاب يوضع في أيدي العامّة من الشعب " .
اجتمع مطارنة البيمونته سنة 1310في فيلانوفيتّا ( )Villanovettaوختموا كلامهم بهذا
القول " :إِن الاستياء لا يجدي نفعاً ،فيجب الردّ بالعمل ومباشرة الطباعة والوعظ " .
وكانت النتائج للاجتماعات نشر مجموعة الكتب الصالحة ( ايلول سبتمبر )1310
وجريدة ال َجرَس ( أذار مارس )1328والقراءات الكاثوليكية ( أذار )1323
كانت القراءات هذه ،وهي سلسلة من الكتب الصغيرة الرشيقة ،ثمرة مخّيلة دون
بوسكو ،وقد أّيدها تأييداً خاصّاً مطران ايفريا ( . )Ivreaوأوضح البرنامجُ ما ابتغاه الناشرون :
.1 "تكتب الكتب بإنشاء بسيط وأسلوب شعبيّ ،وتحتوي موضوعات تقتصر على الديانة
الكاثوليكية .
.2يُنشر ك َلّ شهر جزء فيه من 188الى 183صفحة .الاشتراك السنوي ليرة و38
سنتيما " .
لا حوار بل جدار قبالة جدار
أنشأ الأعدادَ الستة الاولى دون بوسكو ،فصدرت بين آذار ( مارس ) وآب (أغسطس)
1332وكان العنوان العامّ :الكاثوليكي المتعلم دينه .ذكر دون بوسكو وهو يبتسم أنه حاول أن
يجد مطراناً يمنحه الموافقة الكنسيّة على أجزائه الستة الاولى ،فأجابه النائب العامّ لأبرشية تورينو :
" لا أرغَب في وضع توقيعي في ذيل هذه الورقة .إنك تتحدى أعدا َءك وتجابههم " .كان دون
بوسكو قد كتب بحزم مَن يذهب الى الحرب ولم يخطر له ما هو " الحوار" .كان أنشاؤه انشاء
" جدار قبالة جدار" .لا بُدّ من إنقاذ الاحداث والناس في سبيل الكنيسة والله والحياة الابدية ،

22.8 Page 218

▲back to top


ولذلك لا بُ َدّ من الكفاح والحرب واستعمال جميع الوسائل " لمقاومة التيّار الذي يحاول جرف
المجتمع والدّين في مًوجِه الفاسد " .
كان دون بوسكو يوجس بعض القلق عندما يذكر إِفلاس صديق الشبيبة ،غير
أن القراءات الكاثوليكية لقيت قبولاً واسعاً جداً من لدن عدد كبير جدّاً من الُقرّاء " .ولكنها
كانت فاتحة نوبات غضب من قبل البروتستانت " .
نزل القسيسان الفودوا ،بيرت ( )Bertومِيّي ( ، )Meilleوالقسّيس الانجيليّ بونيو
)Pugno(إلى فالدوكّو وحاول إقناع دون بوسكو بالكفّ عن نشر القراءات ،أو أن يل ّطف
لهجتها على الأقلّ فلم ينالوا شيئاً .
" ذات يوم من أيام الاحد في كانون الثاني ( يناير) أُخبِرتُ عند المساء بقدوم سيّدَين فدخلا
وأَثنيا عل َيّ :
-أَيَّها الأب ،إِّنك تتحلّى بصفة عظيمة ،فبوسعك أن تجعل الشعب يفهمك ويقرأك .
فالأولى لك أن تنصرف إلى التاريخ والجغرافيا والفيزياء .وأمّا القراءات الكاثوليكية فاتركها
جانباً لأنّها موضوعات ُطرقت كثيراً جداً .
-أجَل ،لقد بُحِث فيها المؤلفات الثقافية ،ولكن ما من أحد جعلها في متناول
الشعب .
-إننا متأهّبون لمساعدتك بالمال ،إذا شرعت في مؤَلّف تاريخي وكففتَ عن العمل غير المفيد
( وق ّدما لي أربع ورقات كل منها ألف ليرة ) .
-اذا كان هذا العمل غير مفيد ،فلِم إنفاق المال لأ ُكفّ عن مواصلته ؟ َّلما صرتُ كاهناً
نذرتُ نفسي لخير الكنيسة والفقراء ،وإنّي عازم على مواصلة عملي بما فيه كتابة القراءات
الكاثوليكية وطبعها " .
تغيّرت اللهجة وتح َوّلت الأصوات الى التهديد :
-إّنك على خطأ .إِذا خرجتَ من هنا ،أَفأن َت على يقين من العودة الى هذا المكان ؟
فُقمتُ وفتحتُ باب المكتب وقلت - :بوتسيتّي ،سِر بهذين السيدَين إلى الباب الكبير .
خمـــر وكستنة
تمتم هذان السيدان ،و ُهما يخرجان " :سنرى بعضنا بعض مرة أُخرى " .شرح دون
بوسكو في آخر فصل من ذكرياته كيف عادا اليه وعَلّق على ذلك بقوله " :يبدو أنه كان هناك مؤامرة
عليّ" .نورد ما رواه فنوجز ما يبدو لنا إِيجازه ضروريّاً .

22.9 Page 219

▲back to top


"بينما أُد َرّس ذاتَ مساءَ ،جاءني يطلبانني على عجل :في نزل القلب الذهبي
( شارع كوتولنغو رقم ) 31رجل ُيشرف على الموت .ذهبتُ ،ولكن أَردت أن يصحبني بضعةُ
صبيان من الأكبر سنّاً ،مع أّنهم بذلوا جهدهم ليمنعوني من الذهاب .
فلما وصلنا إلى القلب الذهبي ساروا بي إلى ردهة في الطبقة الأرضية ،فيها يأكل الكستنة
جماعةٌ من أهل اللهو ،فأرادوا أن اشاركهم وأواكلهم فأَبيتُ .قالوا :
-هلاّ تريد أن تشرب كأساً من الخمر ؟ انّ جرعة منها لا تؤذيك .
فصبّوا الخمرَلجميع الحاضرين ،ولكن ،لما جاء دوري ،ذهب أحدهم على غير لباقة ليأتي
بقنينة غيرها ،فتناولت الكأس وقلت " :أشرب نخبكم" ،ثم أَعدتُها الى المائدة .
-لا تفعل ذلك .إِنه لا يحسن .هذه شتيمة .
-ولكن لا رغبة لي في الشرب .
فأخذوا في التهديد :
-لا مناصّ من الامر ـ يجب عليك أن تشرب .
فأمسك الواحد منهم بكتفي اليسرى والآخر بكتفي اليمنى .
-يجب عليك أن تشرب طوعاً أو كرهاً .
-اذا كنتما تُ ِص ّران على أن أشرب فاتركا ذراعيّ طليقتين على الاقلّ ( قلت ذلك وتََفَلّ ُتّ من
أيديهما ) ولما كنتُ لا استطيع شرب هذه الكأس ،فأنا ذاهب لأعطيها واحداً من الأحداث الذين
معي فيشربها بدلاً مني .
وبينما ألفظ هذه الكلمات خطوت خطوة كبيرة نحو الباب ،ففتحت ُه على مصراعيه ودعوت
الصبيان الى الدخول .فلما رأوا هؤلاء الصبيان الكبار ،غَّيروا لهجتهم وقالوا إن المريض سيعترف
في الغد " .حّقق الامرَ شخص صديق لي وبلّغني أ َنّ أمرأ دفع لهم ثمن العشاء بشرط أن يسقوني
خمرة أع َدّها لي " .
" دسيسة للفتك بي "
" ان محاولات الاعتداء عليّ التي أرويها تبدو تلفيقاً ،وهي مع ذلك حقيقيّة وشهدها أناس
كثيرون .
ذات يوم احد من ايلول ( سبتمبر) دُعيتُ على عجل عند المساء إلى بيت ساردي ( ، )Sardi
بالقرب من " الملجأ" لا ستمع إلى اعتراف مريضة مشرفة على الموت ،فدعوتُ بضعةً من أكبر
صبياني سِناً ،لِيقتنو آثاري :لقد أخذتُ أتح َّذر من جميع الناس .لبث بعض الصبيان في أسفل
السلّم ،وصعد معي يوسف بوتسيتي ( )Buzzettiوهياسنت أرنو ( )Arnaudإلى الطبقة العليا ،الى
القرب من باب غرفة المريضة .

22.10 Page 220

▲back to top


دخلتُ فرأيت امرأة تلهث كأنَّها أوشكت أن تلفظ الروح ،فرجوتُ من الأشخاص الأربعة
الحاضرين أن يبتعدوا لكي أستمع الى اعترافها .فهتفت العجوز :
-أريد ،قبل أت تستمع الى اعترافي ،أن يطلب منّي هذا اللص الصفح .
-لم أفعل لكِ شيئاً .
فصاح شخص ثالث بعد أن قفز على قدميه " :صــه ! " .فوقعت مشاجرة عنيفة ،وقبل
أَن أُدرك ما الذي يجري ،أطفأ بعضُهم النور وانهال عليّ وابل من ضربات العصي ،فأسرعت إلى
إمساك كرسيّ ورفعه فوق رأسي وأنا أهرع الى الباب ،فكسرت الكرس َيّ ضرباتُ العصي ال ُم َعدّة
للفتك بي ،وأصابت ضربة واحدة إِبهامَ يدي اليسرى ،وقلعت ظفري ونصف عقدة من إِبهامي .
فعدتُ الى بيتي وأنا بين الصبيان الذين معي "
ذكر دون بوسكو " :يبدو أن ك َلّ شيء قد أُعِدّ لكي يجعلني أكفّ عن مواجهة البروتستانت
في مؤلّفاتي " .
" الأغـــبر"
" إِنّ الدسائس الكثيرة التي حيكت للفتك بي دعتني الى الامتناع من الذهاب الى تورينو
والعودة منها وانا وحدي ( فبين المصلى والمدينة ساحة كبيرة من أرض غير مزروعة ،فيها كثير من
العليق وشجر الاكاسيا ولم يكن لي بد من اجتيازها في ذلك الحين ) .
ذات مساء رجعت الى البيت في الظلام ،وأنا أُوجس بعض الذعر ،فدنا مني كلب كبير
أغبر أفزعَني لأوّل وهلة ولكني داعبته كأنّي صاحبه ،فصرنا صديقين على عجل ،ورافقني الى
المصلّى .وقد تكرّر ذلك عدة مرات .بوسعي أن أقول أن " الأغبر" خدمني خدمات حسنة ،
وهذه بعضها .
في آخر شهر تشرين الثاني ( نوفمر) 1321عدت من المدينة وحدي في مساءٍ كله غيوم
ومطر ،فإِذا بي أشعر أ َنّ رجلَين يمشيان أمامي على بعد منّي ،يسرعان ويبطئان في سيرهما على
قدر ما أُسرع أو أُبطئ بنفسي .فحاولت العودة من حيث جئت ،ولكن فات الأوان ،فقفزا
قفزتين وصارا فوقي وألقيا رداء على رأسي من غير أن ينبسا بكلمة .فظهر الأغبر عند ذاك فألقى
بيديه على وجه الأول وعضّ الآخر بأنيابه ،فأخذا يصرخان :
-أُدعُ هذا الكلب .
-سأدعوه ،إِذا تركتماني وشأني .
فتو ّسلا بقولهما :

23 Pages 221-230

▲back to top


23.1 Page 221

▲back to top


-أُدعُه لوقتك !
وكان الأغبر يواصل عواءه كالذئب ال َكِلب ،فهربا ،ورافقني إلى البيت وهو يسير بجانبي .
في كل مساء لم يرافقني فيه أحد ،كنت لدى وصولي الى بقعة الأدغال أرى الأغبر قادماً ،
وقد رآه أحداثُ الم ّصلى مرات كثيرة يدخل السّاحة .وذات يوم أراد صبَيّان ،وقد استولى عليهما
الخوف ،أن يهجما عليه بالحصى ،ولكن يوسف بوتسيتّي تدخل بقوله :
-أُتركاه وشأنه ،إِنه كلب دون بوسكو .
فأخذا في مداعبته ورافقاه الى غرفة الطعام حيث كنت أتناول طعام العشاء مع بعض الكهنة
وأُميّ .كانوا ينظرون اليه بفزع فقلت :
-لا تخافوا ،هذا صديقي الأغبر ،دعوه يأتي .
فدار دورة كبيرة حول المائدة ،ودنا مني وهو في فرح عظيم ،فق ّدمت له شيئاً من الحساء
والخبز والطعام ولكنه رفض ك َلّ شيء ،وأسند رأسَه الى غطاء المائدة كأنه يريد أن يقول لي :مساء
الخير ،وترك الأحداث يسيرون به الى الباب .أذكر أني وصلت متأخّراً الى البيت في ذلك المساء
فجاء بي صديق لي في عربته " .
وروى كارلو توماتس ( )Tomatisوكان يتردد الى مصلّى في تلك السنوات " :كان الكلب
عظيم القدّ حقّاً .وكثيراً ما هتفت ماما مرغريتا إذا رأته :آه يا للحيوان الضخم القبيح ! كان
خطمه خطم ذئب ،وأنفه مستطيل ،وأذناه منتصبتان ،وشعره أغبر ،وعلوه متر " .
شهد ميشيل روا الذي رأى الأغبر مرّتين أن دون بوسكو أراد الخروج ذات مساء لأسباب
ضرورية ،ولكنه وجد الكلب مستلقياً عند العتبة ،فحاول إبعاده أو تخطّية ،فكان الأغبر يهرّ كل
مرة ويدفعه الى الوراء .فقالت ماما مرغريتا لابنها وقد أصبحت الآن تعرف الحيوان " :اذا كنتَ
لا تريد الاستماع إلىّ فاستمع على الأقلّ الى الكلب ،لا تخرج " .علم دون بوسكو في الغد أن
امرأً سيّىءَ النيّة يحمل مس َدّسا كان ينتظره في منعطف الطريق .
لقد رغب دون بوسكو عدة م ّرات في أن يعرف من أين يأتي ذلك الكلب ،فلم يستطع
العثور على شيء .وفي 1322أيضاً سألته البارونة أزيليا فا ّساتي ( )Azelia Fassatiرأيه في ذلك
الكلب ،فابتسم وهو يجيب " :إذا قلتُ إِنّه كان ملاكا قلتُ قولاً مضحكا ،ولكن لا يمكن القول
إنه كان كلباً عادّياً " .
النوم عند صانع الأحذية

23.2 Page 222

▲back to top


كان دون بوسكو في أثناء النهار يعمل في سبيل صبيانه ،فيذهب الى مختلف الجهات بحثاً عن
المال ،ويستمع الى الاعترافات ويعظ في عدة مؤسسات من المدينة .وكان في الليل يقتطع بضع
ساعات من ساعات نومه لرقع الثياب والاحذية ،وتأليف الكتب ،فكان النعاس يتراكم فيستولي
عليه النوم بغتة .
ذكر يوحنا كالييرو ( )Caglieroأنه كان بعد الطعام الغداء ينام بغتة في بعض الأحيان وهو
جالس الى كرسِيّه ورأسه منح ٍن على صدره ،فكان الذين في المكان يتركونه وهم يسيرون من غير
ضجة على رؤوس أصابع أقدامهم ،لئلا يوقظوه .
كانت تلك الساعة أشَ َدّ ساعات النهار عليه ،فكان يخرج ليقوم بما لزم من الأعمال في
المدينة ،ويزور المحسنين ليلتمس منهم العون .كان يقول وهو يبتسم " :إنِّي أبقى صاحياً وانا
ماشٍ" .ولكنّه لم يفلح ك َلّ مرة .
كان بعد الظهر من ذات يوم في الساحة قبالة كنيسة السيدة معونة المسيحيين فأخذ منه
النعاس ك َلّ مأخذ ،فلم يدرِ أين هو ولا أين يذهب ،وكان بالقرب منه حانوت صانع أحذية ،
فدخله ،وسال صاحبه أن يدعه ينام على كرس ٍيّ بضع دقائق .
-أد ُخل ـ أدخل ،أيها الأب الجليل ،ولكن يسوءُني أني سأزعجك بضربات مطرقتي .
-كلاّ ،لن تزعجني .
فجلس بجنب منضدة للعمل ،ونام من الساعة الثانية والنصف بعد الظهر حتى الساعة
الخامسة ونصف .فلما أَفاق من النوم نظر حوله فرأى الساعة فقال :
-آه ما أشقاني ! لماذا لم توقظني ؟
فأجاب ذلك الرجل ال َطّيب :
-يا عزيزي ،كنتَ نائماً هنيئاً حتى اني لو أَيقظتك َلعددتُ عملي خطيئة .آه وددتُ لو
أنام أنا مثل هذا النوم .
11
ست ورشات عمل
في محفوظات الرهبانيّة السالسيّة وثيقتان ثمينتان :عَقدٌ لتعليم صناعة ،مكتوب في ورقة غير

23.3 Page 223

▲back to top


رسمية مؤرخة في تشرين الثاني ( نوفمبر) للسنة ، 1321وعقد آخر هو أيضاً لتعليم الصناعة ،
مكتوب في ورقة لها طابع قدره 18سنتيما ومؤرخ في 3شباط ( فبراير) .وعلى كلا العقدين وَقّع
ر ُبّ عمل وطالب الصناعة ودون بوسكو .
هذه هي الموادّ الشأن في العقد الأول :
" ت َمّ الاتفاق بموجب هذا العقد الخاصّ الذي نُ َظّم في بيت ُمصلّى مار فرنسيس دي سال :
.1يَتََقّبل السيد ايمينو ( )Aiminoالشا َبّ يوسف بوردوني ( )Bordoneالمولود في بّيلا
) Biella(طالباً في في صناعة الزجاج ،ويَعِد ويتعهد بأَن يعّلمه هذه الصناعة في مدة ثلاث
سنوات ،ويُطلعه في أَثناء تدريبه على ما يلزمه من المعرفة وعلى أَحسن الطرق الخاصّة بصناعته ،
ويزّوده بالنصائح الموافقة ليسلك سلوكاً حسناً ويهذّبه ،إذا أذنب ،بالكلام لا بغير ذلك ،
ويتع َّهد بأن يُبقيه من غير انقطاع في الأعمال العائدة الى صناعته دون سواها وأَن ُيعنى بألّا يتجاوز
قواه .
.2يجب على ر ِبّ العمل المذكور أت يترك طالب الصناعة ح ّرًا على وجه تامّ ك ًلّ يوم
أَحد ،وك َلّ يوم عيد في السنة .
.3يتعهد ر ُبّ العمل أن يدفع لطالب الصناعة ليرة ك َلّ يوم في السنة الأولى ،وليرة
ونصف الليرة في السنة الثانية ،وليرتين في الثالثة ،ويمنحه خمسة عشر يوماً من العطلة ك َلّ سنة .
.2َيعِد يوسف بوردوني بأن يعمل ،في أثناء تد ُرّبه عند معّلمه ر َّب عمله ،بنشاط ومثابرة
واجتهاد ،وأن يكون طَيّعا ُمطيعا مُوَّقرا لمعل ِمّه .
.2َي ِعد مدير المصلّى أن يُقَدّم عونه في أُمور حسن سلوك طالب الصّناعة .
معالجة جروح كثيرة
عالج دون بوسكو جروحاً كثيرة في هاتين الوثيقتين وما أشبههما .كان بعض أَرباب العمل
يستغُلّون طلَاّب الصناعة الصغار كأّنهم خَدَم او مساعدون للطباخين ،فأَلزمهم دون بوسكو أن
يستخدموهم في صناعتهم وحدها .كان أَرباب العمل يضربونهم ،ففرض دون بوسكو أن يكون
التهذيب بالكلام وحده .وقد اهَتّم بصحّتهم وراحتهم يومَ الأحد وعطلتهم السّنويّة ،وفرض
أُجرة " تصاعديّة " ،لأن السنة الثالثة للتدريب كانت سنة إنتاج عاديّ .

23.4 Page 224

▲back to top


وأمّا العقد الثاني فكان عليه طابع المَلك وكان يبتدئ بهذه الديباجة " :عَقد بين السيد
يوسف برتولينو ( )Bertolinoالمعلّم النجّار ،المقيم في تورينو ،والفتى يوسف اوداسّو
)Odasso (المولود في موندوفي ( ، )Mondoviبمحضرمن الأب الجليل يوحنا بوسكو وبمساعدة
وكفالة أبي الفتى فنسان أوداسّو المولود في غارسيو ( )Garessioوالمقيم في هذه العاصمة " .
يكاد ان يكون العقد نسخة للعقد الاول ،ما عدا أمراً مُ ِهمّاً :ح َثّ دون بوسكو صاحبَ
الصناعة على أن يكون لا " ر َبّ عمل " بل " أب" .فقد ورد في البند الأ ّول :
" إن السّيّد يوسف برتولينو المعلّم النجّار . . .يتع َّهد أن ُيزَوّد الفتى أوداسّو طوال م َدّةَ
تدريبه . . .بالنصائح المفيدة التي يزوّد بها الأب البارّ ذات ابنه ،في أمور سيرته ال ُخلُقية والمدنية ،
وأن يهذّبه تهذيب الصّديق للصّديق ،عندما يرتكب ذنوبا ،فلا يستعمل سوى التوبيخ ال َّضروري
ليهذّبه ،من غير أن يعمد أبداً الى سوء المعاملة " .
لم يخترع دون بوسكو عقود التدريب الحرفي ،فإنّ مشروع التس ّول المثّقف ،الذي أُنشئ
السنة ، 1221استعمل هذه العقود منذ أمد بعيد .ولك َنّ العقدَين اللذَين وَقّع عليهما دون بوسكو
هما من أقدم العقود المحفوظة في تورينو .يجوز للمرء أن يفكّر ( الى أن ُتكّذب الأمر وثائقُ جديدة )
أنه ما من أحد ،غير مشوع التسوّل ودون بوسكو ،اهتم بالدفاع عن طلاّب الصناعات .
فلم يفكر بذلك الوالدون ،وكّلهم على وجه التقريب فقراء أُمّيّون ،ولم تُف َكّر به السّلطات
المدنيّة التي كانت تتَبع الَنّظريّات الح َرّة ،الموافقة على أن يُسَت َغلّ الأحداث ،عملاً بقوانين " المزاحمة
ال ُحرّة " .
وحده وأعزل في يدي رب العمل
كان بيت المصلّى في أول أمره يتقّبل على وجه خاص ال ّعمال الحديثي ال َسّنّ ( ،وقد سمّاه
دون بوسكو الملجأ ،وسَُنسمّيه البيت إسوة بالاصطلاحات الدارجة في أيامنا ) .كان أ ّولهم
صب ٌيّ من وادي سيزيا ( )Sesiaوقد لجأ إلى مطبخ ماما مرغريتا في يوم ماطر ،ثم جاء بوتسيتّي
)Buzzetti (وغاستيني ( ، )Gastiniوجاء بعدهم كلّ سنة عشرات وعشرات .لبث فيه بعضهم
ثلاث سنوات ،وغيرهم شهرين ،وآخرون طوال عمرهم ،ولم يؤّلف ال ّطلابُ أكثريّة الداخليّين
إلاّ بعد . 1326
وكان سَببُ الافضلية الممنوحة للعمّال حالةَ البؤس التي كانوا عليها ،فالأوامر الملكيّة التي
أَلغت الجمعيات ال ِحرَفية ،ألقت العاملَ الصّغير ال َسّنّ وحده وأعزل ،في يدي رب العمل .

23.5 Page 225

▲back to top


ر َخّ َ ص كارلو ألبرتو على غير رضا في انشاء " جمعيات الاسعاف " وكان الأحرار يقاومونها هم أيضاً .
سَلّم دون بوسكو صبيانه الى ارباب العمل ،و َحماهم بعقود حسنة ،وذهب ليتفَقّدهم في
الحوانيت كل أُسبوع " ،على أنه مسؤول لدى الأسرة " .واذا لم َيرعَ ر ُبّ العمل شروط العقد
انصرف دون بوسكو بالفتى .
لما شُّيد البناء الجديد في السنة ، 1323َعزم دون بوسكو على أن يُقيم في بيته بعينه الورشاتِ
الأولى للعمل ،وقد دعاه الى ذلك سببان " :سوء السلوك والكفر " اللذان يلقاهما الصبيان عند
ال ُعمّال الكهول في الحوانيت ،والعون الذي به تستطيع الورشات المتكاملة لصانعي الاحذية
والخياطين وعُمّال الطباعة ،أن تز َّود المصلّى .
طاولتا عمل بادئ ذي بدء
في خريف 1323فتح دون بوسكو ورشة صانعي الاحذبة والخيّاطين .خُصّت ورشة
صانعي الأحذية بمكان ضّيق ج ّداً ،كان يُستعمل حينذاك موهفاً صغيراً لمعبد بيناردي بالقرب من
قبّة الجرس ،وكانت الورشة كناية عن طاولتين وأربعة مقاعد مدّورة .كان دون بوسكو أول
مُد َرّب ،فكان يقعد قبالة الطاولة فيضرب بالمطرقة على نعل ،أمام أربعة صبيان ثمّ يعَّلمهم
استعمال المخرز وال َسّلك .وتخلى بعد بضعة ايام عن مكانه لعبد الاحد غوفّي ( ، )Goffiب ّواب
المصلّى .
وأُقيم الخياطون في المطبخ في حين ان القدور ومواقد الطبخ نُقلت الى البناء الجديد .وكان
أ ّول المد ِرّبين للخياطين ماما مرغريتا ودون بوسكو أيضاً الذي علّم الخياطة والتفصيل كما تعّلمهما
من يوحنا روبرتو في كاستلنوفو .
وفي الأشهر الاولى من السنة 1321فتح ،وهو يكاد ان يلهو ،الورشة الثالثة :تجليد
الكتب ،ولا يعرف تلك الصناعة ولا صب ٌيّ واحد من الصبيان .فبينما هو ذاتَ يوم في حلقة
الاحداث بسط على طاولة الورقات المطبوعة لآخر ك ّراس له ،الملائكة الحراس ،ثم مدّ إصبعه
نحو صب َيّ :
-ستعمل عمل المجلّد !
-أنا ؟ ولكني لا أدري ولا معنى ذلك .
-الأمر سهل .هل َمّ الى هنا .أترى ؟ ان هذه الطلاحي تُسَمّى " ملازم " يجب طّيها في
نصفها ثم مرة أُخرى ثم مرة أُخرى ثم مرة أُخرى .الى العمل ،فلنحاول .
طُويِت الطلاحي كُلّها بعون سائر الصبيان الذين حول الطاولة ووضَعَ دون بوسكو
" الملازم" بعضها فوق بعضها الآخر ثم قال :

23.6 Page 226

▲back to top


-ها هو الكتاب قد صُنع والآن تجب خياطته .
دُعِيت ماما مرغريتا الى مساعدتهم ،فتَمّ ذلك باستعمال إِبرة صلبة ،وبضع َشكّات
للاصابع ،وكانت مادّة اللصق لتثبيت الغلاف شيئاً من الدقيق المبَّلل بالماء .
بقيت عملية لا بُ َدّ منها وهي قصّ حافة الكتاب .ولكن كيف العمل ؟ ارتأى الصبيان
الواقفون حول الطاولة آراء مختلفة :استعمال المقص أو سكّين أو مبرد .فذهب دون بوسكو الى
المطبخ وأمسك بف ّرامة من الفولاذ تُستعمل لتقطيع البصل والبقدونس ،فقطع طرف الطلاحي
ببعض الضربات السريعة ،فضحك الصبيان ودون بوسكو أيضاً .ها إنّ الورشة قد ُد َشّنَت .ث ّم
هَُيّأت في ردهة من البناء الجديد بعد حين .
سنة للحصول على المطبعة
وفي آخر السنة 1326ُد َشَّنت الورشة الرابعة ،ورشة النجارة .فصارت ذا شأن لساعتها :
فأُخرِج جماعةٌ من الصبيان من معامل المدينة ،وأُقيموا في ردهة واسعة مزوّدة بالطاولات والأدوات
وقَدر من الخشب المخزون .كان السيد كوريو ( )Corioأ َّول رئيس للمعمل .
وكانت الورشة الخامسة تُنتظر أش َدّ من سائر الورشات كلها ،وهي الطباعة ،وقد اض ُطرّ
دون بوسكو إلى ش َنّ حرب دامت نحو سنة ليحصل على رخصة من محافظة المدينة في 31كانون
الأول ( دسمبر) ، 1361وابتدأ العمل بإمرة رئيس العمال أندريا جياردينو ( )Giardino
وبمساعدة يوسف بوتسيتّي .
لا نعرف معرفة دقيقة اليوم الذي أخذت فيه المطبعة في العمل .ولك َنّ العمال الفتيان بلّغوا
المحسنين الحدثَ بنشرة مطبوعة .
وكان أوّل كتاب خرج من مطابع " مطبعة مصلّى مار فرنسيس دي سال " ك ّراساً للأب
شميد ( : )Schmidثاوفيلوس أو الحبيس الشاب ،ق َصّة للفكاهة .ثم طُبعت حلقة
لسلسلة القراءات الكاثوليكية لعدد أيار ( مايو) ، 1362ومنذ ذلك الحين طبعت
القراءات الكاثوليكية دائماً في مطبعة المصلّى ما عدا بعضها .
كانت البداءة بسيطة :آلتا طباعة يديرها الصبيان بقوة معصمهم .ولكن هذه المطبعة
صارت ذات شأن ،ودون بوسكو ح ٌيّ يرزق ،وزُ َدّت بالأدوات الحديثة ،وغدت تنافس أحسن
مطابع المدينة 1 :مكابس و 12آلة د َوّارة يسيّرها مُح َّرك وآلة للكليشهات ومسبك للحروف وآلة
للنسخ .

23.7 Page 227

▲back to top


وفي 1362فتح دون بوسكو الورشة السادسة ،ورشة الحديد ،وهي آخر الورشات وَجَ َدّةُ
ورشات الميكانيك العصرية .
اربع محاولات للحصول على الطريقة المثلى
أَراد دون بوسكو أن تعمل ورشاته فاعترضته عقبات كثيرة ،فجرّب عدّة تجارب الواحدة تلو
الأخرى .
استأجر أوّل الأمر رؤساءَ للعمال بأجرة مألوفة ،فكانت النتيجة أَنّهم اهتمّوا بالأعمال
ولكنّهم لم يهتمّوا بتقّدم التلاميذ ،ولا بحسن سير المعمل .
وكانت التجرية الثانية أنَّه ترك لرؤساء ال ُعمّال التبعة التامّة بما فيها هَمّ الحصول على عقود
عمل ،كأنهم أرباب العمل ،فكانت النتيجة أنّ الصبيان عوملوا كما يُعا َمل الأجراء فَخَرجوا من
سلطة المدير .
وكانت التجربة الثالثة أَن دون بوسكو أَخذ على عاتقه التّبِعة ال ُخلقّية والاداريّة للورشات ،
ولم يترك لرؤساء ال ُعمّال سوى التلعيم المهني لطلاب الصناعة ،فكانت النتيجة سلبيّة مرة أخرى :
خاف المُ َد ِرّبون أن يسبقهم أحسنُ الطلاب فعّلموهم تعليماً قليلاً وتركوا الطلاب يستسلمون الى
الكسل .
وجد دون بوسكو الطريقة المثلى لما أفلح في تدريب رؤساء الورشات متعلّقين به تعلّقاً تاماَ ،
وهم المعاونون السالسيّون :إِنهم مثل طلاب الكهنوت أو الكهنة ،ولكن َهّم وقفوا أنفسهم
للمدارس المهنية .
" من لم يكن فقيراً ح ّقاً فلا مكان له في هذه الدار "
لا ينبغي لِبيت المصلّى أن يصير " معمل عمّال " بل بيت تربية حقيقي .لذلك تخيّل دون
بوسكو للعام الدراسي " 1322 – 1321نظاماً " يرسم وجه المشروع للصنّاع الأحداث ( ففي
ملحق للنظام يدور الكلام على التلامذة الأحداث) .
يجب على الصانع الحَدث ،لِيُقبل في المصلّى ،أن يكون في س ًنّ بين الثانية عشرة والثامنة
عشرة ،و " أن يكون يتيم الأب والأم فقيراً متروكاً على وجه تامّ .اذا كان له إِخوة أو أَخوات
يمكنهم الاهتمام بتربيته فليس مكانه في المصلّى " .
َع َّرفَ النظامُ إلى الصبيان " الأشخاصَ الذين يجب على كل ولد أن يخضع لهم والذين
سُيعَ ُدّون رؤساء البيت" .هم الرئيس ( المسؤول عن واجبات ك َلّ واحد منهم ،وعن اخلاق

23.8 Page 228

▲back to top


أولاد المصلّى ) ،والوكيل أو القيّم ،والمرشد الروحيّ ( وُيعهد إليه بتلبية حاجات الأحداث
الروحية ) ،والناظر ( يوزّع الطعام ويكون حاضراً في المائدة والورشة وغرفة النوم ) .
وأوصى بفضائل أساسيّة هي التقوى لله والعمل والطاعة للرؤساء والصداقة بين الأتراب
ومراعاة الاخلاق الكريمة .ووضع قواعد للسلوك في داخل البيت وخارجه ،وذكر " ثلاث خطايا
يجب تجُنّبها تجنباً مطلقاً " وهي الكفر والفحش والسرقة ،وأعلن " أشياء مح َّرمَة تحريما شديداً" وهي
الاحتفاظ بالمال ،والألعاب الخطرة ،والتدخين ،والخروج لتناول الطعام عند الأقارب أو
الأصداقاء .
ونصّ الدوام على النهوض في الصباح الباكر ثم القداس تتخّلله الصلوات و السبحة ،
والإِفطار والعمل .ويجتمعون لطعام الظهر والفرصة الكبرى بعده ،ثم يعودون إلى العمل .هناك
عند المساء الوقت اللازم للفروض المدرسيّة .ويختم النهار بصلوات المساء وبعض الكلمات يلقيها
دون بوسكو إلى الأسرة كّلها :كلمة المساء .
يُدعى الأحداث ك َلّ شهر إِلى رياضة روحيّة قصيرة ( تمرين الميتة الصالحة ) ،وفي كل سنة
الى وقت قصير من الرياضة الروحيّة .
كان دون بوسكو دائماً ،في الشؤون الدينية ،أقل تشديداً مع ال ُعمّال منه مع التلامذة
الأحداث ،ولكنّه رأى بين طلاب الصناعة صبياناً لهم ميول روحية جديرة بالاعجاب ،فساعدهم
السنة 1320على إنشاء " أخوية مار يوسف " وهي تَ َج ُمّعٌ توخّى ضمّ أحسن الصبيان وتدريبهم على
أن يحيوا حياة مسيحية نشيطة رسولية .
10
تلامذة في معاطف عسكرية

23.9 Page 229

▲back to top


تشرين الثاني ( نوفمبر) . 1321وصل دون بوسكو الى وطنه كاستلنوفو داستي .يَجب
عليه أن يُلقي عند المساء في الكنيسة عظة الصلاة من أجل المتوَفّين .
وكان بين أولاد الخورس صبيٌ صغير صحبه الى المنبر ،ولبث ينظر اليه وفمه مفتوح طوال
وقت العظة .تنبّه دون بوسكو الى أنّ الصبي يواصل النظر اليه صامتاً ،عندما يعودان الى
الموهف ،فهتف به :
-يبدو أنك تريد أن تقول لي شيئاً ،أليس كذلك ؟
-أَجل ،يا سيدي .أريد أن اذهب معك الى تورينو لأدرس فأصير كاهناً .
-حسناً .قل لأمك تأتِ بعد العشاء دار الكاهن .
اسم هذا الصبي يوحنا كالييرو ( )Caglieroوهو يتيم الأب .جاءت الأم مع يوحنا بعد
العشاء فقال دون بوسكو مازحاً :
-إذاً ،ياتريزا ،أصحيح أنكِ تريدين أن تَبيعيني ابنك ؟
فأجابت السيدة ضاحكة :
-كلا .عندنا هنا نبيع العجول ،وأمّا الصبيان فاننا ُنهديهم هدية .
-ذلك أحسن كثيراً .أعدّي له شيئاً من الثياب ،وغداً أذهب به .
في الغد كان يوحنا كالييرو عند الفجر في الكنيسة ،فخدم ق ّداس دون بوسكو ،وتناول
طعام الإفطار معه ،وقَّبل أمّه ،وصاح ،وصرّته تحت ذراعيه بلهجة َمن فقدَ صبره :
-إذاً ،يا دون بوسكو ،أنذهب ؟
" ينام في قفة خبز"
سلكا الطريق الطويلة سيرًا على أقدامهما ،والواقع أن يوحنا سلكها م َرّتين لأَنّه كان ،وهو
يُحدّث دون بوسكو ،يركض الى الأمام فيصطاد الفراشات في المروج ،ويتخطّى الحفر .ذكر
كالبيرو:
" سألني دون بوسكو في الطريق ألف سؤال ،فأجبتُه أنا ألف جواب ،ومنذ ذلك الحين لن
يبقى لد َيّ س ُرّ لا يعرفه ،قال لي مازحاً ،وهو يستمع الى ما أهزل به ،أنه يجب عليّ أن أتح َسّن .
وصلنا آخر الأمر الى تورينو .
كان ذلك في مساء الثاني من تشرين ( نوفمبر) وكنّا متعبيَن .عرّفني دون بوسكو الى
ماما مرغريتا بقوله :

23.10 Page 230

▲back to top


-يا أميمة ،جئتك بصب ٍيّ صغير من كاستلنوفو .
فأجابت مرغريتا :
-أجل ،لا عمل لك سوى أن تأتيني بصبيان ،وأنا ل أدري أين أضعهم .
-إن هذا من ال َّصغر ما يمكننا من أن نضعه في قفة أصابع الخبر ، )1(نعلّقها بِحَبل في
العارضة ،كما ُي َعَلّق قفص الكناري .
أَخذت ماما مرغريتا تضحك فبحثت لي عن مكان ،والحقيقة انه لا مكان فارغ على
الاطلاق فاض ُط ِررتُ الى النوم تلك الليلة في أسفل سرير أحد أترابي .
في الغد شاهدتُ الفقر الذي يسود البيت :كانت غرف نومنا في الطبقة الأرضية ضَيّقة ،
والأرض مفروشة بحصى الشارع ،ولم يكن في المطبخ سوى بضعة صحون من القصدير ومثل
عددها من الملاعق .رأينا الشوكات والسكاكين والفوط بعد عِدّة سنوات فحسب .كان دون
بوسكو يق َّدم لنا الطعام وُيساعدنا على ترتيب غرفة النوم وينظّف ثيابنا ويرقّعها ويخدمنا أصغر
الخدمات .كنا نجعل ك َلّ شيء مشتركاً بيننا .كنا نشعر أننا ُأسرة أكثر منا في معهد ،يدير شؤوننا
أبٌ يُحبّنا ،ولا ه َمّ له سوى خيرنا الروحي والمادي " .
أظهرنا يوحنا كالييرو ومنذ البدء ذكاء حا ّداً ومزاجاً َمرِحاً .وكان يحبّ اللعب حبّاً طافحاً .
كان ميشيل رُ َوا لا يزال يعيش عند ُأمّه ،ولكنه كان في الصباح يسير في طليعة جماعة التلامذة
الصغيرة ،فيذهبون معاً الى المعلّم بونزانينو ( )Bonzaninoفي المدينة .كان دون بوسكو قد أَقام روا
ناظراً ليمنع كائناً من كان من بلبلة الدرس .لم يُفلح روا إِلاّ نادراً في كبح جماح كالييرو .فما إن
كانوا يخرجون من المصلّى ،حتى ُيغيَّر يوحنا اتجاهه راكضاً الى بورتا بلاتسو ،ويقف تجاه
البهالوين وأكواخ الباعة ،ثم كان يذهب وهو راكض أيضاً الى المدرسة ،فاذا وصل الآخرون كان
)1يصنعون في بلاد البيمونته خبزا أشبه بالأصابع ( حاشية من المترجم)
هو قبلهم قبالة الباب ،والعرق يتصبب منه ولكنه مسرور .كان ميشيل ينظر اليه شزراً ويقول له :
-لماذا لم نبقَ معنا ؟
-لأنه يَحلو لي أن أسلك طريقا آخر ،فأ ُيّ سوء في ذلك ؟
-يجب عليك أن تكونَ طائعاً .
-ألستُ طائعا ؟ يجب عليّ أن أذهب الى المدرسة ،فأذهب .يجب علي أن أكون فيها في
الوقت المحدّد ،فأنا فيها عند ذاك .فماذا َي ُّهمك إذا كان يحلو لي أن أذهب الى البهالوين فأنظر
اليها ؟
صار بعدئذ أول مطران وكردينال سالسّي .كان ،الى جانب الأب روا ،ركنّا من أمتن

24 Pages 231-240

▲back to top


24.1 Page 231

▲back to top


أركان الرهبانية السالسيّة ،ولكن روا وكالييرو لبثا مختلفين كل الاختلاف من جهة المزاج :فروا
منصبّ على العمل ،مثابر عليه ،ُيكثر التفكير .في حين أنّ كالييرو مِقدام ،مرهف الشعور ،
سريع الانفعال .وكلاهما متأهّب ليُلقي بنفسه في النار من أجل دون بوسكو .
" ستعبر البحر الأحمر والصحراء
22ايلول ( سبتمبر) . 1322دخل ميشيل روا المصلّى تلميذاً داخلياً ليبقى فيه ،وفي الغد
ذهب الى البكّي سيرًا على الأقدام مع دون بوسكو وماما مرغريتا وقد بلغت الثانية والستين ،و 26
من أترابه .ألقى دون بوسكو عظات التساعية أستعداداً لعيد الوردية في كاستلنوفو ،وقد أضاف
الصبيانَ أخوه يوسف .
دعا دون بوسكو ميشيل قبل الذهاب فقال له :
-إنّي أحتاج في العام القابل الى أن تم َدّ لي يد العون الجدّي لتسيير شؤون البيت .في 3
تشرين الأول ( أكتوبر) يقام عيد سيدة الوردية ،وسيأتي خوري كاستلنوفو الى البكّي ،وستلبس
في المعبد الصغير ثوب رجال الاكليروس ،وعندما نعود الى المصلّى تكون مساعداً وتعّلم أترابك .
أتُوافق على ذلك ؟
-أُوافق .
ذكر الأب روا أنّ دون بوسكو مساء العيد قطع السكوت في العربة التي تعود بهما الى تورينو
فقال له :
-عزيزي روا ،إِّنك تبدأ الآن حياة جديدة ،ولكن اعلم أنّه يجب عليك ،قبل دخول
أرض الميعاد ،اجتياز البحر الأحمر والصحراء .إذا ساعدتني ،اجتزناهما كلانا اجتيازاً هادئاً
ووصلنا إلى أرض الميعاد .
ف َّكر ميشيل قليلاً فلم يُحسن فهم ذلك الكلام ،ثم قطع السكوت فسأل :
-أتذكر لقاءنا الأول ؟ و َزّعتَ ايقونات ولكن لم يبقَ لي واحدة منها ،فقمتَ بحركة غريبة
كأّنك ُتريد أن تعطيني نصف يدك .فماذا كان يعني ذلك ؟
-أما فهمتَ إِلى الآن ؟ قصدتُ أننا نعمل كلانا ك َلّ شيء ،فيعمل ك َلّ مِنّا نصفَه .ك ُلّ ما
سيكون لي ،سيكون لكَ أيضاً :الديون والأعباء والمضايق . -فابتسم دون بوسكو – .ولكن
سترى أنّه ستحدث أشياء حسنة ج ّداً وآخِر الامر أحسنها :الفردوس .

24.2 Page 232

▲back to top


ضمان لخمسين سنة
ثلاثاء عيد الفصح . 1323تلبّدت السماء بالغيوم القاتمة .يوحنا فرنتشيسيا ( )Francesia
وميشيل روا رفيقان في الصف ،وصديقان للحياة والموت ،وهما يراجعان درسهما للايطالية ،
ولكن ميشيل ساهٍ غافل .يبدو أنه قد استولى عليه حزن شديد فسأله فرنتشيسيا مرّتين السؤال
عينه ،ثم أغلق الكتاب حانقاً :
-ما الذي أصابك اليوم ؟
فعَضّ ميشيل على شفتيه وتمتم :
-مات أخي يوحنا . . .وسيكون دوري في المرّة الآتية . . .
كان آخرَ الإِخوة الذين يعيشون في البيت .ستبقى بعد ذلك ُأ ّمهم وحدها في مسكن معمل
ال ّسلاح .بلغ الخبر دون بوسكو فأراد أن يسلّي ميشيل ،فسار به في تورينو ،وكان يجب عليه أن
يُنهي مسألةً بالقرب من كنيسة السيّدة العذراء مريم على ضفّة نهر البو .سار سيراً حثيثاً وهما
يتكلمان على المصلّى ،وكانت قد احتفلت تورينو في الأيام التي مضت باليوبيل الخمسيني الثامن
" لمعجزة القربان المقدس " الشهيرة ،وقد طبع دون بوسكو ك َّراساً تخاطفه الناس تخاطفاً .وقف
دون بوسكو بغته وقال على مهل :
-بعد خمسين سنة سيحتفلون باليوبيل الخمسيني التاسع للمعجزة ،ولن أكون هناك ،
وأَنت ستكون .فلا تنسَ طبع كتّيبي طبعة جديدة .
حاول ميشيل أن يتخَّيل ذلك التاريخ البعيد بعداً سحيقاً ! 1083 :فهزّ رأسه :
-انك تسرع السير ،يا دون بوسكو ،بقولك إني سأكون هناك .أمّا أَنا فَإنىّ أخاف حقاً أن
-يعبث بي الموت .
فقاطعه دون بوسكو :
-لن يبعث بك ولن يُحسن اليك .إني أضمن لك أّنك ستكون هناك ،فجَ َدّد طبع هذا
الكتيّب .أَتوافق على ذلك ؟
( في السنة 1083كان الأب روا لا يزال هناك َخلَفاً لدون بوسكو على رأس الرهبانية
السالسيّة ،وكان في الخامس والستين فطبع الك ّراس طبعة جديدة ) .
الأسياد الصغار والمعدمون
اهتمّ دون بوسكو بالعمال الصغار ،ولكنه لم يهمل الطلبة .وكان يهدف ،كما أشرنا الى
ذلك عدة مرات ،الى إعداد معاونين له من شمامسة وكهنة يساعدونه في أعماله ،والى اعداد

24.3 Page 233

▲back to top


دعوات كهنوتية للابرشيات أيضاً ،باختيار أُناس من الصبيان " الذين ينمون بين المعول
والمطرقة " ،لكي يعالج مسألة قلة الكهنة .
إنّ الجماعة الاولى المؤلفة من الشبان الأربعة التي أعدّها خيّبت آماله بعض الشيء كما قلنا .
واما روا ( )Ruaوكالييرو ( )Caglieroوفرنتشيسيا ( )Francesiaفقد لبّوا ما رجاه أحسن
تلبية .وهناك بجانبهم انجيلو سافيو ( )Savioوروكيتّي ( )Rochiettiوتوركي ( )Turchi
ودوراندو ( )Durandoوتشيروتّي ( )Cerrutiيتقدمون تقدماً حسناً .
أُنشئ قسم الطلاب الداخلي على عجل ،ولكنه نما نموّاً حسناً 12 :من الداخليين في السنة
، 1328و 32في السنة ، 1321و 63في السنة ، 1322و 121في السنة . . . 1322
كان تلامذة الصفوف اللاتينية الثلاثة الأولى يذهبون الى بونزانيو ( )Bonzaninoللدرس
ثم يدخلون صَّفي علم البيان والخطابة عند الأب متى بِكّو ( )Piccoالذي كان يدّرس في ح َيّ
سيدة التعزية .كان يتر ّدد إلى هاتين المدرستين الخاصّتين أولاد الأسر الميسورة في تورينو ،
ويدفعون أُجرة عالية ،وأمّا صبيان دون بوسكو فإنّهم يُقبَلون فيهما مجّاناً .
سخر " الأسياد الصغار" أولَ الأمر " بال ُمع ِدمين" الذين يأتون المدرسة ،وهم يرتدون
معاطف عسكرّية " وهي تُظهر لابسيها َبمظهر ال ُمهرّبين أو بمظهر يدعو الى السخرية " ( .كان دون
بوسكو قد تَلقّى تلك المعاطف والقبعات العسكريّة هدية من الوزراة .وقال الأب لموان إنها أشبه
بالأغطية أكثر منها بالمعاطف ،ولكنها كانت تقي لابسيها المطر والثلج ) .لم يكن بونزانينو ليتسامح
بالسّخرية فقال بلهجة شديدة " :ان قيمة صب َيّ تق ّدر بدفاتر فروضه ،لا بلون المعاطف " .فان
العلامات قد دّلت أن الأولاد المدللين هم الذين كانوا " المعدمين" .إن صبيان دون بوسكو
يدرسون ،ودون بوسكو يعرف في حبّه لهم أَن يكون شديد الطلب ،وهو لا يتحمل الكسالى .
أَعلن الاستاذ برييري ( )Prieriمن جامعة تورينو في السنة " : 1363عند دون بوسكو دَرس بل
إِقبال على الدرس " .
" أراني سعيداً بين الصبيان "
ليس الذهاب إلى المدينة والعودة منها مراراً المثال الأعلى عند دون بوسكو .يُضاف إليه أنَ
غرف الدرس عند بونزانينو وبكّو لم تبقَ لتستوعب جميع تلاميذ المصلّى .
فما إِن أَنهى يوحنا المعدان فرنشيسيا ( ، )Francesiaوهو في س َنّ السابعة عشرة ،دروسه
اللاتينية على نحو باهر ،حتى عُهد اليه بالصف الثالث للمعهد .كان ذلك في تشرين الثاني
( نوفمبر) ، 1322وفي السنة التي بعدها أُنشِئ الصفّان الاول والثاني ،يديرهما علماني صديق
لدون بوسكو هو الأستاذ بيانكي ( . )Bianchiوفي السنة 1361تجاوز عدد طلاب الصفوف الثلاثة

24.4 Page 234

▲back to top


المائتين .وكان المعلّمون الشمامسةَ الشبان فرنتشيسيا وبروفيرا ( )Proveraوأنفوسّي ( )Anfossi
ودوراندو ( )Durandoوتشيرّوتي ( . )Cerruti
ُفرِض في ملحق " النظام" للتلامذة أنّه يجب على الطالب ليُقبل في المعبد ،أن يتم ثلاثة
شروط " :يكون أهلا للدرس على وجه خاص ،وذا تقوى مثاليّة ،وراغباً في اعتناق الحياة
الكنسية ،فيُترك له اختيار دعوته في آخر درسه اللاتينية " .
أمّا بالنسبة لقبول الطالب فلا يُشترط شرطا قاطعاً أن يكون يتيماً أو فقيراً معدماً .بيد أن
معظم التلاميذ أتوا من البيئات الفقيرة ،وحكاية المعاطف العسكرية تؤيد ذلك تأييداً كافياً .
إن دوام طلاب الصناعة ودوام التلاميذ متوافقان ،فيصرف الأولون في الورشات الساعات
التي يصرفها التلاميذ في الصف وغرفة الدرس .
كتب الأب لموان " :ساس دون بوسكو المصلّى وأداره حتى السنة 1323كما يَفعل الأب
بذات ُأسرته .لم يرَ الأحداثُ فرقاً كبيراً بين المصلّى وبيتهم ،فلم يكونوا يذهبون من مكان الى آخر
وهم مصطفون ،ولم يكن لهم ناظرون متشدّدون ،ولا نظام دقيق " .
كان دون بوسكو بين الصبيان كلما أمكنه الأمر وكان يقول " :لا يسعني العيش بلا
صبياني " .فلا بُ َدّ من سبب خطير ليحول بينه وبين وجوده في وسطهم ،يُحدّثهم ويلعب معهم .
ظ َلّ مدة طويلة يُقيم معهم في غرفة الدرس لا لأنه لم يكن هناك ناظر ،ولكن لأنه " يرى نفسه
سعيداً هناك ."كان يكتب ،وهو جالس الى مقعد مثل مقاعد الصبيان " ،كتابه الآتي أو يُفكّر
فيه " .حتى السنة 1320عندما ينتهي العشاء ،يغزو الغرفة التي فيها يُنهي طعامه ،فيضٌ من
الصبيان فيتزاحمون على أقرب مكان منه ليروه ويسألوه أسئلة ويُصغوا اليه ويضحكوا من نكاته
وفكاهاته .يجلسون حوله وعلى الموائد تجاهه ،وبعضهم جالس وبعضهم واقف بل آخرون جاثون
على ركبهم .إن هذه المواجهة من غير تكلّف تسُرّ دون بوسكو كثيراً " :هذه أحسن قطعة من
عشائه ،عشاء الفقراء " .
" لم يكن بوسع دون بوسكو أن يفهم "
كان الجوّ الديني الذي يحيط بالتلاميذ الاحداث ج ّواً شديد التقوى حقّاً .إنهم النبتات
النحيفة للدعوات الكهنوتيّة المستقبلة .أراد دون بوسكو أن يغمرهم ج ٌوّ من الروح الدينّي المريمّي
الكنس ّي .
الأعترافُ عادةٌ أُسبوعية أو نصف شهرية لجميع الذين في المعبد .يستمع دون بوسكو الى
الاعترافات ساعتين أو ثلاث ساعات ك َلّ يوم ،وفي الأيام التي تتقدم الاعياد ،يستمع الى
الاعترافات طوال ما بعد الظهر .إن سمعته المُثَبتة إثباتاً كبيراً بأَ َنّ له القدرةَ على قراءة الخطايا تحثّ

24.5 Page 235

▲back to top


على الثقة التامة .وصار تناول القربان المقدس ،بضع سنوات بعد قتح المصلّى ،عادة يومية عند
كثير من الأحداث ،ولم يكن هناك سوى قليل منهم لا يتناول القربان المقدس الا مرة في الأسبوع
على التقليل .
كانوا يستنشقون تكريم السيدة العذراء ،وقد بلغ شأواً عجيباً في سنوات دومنيك سافيو ،
وفي أثناء بناء الكنيسة الكبيرة لمريم معونة المسيحيين .
الحُ ُبّ للبابا شيء ثابت في ذهن دون بوسكو المسيحي .قالوا إِنه باباويّ أكثر من البابا ،ولم
يخطئوا كل الخطأ .لم تكن المسألة مسألة ألفاظ فحسب :سيستنفد دون بوسكو سنواته الأخيرة
لُيطيع رغبة البابا .فكان الصبيان يندمجون في حالته الفكرية .
كان من الممكن أيضاً أن يخطأ ،ورأى بعض علماء النفس وشؤون الكنيسة في عصرنا أنه
خطئ خطأً جسيماً في مسألة عطلة تلامذته في ُأسَرهم .أراد أن تكون قصيرة الى أقصى حَدّ .كان
يرى أّنها " خطر جسيم" على الدعوات .
يقول خبراء اليوم " :لم يكن بوسع دون بوسكو ،وهو رجل من عصره ،أن يفهم قيمة
الأسرة والرعيّة ،وهي كنيسة محليّة ،في بعث الدعوات " .قد يساور بعضُ التر ُدّد ذهنَ من يفوه
بهذا الحكم القاطع إِذا نظر إلى الأرقام :في السنة 1361وحدها ظهرت 31دعوة كهنوتية في
المصلّى .سمّى أعداءُ الكنيسة بيته " معمل الدعوات " .بلغ في آخر حياته عدد الكهنة الذين
خرجوا من فالدوكّو عدة آلاف ،ولم يكونوا جيشاً من المكبوتين .
كان دون بوسكو على يقين من أَنه ،اذا كَان ُيطلَب من الكاهن العفاف ،فلا ب َدّ من حماية
" طالب الكهنوت " في أيّام المراهقة وهي أيام َحرِجة .ذلك رأيٌ جدير بأن يُعاد التفكير فيه من غير
أن ُيه َمل ما للأسرة والكنيسة المحلّية من قيمة .
11
" سنتسّمى سال ّسيين"

24.6 Page 236

▲back to top


26كانون الثاني ( يناير) . 1321في تورينو برد أَشبه ببرد القطب ،ولكن تسود غرفة دون
بوسكو الصغيرة حرارةٌ كالتي يجب أن تسود .دون بوسكو يتكلم ،وأربعة من الشبان َيعدُونَ من
غير نظام وراء كلماته :
-أنتم ترون ا َنّ دون بوسكو يبذل ما بوسعه ،ولكنه وحده .فاذا مَدَدتم إليّ يدَ المساعدة
أجرينا معاً معجزات .إن أُلوفا من الصبيان الفقراء ينتظروننا .أؤ ّكد لكم أ َنّ السيدة العذراء مريم
سترزقنا مصّليات كبيرة واسعة وكنائس وبيوتاً ومدارس وورشات وكثيراً من الكهنة المصمّمين على
مساعدتنا ،وذلك في ايطاليا وأُوروبّا ،لا بل في أميركا .ورأى بينكم منذ الآن تاج مطران .
ذُهل الصبيان الأربعة ونظر بعضهم الى بعض ،وظنوا أنهم يحلمون ،وأمّا دون بوسكو فإنّه
لا يحلُم .انّه جادّ ويبدو كَمن يقرأ المستقبل .قال :
-إنّ السيدة تريد أن نباشر جمعيتنا .إني أُساءل نفسي منذ مدة طويلة عن الاسم الذي
نطلقه عليها .عزمت على أن نتسمّى سالسيّين .
بين هؤلاء الأحداث الأربعة حجارة الأساس للرهبانية السالسيّة .دَوّن ميشيل روا في دفتره
ذلك المساء ":اجتمعنا عند دون بوسكو :روكّييتّي ( )Rocchiettiوأرتيليا ( )Artigliaوكالييرو
)Cagliero (وروا ( . )Ruaُعرَض علينا أن نقوم بمحاولة نتمرّن فيها على عمل محَبّة للقريب ،بعون
من الرب ومار فرنسيس دي سال .وسنبرز وعداً فيما بعد ،ثم نذراً للرب اذا أمكننا .على الذين
يقومون بتلك المحاولة وعلى الذين سيقومون بها في المستقبل ُيطلَق اسم السالسيّين " .
المظّلة والورد
إ َنّ توٌقّعات المستقبل التي بلّغها دون بوسكو الأحداثَ في ذلك المساء ،هي تلك التي جعلت
بعض الناس قبل بضع سنوات يحسبونه مجنونا ،وكادوا أن يرسلوه الى مستشفى المجانين .
ولكن دون بوسكو كرّر أقواله بثقة وصلابة رأي لأنّه ،كما قال الأب بوريل " ،رآها في
ال ُحلم " .في السنة 1312حلم " حلماً أساسيّاً " قامَ عنده مقام برنامج في الشؤون اليوميّة ،كما قال
هو بنفسه .لقد روى ذلك ال ُحلم في السنة ، 1361في غرفة انتظاره ،للسالسيّين الأولين وكان
بينهم الأب روا والأب كالييرو والأب دوراندو والأب بربيرس ( . )Barberis
" ذات يوم من السنة 1312ف ّكرتُ َمليّاً في وسيلة أعمل بها الخير للشبيبة ،فتراءت لي ملكة
السماء ( تلك عبارة قلّ أن أستعملها دون بوسكو فهو يقول على العموم :رأيت في الحلم امرأة

24.7 Page 237

▲back to top


جميلة جداً ) فقادتني إلى حديقة َخلَاّبَة فيها حنايا مثقلة بالأوراق والأزهار .كانت تلك الحنايا
تشرف على مظلّة رائعة تَح ُفّ بها وتغطّيها شجيرات الورد المزهرة .وكانت الورود تغّطى الأرض
كّلها أيضاً .قالت لي العذراء المباركة :
-اخلع حذائيك وامشِ تحت هذه المظلّة ،هذه هي الطريق التي يجب عليك أن تسلكها .
أسعدني انّي خلعتُ حذائي ،ولو ُدستُ تلك الورود ،لأخذني الأسف .بدأتُ أمشي ،
ولكن رأيتُ لوقتي أ َنّ الأزهارَ تُخفي شوكاً حادّاً ،فاضطُررتُ إلى التوّقف وقلت للتي تقودني :
-الآن لا بد لي من الحذائين .
فأجابت :
-أجل ،لا بُ َدّ من حذائين حسنين .
فاحتذيتُ وعدتُ إلى السير .فرافقني عدد من الأصحاب وصلوا قبل قليل وسألوني أن
يسيروا معي .
كانت تنزل أغصان كثيرة من فوق كأنها أقواس من الزهر ،ولم أُشاهد سوى ورود عن اليمين
واليسار ،ووروداً فوق رأسي ووروداً أمامي ولكن ساقيّ كانتا تعلقان بالفروع المبعثرة على الأرض
فُتجرحان .وبينما أُبعد غصناً يعترض المكان ،شككتُ جسمي فسال الدم من يديّ ومن جسمي
كلّه .كانت الورود تُخفي قدراً من الشوك عظيماً .
قال لي جميع الذين رأوني ماشياً " :دون بوسكو يمشي دائماً أبدًا على الورود .كل شيء
يؤاتيه على وجه حسن " ولم يروا أن الشوك يم ّزق أعضائي المسكينة .
تبعني كثير من طلاب الكهنوت والكهنة والعلمانيين الذين دعوتهم ،تبعوني فرحين ،وقد
أغراهم جمال تلك الازهار ولكنهم فهموا أنّه يجب عليهم أن يتق َدّموا من خلال الشوك فَأخذوا
يصرخون " :لقد خُدِعنا ! " فكان كثير منهم يذهبون ،فبقيتُ وحدي فاخذت أَبكي وأقول :
" أيمكنني أن أجتاز وحدي ذلك الطريق كله ؟ " .
ولكن لم ألبَث أن ِنلتُ العزاء فقد رأيتُ جمعا من الكهنة والشمامسة والعلمانيين قالوا لي :
" نحن لك بك َلّ ما فينا ،نحن متأهبّون لنتبعك " .َفعدتُ إلى السير على الطريق ماشياً أمامهم ،
ففَترت هِمّةُ أُناس منهم فقط ،فتوقّفوا ووصل معظمهم معي إلى نصف الطريق .
اجتزت المظلّة كَلّها فوجدت نفسي في حديقة رائعة ،وكان صحبي القليل الذين يتبعوني في
حالة ُهزال وقد شعت شعرهم ،وسال دمهم ،فه ّب نسيم خفيف فتعافوا كلهم لهبوبه .وهَبّت
ريح أخرى فحدث ما يشبه السحر فوجدت نفسي يحُدق بي عدد لا يحصى من الأحداث وطلاب
الكهنوت والعلمانيين المعاونين ومن الكهنة أيضاً ،فباشروا العمل معي في قيادة الشبيبة .عرفتُ
بعضاً منهم في حين أنّ غيرهم كثيرين لم أعرفهم قبل .

24.8 Page 238

▲back to top


فسألتني السيدة العذراء التي كانت لي دليلا :
-أتعرف معنى ما تراه الآن وك َلّ ما رأيتَه قبل ؟
-لا .
ـ ان الطريق التي سلكتها من خلال الورود والشوك تمَثّل هَمّ الشبيبة التي سيجب عليك أن
تحمل عبءه .الشوك هو العقبات والآلام والمضايق التي تصيبك .وكلن لا تيأس فبالمحبة
والتقشف تغلب ،وتصل إلى الورود من غير شوك .
فما إِن فرغت أم الله كلامها حتى عُدت إلى نفسي فوجدتني في غرفتي .
وختم كلامه بقوله " :رويتُ لكم ذلك لكي يكون ك ُلّ منا على يقين من أنّ السيدة العذراء
مريم تريد رهبانيتنا ،ولكي يزدادَ عزمنا على العمل في سبيل مجد الله الأعظم " .
كانت تلك الطمأنينة الهادئة رائدَ دون بوسكو فكان " ُيلقي الشبكة " بين أحداثه لينَمّي عدد
السالسيّين في المستقبل .كان يقول قول من يتكلم مصادفة " :أتُحبّ دون بوسكو ؟ أيحلوا لك أن
تبقى معي ؟ " أو " :ألا ًتم ُدّ ليَّ العون لمساعدة الأحداث ؟ إنّك ترى أنّه لو كان عندي مائة كاهن
ومائة طالب كهنوت ،لكان عندي عمل لهم جميعا ،ولأمكننا أن نذهب في العالم كله " . .
هذه الاقوال مألوفة عند الصبيان .إنهم يتكلّمون مرتاحين على " مصليات المستقبل "
وأحلام دون بوسكو و " البقاء أو عدم البقاء معه " .ذات مساء من السنة 1321ألقى دون بوسكو
من نافذة في الطبقة الأولى حفنة من السكاكر الى الأولاد .كان ذلك يوليهم فرحا عظيما ،فصاح به
صب ٌيّ رآه يبتسم في نافذته " :آه يا دون بوسكو ،لو كان يَتيَسّر لنا أن نرى جميع أطراف العالم وفيها
مُ َصلّيات في كل مكان ! " .فرفع دون بوسكو نظره الهادئ نحو السماء وأجاب " :من يعلم ؟ ألا
يأتي يوم فيه يتَفرق أولاد المصلّى في العالم كله ؟ " .
" كم تعطيني أجرة ؟"
في أفيليانا ( )Aviglianaيعيش كاهن أكبر من دون بوسكو سِنّاً بثلاثة أعوام ،واسمه
الأب فيتّوريو الاسوناتي ( ، )Alasonattiوقد صادف دون بوسكو بضع مرات في الرياضات
الروحية في لانتسو ( ، )Lanzoفتصادقا .الأب الاسوناتّي معلّم مدرسة ابتدائية في افيليانا وهو
ُيحسن عمله في تعليمه الأولاد .إِنه يميل إلى التشدد ويفرض سلوكاَ كُلّه جِ ٌدّ ولكنهم يُحبّونه .
داعبه دون بوسكو للمزاح فقال له :
-كم ولداً عندك؟ ثلاثون ؟ ولا تستحيي ؟ كيف ترضى بالعمل لثلاثين طفل فقط ؟
هلم ! تعالَ ساعدني في تورينو .

24.9 Page 239

▲back to top


-كم تعطيني أُجرة ؟
-الخبز والعمل والفردوس .لن ُيمكنك ان تك َدّس كثيراً من الليرات وأمّا النوم فسيمكنك
أن تقتصد فيه كثيراً .
ومن مزاح إلى مزاح أخذ الأب الاسوناتّي يفكّر بِجِدّ ،وعَلِمَ دون بوسكو بالأمر وفي الأشهر
الأولى من 1321كتب إليه رسالة قال له فيها هذه الكلمات فحسب " :تعالَ ساعدني في تلاوة
صلاة الفرض " .
في الرابع عشر من آب ( أغسطس) وصل الأب الاسوناتّي الى المصلّى ،وفي يده حقيبة
صغيرة وكتاب صلاة الفرض تحت ذراعه ،بعد ما فرغ من حلّ جميع مسائله .عانق دون بوسكو
ثم قال له :
-لَبّيكَ :أين يجب علي أن امكث لأتلو صلاة الفرض ؟
ذهب به دون بوسكو إلى مكتبه حيث تحفظ دفاتر الحساب وقال :
-هذه مملكتك .لقد د ّرست الحساب مدة طويلة ،فلا شك في أَنك تحسن عمليات الجمع
والطرح .
فقال الأب الاسوناتّي بلهجة الجدّ :
-منذ الآن مُر أُطعَك ،ولا تََترَّفق في أمري ،فاني أريد أكسب الفردوس لنفسي .
ومن ذلك الحين صار الأب الاسوناتّي للأب بوسكو ظَلّه المتواضع مع شيء من التشدّد .
خَّففّ عنه جميع ما يمكن من الأعمال :التدبير العام للبيت ،والنّيابة ومسك دفاتر الوارد والصادر
والسجلّات ،وأعسر المراسلة وأصعبها .
اذا شعر بالتعب ولما أخذت صحته تزول فيما بعد ،قرأ في كتاب الصلاة ورقة صغيرة وضعها
فيه ،لتكون علامة " :يا فيتّوريو ماذا جئت تعمل ؟ " .وأضاف إلى جانبها عبارة يكررها دون
بوسكو كثيراً على ذويه عندما يراهم متعبين " :سنستريح في الفردوس " .
كان على الأب ألا سوناتّي في غد وصوله إلى فالدوكّو أن يباشر رسالته على نحوٍ غير مألوف ،
إذ طلب إليه أن يذهب لاسعاف مريض اصابته الكوليرا ،فقد تفشّت الكوليرا في تورينو تفشّياً
شديداَ مفاجئاً .
الموت في شوارع بورغو دورا
وصل الخبر المروّع إلى تورينو في تموز ( يوليو) .دخلت الكوليرا في ليغوريا فأودت بحياة 3
آلاف ماتوا في جينوى ،فخرج الملك والملكة من المدينة في عربة مغبقة ولجأا إلى قصر كاسيليتّي

24.10 Page 240

▲back to top


)Caselette (في مدخل وادِيَي لا نتسو ( )Lanzoوسوزا ( . )Susa
كان مركز الوباء بورغو دورا ( )Borgo Doraعلى بعد خطوات من فالدوكّو .هناك في
بيوت فقيرة وأكواخ كان يتكدس المهاجرون ،وهم قوم غذاؤهم قليل ولا تمكنهم مراعاة أصول
النظافة .في شهر واحد أصيب 388ومات . 288
وجّه المحافظ نوتّا ( )Nottaنداء إلى أهل المدينة :يجب أن َيهبّ أناس مِقدامون لاسعاف
المرضى فينقلوهم إلى المستشفيات لئلا تنتشر العدوى .
في 2آب ( أغسطس) 1321وفيه عيد سيدة الثلوج ،خطب دون بوسكو في صبيانه فبدأ
بوعد :
-اذا جعلتم أنفسكم جميعاً في حالة يرضى عنها الله ولم ترتكبوا خطيئة كبيرة ،فإني أؤكد
لكم أن الكوليرا لن تصيب أحداً منكم .
ثم وجّه إليهم دعوة :
-تعلمون أنّ المحافظ وجّه نداء .هناك حاجة الى الممرضين والمسعفين ليعنوا بالذين
أصابتهم الكوليرا .إنّ كثيراً منكم صغار ال َسّنّ ،ولكن اذا رغب أناس من الاكبر سِنّاً في الذهاب
معي الى المستشفيات والمنازل الخاصة ،فسنعمل معاً عملاً حسناً يرضى عنه الرب .
في مساء ذلك اليوم اكتتب أربعة عشر ،وبعد بضعة أيّام افلح ثلاثون آخرون في الفوز بإذن
الانضمام إلى الأوّلين .إن سَِنّهم صغيرة ج ّداً .
كانت تلك الأيامُ جهد مض ٍن وليس فيه شيء من الأغراء .نصح الاطباء بأن يُعالج المرضى
بتمسيد سوقهم وفَركها ليعرقوا عرقاً غزيراً .قُسَّم الّ ِصّبيان ثلاثة أقسام :فأكبرهم سِنّاً َيعملون
وقت الدوام كله في المستشفيات وبيوت المصابين ،وقسم ثانٍ يجول ليكتشف المرضى الجدد،
والقسم الثال ( الاصغر سِنّاً) يبقون في المصلّى متأهبين لتلبية كل نداء .
احتاط دون بوسكو ك َلّ حيطة ،فكلّ منهم يحمل قنينة من الخلّ ،ويجب عليه أن يغسل يديه
بعد ما يلمس المرضى .
روى الأب لموان ( " : )Lemoyneحدث مراراً كثيرة أ َنّ المرضى نقصتهم ال َشّراشف
والأغطية والثياب ،فكان الصبيان يأتون فيخبرون ماما مرغريتا فكانت تذهب إلى غرفة الثياب ،
وتعطيهم قليل ما عندها .فبعد بضعة أيام لم يبقَ عندها شيء فجاء ُم َم َرّض صغير السَّنّ فأخبرها أنّ
امرأ بائساً يتململ بلا شرشف على فراشه الحقير وقال " :أليس عندك ما ُيغطّيه ؟ " .ف َكّرت
مرغريتا ثم ذهبت فنزعت الغطاء الابيض من على المذبح وأعطته الصبي " :احمله إلى مريضك .

25 Pages 241-250

▲back to top


25.1 Page 241

▲back to top


لا أظ ُّن أ َنّ الرب سيتذ ّمر " .
عمالقة وجوههم حزينة
يوحنا كالييرو ( )Caglieroفي السادسة عشرة من عمره .عاد ذات مساء في آخر آب
(أغسطس) من المستشفى إلى البيت فشعر بوعكة .والراجح أنه أكل فاكهة فاسدة في حَرّ تلك
الأيام الشديد .فدعا دون بوسكو الطبيب لوقته فأعرب عن تشخيص رهيب " :إنّه التيفوس " .
برّحت به الحمى طوال شهر أيلول ( سبتمبر) كلّه ولم يبقَ له في الأيام الأخيرة سوى الجلد
والعظم ،وشعر بأنه ماضٍ إلى الموت ،فَدُعي طبيبان ليفحصاه فقالا إنه لا أملَ من شفائه ،
وأشارا بان ُيمنح الاسرار الأخيرة .
فاضطرب دون بوسكو اضطراباً شديداً وهو يحب هذا الصبي من صميم قلبه ،فلم يقوَ على
أن يبلغه الخبر ،فطلب الى يوسف بوتسيتي ( )Buzzettiأن يفعل بمنتهى اللطف ،ونزل في أثناء
ذلك الى الكنيسة فجاء بالزاد الاخير .
وما كاد يوسف بوتسيتّي يكلّم كالييرو عاد دون بوسكو ،وهو يحمل حقّ القربان
المقدس ،ولكنّه لم يتق َدّم بل لبث بضع ثوانٍ ينظر في الهواء كإنّه يرى منظراً لا يستطيع الآخرون أن
يروه ،ثم تق َدّم نحو سرير المريض ،وقد حدث فيه تبديل عميق .زال ما كان فيه من حزن
واضطراب قبل دقائق .إنّه َفرِح يبتسم .تمتم يوحنا :
-أهذا اعترافي الأخير ؟ أأموت حقّاً بعد قليل ؟
-كلاّ ،لم يَحِن بعد يوم ذهابك الى السماء .هناك أشياء كثيرة يجب أن تقوم بها :ستُشفى
وتلبس الثوب الكنسي . . .وتصير كاهنا ، . . .ثم تجول جولات كثيرة ،وكتاب الصلاة تحت
ذراعك . . .وسوف ُتسَلّم كتاب صلاة الفرض الى غيرك ،وسوف تذهب الى مكان بعيد ،
بعيد .
قال دون بوسكو هذه الكلمات ثم أعاد الزاد الأخير الى الكنيسة .
زالت الحمى بعد بضعة أيام عن يوحنا ،فاستطاع الذهاب الى كاستلفوفو ( )Castelnuovo
ليقضي فيه مدة طويلة ينقه فيها .
تساءل بوتسيتّي وكالييرو مدة من الزمن ما الذي رآه دون بوسكو لدى دخوله الغرفة ،
فأجاب عن ذلك دون بوسكو نفسه فيما بعد :
" وطئتُ العتبة بقدمي إذ رأيت نوراً باهراً .كانت حمامة ناصعة البياض ،تحمل غصناً من
الزيتون ،تنزل نحو سرير المريض فتوقّفت على بعد بضعة سنتيمترات من وجه كالييرو الشاحب
اللون ،وَتركَت الغصن يسقط على جبينه .وبدا لي لوقته أ َنّ جدران الغرفة قد تَفَتّحت وكّشفت

25.2 Page 242

▲back to top


عن آفاق بعيدة ،تحفّ بها الاسرار وظهر حول السرير َجمعٌ من الخيالات البدائية كأنها رجال
متوحشون قامتُهم قامة العمالقة .كانت َبشَرتهم داكنة اللون عليها وشم غريب يضرب إلى
الحمرة .كان هؤلاء العمالقة ينحنون على المريض بوجه علته الأنفة والحزن ،واخذوا يتمتمون
مرتعدين :إذا مات فمن يَهُبّ إلى نجدتنا ؟ لم تدم الرؤيا إلا وقتاً قليلاً ولكني أَيقنتُ يقيناً مطلقاً أنّ
كالييرو سُيشفى " .
ثماني دقائق من أجل صفحة
لما نزلت أ ّول الأمطار في تشرين الأول ( اكتوبر) خفّت اصابات الكوليرا كثيراً ومع ان بعض
الإصابات ظهرت قبل الشتاء ،أُعلن في 21تشرين الثاني ( نوفمبر) أنّ حالة الطوارئ قد
انتهت .من 1آب ( أغسطس) إلى 21تشرين الثاني سُ ّجلت في المدينة 2288أصابة فمات
1188من المصابين .
عاد صِبيان دون بوسكو إلى المدرسة من غير أن يُصاب أحد منهم ،وذهب أناس منهم إلى
بيوتهم لعطلة قصيرة .
وصعد دون بوسكو الى البكّي ( )Becchiشأنه في سائر السنين ،من أجل عيد سيدة
الوردية ،وبينما هو هناك زاره صديق له في ايام معهد الكهنوت ،الأب كولييرو ( )Cuglieroوهو
مدَرّس في مدرسة ابتدائية في موندونيو ( )Mondonioفسَلّم عليه ثم أخذ يقول :
-بلغني أنك تقبل مع الرعاع الصغار في مصلّاك صبيانا حسني السيرة ،يرجى أن يصيروا
كهنة .عندي في موندونيو صبيّ يوافقك .اسمه دومنيك سافيو .ليس له من الصحة الا القليل
ولكن له من الصلاح ما يجعلني أراهنك أَنك لم تعرف قط ولداً مثله .إِنه مار لويس دي غونزاغا
حقّاً .
فابتسم دون بوسكو وقال :
-إّنك تبالغ ! ومهما يكن من أمر ،فبوسعي أن أنظر ما هو .إِني با ٍق هنا بضعة أيام ،
فَدَعني أعرفه هو وأعرف أباه معه .سنتحادث وسنرى من أي نسيج صُنِع .
2تشرين الأول ( أكتوبر) . 1321جرى اللقاء قبالة بيت يوسف .لقد أَثّر في دون بوسكو
تأثيراً عظيماً فرواه رواية مف َّصلة غاية في التفصيل حتى أدقّ الأمور منها ،كأنّه س َّجلها تسجيلا .
اللغة لغة سني 1388ولكن المشهد حيّ إنه يُخَيّل إلى المرء أَنّه يشهده :
" في أول يوم من تشرين الأول رأيت في الصباح الباكر صبيّاً يصحبه أبوه ،يدنو مني
ليحدّثني ،فاجتذب ناظر َيّ وجهُهُ المشرق ومنظره وهو يبتسم وُيظهر التوقير .فقلت له :

25.3 Page 243

▲back to top


-من أنتَ ومن أين جئت ؟
-أنا دومنيك سافيو الذي كّلمك عليه الأب كولييرو ،وقد جئنا من موندونيو .
فانفردتُ به ،وبعدما تحدّثنا عن الدروس التي درسها ،والحياة التي عاشها إلى ذلك
الحين ،سادت الثقة التامّة بيننا ،وثق بي ووثقتُ به .
مّيزت في هذا الصبي نفساً كما يريدها روح الربّ حقّاً ،ودهشت للنتائج التي حَصَلت عليها
النعمة الالهية من صبيّ في هذه ال َسّ َنّ من الحداثة .
وبعدما تحدّثنا حديثًا على شيء من الطول ،وقبل أن أدعو أباه ،قال لي هذه الكلمات
بالحرف الواحد :
-اذاً ،ما رأيك ؟ أتذهب بي إلى تورينو لأدرس ؟
-أجل ،يبدو لي أنّ هناك نسيجاً حسناً .
-لماذا ينفع هذا النسيج ؟
-لصنع ثوب حسن ُيهدى إلى الرب .
-اذاً أنا النسيج وستكون أنتَ الخيّاط .تأخذني معك لِتصنع ثوباً حسناً للرّبّ .
-ولكن ماذا تعمل عندما تفرغ من درس اللاتينية ؟
-إِذا أنعم الرب عل َيّ بالنعم اللازمة ،فإنّي أَرغب رغبة شديدة في أن أصير كاهناً .
-حسناً .أُريد الآن أن أعلم هل لك المؤهلات الكافية للدروس .خذ هذا الكتاب
الصغير ( وهو جزء من القراءات الكاثوليكية) وتعلّم هذه الصفحة .غداّ تعود فتتلوها علي .
قلتُ ذلك ،تركته حرّاُ لكي يذهب إلى اللعب ،وأخذت أُحَ ّدث أباه .فلم يم ِ ض علي .
من عشر دقائق حتى عاد دومنيك وهو يضحك ،فقال لي :
-إذا شئتَ أَتلو عليك الصفحة الآن .
فأخذت الكتاب ودهشت دهشاًعظيماً اذا اضطُررتُ إلى الاعتراف بأنه لم يتعلم كلام النصّ
فحسب ،بل فهم فهماً تامّاً معنى الأشياء التي وردت فيه .
قلتُ له :
-مرحى ! لقد تعّلمت الأمثولة قبل الوقت المحدّد لها ،وأنا أجيبك قبل الوقت المح َدّد :
أذهَبُ بك إلى تورينو ،وأَعُ ُّدك منذ الآن واحداً من أولادي الأعزاء ،واشرع أنت أيضاً منذ الآن
في الصلاة لله لكي يُعيننا أنا وانت لنعمل بمشيئته .
لم يدرِ كيف ُيعرب لي عن سروره وشكره إعراباً أحسن من أَن يمسك بيدي ويقّبلها عدة
م ّرات ثم قال :
-أرجو أن أسلك سلوكاً لن تشكو شيئاً منه أَبداً " .

25.4 Page 244

▲back to top


فكّر دون بوسكو في كلام الأب كولييرو فاض ُطرّ الى الاستنتاج أنّه لم يبالغ فيه .لو رأى مار
لويس النورَ في تلال مونفرّاتو وكان ابن فلاح ،لما اختلف عن هذا الصبّي المبتسم الذي يريد أَن
يصير " ثوباً حسناً ُيهدى الى الرب " .
لوحة غامضة المعنى
في أثناء ذلك خالف يوحنا كالييرو الفطنة وهو ينقه في كاستلنوفو ،فتناول كثيراً من العنب ،
وكان ذلك في وقت قطف العنب فعاودته حمّى شديدة .فبلغ الخبر دون بوسكو ،فذهب إليه
ليراه .
فلقيَ ُأ َمّه يائسة :
-هلك ابني يوحنا .إنه يهذي ويقول إنّه سيلبس الثوب الكهنوتي ،في حين أ َنّ الحمّى
تودي به .
-كلاّ ،يا عزيزتي تريزيا الطيّبة ،إن ابنك لا يهذي .أعِدّي له هذا الثوب فسُألُبسه في
تشرين الثاني ( نوفمبر) .لن تسلبك إياه الحمّى ،فهناك أشياء كثيرة يجب عليه أن يقوم بها في هذه
الدنيا .
وذلك ما جرى ،ففي 22تشرين الثاني الموافق عيد القديسة سيسيليا لبس يوحنا كالييرو
الثوب الكهنوتي ،بعدما تعافى على أتمّ وجه .وأذن رئيس معهد الكهنوت التابع للابرشية ،الأب
فوليوتي ( )Vogliottiللشمّاس كالييرو أت يتردّد الى دروس معهد الكهنوت ،ويظلّ مقيماً عند دون
بوسكو .
في تلك الفترة ،في 20تشرين الأول ( أكتوبر) كان دومنيك سافيو قد انضمّ إلى المصلّى ،فلما
دخل وأباه مكتب دون بوسكو ،تَنَبّه لوقته للوحة كبيرة في الجدار عليها كلمات غامضة باللاتينية لم
يفهمها .Dd mihi animas, coetera tolle :
لما ذهب أبوه ،تغلّب على ما أخذه من التردّد بادئ ذي بدء وسأل دون بوسكو عن معنى
الكلمات المعلّقة في الجدار ،فأعانه دون بوسكو على ترجمتها " :ربّ أعطني النفوس وخَذ
البقية " .إِنه الشعار الذي اختاره دون بوسكو للقيام برسالته .روى دون بوسكو أَنّ دومنيك لما
فهم ،ظ َلّ يفكّر لحظة ثم أعلن " :َفهمتُ ،لا يُتاجَر هنا بالمال بل يُتاجر بالنفوس .أرجوا أن
تكون نفسي شيئاً من تلك التجارة " .
هكذا بدأت حياة دومنيك اليومية الرتيبة ،ولا شك في أنّه أرتدى المعطف العسكري هو
أيضاً ،وذهب كل صباح مع الجماعة الصغيرة التي يقودها الأب روا الى مدرسة بونزانينو .كان

25.5 Page 245

▲back to top


نهاره نهار تلميذ صغير لا تن ُوّع فيه :الفروض والأمثولات والكتب والأتراب .كتب دون بوسكو
وقد تتَّبعه يوماً بعد يوم " :منذ ذلك اليوم أكَبّ على القيام بواجبه إكباباً دقيقاً يعسر على المرء أن
يفوقه فيه ."
مصابيح ملوّنة على ضفاف نهر البو
في آخر تشرين الثاني ( نوفمبر) ساد المصلّى ج ُوّ خاصّ ،فقد باشروا تساعية العذراء البريئة
من الدنس ،والسنة هي السنة 1321وقد أذاع بيوس التاسع من رومة أَنّه سُيعلِن في 3كانون
الأول (دسمبر) عقيدة الحَبَل بمريم بلا دنس ،فأيقظ في العالم الكاثوليكي الحُ َبّ للعذراء ،فأخذوا
ُيعِدّون حفلات عظيمة .
َشعر دون بوسكو بأنّ السيدة العذراء مريم " تقوده بيده" فيحدّث حديثها كل مساء اولاد
المصلّى ،فأقاموا التساعية بتقوى كبيرة .وكلّم الصبيان في الساحة أو في مكتبه ،فسألهم ماذا
يريدون أن يُقدّموا للسيدة في عيدها ،فاجابه دومنيك سافيو " :سأشُنّ حرباً لا رحمة فيها على
الخطيئة المميتة ،وأُريد أن أُصلي للرب والعذراء حقّاً لكي يُميتاني فلا يدعاني أسقط في الخطيئة " .
ذلك تك ُرّر لوعد وعده لّما تناول القربان المقدس أ َوّل مرّة ":الموت ولا الخطيئة " .وليست
هذه العبارة عبارة جديدة استنبطها ،بل الكلمات الاخيرة لِفعل الندامة الذي كان يُتلى في ذلك
الزمان بعد الاعتراف .وقد تبنّاها كثير من الاولاد التزاما لهم ،لدى أول لقاء بينهم وبين يسوع في
القربان المقدس .ولا يخلو من الطرافة أن نجدها أيضاً بين " الوعد" التي أوحت بها الملكة
أديلائيد ،زوجة فيتّوريو عمانوئيل ،الى وليّ العهد اومبرتو أمير سافيا الذي صار ملكاً في كانون
الاول ( دسمبر) ، 1313وكان في سنّ دومنيك سافيو على التقريب ( فقد ُولد في 1312واومبرتو
في . ) 1311ويشعر المرء بانفعال شديد اذ يُفكّر أنّ ُألوفاً من الأولاد ينسون هذا الالتزام في ألعاب
طفولتهم .واما دومنيك فقد ظلّ وفيّاً له على وجه بطولي حتى الموت .
3كانون الاول ( دسمبر) .أعلن بيوس التاسع ،أمام جمع مهيب من الكرادلة والأساقفة ،
حقيقة يجب الايمان بها ،وهي أنّ مريم كانت منذ أ ّول لحظة لوجودها مصونة من " الخطيئة
الأصلية " .
دخل دومنيك سافيو ،في أثناء فترة من يوم عيد المصلّى ،إلى كنيسة مار فرنسيس دي سال ،
وجثا َأمام السيدّة ،وأخرج من جيبه بطاقة كتب فيها بعض الأسطر .لقد نذر نفسه لأ ِمّ
الله ،فكتب دعاء صغيراً صار مشهوراً في العالم السالسّي كله " :يا مريم ،إنِّي أُعطيك قلبي
فاجعليه لك دائماً أبداً .يا يسوع ومريم ،إبقيا صديقَ َيّ دائماً أبداً ،ولكن أشفِقا عليّ فأميتاني ،
فذلك أَفضل من أن أُتبلى بارتكاب ولو خطيئة واحدة " .

25.6 Page 246

▲back to top


وفي المساء كانت مدينة تورينو كّلها تتوهج من الأنوار ،فإنّ ألوفاً من المصابيح الصغيرة
الملوّنة تتلألأ في النوافذ والأسطحة وضفاف نهر البو .ونزل الجمع إلى الشوارع واتّجه موكب عظيم
نحو كنيسة سيّدة التعزية ،وسار أحداث فالدوكّو أيضاً حول دون بوسكو ،وهم ينشدون في
شوارع المدينة .
اليتيم الصغير من ميتم القديس دومنيك
سنة 1321فيها أجهد دون بوسكو نفسه كثيراً فانتهت بحادث مؤلم .فتحت البلديّة على
عجل ،بالقرب من كنيسة القديس دومنيك ،داراً للأيتام مؤقّتة لا يواء نحو مائة من الأطفال أودت
الكوليرا بحياة آبائهم وأُمهّاتهم .فلما وافت أوَّل أيام البرد ،طلب المحافظ نوتّا ( )Nottaإلى
المؤسسات الكاثوليكية أن تَتبنّى أناساً منهم ،فقبل دون بوسكو عشرين يتيماً اسم واحد منهم بيترو
إنريا ( )Enriaفذمر في روايته للحادث :
" ذات يوم وصل دون بوسكو ،ولم أكن قد رأيته قطّ ،فسألني عن اسم أُسرتي واسمي ،ثم
قال لي :
-أتريد أن تجيء معي ؟ سنكون صديقَين وفَيّين دائماً أبداً .
-نعم ،سيّدي .
-والذي بجانبك أ ُهو أَخوك ؟
-نعم ،سيدي .
-قل له يأتِ معنا هو أيضاً .
بعد بضعة أيام سِير بنا إلى المصلّى مع بعض الآخرين .كانت أُمي قد ماتت بالكوليرا ،
وكان أبي في ذلك الحين مصاباً بالداء نفسه .أذكر أنَّ دون بوسكو كانت تصيح به أُمه :
-إّنك تقبل دائماً أولاداً جدداً ،ولكن كيف يمكننا إِطعامهم وإِلباسهم ؟
وما إِن دخلتُ أنا نفسي حتى ا ُضطررتُ الى النوم بضع ليا ٍل على كومة من ورق الشجر ،
وليس لي غطاء صغير .وكان دون بوسكو وُأ ُمّه عند المساء ُيرّقعان بناطلنا وستراتنا الممزّقة ،
لانه لم يكن لنا سوى واحدة من كل منهما " .
هيّأ دون بوسكو للأيتام مكاناً خاصّاً في البناء الجديد ،تولّى تدريسهم أكثر من سنة وحده
بادئ ذي بدء ،ثُ َمّ استعان بالشمامسة وأصدقاء له .كان سائر أهل المصلّى يسمّونهم " الصف
الصغير جداً " لأ َنّ الأيتام كان صغاراً ج ّداً .لزم بيترو إنريا طوال حياته دون بوسكو ،وهو الذي
ُعني به عناية الابن بأبيه في مرضه الأخير وأطبق له عينيه .

25.7 Page 247

▲back to top


كانت الكوليرا قد سببت للمدينة كثيراً من السوء ،ولكنها مع ذلك صنعت شيئاً من الخير
الى المصلّى ،ولو عن نحو غير مباشر ،فان العون الذي بذله الأحداث بسخاء في سبيل المصابين ،
جعل أَهل المدينة يعرفونه ويق ّدرونه .وقد اكتسب له ثناءٌ رسمي من المحافظ ثقةَ أصحاب
السلطة .وهناك أَمر يكاد لا يُص َدّق وهوأَنه لم يُصَب بالوباء أحد من هؤلاء الأحداث وَُيمكن القول
إّنهم غاصوا في العدوى ،فاقتنع كثير من الناس أَنه يجب حمل " هذيان" دون بوسكو على محمل
الجِدّ .
11
" : 0111الجانحون الأحداث " من السجن العام
شَهدت السنة 1855مجابهة جديدة شديدة ج ّداً بين الدولة أو الكنيسة .
في تشرين الأول ( أكتوبر) 1322صار كميلّو كافور رئيسا للوزارة ،فأحدث تجديداً

25.8 Page 248

▲back to top


اقتصادياً حسناً في البيمونته ،فأُنشِئت فيه 328كيلو مترا من السكة الحديد أي ما يساوي كلّ ما
انشئ في سائر ايطاليا ،وازدهرت الصناعة والزراعة .وفي آخر 1321قدّم الوزير أوربانو
راتاتسي ( )Rattazziإلى مجلس النواب مشروع قانون ،زُعم أَنه إِصلاح اقتصادي .كتب المؤرّخ
فرنسيس ترانيلّو ( " : )Tranielloهدفه واضح يرمي إلى تقليص نفوذ الكنيسة " فعرض إلغاء
الرهبانيات التأ ُمّلية ،أي التي لا تهتمّ بالتعليم ولا بالوعظ ولا باسعاف المرضى ،واستيلاء الدولة
على أملاكها " فيمكنها أن تسدّ حاجات أفقر الرعايا " .
وأضاف ترانيلّو :ذلك تد ُخّل جسيم ج ّداً من الدولة في حياة الكنيسة ،لأن الدولة تولي
نفسها الحق على أن تقرر ،بموجب مقياس إِنتاجي ،مَن هي الرهبانية التي بوسعها أن تكون نافعة
للمجتمع .وكان متوقّعاً أَن ينال القانون موافقةَ مجلس النواب ،على رغم المعارضة الكاثوليكية
الشديدة ،وأن ينال موافقة مجلس الشيوخ أيضًا وإن بكَدّ .
" جنازات عظيمة في البلاط الملكي ! "
بعد ظهر يوم من أيام كانون الأول ( دسمبر) 1321كان دون بوسكو لا بساً قفّازين عتيقين
لش َدّة البرد القارس وُيمسك بيديه رزمةً من الرسائل كما قال بعض الشهود ،وكان يروي للأب
الاسوناّتي وروا وكالييرو وفرنتشيسيا وبوتسيتي وأنفوسّي أنه حلم حُلمًا غريباً :كان في وسط ساحة
اللعب ،فاذا به يرى حاجباً من بلاط الملك لابساً ثياباً حمراً يأتي فيصرخ " :جنازة عظيمة في
البلاط الملكي ! جنازة عظيمة في البلاط الملكي ! " .فقال لشمامسته إنه كتب منذ نهوضه من
النوم رسالة إِلى الملك روى له فيها حلمه .
وبعد خمسة أيّام تكرّر الحلم ،فعاد الحاجب الأحمر على حصان وصرخ " :َبَلّغ :لا جنازة
عظيمة في بلاط الملك ،بل جنازات عظيمة في البلاط الملكي " .عند الفجر كتب دون بوسكو
رسالة أُخرى الى الملك ونصح له " أن يعمل على إِبعاد التهديد بالعقوبات ،والتمس منه أن يقاوم
بكل قواه القانون المذكور " .
2كانون الثاني ( يناير) . 1322مرضت الملكة الأم ماريا تريزا مرضاً شديداً ،وساءت
حالتها سريعاً فماتت في 12كانون الثاني وهي في الرابعة والخمسين من عمرها .نًقل جثمانها الى
مدفن أسرة سافويا في كنيسة سوبرغا ( )Supergaفي 16كانون الثاني ،وهو يوم برده شديد ج ّداً .
28كانون الثاني .ُز َرّدّت ِب ِسرّ المرضى الملكة ماري أديلائيد زوجة الملك فيتّوريو عمانوئيل
الثاني ،وكانت قبل اثني عشر يوماً قد وضعت ولداً ،فلم ُتعا َف بل ماتت في اليوم المذكور أعلاه ،

25.9 Page 249

▲back to top


وليس لها من العمر سوى 33سنة .
11شباط ( فبراير) .مات الأمير فردينان دي سافويا دوق جينوى ،وشقيق الملك ،بعد
أن أُصيب بمرض شديد وكان في الثالثة والثلاثين .
كتب الأب لموان ":لم يعرف أَحلام دون بوسكو ورسائله الى الملك سوى شمامسة المصلّى ،
فارتعبوا ّلما رأوا نبؤات دون بوسكو تتمّ على ذلك النحوِ الصاعق .حتى في زمن الوباء لم تُفتح قط
ثلاثة قبور ملكية خلال شهر واحد " .
أكّد الأب فرنتشيسيا أ َنّ الملك فيتّوريو عمانوئيل الثاني نزل مرتين إلى فالدوكّو ليلقى دون
بوسكو وانه كان ناقمًا عليه .
ومهما يكن الأمر ،فقد وافق مجلس النّواب على قانون الإِلغاء بأربعة وتسعين صوتاً لثلاثة
وعشرين صوتاً مخالفاً ،ووافق مجلس الشيوخ أيضاً ( 23صوتا لقاء ، ) 12ووقّع الملك عليه في
21أيار ( مايو) .وهكذا ألغِي ،حسب الأرقام التي ذكرها الأب لموان 331 ،ديراً فيها 2126
شخصاً .فأُعلن في رومة الحرمُ الكبير " لأصحاب القانون وللداعين إِليه ولمنفّذيه " ( وال َح ُلّ من
الحرم هذا محفوظ للبابا ) .
وفي أثناء ذلك تُوفّي في 12أيار الولدُ الذي ُرزِقه الملك واسمه فيتُوريو عمانوئيل ليوبولدو ،
ولم يبلغ الشهر الرابع من عمره .
كان من سوء الطالع أَ َنّ دون بوسكو قد أنبأ إِنباءً دقيقاً بكل شيء ،سواءً أكان قدّيساً أم
داعيةَ شؤم ،على حسب الجهة التي يُنظر منها إليه .
السالس ّي الأول
است ّمر دون بوسكو في َجمع شمامسة كلّ أسبوع من غير ضجة ،فكان يتكلّم على الفقر
والعفاف والطاعة ،وهي الفضائل الثلاث التي عَدّتها الكنيسة دائماً أبداً " الطريق للوصول الى
الله " .وشرح لهم أن كل من صار راهباً يَنذر أّنه يلتزم هذه الفضائل ،أي أَنه َيعِد الله وعداً
رسميّاً العمل بها طوال حياته .
بَدا له في آخر السنة الاولى أَنّ ميشيل روا هو أحسنهم استعداداً ،فسأله " :أُيس ُرّه أن ينذرَ
نذور الفقر والعفاف والطاعة لثلاث سنوات ؟ " .قال ميشيل بعدئذ إنّه ظَنّ المسألة " مسألة
الارتباط بدون بوسكو على نحو أوثق " فرضي .
في 22آذار (مارس) ،عيد البشارة ،أُقيمت في الغرفة الصغيرة التي يُقيم فيها ،حفلة من
غير أَّبهة .وقف دون بوسكو ُيصغي ،وميشيل روا جاثٍ على ركبته أمام الصليب يُتمتم جملة :
" أنذر الله أن أكون فقيراً عفيفاً طائعاً ،وأضعُ نفسي في يَدي دون بوسكو . ". . .ولم يكن هناك
شاهد ،ومع ذلك فقد ُولِدَت في تلك اللحظة رهبانيّة دينيّة .دون بوسكو هو المنشء ،وميشيل

25.10 Page 250

▲back to top


روا هو أوّل سالسيّ
ومنذ ذلك الحين صار النوم أعسرَ الأمور عليه ،وعلى كالييرو وفرنتشيسيا ،لا لأنهم غير
راغبين في النوم ،فقد حدث لهم أنَّهم ناموا وقوفا ،بل لأنّهم لا يجدون الوقت اللازم ليناموا .
وجب عليهم ان يُواصلوا دروسهم ،ويق ّدموا جميع الفحوص ،وكانت في ذلك العهد كثيرة
صعبة ج ّداً ،و َع ِهد إِليهم دون بوسكو في الوقت عينه ،بدروس الديانة ،والنظر في غرفة الطعام
والورشات ومدرسة الأيتام .
أرسلهم يوم الأحد إلى المصلّيات ،واذا بمصلّى الملاك الحارس بلا مدير ،فسمّى دون
بوسكو ميشيل روا مديراً له ،وهو في السابعة عشرة .إن الذين يتردّدون إلى المصلّى هم على
الخصوص منظّفو المداخن الصغار .إِنهم صبيان ينزلون في الخريف من وادي أوستا ( ، )Aosta
وعلى أكتافهم الحبل والقنفذة الحديد ،فيجولون في الشوارع ،وُيطلقون صوتاً معروفاً ،
وينتظرون أن تدعوهم أسرَة لينظّفوا داخل المدخنة قبل الشتاء ،فيرتفع فيها الهواء الحارّ من
الموقد ،ويُدَفّئ البيوت .
إن هؤلاء الصبيان ج ّداً لأن المجاري التي يجب عليهم ولجها ضيّقة ج ّداً .وجوههم
وأيديهم مغطاة بالسناج .
ميشيل روا م َدّةً طويلة يَصل في الصباح غلى المصلّى ،فيكنّس الغرف الصغيرة ،ويرتّب
الكنيسة ،وإذا وصل أوّلُ الصبيان ،ساعدهم على الاعتراف إلى الكاهن الذي يأتي ليقيم
الق ّداس .وفي الساعة التاسعة يحضر نحو مائة من الأحداث فيقوم ميشيل " مقام دون بوسكو "
طوال النهار ،فيباشر الألعاب ويح َدّث الصبيان ،ويسألهم عن همومهم ،ويُلقي درس التعليم
الديني .
وفي المساء ،عندما توقد في الشوارع مصابيح الغاز ،ينصرف الصبيان الى بيوتهم فيرافقه
بعضهم غلى فالدوكّو ويقولون له " :سنتلاقى يوم الأحد يا ميشيل " .
كان روا يعود منهوك القوى ،فيتناول شيئاً من الطعام ُت ِرك ساخناً من أجله ،ومن أجل
كالييرو وفرنتشيسيا وأنفوسّي الذين يرجعون من سائر المصلّيات منهوكي القوى مثله ،فيتسلّقون
كُّلهم الى ما تحت كوى ،إِلى السقائف التي تحتوي أسِ َرّتهم ،فينام ميشيل لجينه كأَنّه مصعوق .
صباح يوم من أيام الاثنين أفاق كالييرو ،فرأى نفسه جالساً إلى كرسي وجراباه في يديه ،لأنه لم يقوَ
على الذهاب إِلى سريره فنام في مكانه .
تدقّ إشارة الاستيقاظ باكراً جداً ،على نحو مروّع :في الساعة الرابعة .ذكر يوحنا
كالييرو " :ليس الشتاء في تورينو أمراً سارّاً .لم يكن لدينا في سقيفتنا تحت السطح مدفأة ،ولا ماء

26 Pages 251-260

▲back to top


26.1 Page 251

▲back to top


حارّ .كنا نملأ طشوتا من الماء عند المساء لكي نغتسل ،ولكن عند الصباح كان البرد قد حوّل الماء
الى جليد ،فكنّا ُنض ّطَرّ لنغتسل الى فتح الكّوة وأَخذ الثلج من السطح ،فنفرك به فركاً شديداً
أيدينا ووجهنا وعنقنا ،فكانت بشرتنا بعد بضع دقائق ُتصعد الدخان ،وكنا نلتفّ بغطاء فيبتدئ
وقت الدرس :روا يدرس العبرية وفرنتشيسيا ينظم أشعارا لاتينية ،وكنت أُؤلّف قطعاً موسيقية
تلك التي ُفرض عليً نظمها " .
في تشرين الثاني ( نوفمبر) 1322دُ َشّنَ المعهد للداخليين ،فأضاف فرنتشيسيا إِلى سائر
أعماله ،عمل معلم الأدب ،وروا عمل معلم الرياضيات ،وكالييرو عمل معلّم الموسيقى .
قد َيخطر للمرء أن يقول :أترى دون بوسكو قد جُنّ فترك معاونيه الشّبّان ينتحرون على هذا
النحو بدرسهم وعملهم ؟ ثم يَُفكّر المرء بعاقبة الأمور كيف انتهت :توفّيَ يوحنا كالييرو كردينالا ،
وقد بلغ سِنّ الثامنة والثمانين ،وعاش ميشيل روا المسؤول عن الرهبانية السالسيّة حتى الثالثة
والسبعين ،ويوحنا فرنتيشيا حتى الثانية والتسعين ،وقد نال الشهرة بعمله للاتينية في أوروبا
كلّها .كان دون بوسكو " يعرف" أَ َنّ العمل ،وإِن كان مرهقاً ج ّداً ،لن يقتلهم بسرعة فائقة كما
تو َهّم بعضهم .
حديث دار بين دون بوسكو والوزير
كان باب مكتب راتاتسي ،وزير الداخليّة ،مفتوحاً ك َلّ حين لدون بوسكو ،مع أّنهما كانا
مختلفين اختلافاً واضحاً في آرائهما السياسيّة كّلها على وجه التقريب .فان وزير الداخلية يق َّدره لأَنّه
يعمل لخير الشعب ،وينقذ الحكومة من جبل من الهموم ،بايوائه الصبيان الفقراء .
في 1312فُتح على الطريق المؤدي الى ستوبينيجي ( )Stupinigiسجن جديد في تورينو :
ال َسّجن العامّ .إِنه " مركز إصلاحيّة الأحداث" وهو يتسع لثلاثمائة منهم .كان دون بوسكو
يتردّد اليه تر ُدّداً منتظماً ،ويحاول أن يجعل هؤلاء الصبيان أصدقاء له ،وقد حُكم عليهم للسرقة أو
التش ّرد ،على العموم .
كان الأحداث مقسومين ثلاثة أقسام " :المراقَبون مراقبة خاصة" ،يغلق عليهم ليلاً في
زنزانتهم " ،والمراقَبون العاديون" وهم الذين ُيسَيّرون سيراً مستقيماً بالوسائل التي جرت العادة
باستعمالها في السجن ،و " الضعفاء" الذين وصلوا إلى السجن لأنّ آمراً ملّ منهم فتخلّى عنهم
وسّلمهم إلى الشرطة .إِنهم يقضون وقتهم في أعمال الزراعة وفي ورشات داخلية .
في الصوم الكبير لعام 1322َألقى دون بوسكو دروساً حسنة للتعليم الدينّي ،ثم أقام ثلاثة

26.2 Page 252

▲back to top


أيّام من الرياضة الروحية خُِتمت باعتراف عامّ حقلً .
وقد أُخذ دون بوسكو بحسن عزيمتهم ك َلّ مأخذ ،فوعدهم بشيء خارق العادة .ذهب إلى
المدير وعرض عليه أن ُيعِدّ للصبيان ،وقد أذّلهم حجز حرّيتهم ،رحلةً جميلة الى ستوبينيجي ،فردً
عليه الرجل مستغرباً :
-أُتراك تتكلم كلامَ الجدّ ؟
-أَتكلم بك َلّ ما في الدنيا من جِدّ .
-أتعلم أنّي سأكون مسؤولا عن جميع الذين يهربون ؟
-لن يهرب أحد ،أعدك بذلك وعدَ شرف .
-أصغِ إلىّ فلا خير في المناقشة .إذا شئتَ مثل هذا الإِذن ،فكَلّم الوزير .
ذهب دون بوسكو الى راتاتسي وعرض عليه مشروعه بلهجة هادئة .فقال الوزير :
-أُوافق .إنّ نزهةً ستعود بالخير على السجناء الصغار .سآمر الأوامر اللازمة لكي يكون
على الطريق رجال من الشرطة في زيّ مدنيّ وبعدد كافٍ .
فتصدى له دون بوسكو بحزم :
-كلاّ ،إِن الشرط الواحد الذي أشترطه هو أن لا يَحمينا أحد ،وعليك أن َتعِدَنا ذلك وعدَ
شرف .أَنا آخذ الخطر على عاتقي :إذا هرب واحد فإيّاي تسجنون .
فضحكا معاً ،ثم عاد راتاسي إلى الجِدّ فقال :
-تعّقل ،يا دون بوسكو ،إذا لم يكن هناك رجال الشرطة ،فلن تعودَ بواحد منهم إلى
البيت .
-وأنا أقول لك خلاف ذلك :إني سأعود بهم جميعاً .َفلُنراهن .
ف ّكر راتاسي قليلا ثم قال :
-حسنا إِني أوافق .أثق بك ،وأثق برجال الدرك الذين في حال الهرب سوف لا يصرفون
وقتاً طويلاً في استعادة أربعة صبيان .
يوم من الحرّية
عاد دون بوسكو إلى السجن العام ،وأذاع خبر النزهة ،فرفع الأحداث أصواتهم وأعربوا
عن فرحهم بأَشدّ الصياح .وما إِن ساد السكوت حتى أضاف :
-لقد وعدتُ وعدَ شرف أََنّكم ستسلكون حسناً من أ َّولكم الى آخركم ،وأنكم لن
تحاولوا الهرب .وقد وعدني الوزير وعدَ شرف أنّه لن ُيرسل أحداً من الحرس ،لا في زيّه

26.3 Page 253

▲back to top


العسكري ،ولا في الزيّ المدني .فيجب الآن عليكم أنتم أيضاً أن تعدوني وعدَ شرف :فإذا
هرب واحد لحقني العار ،ولا ش َكّ في أَنّهم لن يأذنوا لي بعدئذ بأن أدوس هذا المكان مرة أخرى .
أبوسعي أن أَثق بكم ؟
تشاوروا قليلاً ،ثم قال أَكبرهم سِنّاً :
-نعدك وعدَ شرف .سنعود ،وسنسلك سلوكاً حسناً .
كان الجو في الغد لطيفاً :إنّه من أيام الربيع ،فذهبوا جميعاً إلى ستوبينيجي على دروب
الريف وقفزوا وركضوا وهتفوا ،ودون بوسكو يتوسّط الجوقة الصغيرة ،ويمزح ويروي
الحكايات .وجرى في المقدّمة الحمار الذي يحمل الزاد .
في ستوبينيجي أَقام دون بوسكو الق ّداس ،ثم أَكلوا على العشب ،واسترسلوا في المباريات
والألعاب بجانب نهر سانغونه ( )Sangoneوزاروا الحديقة والقصر الملكي ،ثم تناولوا طعام
العصر ،وعادوا عند غياب الشمس ،ولم يبقَ شيء يحمله الحمار ،وقد أخذ التعب في دون
بوسكو بعض الشيء ،فأركبوه على مؤخر الحمار ووصلوا إلى السجن ،وهم يشدّون الرسن ،
ويغنّون ،فأسرع المدير إلى عدّهم :كانوا كلّهم حاضرين .
كان الوداع عند باب ال َسّجن حزيناً .صافحهم دون بوسكو واحداً واحداً ،وعاد إلى البيت
وقلبه منقبض لأنّه لم يستطع أن يحرّرهم سوى يوم واحد .
وأما الوزير فلما أطلعوه على ما جرى ،طار فرحا كأنه أحرز فوزاً عظيماً .ذات يوم سأل دون
بوسكو :
-لماذا تستطيع أن تعمل مثل هذه الاشياء ،ونحن لا نستطيع ؟
-لأنّ الدولة تأمر وتعاقب ،ولا تستطيع أن تزيد شيئاً على ذلك .وأمّا أَنا ،فاني أُحب
هؤلاء الأحداث .ولي ،لأنّي كاهن ،قوة أدبيّة لا تستطيعون أَن تفهموها .
تسع صفحات ليشرح " طريقته"
طُلب الى دون بوسكو أن يشرح في كتاب " نظامَه التربوي " .ولكن قلة الوقت وعدم تمكّنه
من التفرّغ ليف َّكر تفكيراً من َّظماً في خطط عمله حالا بينه وبين أن يترك لنا مشروعاً " ِعلمياً " .
في السنة 1326عزم عزماً ثابتًا على العمل هذا ،فخَطّ " لمحة عا َّمة على النظام التربوي
الذي ُيعمل به في البيوت السالسيّة ،"وهي كناية عن تسع صفحات ،يجدها السالسيّون ملحقاً
بقانونهم ،ويُدعون الى الرجوع إليه كثيراً .
إننا نوجزها ،ونحن نك ّرر أَنّها ليست مؤَلّفاً " ِعلمِياً" ،بل ُمل َّخص أّثرت فيه العجلة
ودواعي الضرورة والمسائل الخطيرة في تلك السنة .ومع ذلك يَكتشف فيها المرءُ شيئاً حيّاً ،تلك

26.4 Page 254

▲back to top


" الطاقة المتفجرة" التي تزوّد بها دون بوسكو ،وما من نَ ٍصّ يكاد يُعّبر عنها تعبيراً وافياً .
بدأ دون بوسكو بتصنيفٍ يُمكن القول إنِّه ليس فيه كثير من ال َدّقّة ،فجعل الطرق التربوية
فئتين :
-النظام القمعي ( وهو الذي ُيعمَل به في الدولة والجيش والخ " . ) ...إنّه ُيطلع الذين
َيعنيهم الامر ،على القانون ،ثم يُراقبهم ليعرف المخالفين ويعاقبهم .يجب أن تكون الأوامر في
ذلك النظام شديدة ،ويجب على الرئيس أن يتجنب كل ُألفة بينه وبين مأموريه ،فلا يختلط
بمرؤوسيه إِلا نادراً " .
-النظام الوقائي ( وهو الذي يُريد أن ُيعمَل به في بيوته ) .
فيشرح دون بوسكو النظام الوقائي كما يفهمه هو ،وكما عمل به دائماً في المصلّى .
" إِ ّن هذا النظام يعتمد اعتمادا تامّا على العقل وال َدّين والمحبة .إِنّه ينفي ك َلّ عقوبة
عنيفة ،ويحاول تجُنّب حتى العقوبات الخفيفة .
إِن المدير ومعاونيه هم أشبه بآباء محببّين :يتكّلمون وُيرشدون ويَنصحون ويهذَبون برفق .
فالتلميذ لا يهان ،ويصبح صديقاً ،ويجد في الناظر محسناً يُريد أن يجعله صالحًا وأن يجَنّبه
خيبة الأمل والعقوبة والمذلّة .
فاذا اكتسب المربّي قلبَ من وُكل إليه ،استطاع أن يتتَّبعه ،حتى عندما يصبح راشداً ،
فينصح له بل يق ّوم اعوجاجه .
إن العمل بهذا النظام مبنّي على هذه الكلمات للقديس بولس ":ان المحبة حليمة مترفقة ،
تعذر كلّ شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء " .ولذلك لا يستطيع العمل بالنظام الوقائي
والنجاح فيه ،إلاّ المسيح ُيّ .فالعقل والدين هما الوسيلتان اللتان يجب على المربيّ أن يستعملهما ك َلّ
حين .
ويجب على الرئيس ،فوق ذلك ،أن يبذل جهده كلّه في سبيل الذين وُكل أمرهم إليه ،وأن
يكون معهم في جميع وقت فراغه " .
وانطلق دون بوسكو من ذلك ،فأَظهر على وجه خاصّ أهميّة المعاهد التي احتكرت
معظم قوى السالسيّين السنة . 1326وفي هذه الأسطر اللاحقة لا يظهر دائماً دون بوسكو كما
" عهدناه في المصلّيات" .
"يجب على المعّلمين ورؤساء الورشات والمعاونين أن يتحلّوا بالخلق الكريم الثابت .يجب
عليهم أن يهربوا هرَبهم من الوباء من ك َلّ لون من المحبة أو الصداقة المريبة لتلامذتهم .وسيسبق
المعاونون التلاميذ ،على قدر ما في وسعهم ،إلى المكان الذي يجب عليهم أن يجتمعون فيه ،فلا

26.5 Page 255

▲back to top


يدعوهم فارغين .
فليمنحوهم أكبر حرّية للقفز والركض وإحداث الضجة على هواهم .ان الرياضة البدنية
والموسيقى والالقاء والتمثيل والجولات هي أنجح الوسائل للحصول على الانضباط ولتنمية الخلق
الكريم والصحّة .كان القديس فيلبّس نيري ( )Neriيقول ":اعمل ما تشاء ،طالما لا ترتكب
خطيئة ."
الِإقبال على الاعتراف ،وعلى تناول القربان المقدس ،والقداس اليوميّ هي الأركان التي
يجب أن يعتمدها المشروع التربوي ،ولا يُضطَرّ الأولاد أبداً إلى الاقبال على الأسرار ،ولكن يجب
حُّثهم عليها ،وإتاحة الفرصة لهم في التقرّب منها .
المربّي شخص منذور لخير أولاده ،ولذلك يجب عليه أن يكون متأ ّهباً لتح ُّمل أي إزعاج ،
وأي تعب كان ،لكي يبلغ غايته ،وهي التربية الوطنية والخُلقية وال ِعلمّية لأولاده .
على المربي أن يسعى لينال المحبة ،إذا أراد أن يهابه الأولاد ( ،وكتب دون بوسكو م ّرات
اخرى " :أكثر منه أن يهابه الأولاد" " ،قبل أن يهابه الأولاد " ) .فالجفاء الى حين عقوبة ،
ولكنها عقوبة تحمل التلميذ على أن يحاسب نفسه ويسمو بها ،وتشجّعه ولا تذلّه أبداً .فالتهنئة
للتلميذ عندما يُحسن العمل ،وتوبيخه اذا أهمل ما يجب عليه عمله ،مكافأة أو عقوبة .
ولا يكون التوبيخ في العلانية أبداً إِلاّ في أحوال قليلة ،بل يكون التوبيخ على حدة ،على
بعد من أتراب ولد ،وُيستعمل أكثر ما يمكن من الحيطة والصبر لكي يفهم التلميذ خطأه ،يفهمه
بالعقل والدين .
يجب تجَنّب الضرب أيّاً كان نوعه ،لأنّه يغيظ الأحادث كثيراً ويحطّ من كرامة المربيّ " .
الحلم بالمصلّى الأول
إذا كان يعسر على دون بوسكو تأليف المقالات ،فإنه ساحر عندما يروي الأحداث الحيّة ،
ويشرك فيه القارئ .ولذلك أكّد كثير من الخبراء أنه اذا كان المقال في النظام الوقائي ضعيفاً في
معظمه ،فإنّ " ال ُحلم" الذي رواه دون بوسكو في رسالة كُتبت السنة 1331يعبّر أصدق تعبير
وأشغفه عن رقّة إِحساسه التربوي .
لقد كان دون بوسكو في رومة في أيار ( مايو) تلك السنة ليعالج مسائل مهمّة من أَجل
رهبانيته " ،فرأى في حلم" ذات ليلة المصلّى الأول الذي فيه عاش دومنيك سافيو وميشيل روا
ويوحنا كالييرو ،وشّبهه بالمصلّى القائم عند ذاك في فالدوكّو .ثم أملى رسالة مؤرّخة في 18أيار
. 1331قال بيترو ستيلا ( " : )Pietro Stellaيمكن عدّها من أكثر الوثائق التربوية فعالية ومن
أثمن الوثائق التي وضعها دون بوسكو " .

26.6 Page 256

▲back to top


وهذا موجزها :
" ظننت أنّي في المصلّى الاول في ساعة الفرصة .كان المنظر زاخراً بالحياة ،زاخرًا بالحركة ،
زاخراً بالفرح .كان أناس منهم يركضون ،وأناس يقفزون والآخرون يقفّزون غيرهم .كانوا
يلعبون هنا لعبة الضفدعة ،وهناك لعبة العَلَم ،وبالكرة .وكان جماعة من الأحداث معَلّقين
بشفتي كاهن يروي لهم حكاية ،وكان شمّاس بين أحداث آخرين في مكان آخر يشاركهم في
ألعابهم الصبيانية .كانوا يغَنّون ويضحكون في جميع الجهات وكان في كل موضع شمامسة وكهنة ،
حولهم أحداث ُيعلون أصواتهم فرحين .كان المرء يرى أن العلاقات بين الأحداث والرؤساء
يسودها أعظم الثقة والإِخلاص .خلبني ذلك المنظر فقال لي الذي معي :
-أترى كيف أنّ اللطف يجلب المودّة ،والمودّة تَلد الثقة .وهذا ما يفتح القلوب فيبوح
الأحداث بكلّ شيء ،من غير خوف ،للمعّلمين والمعاونين والرؤساء ،ويصيرون صادقين في
الاعتراف وفي خارج الاعتراف ،وينقادون لكلّ ما يشاء أمَره ذلك الذي يعرفون أنّه يحبّهم .
فدنا مني عند ذاك تلميذ قديم ،يوسف بوتسيتّي ،وقال لي :
-أتريد أن ترى الآن الأحداث الذين يقيمون في المصلّى في الوقت الحاضر ؟
رأيتكم كلّكم في أثناء الفرصة ،ولكن لم أسمع أصوات الفرح والأغاني ولا تلك الحركة
وذلك الفرح الذي كان في المشهد الأول .كان يُقرأ على الوجوه الملَل والفتور والحذر .كان كثير من
الأحداث يلعبون ،وهم خالون من ال َهّم .ولكن غيرهم كانوا وحدهم متّكئين على الأعمدة ،
قاعدين على درجات السلالم ،وكان بعضهم يغمزون مَن حولهم غمزات مريبة :لو كان مار لويس
دي غونزاغا بينهم لَما شعر بالارتياح إليهم .فهتف بوتسيتّي :
-كم يختلفون عما كنّا عليه نحن في الماضي !
-أجل ،ولكن كيف السبيل الى إِنعاش أحداثي الأعزّاء ؟
-بالمحّبة .
-أفأحداثي لا يحصلون على المحبة الكافية إذن ؟ أنت تعلم ما تح ّملتُ وأَتح َمّل من أسباب
الحرمان والإِهانة لكي أضمن لهم الخبز والمسكن والمد َرّسين ،ولا سيما خلاص نفوسهم .وإِنّ
الرؤساء والوكلاء والمعّلمين والناظرين يبذلون أعوام شبابهم في سبيلهم .
فَألَ ّح بوتسيتّي بقوله :
-يعوزهم الشيء الجوهري .يجب أن يكون الأحداث محبوبين ،ولكن يجب أن يعلَموا
وأن يروا أَنَّهم محبوبون .
-ألا يرون أ َنّ جميع ما نعمله إنما نعمله حبّاً لهم ؟
-كلاّ .
-فما الذي يريدون إِذن ؟
-أن يشعروا أَنّهم محبوبون في الأشياء التي ُتس ُرّهم ،وأن يروكم تشاطرون مشاربهم

26.7 Page 257

▲back to top


الصبيانيّة ليشعروا بالحبّ حتى في ما لا يس ُرّ طبيعتهم كثيراً :الانضباط والدرس وملكهم
لنفسهم .أَشرحُ ما أعني :أُنظُر الى الصبيان في الفرصة .أين رهباننا السالسّيون ؟
فراقبت واعترفت أنّ قليلا من الكهنة والشمامسة يخالطون الشبّان ،وأقلّ منهم يشتركون في
ألعابهم .كفّ المسؤولون عن أن يكونوا الروح الذي يبعث الحياة في الفرصة .كان معظمهم
يتمشّون ذهاباً وإياباً ،وهم يتكلمون فيما بينهم ،من غير أن يهّتموا بالتلاميذ ،وكان سائرهم
يراقبون عن بعد فَيُنَّبهون هذا أو ذاك تنبيهاً ولكن بمنظر التهديد .و َدّ بعض السالسّيين الدخول في
هذه الجماعة أو تلك ،ولكنّ الأحداثَ كانوا يدبّرون أمرهم فيذهبون إلى مكان آخر .
ثم استأنف بوتسيتّي كلامه :
-في الازمان الأولى ،كنتم دائماً معنا ،ولا سيّما في وقت الفرصة .أتذكرون تلك الأعوام
الحسنة ؟ كنا في زاوية من الفردوس ،في وقت نذكره بمحبة ،لأ َنّ المودّة كانت شيئاً مألوفاً ولم يكن
عندنا سِرّ لا تعرفونه .
-أجل ،كان كل شيء فرحاً عندي ،والآن ،يالسوء الطالع ،ترى كيف تَحُول همومي
وحالتي الصحّية دون أَن أتصرف في الأمور كما تصرّفتُ في ذلك الوقت .
-ولكن إذا كنتَ لا تستطيع إليه سبيلا ،فلماذا لا يقوم رهبانك السالسّيون مقامك ؟ يجب
عليهم أن يُحبّوا ما َي ُسرّ الأحداث فيحبّ الأحداث ما يسُرّ الرؤساء .إِ َنّ الرؤساء يُن َظر إليهم الآن
النظرَ إِلى الرؤساء ،لا إلى الآباء والإِخوة والاصدقاء ،فيُخافون ويُحَبّون قليلا .ولذلك إذا أردنا
أن نكون قلبًا واحداً في سبيل محبة يسوع ،يجب كسر حاجز الحذَر ليٍ َح َلّ محلّه الثقة
التامّة .إِن الطاعة تقود التلميذ كما تقود الأ ُمّ الطفل ،وحينذاك يسود المصلّى السلامُ والفرح اللذان
كانا يسودانه في الماضي .
-ما العمل لتحطيم هذا الحاجز ؟
-الألفة للأحداث ،ولا سّيما في أَثناء الفرصة .فلا برهان على المحبّة بلا ألفة ،وإذا لم يُقم
ذلك البرهان فلا سبيل إلى الثقة .من أراد أن بُحَبّ وجب عليه أن يُثبت أنّه يِحُبّ .جعل يسوع
المسيح نفسه صغيراً مع الصغار ،وأَخذ على عاتقه أسقامنا .إنه معلّم الألفة .إِن المعلّم الذي لا
ُيرَى إلا جالسا الى مكتبه هو معَلّم ،ومعلّم فحسب ،ولكن إِذا شارك الأحداث في الفرصة ،
صار أخاً لهم .ا َنّ الذي يعرف أنّه محبوب يُحِبّ ،والذي يُحَبّ ينال ك َلّ شيء ،ولا سّيما من
الأحداث .إنّ هذه الثقة تم ّرر تيّاراً كهربائياً بين الأحداث والرؤساء .إ َّن هذه المحبة تجعل الرؤساء

26.8 Page 258

▲back to top


يتحمّلون متاعب الشبّان ومضايقاتهم ونكرانهم للجميل وإِزعاجهم وذنوبهم وإِهمالهم .إِن السيد
المسيح لم يحطّم الغصن الذي أوشك أن ينكسر ،ولم يطفئ الشعلة الصغيرة التي ترتجف .هذا هو
مثالكم .عندئذ لن يُرَى أحدٌ يعمل للشهرة أو يُعاقِب لينتقم ،لأنه ُجرح في كبريائه ،ولن يُرَى
أحد يَدع خليقةً تسرق له قلبه ،فيهمل سائر الصبيان ليغازلها ،أو آخَر فيه من الضعف ما يجعله
يَخاف أن يوبّخ من يَجِب توبيخه .لماذا يريدون أن يب ِدّلوا بالمحبة نظاماً بارداً ؟ " .
ختم دون بوسكو هذه الرسالة الطويلة بهذه الكلمات ،وقد أملاها وهو يبكي ( كما شهد
أمين سرّه ) :
" يكفي أن يدخل صبي بيتا سالسيا حتى تتولاه السيدة العذراء لوقتها بحمايتها الخاصّة .يا
أبنائي الأعزاء ،إنّه لآتٍ اليوم الذي فيه سأُفارقكم ،وأذهب إلة حياتي الأبدية .أَتعلمون ما
يرغب فيه هذا الشيخ الكبير المسكين الذي أفنى حياته في سبيل أحداثه الأعزاء ؟ لا شيء سوى
العودة إلى أوقات المصلّى السعيدة :إلى أيام المحبة والثقة بين الأحداث والرؤساء ،إلى روح
التفاهم والتح ُمّل المتبادل ،حبّاً ليسوع المسيح ،إلى أيام القلوب المفتوحة بكل براءة وبساطة ،إلى
أَيام المحبة والفرح الحقيقيّ بكل شيء " .
11
الوداع لأِمّ ولصبّي
يوم الأحد الأول من شهر نيسان ( ابريل ) 1322ألقى دون بوسكو عظة إلى صبيانه وتكلّم
على القداسة فتج ّهمت وجوه بعضهم ،وأما دومنيك سافيو فقد أصغى إليه بانتباه ،وكلما شرح
الموضوع بصوته الرخيم المؤثّر المقنع ،بدا له أ َنّ العظة كانت خصوصاً من أجله .كّلمهم على بلوغ

26.9 Page 259

▲back to top


القداسة ،كما بلغهما الأمير الشاب لويس دي غونزاغا ،والمر َسل الكبير فرنسيس كسفاريو وشهداء
الكنيسة .
أخذ دومنيك منذ ذلك الحين يحلم وحلمه هو القداسة .
اليوم الرابع والعشرون من حزيران ( يونيو) عيد شفيع دون بوسكو ،وهو عيد كبير في
المصلّى ،كما هو الحال في كلّ سنة .أراد دون بوسكو أَن يقابِل بالمثل ما يُظهر له الأولاد من المحبة
وحُسن الإدارة فأعلن :
-ليكتب كلّ منكم على بطاقة الهدّية التي يرغب في الحصول عليها منّي ،وأنا أوكّد لكم أني
سأبذل ك َلّ كا بوسعي لِألبّي طلبه .
بطاقة فيها خمس كلمات
قرأ دون بوسكو البطاقات فوجد طلبات تتصف بالجِدّ والتعقل ،ولكنه وجد أَيضا طلبات
غريبة جعلته يبتسم :طلب صب ُيّ مائة كيلو من " النوغا" لكي تكفيه مؤونة السنة كلها .وجد في
بطاقة سافيو خمس كلمات " :ساعدني على أن أصير قدّيساً " .
حمل دون بوسكو هذه الكلمة على محمل الجِدّ ،فدعا دومنيك وقال له ":أُريد أن أُعطيك
ما يضمن القداسة .ها هوذا :أولاً :الفرح .فما يجعلك تضطرب ،ويسلبك الفرح ،لا يأتي
من الله .ثانيا :واجباتك المدرسية والتقوية .أصغِ إصغاء حسناً في الصفّ .ثابر على الدرس
وثابر على التقوى .ذلك كلّه لا تفعله للطموح بل حُبّاً لل َرّب .ثالثاً :عمل الخير
للآخرين .ساعد دائماً أبداً أترابك ولو فرَض ذلك عليك البذل .القداسة كّلها هي هذه
الأمور " .
با َشرَ دومنيك العمل بنشاط .روى دون بوسكو ،في سيرة دومنيك سافيو التي كتبها لوقته
بعد وفاة الصبي ،كثيراً من الأحداث البسيطة المؤثرة ،نذكر واحداً منها .
ذات يوم أدخل صبيّ إلى المصلّى جريدة مصّورة فيها رسوم تخالف الحشمة ،فأحدق به لوقته
خمسة أو ستة من رفاقه ينظرون ويتهكّمون ،فدنا دومنيك وأخذ الجريدة من يَدَي صاحبها
وم ّزقها ،فاحتج الصبيّ ولكن دومنيك احجتّ هو أيضاً بصوت أعلى نبرة :
-إِنك تجيء الى المصلّى بأشياء جميلة! إنّ دون بوسكو يتعب طوال الّنهار ،لكي يجعل منا
مواطنين صالحين ،ومسيحيين صالحين ،وأنت تجيء بهذه الأشياء الى بيته .إن هذه الرسوم تهين

26.10 Page 260

▲back to top


الله الكريم ولا ينبغي أن تدخل إلى هنا .
جاءت العطلة المدرسية ومضت سريعاً ،فلما عاد الصبيان الى المصلّى في تشرين الأول
(أكتوبر) رأى دون بوسكو دومنيك فأخذ منه القلق :
-ألم تسترح في أثناء العطلة ؟
-بلى ،دون بوسكو ،لماذا هذا السؤال ؟
-إّنك أشحب لوناً مما أنت عليه عادةً .لماذا ؟
-لربّما السبب تعب السفر – . . .وابتسم هادئا .
ولكن لم يكن ذلك التعب عابراً ،فإِن عينيه الغائرتين ،ووجهه الشاحب الهزيل ،
يدلاّن صراحة على أن صحّة دومنيك غير حسنة ،فعزم دون بوسكو على اتخاذ بعض
الاحتياطات :
-لن تذهب هذه السنة الى المدرسة في المدينة .فقد يؤذيك الخروج في المطر والثلج .ستتبع
دروس الأب فرنتشيسيا ( )Francesiaهنا في البيت .هكذا ُيمكنك أن تستريح أكثر في الصباح .
ولا ُتفرط في الردوس :إن الصحة عطاء من الله فيجب ألاّ نصيبها بأذى .
أطاع دومنيك ،ولكنه قال بعد بضعة أيّام لدون بوسكو ،كأنه يتوقّع أن ينزل به شيء
جسيم :
-ساعدني على أن أصير قدّيساً وأسرع فيه .
" جمعية البريئة من الدنس "
صار دومنيك صديق لِميشيل روا ( )Ruaويوحنا كالييرو ( ، )Caglieroمع أّنهما أكبر منه ،
الأول بخمس سنوات ،والآخر بأربع .وسائر أصدقائه هم صبيان ممتازون الى المصلّى في
السنوات الاخيرة :بونجيوفانّي ( )Bongiovanniودوراندو ( )Durandoوتشي ّسروتي ( )Cerruti
وغافيو ( )Gavioوماساليا ( . )Massaglia
كان الداخليون في المصلّى في أوّل السنة 1326مئة وثلاثة وخمسين 63 :منهم تلاميذ و 08
طلاب صناعة .
خطر لدومنيك خاطر في الربيع .لماذا لا يجتمع الأحداث ذوو الإدارة الحسنة ُكُلّهم في
" جمعية ِسرّية" لكي يؤلفوا جماعة كتماسكة من الرسل الصغار ،في جمهور الآخرين ؟ عرض
المسألة على بعضهم َف َسرّتهم فكرته وعزموا على تسمية الجمعية " جمعية البريئة من الدنس " .
أذِن لهم دون بوسكو ،ولكنّه نصح لهم أن لا يتع ّجلوا في الأمور ،فليقوموا بمحاولة ،
وليضعوا نظاماً صغيراً .ثم يُن َظر في المسألة م َرّة أُخرى .

27 Pages 261-270

▲back to top


27.1 Page 261

▲back to top


حاولوا فبحثوا في الاجتماع الاول ،عمّن يَدعون الى الاكتتاب :يَدعون عدداً قليلاً من
الصبيان الذين يُوثق بهم ،وَيسعهم كَتمُ السرّ ،وتناقشوا في أَمر فرنتشيسيا ،معلّم الادب
الشاب ،وهو يتحلى ببراءة خالصة وصديق لجميع الناس .نَ َحّوه لأنّه مهذار كبير ،فاذا أُدخِل لن
يطولَ كتم ال َسّرّ .
عهدت الجمعية إلى ثلاثة بوضع مشروع نظام :ميشيل روا 10 ،عاماً ،يوسف
بونجيوفانيّ 13 ،عاماً ،ودومنيك11 ،عاماً .أكّد دون بوسكو أ َنّ دومنيك هو الذي كتب النص
ونقّحه الآخرون .
يتضمن النظام الصغير واحداً وعشرين بنداً .لقد التزم المشتركون أن يصيروا أحسنَ مما هم
عليه ،بحماية السّيدة ،وعون يسوع في القربان المقدس ،وأن يساعدوا دون بوسكو بأن
يصيروا ،بفطنة وحسن دراية ،رسلاً صغارا بين أَترابهم ،وأن ينشروا الفرح والسلام بينهم .
وُيلخّص البند ، 21وهو آخر البنود ،روح الجمعية " :نثق بمريم ثقة صادقة بنوية لا حَ َدّ
لها ،ونُوليها مودّة خارقة العادة ،ونك ّرمها تكريماً دائماً ،فنذّلل جميع العقبات ونصير حازمين في
ما نعزم عليه ،أشِدّاءَ على أَنفسنا ،عطوفين على القريب ،نراعي ال َدّقّة في ك ِلّ شيء ."
ُد َشّنت الجمعية في 3حزيران ( يونيو) 1326أمام مذبح السيّدة في كنيسة مار فرنسيس دي
سال ،فوعدَ ك ُلّ منهم بالوفاء بما التزم .في ذلك اليوم حقّق دومنيك أروع أعماله .لم يبق له من
الحياة سوى تسعة أشهر ولكن جمعيته ،جمعية البريئة من الدنس ،دامت أكثر من مائة سنة ( حتى
1062على وجه التحديد ) .لقد كانت في جميع البيوت والمصلّيات السالسية نُخبة الصبيان
الملتزمين ،والدعوات الكهنوتية .
يَختار أعضاء الجمعّية العناية بفئة من الصبيان يسمّونهم " زبائنهم " في لهجتهم التي
اصطلحوها لهم ،وهم الخارجون على النظام ،ذوو اللسان السّليط ،يتشاجرون بلا سبب .
ويأخذ كل عضو من الجمعيّة على عاتقه العنايةَ بواحد من هؤلاء ،ويقوم عنده " مقام الملاك
الحارس " طوال الوقت اللازم لهدايته إلى الطريق السويّ .ويؤلف القادمون الجدد فئة ثانية من
"الزبائن" فيساعدهم أعضاء الجمعية على أن يقضوا الأيام الأولى بسرور عندما لا يعرفون أحداً ،
ولا يعرفون اللعب ،ولا يتكلمون إلاّ بلهجة بلدهم ويشعرون بالوحشة .
في أثناء الصوم الأربعيني للعام 1326استسلم دومنيك إلى الافراط في التق ّشف فذ َّكر وجهُهُ
دون بوسكو تذكيراً شديداً بوجه لويس كومولّو الشاحب الهزيل .أصغى ،لدى سماعه للقراءات
الطقسية في تلك الأيام ،الى الحثّ على التق ّشف ،فأراد أن يمارسه هو أيضاً .فَنََبّه ناظرٌ في غرفة
الطعام دون بوسكو الى أنّ دومنيك سافيو يصوم .
فواجهه لوقته ،وفي أثناء مكالمة صريحة ،علم أن دومنيك لم يقتصر " على مباشرة الصوم ،

27.2 Page 262

▲back to top


مكتفياً بالخبز والماء ،على الأقلّ يوم السبت " ،بل ذهب الى أبعد من ذلك ،فنزع غطاء سريره ،
مع أن الجوّ لم يزل بارداً ،ووضع على فراشه قطعا من الأ ُجرّ تحت شرشفه ،ليجعل النوم غير
مريح .فردعه دون بوسكو بحزم :
-إنّي أنهاك نهياً مطلقاً عن كلّ تقشّف ،بل آذن لك بتقشف واحد هو الطاعة .هذا تق ّشف
عسير يرضي الر َبّ ولا يهدم الصحّة .أطِع ،وهذا كافٍ لك .
وفاة ماما مرغريتا
12تشرين الثاني ( نوفمبر) 1326مرضت ماما مرغريتا فأصيبت بذات الجنب فبدا المرض
لحينه قتّالاً لامرأة في الثامنة والستين وقد براها العمل الطويل .فكأ َنّ حياة المصلّى توقّفت برهة .
فكيف يُتابَع النشاط من دونها ؟ تتابَع حول سريرها شمامسة دون بوسكو وأكبر الصبيان سِناً .كم
مرة دخلوا مطبخها وهم يقولون :
-ماما ،أتعطيني تفاحة ؟
-ماما ،أترى الحَساء مع ّداً ؟
-ماما ،لم يبقَ عندي منديل .
-ماما ،مزّقتُ بنطالي .
إِن بطولة هذه السيدة العظيمة المشرفة على الموت هي بطولة قامت على أسمال ُترَقّع وحصد
العشب والقمح وغسل الثياب والطبخ في القدور ،ولكن في هذه الحياة المتواضعة قوّة لا تعرف
اليأس ،هي الثقة بالعناية الإِّلهية .فبينما تق َشّر البطاطا ،وتحرك الحساء ،تظهر بوضوح أمثولات
الايمان وحسن التدبير العمّلي ولطف محبة الأمّ .
منها تلقّى دون بوسكو نظامه الوقائي :إِنّه أوّل من َتربّى بالعقل والدين والمحبّة .فقد
هدهدت ماما مرغريتا الرهبانية السالسيّة هلى ركبتيها ،وهي الآن توشك أن تنطفئ كالشمعة .
وصل من البكّي يوسف وأولاده الأكبر سِنّاً ،وأتاها بالزاد الأخير الأب بوريل الذي استمع
الى اعترافاتها منذ أن وصلت من تورينو .جمعت قواها بأسرها فقالت لابنها العزيز يوحنا :
-تنبّه لأنّ كثيراً من الناس نجاحهم الشخصي ،بدل أن يطلبوا مجد الله .بالقرب
منك أناس يحبون الفقر عند غيرهم ،ولكن لا يحبونه لأنفسهم .ما نطلبه من الآخرين يجب علينا
أن نكون أول من يعمل به .
لم تشأ أن يراها يوحنا تتألم ،إِّنها تفكّر بالآخرين حتى اللحظة الأخيرة :
-لم تبقَ هنا ،يوحنا . . .انك تتألم ألماً لا يُطاق ،لأنّك تراني على هذه الحال .أذكر

27.3 Page 263

▲back to top


أن هذه الحياة جعلت للألم .إِن السعادة الحقيقية هي في الحياة الابدية .والآن إِذهَب ،أسألك
ذلك ،إِن شئت .ص َّل لأجلي ،الوداع .
عبرّت مرغريتا بوسكو بهذه الكلمات عن فكر المسيحّيين في الحياة ،كما كان شائعاً عند أهل
الريف .إنها عقيدة راسخة ساعدت رجال الريف ونساءه على تدبير أمورهم ،بمقاومة المجاعة
وموت أطفالهم وتعبهم المرهق ،طوال القرون .
بقي بالقرب من الأم العجوز يوسف والأب ألا سوناتّي ،ولفظت روحها في الساعة الثالثة
من صباح الخامس والعشرين من تشرين الثاني ( نوفمبر) . 1326وذهب يوسف الى غرفة دون
بوسكو وألقى بذراعيه حول عنقه وهو يبكي .
ودعا دون بوسكو بعد ساعتين يوسف بوتسيتّي .إنّه الصديق في أَشدّ الساعات حزناً ،
وأمامه وحده لا يستحيي بالبكاء .أقام القداس في معبد المدفن لكنيسة سيدة التعزية ،ثم جثوا
لدى سيدة العذراء مريم فتمتم دون بوسكو " :لم يبقَ لنا الآن لي وأولادي أ ُمّ في الأرض .فابقي
بالقرب منّا ،وقومي لنا مقام الأمّ " .
ذهب ميشيل روا بعد بضعة أيام إلى ُأمّه حنينة ماريّا فقال لها :
-لا نعرف ما نعمل منذ ماتت ماما مرغريتا .فما من أحد عندنا يعرف إعداد الحساء وترقيع
الجوارب .يا ُأمي ،أَلا تريدين أن تأتي أنتِ ؟
تبعت حنينة ماريّا ابنها وهي في السادسة والخميس وصارت الأمّ الثانية للمصلّى ،وقد بقيت
ُأمّه عشرين سنة .
صبيّ يكلّم الله
كانون الأول ( دسمبر) . 1326اأخذ الثلج يتساقط في شوارع تورينو .ولقد أظلم
الليل ،وأُوقِدت المصابيح ،ودون بوسكو ،شانه في كل ليلة ،مُنحَنٍ على طاولة عمله فوق كومة
من الرسائل تنتظر جواباً ،وظل يكتب الأجوبة الى ما بعد نصف الليل فقُرِع الباب برفق :
-أُد ُخل ! من الطارق ؟
قال دومنيك سافيو وهو يدخل مسرعاً :
-أنا هو ،هيّا ،هلمّ معي .هناك عمل محبة لا بُ َدّ من القيام به .
-الآن ،في الليل ؟ الى أين تريد أن تذهب بي ؟
-هيّا ،يا دون بوسكو ،هيّا !
تر ّدد دون بوسكو ،ولكنّه نظر الى دومنيك فرأى أنّ وجهه مُغتم ج ّداً ،ومن عادته أَن يكون
هادئاً .حتى كلماته فيها لهجة الأوامر .فنهض دون بوسكو وتناول قّبعته وتبعه .
فنزل دومنيك السلّم على عجل ،وخرج من الساحة واجتاز غير مُتردّد شوارع المدينة ،

27.4 Page 264

▲back to top


فجال في شارع أوّل ،ثم في شارع ثانٍ ،وهو ال يتكلّم ولا يقف .ثم تق ّدم في شبكة الشوارع
والأزقة تق ُدّم الواثق بنفسه ،فصعد سلّماً وتبعه دون بوسكو :الطبقة الاولى فالثانية فالثالثة .
وتوّقف دومنيك وقرع الباب ،فقال لدون بوسكو قبل أن يأتي أحد ليفتح الباب :
-يجب عليك الدخول هنا .
ثم عاد إلى البيت .
فُتِح الباب فمثلت سيدة شعرها متلّبد ،فلما رات دون بوسكو هتفت :
-هو الله الرحيم قد أَرسلَك .هيّا ،هّيا وإلاّ فات الاوان .أُبتلي زوجي بفقد الايمان قبل
سنين كثيرة ،وهو يوشك الآن أن يموت ،ويتلمس الشفقة فيََتمكّن من الاعتراف .
دنا دون بوسكو من سرير المريض ،فوجد رجلاً مسكيناً مربوعاً ،على شفا اليأس .
فاستمع الى اعترافه وحََلّه من خطاياه فتُوَفّي الرجل بعد بضع دقائق .
مضت بضعة أيام فظلّ دون بوسكو متأثراً كثيرا بما حدث له .كيف استطاع دومنيك أن
يعرف أمر ذلك المريض ؟ فدنا إليه في لحظة لا يستمع إليها أحد فقال له :
-يا دومنيك ،جئت الى مكتبي في ذلك المساء لتدعوني ،فمَن كّلمك على ذلك المريض ؟
كيف استطعت أن تعرفه ؟
فحدث ما لم يكن دون بوسكو يتوقّعه ،فنظر اليه الصب ُيّ نظرة حزينة وأخذ يبكي ،فلم
يجرؤ دون بوسكو على أن يسأله أسئلة أُخرى ،ولكنه فهم أن في مصلاه صبيّاً يكَلّم الله .
أأستطيع أن أرى من الفردوس أترابي ؟
في شباط 1322اشت َدّ البرد في الشتاء أشتداداً عظيماً ،وازداد لون دومنيك سافيو شحوبا ،
واستولى عليه سعال عميق يهزّه وأخذت قواه تذهب بسرعة ،فاستولى الهَمّ على دون بوسكو فدعا
طبيبين ليفحصاه .أعلن الاستاذ فالّوري ( )Vallauriبعد فحص دقيق :
-ان بنيته الضعيفة ،وجهده الفكريّ المتواصل هُما كمبردَين ينالان من حياته .
قال دون بوسكو ُملحّاً :
-ما الذي يمكنني أَن أَصنع له ؟
فه َزّ فالّوري كتفيه آسفا ،ولم يكن للطبّ في تلك الأيام من وجود حقيقي .قال :
-أعدِه إلى وطنه ليتن َشّق هواءه و ًمره أن يقطع دروسه بعض الوقت .
فلما علم دومنيك بالقرارات ،أذعن لها ،ولكن ساءَه كثيراً أن يترك دروسه وأصدقاءه ،ولا

27.5 Page 265

▲back to top


سيمّا دون بوسكو .
-ولكن لماذا لا تُريد الذهاب إلى أهلك لتتمتع بوجودهم ؟
-لأني اودّ أن أُنهي حياتي هنا في المصلّى .
-لا تتكلم هكذا .الآن تذهب الى بيتك لتُشفى ثم تعود .
فابتسم دومنيك وهزً رأسه فقال :
-لا ،لن يكون هذا .سأذهب ولن أعود .دون بوسكو ،هذه آخر م َرّة يمكننا أن يكَلّم
الواحد منا الآخر .قل لي :ماذا يمكنني أن أعمل أيضاً لل َرّبّ ؟
-ق َدّم له آلامك م ّراتٍ كثيرة .
-وماذا أيضاً ؟
-ق ِدّم له حياتك أيضاً .
-أيمكنني أَن أرى من الفردوس أترابي في المصلّى ،وأهلي ؟
تمتم دون بوسكو ،وهو يحاول أن يملك نفسه :
-أجل .
-وسيمكنني أن أجيء إليهم لأراهم ؟
-اذا شاء الرب ،أَمكنك أن تعود .
يوم الأحد في أول آذار (مارس) سلّم أشد سلامه تأثيراً على أصدقائه في الجمعيّة ،ثمّ جاءت
عربة أبيه التي ستنقله الى موندونيو .ولما وصل زاوية الشارع ل َوّح بيده مرّة أُخرى ،ليسلّم على
المصلّى ،وأصدقائه ،ودون بوسكو العزيز عليه ،وقد لِبثوا ينظرون ،وبهم حزن شديد ،الى
العجلة التي تبتعد .ذهب أحسن تلاميذه ،القديس الصغير الذي قدمته السيّدة العذراء مريم
ثلاث سنوات الى مصلاّها .
مات ميتةً شبه فجائية في 0آذار ( مارس) ، 1322وأبوه بالقرب منه ،ولم يقوَ إِلاّ بكَ َد على
أن يتمتم :
-وداعاً ،يا أبتاه . . .كان خوري الرعيّة يقول لي . . .ولكن لا أذكر قوله .. .ما أجمل
ما رأه . . .
أَعلنه البابا بيوس الثاني عشر قديسا في 12حزيران ( يونيو) . 1021إنّه أَول قديس في
الخامسة عشرة من عمره .
الوشاح الاحمر كالدم

27.6 Page 266

▲back to top


رآه دون بوسكو مرة في ال ُحلم الكبير الذي حلمه في لانتسو ( )Lanzoليلة السادس
من كانون الأول ( دسمبر) السنة . 1326وقد شغلت روايته عشر صفحات من المجلد الثاني
عشرة لذكريات السيرة .واننا ُنضطَرّ الى إِثبات ُملَخّص لها فحسب .
" كان يُخَّيل إل َيّ أَنّي على جانب سهل واسع ج ّداً أزرق كالبحر لا ماء فيه :كان أشبه
بالبلّور الصافي الب ّراق ،وكانت تتهادى في الجو أنغلم موسيقى لطيفة ج ّداً .
فاذا بحشد من الأحداث يظهر ،لا يُحصَى عددهم .عرفت منهم أُناساً كثيرين ج ّدا :لقد
كانوا في المصلّى وفي معاهدنا الأخرى ،ولكن لم أَعرف أكثرهم .وكان ذلك الجمع الضخم يتقدّم
نحوي ،وكان يمشي على رأسهم سافيو دومنيك فيتبعه لوقته عدد كبير ج ّداً من الشمامسة
والكهنة ،يقود ك ُلّ منهم موكباً من الأحداث .
فانفصل سافيو دومنيك وحده ،ووقف قريبا جداً مِنّي حتى إنّي لو مَددتُ يدي َلَلمستُه حقا
ما كان أَجمله ! كان عليه ثوب ناصع البياض ينحدر إِلى قدميه ،وكان يش ُدّ وسطه وشاح عريض
أحمر ،وكان على رأسه إِكليل من الورد وكان أشبه بملاك .
سألني دومنيك سافيوا :
-لماذا تظلّ صامتًا ؟ ألست ذلك الر ّجل الذي لم يكن في الماضي يرتجف من شيء ،ويجابه
افتراء الكذب عليه ،والاعداء والهموم والأخطار من ك َلّ نوع ؟ لماذا لا تتكلّم ؟
فتمتمتُ :
-أأنت سافيو دومنيك ؟
-أنا هو .ألا تعرفني ؟ جئت لأكلّمك .كم كَلّم الواحد منا الآخر في الأرض ! كم برهنتَ
لي عن صداقتك .ألَم أل َبّ المودَّة الشديدة ؟ كانت ثقتي بك كبيرة !
-ولكن أين نحن ؟
-أنت في مكان السعادة!
-لماذا لبستَ هذا الثوب البهيّ ؟ ولِمَ هذا الوشاح الأحمر على وسطك .
فأنشد صوتٌ كلماتِ الكتاب المقدس " :إِنهم أبكارٌ يصحبون الحمل كيفما سار " .
ففهم ُت حينئذ أَن هذا الوشاح الاحمر اللون كالدم هو علامة الإِماتات التي بذلها ،لا بل علامة
الاستشهاد الذي عاناه لحفظ فضيلة العفاف .فبياض الثوب هو علامة براءة المعموديّة المصونة .
-لماذا َتسير أَمام الآخرين ؟
-أنا سفير الله .وأمّا الماضي ،فأؤ َّكد لك أن رهبانيتك صَنعت كثيراً من الخير .أترى عدد
الشبان الذي لا يُحصى ؟ أنتَ الذي أنقذهم ،أو أنقذهم ،أو أَنقذهم كهنتك أو شمامستك أو الآخرون الذين
جعلتهم على طريق الدعوة .ولو آمنتَ إيماناً أشدّ ووثقتَ ثقة أعظم بالرب لكان عددهم أكبر

27.7 Page 267

▲back to top


كثيراً ج ّداً .
-والحاضر ؟
م َدّ دومنيك طاقة زهور إل َيّ :ورد وبنفسج وزنبق وسوسن وسنبل قمح ،وشرح لي :
-قَ َدّمها لأبنائك .الورد يمّثل المحبّة ،والبنفسج التواضع ،والسوسن التقشّف ،والزنبق
العفاف ،والسنبل محبّة القربان المقدّس .
-والمستقبل ؟
-إِعلم أ َنّ الله ُيعِدّ أشياء عظيمة لرهبانيّتك .إِن مجداً عظيماً ينتظرها ،ولكن اسهر لئلا
يخرج السالسيّون عن الطريق السويّ الذي َدَللتهم عليه .إِذا ظل ذووك أهلاً لرسالتهم الرفيعة ،
فإن المستقبل سيكون رائعا وينقذ عدداً من الناس لا يُحصى ،بشرط ان يكون أبناؤك من الذين
يك ّرمون العذراء القديسة وُيحسنوا التم ُسّك بفضيلة العفاف التي ُترضي الله أعظم رضا .
-وأنــا ؟
-آه ،لو كنت تعلم كم من المعارك يجب عليك أن تثبت لها أيضاً .
فممدتُ يدي لأمسك هذا الصبي الصغير القديس ،ولك َنّ يَديه أفلتتا مني كأنهما من الهواء
ولم يمكنني أن أُعانقه . " . . .
11
" أراهب أم غير راهب
إني أبقى مع دون بوسكو"
ذات يوم من صيف 1322استقبل الوزير راتاتسي دون بوسكو ،فدار الحديث على
مشروع المصلّيات والوزير يُق ّدره ،ولا سّيما منذ الخدمة التي ق ّدمها الأحداث في أيّام الكوليرا ،
ومنذ حكاية ال َسّجن العامّ .روى لموان أَن الحوار دار على النحو هذا :

27.8 Page 268

▲back to top


-أتمنّى ،يا دون بوسكو ،ان تعيش طويلا ،ولكنّك ستموت انت أيضاً ،فماذا يكون
مصير صبيانك ؟
-أُحيل عليك السؤال ،يا سيدي الوزير .ما الذي أستطيع أن أعمل في سبيل بقاء
مشروعي ؟
-في رأيي أَنه يجب اختيار بعض العلمانّيين ورجالاُ من الكنيسة تثق بهم ،فتؤّلف
جمعيّة وتُد ِخل إليهم روحك ،وتَبثّ فيهم نظامك ،فيكونوا الآن معاونيك وتابعيك غداّ .
ابتسم دون بوسكو وقال :
-لكنك عملتَ أنت بنفسك قبل سنتين ليُوافَق عل قانون يقضي بإلغاء عدد كبير من
الجماعات الدينية .والآن تعرض أنت بنفسك جماعة جديدة .أتَدَعُها الحكومةُ تعيش ؟
فابتسم راتاتسي وأجاب :
-إنّي أَعرف قانون الإلغاء معرفة حسنة .يمكنك إِنشاء جمعيّة ليس لأي قانون ان ُيلغيها .
-وكيف يكون ذلك ؟
-لا تستطيع دولة علمانيّة ان تعترف أبدًا بجمعيّة دينية تابعة للكنيسة أي لسلطة غير
سلطتها .ولكن إذا أُنشٍئَت جمعيةٌ يحفظ فيها ك ُلّ عضو حقوقَه المدنيّة ،ويخضع لقوانين الدولة ،
ويدفع الضرائب ،فإنّ الدولة لا يُمكنها أن تقول أ َيّ سيء كان .فأن هذه الجمعيّة عند الدولة
ليست سوى ائتلاف مواطنين أحرار يتّحدون ويعيشون معاً لغاية الإحسان ،كما يّتحد غيرهم لغاية
تجارية أَو صناعية ،أو للتعاون المتبادَل .فإذا تقَّبل ،فوق ذلك ،هؤلاء الشركاء في ِس َرّهم سلطةَ
المطارنة والبابا ،فإنّ الدولة تتركهم وشأنهم .فإ َنّ كل جمعيّة لمواطنين احرار ُمرَ َخّصة ،طالما ترعى
قوانين الدولة وسلطتها .
شكر دون بوسكو الوزير وأ َكّد له أنّه سيفكّر في الأمر .إن راتاتسي لم يتع َدّ إبراز في صيغة
واضحة الأفكار التي يجول في خاطر دون بوسكو منذ أعوام كثيرة ،فيحاول أن ينشئ جمعيّة رهبانية
" في نظر الكنيسة " ،يكون أعضاؤها مواطنين أحراراً " في نظر الدولة" .والصعوبة الكبرى هي
أَيرضى الكرسّي الرسوليّ هذه الصيغة الجديدة التي ُتسِلّم بمبداُ الأحرار القائم بالفصل بين الدولة
والكنيسة ،وتُحدث ثورة في الأشكال التقليدية لتنظيم الحياة الرهبانية .كان الرهبان الى ذلك
الحين ُيعدّون رهباناً " في نظر الكنيسة وفي نظر الدولة على ح َدّ سواء " .
أول معالم للرهبانية الناشئة

27.9 Page 269

▲back to top


بينما دون بوسكو يفكّر في " صيغة" الرهبانية كان أيضاً في همّ من الأشخاص الذين قد يؤلّفون
هذه الرهبانية .لقد تركه معاونوه الكهول ،الواحد تلو الآخر .إِنّ السيدة العذراء مريم دلّته في
أحلامه على الطريق الذي يجب عليه أن يسلكه :ُيخرج الرعاة من القطيع .
نذر ميشيل روا ( )Ruaفي آذار (مارس) 1326نذوره الأولى ،فجاء دور الأب الاسوناتيّ
)Alasonatti(بعد بضعة أشهر ،ودور يوحنا فرنتشيسيا ( )Francesiaفي السنة ، 1326وهو نظم
للمناسبة قصيدة فخمة باللاتينية .
ولكن ما من أحد من هؤلاء الثلاثة يفكّر أن يكون عضواً في " رهبانية" .هم يعتقدون أََّنهم
مرتبطون بدون بوسكو أكثر من غيرهم قليلاً ليساعدوه .
واستمرّ دون بوسكو في حذره الشديد :إِن الرهبانيّات و " الرهبان" كما ُي َسمّون لا يحظون
بالتقدير في تلك الأيام .فقد اجتنب بِدَقّة " ك َلّ مظاهر العادات المألوفة في الاديار :فلا تأ ُمّل في
أوقات محدّدة ولا صلوات طويلة ،ولا أعمال تق ُشّف " ،على ما روى تشيريا ( . )Ceria
حتى 1320ما من شيء ُيؤ ّهل دون بوسكو لأن يعلن نفسه " رئيس رهبانية" .حوله عدد
حسن من رجال الكنيسة تلقّوا الثوب منه .ولكن أَمكن ذلك لأمر واحد ،وهو أ َنّ رئيس الأساقفة
رأى ضرورته " لمشروع المصلّيات " .ثم ان رجال الكنيسة هؤلاء ُألُ ِزموا أن يق ّدموا فحصاً لدى
الهيئة الادارية لمطرانية المدينة ،وهم يتبعون دروس معهد الكهنوت ولا يُعفى أناسٌ منها الا اذا لم
يمكن الاستغناء عن عملهم .كان دون بوسكو يدير المصلّيات وداخلية فالدو ّكو فالشمامسة ،وهو
خاضع لسلطة رئيس الأساقفة ،المطران فرانسوني ( . )Fransoni
لم يكن للرهبانية من معالم ظاهرة ،غير أن جوهرها أخذ يتشكّل ،وكان لا بدّ من أن تُخَطّ
معالم الرهبنة الناشئة ،بوضع قانون يح ّدد الأمور الجوهرية التي تُبرز روحها وخطتها .
فباشر دون بوسكو ذلك العمل في ، 1322من غير أَن يقول لأحد شيئاً ،فاقتبس من خبرته
الشخصية ،ومن القوانين التي كان قد أنشأها للمصلّى ،واستشار ،وبحث بدقة في قوانين
الرهبانيات القديمة والاكثر حداثة ،مثل مؤسسة المحبة لروسميني ( )Rosminiوأعضاء مؤسسة
الأب لانتيري ( . )Lanteri
كان الحديث الذي دار بينه وبين راتاتسي ( والذي فيه اقتصر الوزير على تكرير ما عرضه
علانية في مجلس النواب) شعاعَ النور الذي أوضح له كيف يوُفّق بين جوهر الحياة الرهبانية
والشروط الجديدة التي تفرضها الضرورات السياسيّة .دافع دون بوسكو بحزم بعدئذ عَمّا لرهبانه
من حقوق مدنيّة .
في آخر السنة 1322كان الن ُصّ الاول للقانون السالسّي قد أُعِدّ ،وحان البدء في العمل

27.10 Page 270

▲back to top


المُضني للحصول على موافقة ال ّسلطات الدّينية .
أظهر المطران فرانسوني المَنف ُيّ الى ليون تشجيعاً كبيراً لمبادرة دون بوسكو ،ونصح له
الذهاب إِلى بيوس التاسع ليُ َكَّلمَه على مشروعه ،بغيةَ الحصول على زيادة من الضمان .
مقابلة للبابا
في الأيام الأولى من شباط ( فبراير) 1323قضى ميشيل روا ساعات كثيرة من الليل في
نسخ كتاب القوانين بخ َطّ أنيق ،فقد أوصاه دون بوسكو فقال :
-أحسِن نسخه ،فسنحمله معاً إلى البابا .
في 13شباط ذهب كلاهما إلى رومة ،وكان السفر طويلا شاقاً في ذلك العصر :كان قسم
من سفرهما َبرّاً ،والقسم الآخر بالبحر وهما يحملان جوازاً منظّماً .واستحسن دون بوسكو قبل
ذهابه أن يكتب وصَيّته ،فعهد بالمصلّى إلى الأب الاسوناتّي .
وفي 0آذار ( مارس) حظي دون بوسكو بمقابلة أُولى من بيوس التاسع ،فأظهر له البابا
عطفاً لن ينقص أبداً ،ولم ُيخفِ إِعجابه الشخصي بما للكاهن التورينّي من نشاط فياض ،ووافق
على قصده إنشاء رهبانية تلائم عصره ،ولكنه أضاف بعض الوصايا أه ُمّها أن َيربط الاعضاءُ
بعضهم ببعض لا بوعود كما أوصى راتاتسي بل بنذور رهبانية حقيقية .وقال البابا لدون بوسكو إنه
يحتاج إلى التفكير " :إذهَب فص َلّ وعُد بعد بضعة أَيّام فأقول لك رأيي " .سُ َرّ دون بوسكو بهذا
الاستقبال ،فأعاد النظر في نصّ القوانين مرة أُخرى واستنسخه الأب روا .
31آذار .المقابلة الثانية ليبوس التاسع .فكّر البابا وأوضح رأيه :
-إني على يقين من أن مشروعك سَيمكنه أن يصنع كثيراً من الخير إلى الشبيبة ،فيجب
تحقيقه .لِتًكن القوانين لِّيّنة ،يسهل العمل بها .لا َيلفَت َنّ الأنظار إِليكم طرازُ لبسكم ،ولا أعمال
التقوى .ولذلك فلرَبّما كان الكلام على جمعيّة ،أفضل من الكلام على رهبانية .وخلاصة
القول ،اجتهد أن يكون ك َلّ من الأعضاء راهباَ في نظر الكنيسة ومواطناً في نظر الدول .
رأى دون بوسكو لوقته أنّ بيوس التاسع وراتاتسي يكادان أن يكونا على وفاق ،فقدّم للبابا
الن َصّ المختصر للقوانين وقال :
-ان هذا النظام الذي نَُقّح وفقاً لوصاياك يحتوي القانون والروح اللذين يقوداننا منذ
عشرين سنة .
ليس في القوانين شيء رهبانيّ ،بل يدور فيها الكلام على جمعيّة لرجال من الكنيسة
والعلمانيين تؤلّف بينهم النذور ،ويرغبون في نذر أنفسهم لخير الشبيبة الفقيرة .إنّهم لدى الدولة

28 Pages 271-280

▲back to top


28.1 Page 271

▲back to top


مواطنون " :لا يفقد أحد منهم ،عند دخوله الجمعية ،حقوقه المدنيّة حتى بعد نذره النذور ،لأنّه
يحتفظ بملكية ما عنده " .وأمّا عند الكنيسة فإنّهم رهبان ":يجب أن يضع ك ُلّ منهم حقّ الانتفاع
تحت تص ّرف الرهبانية طوال أيام بقائه فيها " .
روى الأب تشيريا ( )Ceriaفي حَوليّات الجمعية السالسيّة " :إنّ بيوس التاسع في المقابلة
الثالثة والأخيرة في 6نيسان ( أبريل) أعاد الكتاب إليه وهو يقول له أن ُيسِلّمه إلى الكردينال كودي
. " )Gaude (
كانت العلاقات بين هذا الكردينال البيمونتّي ودون بوسكو حسنة جداً ،فقرأَ الكاتب ونقّحه
أيضاً ،ثم نصح لدون بوسكو أن يحاول العمل بهذه القوانين المنقّحة على هذا النحو ،ثم يعود الى
المثول لدى البابا .
وغادر دون بوسكو رومة في 11نيسان .
اسبوع واحد لتقرير مصير حياته
0كانون الاول ( دسمبر) . 1320رأى دون بوسكو أنه حان الوثت ليتكلم صراحة على
رهبانية ،فوجّه كلامه الى السالسيّين التسعة عشر المجتمعين في غرفة على هذا النحو تقريباً :
" ف َّكرتُ منذ مدة طويلة في إِنشاء رهبانية ،فهذا هو الوقت للانتقال من الكلام الى العمل .
إِنّ الأب الاقدس بيوس التاسع ش َجّع مشروعي وباركه .لم تُبصر الرهبانية النور هذا اليوم ،فقد
كانت قائمة بمجموعة القوانين التي عملتم بها دائما عملا تقليديّاً . . .والآن يجب السير إلى الأمام ،
وإِنشاء الرهبانية رسمياً وتَُقّبل قوانينها .ولكن اعلموا أَنّه لن ينتسب إليها سوى الذين
ُيريدون ،بعد ما يفكّرون بِجدّ ،أن ينذروا في الوقت المحدّد نذور الفقر والعفاف والطاعة . . .
أترك لكم أسبوعاً لتفكّروا في الأمر " .
ساد في آخر الاجتماع سكوت غير مألوف ،وسرعان ما تحققوا ،لما انحلّت عقدة الألسنة ،
أنّ دون بوسكو كان على صواب في سلوك الطريق ببطء وحذر .كان أُناس منهم يدمدمون أَ َنّ دون
بوسكو يريد أن يجعل منهم رهبانا . )1(
وكان كالييرو ( )Caglieroيخطو خطوات واسعة ذهاباً وإِيابا في الساحة ،تنازعه مشاعر
مضادة .
ولكن الرغبة " في البقاء مع بوسكو " فازت بموافقة الأكثرية ،فلفظ كالييرو العبارة التي
أصبحت تاريخية " :أراهبٌ أم غير راهب ،إنّي أبقى مع دون بوسكو " .
في "جلسة الانتساب" التي عقدت مساء 13كانون الأول لم ينقص سوى اثنين من التسعة

28.2 Page 272

▲back to top


عشر الذين حضروا الاجتماع السابق .هذا هو مختصر محضر الجلسة الذي كتبه الأب الاسوناتّي :
" في غرفة الكاهن يوحنا بوسكو في الساعة التاسعة من المساء ،اجتمع الأب بوسكو
والكاهن فيتّوريو ألا سوناتيّ ( ، )Alasonattiوالاكليركيون أنجلو سافيو ( )Savioالشمّاس
الانجيلي ،وميشيل روا ( )Ruaالشمّاس الرسائلي ،ويوحنا كالييرو ( )Caglieroويوحنا المعمدان
فرنتشيسيا ( ، )Francesiaوفرنسيس بروفيرا ( ، )Proveraوكارلو غيفارلّو ( ، )Ghivarello
ويوسف لازّيرو ( ، )Lazzeroويوحنا بونّيتي ( ، )Bonettiويوحنا أنفوسّي ( ، )Anfossiولويس
مارسلّينو ( ، )Marcellinoوفرنسيس تشيروتي ( ، )Cerrutiوسلستينو دوراندو ( ، )Durando
وسكندو بتيّفا ( ، )Pettivaوانطون روفتّو ( ، )Rovettoوقيصر يوسف بونجيوفانّي
، )Bongiovanni (والشباب لويس كيانالي ( . )Chianale
وقد سرّ المجتمعين أن يجعلوا من أنفسهم جمعية او رهبانية . . .فرجوا بالاجماع من دون
بوسكو المنشئ والباعث أن يقبل منصب الرئيس الأعلى ،فقبله بشرط أن يختار نائباً ،فبدا له ألاّ
يبدّل من هذا المنصب كاتب هذه الاسطر . . .
وانتُخِب بالاجماع الشماس الرسائلي روا ميشيل مرشداً روحياً ،وانتُخب أنجلو سافيو
وكيلاً للمال معترفاً به ،وكان المستشارون الثلاثة الذين انتُخبوا بالاقتراع الشمامسة
كالييرو ويوحنا وبونيتي يوحنا وغيفارلّو كارلو .وهكذا أُقيم إقامة نهائية الهيئة الادارية
لجمعيتنا ( قيل لها بعدئذ المجلس الأعلى للرهبانية ) .
)1كان ذاك اللقب سخرية عند أعداء الكنيسة في ذلك العصر ( حاشية من المترجم) .
" لماذا تبقى في المصلى ؟ "
وُلدت الرهبانية ،فداخل دون بوسكو فرح عظيم .ولكنّي أعتقد أنّه بقي في أعماق نفسه
شيء من الحزن :لم يكن يوسف بوتسيتّي ،وهو عزيز جداً عليه ،بين السابعة عشرة الذين
قبلهم .
فبينما هو يعالح مسدّساً ليدافع عن أمتعة معروضة لأول يا نصيب ،أصيب بحادث جسيم ،
فاضطرّ إلى بتر سبابة يده اليسرى ،وكان ذلك الامر يُع ُدّ في تلك الأيام مانعاُ ذا شأن لاقتبال
الكهنوت .كتب الأب لموان :إِنّ هذا الحادث ،يضاف إليه التواضع ،حمل بوتسيّتي على التخلّي
من الثوب الكهنوتي .
ولكنه كان يقدّم كلّ ساعة من يومه لدون بوسكو " العزيز عليه" ،وللمصلّى .كان مسؤولاً

28.3 Page 273

▲back to top


عن صيانة البيت ،على ما اوضح لموان ،وكان يراقب غرفة الطعام ،فيهيء الموائد ،ويهتّم
بالنظافة ،ويُلقي دروس التعليم الدينّي ،ويسَّير شؤون القراءات الكاثوليكية ويرسلها .وكان
يدير صفّ الغناء ،الى أن ترك امره ليوحنا كالييرو سنة " . 1368كان بما له من فكر ثاقب وحميّة
ونشاط ،روح كل يانصيب ،وكان يذهب ليحصل على الطلبات للورشات ،ويشتري الخبز
ويدفع النفقات " .
كان المصلّى عنده فلذة كبده .ولّما انهار البنيان الذي كاد أن يتمّ ،فلّى قوائم الحساب بأَقصى
ال َدّقّة ،فوجد طلبات موادّ من صنف رديء ،فلام المتع ّهد لوماً شديداً ،فاض ُطرّ دون بوسكو هو
نفسه إلى تهدئته :
-يجب علينا أن نتحلى بالصبر .إنّ الرَبّ سيعيننا .
-أجل ،أجل سيٌعيننا .ولكّنك في أثناء ذلك ،تسهر وتعمل نهاراً وليلاً لتحصل على
بضعة مئات من الليرات ،في حين أنّ هؤلاء يسرقون آلافا منها في لحظة .إِنهم يحتاجون إلى أن
ُيلَّقنوا درساً حسناً .
-لندع الأمور تجري .اذا احتاجوا إِلى ذلك الدرس ،فإنّ ال َّرب سوفَ يلقّنهم إِيّاه .
أضاف لموان ( وعنه اخذنا هذا الحوار ) أَن بوتسيتّي كان يعمل الملاك الحارس لدون
بوسكو ،فيرافقه عندما كان ُيخشى أن يكون في خطر ،ويذهب الى لقائه عند المساء .فإنّ قامته
القويّة ولحيته الشقراء الكثّة ر َدّتا عدّة أشرار عن رغبتهم في الهجوم على كاهن فالدوكّو .سأله إخوته
البنّاؤون ( قد صار كارلو أخوه معلّمَ بناء ماهراً ) أكثر من مرّة :
-إِذا كنتَ لا تريد أن تصير كاهنا ،فلماذا تبقى في المصلّى ؟ اذا مات دون بوسكو ،فماذا
تعمل ولا صناعة بكَ ؟
-أ َكّد لي دون بوسكو أَنّه سيكون في متناولي كسرة خبز حتى بعد موته ،وهذا كا ٍف لي .
ومع ذلك فإن هذا الشابّ الذي بلغ السابعة والعشرين في السنة ، 1320والذي لم يكن
ليُحجم عن بذل حياته في سبيل دون بوسكو ،أبى أن ينذر نفسه ،وأن يصير سالسيّاً .
كان يوسف روسي ( )Rossiأوّل علماني قُبل في الرهبانية السالسيّة .اجتمع المجلس الأعلى
للرهبانية السالسيّة لكي ينظر في قبوله في 2شباط ( فبراير) ، 1368ولدى دخول روسيّ ظهرت
كلمة " معاون" في لغة الرهبانيّة ويُقصد بها السالسيّ العلمانيّ .
أزمة يوسف بوتسيتّي
إِن اليوم الرابع عشر من أيــار ( مايو) 1362ُيعدّ مرحلة جديدة في إِنشاء الرهبانية

28.4 Page 274

▲back to top


السالسّية ،فقد اجتمع " اخوان " دون بوسكو على حسب عادتهم في غرفته الصغيرة ولبّوا نداءه
" فوعدوا الله أن يحفظوا القوانين بنذرهم الفقر والعفاف والطاعة ثلاث سنوات ."وكانوا اثنين
وعشرين ،ما عدا المنشئ .
وختم دون بوسكو الاجتماع بقوله " :بينما تنذرون هذه النذور لي النذور لي نذرتُها أَنا أيضاً لهذا
الصليب ،طوال أيام حياتي مَُق َرّبا نفسي ذبيحة لله " .
وكان في جماعة الاثنين والعشرين علمانَِيّان أيضا ،يختلف الواحد منهما عن الآخر اختلافاً
حقيقيا .فالأول هو يوسف غايا ( )Gaiaوقد صار طوال سنين كثيرة طباخ المصلّى ،وأمّا الآخر ،
وهو فديريكو اوريليا دي سانتو ستفانو ( ، )Oreglia di S.Stefanoفقد كان من الطبقة
الأرستقرطية في تورينو .وكان دون بوسكو قد ربحه في رياضة روحيّة فجعله يُنهي مدة من حياته
قضاها في المغامرات ،فخدم المصلّى طوال تسع سنوات خدمات كثيرة ،ثم دخل الرهبانية
اليسوعيّة .
تعرّض المصلّى بسهولة ،في السنوات التي تبعت ،لهذه التجربة وهي ان يَعُدّوا الذين ليسوا
كهنة أو شمامسة " خدم" البيت ،أو على الأقل " ،فرعاً من درجة ثانية " .
وُيرجّح أن " أزمة " بوتسيتّي نشأت في هذه الأحوال .رواها الأب لموان في المجلد
الخامس لذكريات السيرة ،ونحن نختصر مارورد فيها .
شعر أنّ الحياة القديمة ،حياة الأسرة ،توشك أن تُب ّدلها الأنظمة ،ورأى ان ادارة البيت
تنتقل شيئاً فشيئاً الى أيدي رجال الكنيسة ،ومثلها المناصب التي كان قد ُعهد بها إليه في أوّل
الأمر .فحمله الحزن وفتور ال ِه ّمة على الذهاب ،فوجد عملاً في تورينو ومضى إلى دون بوسكو
ليودّعه .قال له بصراحته المألوفة إنّه سيُصبح من بعد اليوم غير نافع ،وأنه سيجب عليه أن يُطيع
من رأهم يدخلون أطفالاً صغاراً فعّلمهم كيف يمخطون .وأعرب عن حزنه الشديد لا ضطرره الى
مغاردة ذلك البيت ،وقد رآه يكبر منذ أيام مستودع بيناردي .
لم يُجبه دون بوسكو " :تتركني وحدي .كيف أعمل من دونك ؟ ."لم يرِث لنفسه ،
بل ف ّكر فيه ،في أع َزّ صديق له ":وهل وجدتَ عملاً ؟ هل يدفعون لك أُجرة حسنة ؟ لا مال
عندك ،ولا ريب في أنّك تحتاج إلى شيء منه من أجل نفقاتك الاولى " .فتح درج مكتبه " :أنت
مطلّع على هذه الأدراج أحسن منّي .خذ ك َلّ ما تحتاج إليه ،واذا لم يكفِك ما فيه ،فقل لي ماذا
تحتاج اليه فأجده لك .يا يوسف ،لا أريد أن تحرم نفسك من أجلي " .ثم نظر إليه بتلك المحبة
التي له وحده أن يُظهرها لصبيانه وأضاف " :لقد عشنا معاً دائماً على أحسن وجه .أرجو ألاّ تنساني
أبداً " .
فأخذ توتسيتّي يشهق وبكي طويلا ،ثم قال " :كلاّ ،لا يسعني أن أترك دون بوسكو .

28.5 Page 275

▲back to top


أبقى معك دائماً أبداً " .
" المعاون" الذي شُغِف به قلب دون بوسكو
ولا شك في أ َنّ هذا الحادث هو الذي دفع دون بوسكو الى إحكام تحديد مثال السالسيّ
العلمانيّ " ،المعاون " في الرهبانية السالية .
31اذار ( مارس) . 1326في " كلمة للمساء" خاصة بطلاب الصناعة ،أوضح ما هي
دعوة السالسّي العمانيّ " :تنبّهوا إلى أنّه ما من فرق بين أعضاء الرهبانية .إنهم يُعا َملون كُّلهم
المعاملة نفسها ،سواء اكانوا عمّالاً أم شمامسة ام كهنة :إنّنا َنعُ ُدّ بعضنا إخوة " .
في السنة 1322عزم بوتسيّتي على طلب الدخول في الرهبانية السالسيّة ،فأراد دون بوسكو
أن يق َدّم هو بنفسه هذا الطلب الى المجلس الأعلى المؤّلفِ كّله على وجه التقريب من هؤلاء الاطفال
الذين " عّلمهم كيف يمخطون " .فَقُبِلَ باجماع الأصوات ،وأعتقدُ أن ذلك اليوم كان من أجمل
الأيام لقلب دون بوسكو .
إن كثيراً من " المعاونين" الآخرين صاروا أعضاء في الرهبانيّة السالسية وتولّوا مختلف
الأعمال :فبيلاتسا ( )Pelazzaوغامبينو ( )Gambinoهما رئيسا ورشة ،ومرسيل روسيّ ( )Rossi
ب ّواب ،وناسي ( )Nasiمم َّرض ،ويوسف روسيّ ( )Rossiمدير الشؤون الادارية ،وإنريا ( )Enria
يتولّى كل خدمة ،وفالكو ( )Falcoوروفاتو ( )Ruffatoطبّاخان ،ولكنهم " يعاونون" كُّلهم
الكاهن باعمال رسوليّة ،فيد ّرسون التعليم الديني وهم ناظرون و ُمرَُبّون .
ان " التجربة" التي تكلمنا عليها آنفاً تك َّررت في السنوات الأخيرة من حياة دون بوسكو .
فلما اجتمعت الهيئة العليا للرهبانية في ،1 333وكان ذلك اجتماعها الثالث ،قال بعضهم :
"يجب إبقاء المعاونين في الدرجة الثانية وإِنشاء فرع خاصّ بهم " .فر ّد عليه دون بوسكو بح َدّة :
" لا ،لا ،ولا .ان إِخوتنا المعاونين هم مثل سائر الاعضاء " .وفي تلك السنة أكّد تأكيد شديداً
وهو يح ّدث السالسيّين المعاونين " :يجب أن تكونوا قادة لا أُجراء أو ُعمّالاً .يجب أن تكونوا بمنزلة
أرباب عمل بالنظر إلى سائر العمال ،لا بمنزلة مستخدمين . . .هذه هي فكرة المعاون السالسيّ .
إنّي احتاج إِلى الحصول على عدد كثير من هذا النوع ،يأتون فيساعدوني .ولذلك َيس ُرّني أن يكون
لكم ثياب نظيفة تليق بكم وغرف وأسِ َرّة حسنة فلا تكونوا مرؤوسين بل رؤساء " .
أكّد بطرس برايدو ( )Braidoوهو المختص بالمسألة " :إ َنّ صورة المعاون ( وفقا لروح
دون بوسكو) لا تبرز خليقة كلها جديدة مبتكرة ،بل تظهر ظهوراً مُتَ َد َرّجاً من خلال التردّد
والارتياب " .

28.6 Page 276

▲back to top


نبيح لنفسنا أن نؤكّد أ َنّ الصورة المثالية للمعاون الذي ُشغق به قلب دون بوسكو طوال تلك
السنين الكثيرة ،كانت في الأرحج صورة يوسف بوتسيتّي :وَفّ ٌيّ على الإِطلاق ،متواضع ،حاضر
دائماً أبداً في الأوقات العسيرة الدقيقة ،ينظر إلى المصلّى نظره إلى ُأسرته وفلذة كبده ،وينشرح
صدره لأن " ُأسرته" تنمو :إنّه لا ُيحسن فهم الأمور القانونية ،ولكنه يريد أن " يبقى مع دون
بوسكو دائماً أبداً " .
11
سبعة من رجال الدرك لاجل صبي
في السنين التي تبعت 1328سعى دون بوسكو كثيراً لتَتَفََتّح رهبانيّته السالسيّة .ولكن من
الخطأ الجسيم أن يَُفكّر المرء أن الهموم والأسفار واللقاءات لإِنشاء الرهبانية َفصلَت دون بوسكو عن
الأحداث .ما كان دون بوسكو " رئيس عمل " قط بل " أبو ُأسرة" وهو يع ُدّ حضور الأحداث أمراً
جوهرياً في الأسرة .

28.7 Page 277

▲back to top


فما ان يعود من أسفاره ومواعده وأعماله حتى يجلس الى كرسي الاعتراف .إنّه يفكر دائماً
أبداً بصبيانه ،في غرف الانتظار وفي رومة وفي المحطة عندما ينتظر القطار .
كان ينتظر في محطة كارمانيولا ( )Carmagnolaفي مساء يوم من أيام الخريف ،وقد انتشر
الضباب فلجأَ سائر المسافرين القليلين الى غرفة الانتظار ،هرباً من البرد الرطِب .وأمّا دون
بوسكو فقد سمع أصوات صبيان يلعبون ،فبحث عنهم ،وهو يح َدّق بنظره من خلال الضباب .
كتب ":كنت أسمع بوضوح من بين تلك الأصوات صوتاً يعلوها كلّها ،كأنه صوت قائد
يطيعه كلُّ صبيّ كما ُيطاع الأمر ،فنشأت لد َيّ رغبة شديدة في معرفة ذلك الذي يستطيع أن يرئس
مثل تلك الضجة العجيبة ."
فدنا وما إِن خرج الثوب الكهنوتي من الضباب حتى هرب الصبيان بكل ما لأرجلهم من
قوة " .وبقي واحد منهم غير هيّاب ،ووضع يديه على خصريه ،وكلّمه بلهجة الحزم " :من
أنت ؟ ماذا تريد منا ؟ " .
أَيدع القطار يَفوته أم يفقد صبيا ؟
ح َّدق دون بوسكو إلى هذا الصبي الأشعت الشعر ،فرأى في أَعماق الفائضتين عِزّةَ
حياة جَيّاشة تهدر هدراً .فتحدّث إليه بضع دقائق ،فأزال ح َذره وعلِمَ اسمه " ميشيل ماغونه "
" )Magone (وهو في سِنّ الثالثة عشرة ،لا أَبَ له " ومشروعه للمستقبل " اخترتُ صناعة
الكسل " .
صفّر القطار ،ودون بوسكو يتعرّض لأن يفوته ،ولكن إِذا فقد هذا الصبي كان المصاب
أكبر .فوضع في يديه أيقونةً للسيدة العذراء مريم وقال له بسرعة :
-إِذهب إلى الأب أريتشيو ( ، )Ariccioالكاهن المعاون في كنيستك .قل له إن الكاهن
الذي اعطاك هذه الايقونة ،يوَ ُدّ أن ُيزَ َوّد بالاستعلامات عنك .
تَلَقّى دون بوسكو ،بعدَ بضعة أيام ،رسالة من الكاهن المساعد في كارمانيولا ،جاء فيها :
" إنّ الصبيّ ميشيل ماغونه ولد مسكين ،يتيم الأب .أُمّه مض َط َرّة الى إعالة الأسرة فلا تستطيع
الاهتمام به .إِ َنّ قلة ثباته وطيشه كانا السبب في طرده عدّة مَرات من المدرسة ،بيدَ أنه واظب على
الص ّف الابتدائي الثالث بنجاح و َسط .وأمّا من جهة أخلاقه فانّي أَعتقد أَنّه حسَن النية ،متواضع
في تصرّفه ،ولكن ي َعسر عليه أَن يملك نفسه ،فهو مشاغب على وجه تامّ في أثناء الدروس في

28.8 Page 278

▲back to top


الصف أو في التعليم الدينّي ،فاذا لم يتح ّرك سار كل شيء سيراً حسناَ ،وعندما يذهب يرتاح جميع
الناس .فالسِنّ والفقر والطبع والذكاء ،ذلك كله يجعله أهلاً لكل عناية تتحلى بالمحبة " .
فأجاب دون بوسكو أنّه مستعدّ لأن يقبل الصبيّ في مصلاّه ،إذا وافق على ذلك هو وُأ ُمّه .
فدعا الأب أريتشيو ميشيل وكَلّمه على ذلك الكاهن الذي له في تورينو بيت كبير يركض فيه مئات
من الصبيان ،ويلهون ويدرسون أو يتعّلمون صناعة ،وختم قوله " :إِنّه مستعدّ لقبولك أنت
أيضاً في بيته .أفتريد أن تذهب إليه ؟ " .فتلقّى الجواب " :مرحى ،نعم سأذهب ! " .
رافقته ُأ ُمّه إلى القطار ،ومعها صرة ثياب ،وقد انقبض قلبها من التأثر .وصل ميشيل
ماغونه إلى فالدوكّو .روى دون بوسكو أول حوار دار بينهما على الوجه هذا :
" قال لي وهو يركض نحوي :
-هاءنذا .أنا ميشيل ماغونه ذلك الذي صادفته في محطة سكة حديد كارمانيولا .
-يا صديقي ،أعرف كل شيء .هل جئت بنيّة حسنة ؟
-نعم ،نعم ،ان حسن النية لا يعوزني .
-اذاً أوصيك ألاّ تقلب البيتَ رأساً على عقب .
-آه ،كن على يقين من أني لن أُ َسّبب لك متاعب .أسأتُ السلوك في الماضي ،وأمّا الآن
فلا أُريد ان يتكرر ذلك ،إنّ اثنين من أترابي هما في السجن ،وأنا .. .
-َسكِنّ روعك .قل لي ما الذي تفضّل :الدرس أَم تعُلّم صناعة ؟
-إِني مستعدّ لأن اعمل ما تريد ،ولكن اذا تركتَ لي الخيار أف ّضل الدرس .
-وعندما تنتهي الدروس ،فماذا تُحِبّ أن تصير ؟
-اذا كان لصب ِيّ شرير – . . .قال ذلك ،ونكس رأسه ضاحكاً .
-تابع :اذا كان لِ َصب ِيّ شرير . . .
-إذا كان لِصَبيّ شرير أن يبلغ من حُسن الخلق ما يو َصّله ليصير كاهنا ،فسيسُرّني أن أكون
كاهناً .
-سنرى ماذا ُيحسن صبيّ شرير .سأجعلك تدرس " .
صارت حياته منذ ذلك الحين الغناءَ والصيا َح والركض والقفز والضجة .أجل ،لم يَصِر
قدّيساً صغيرا .انتدبت جمعيّةٌ البريئة من الدنس حارساً بجانبه يساعده ويهذّبه بلطف ،والعمل لا
ينقصه :فهناك الكلام الخشن والعبارات البذيئة والشتائم . . .ولكن ميشيل ،كلما وبّخه
رفيقه ،شكره وعمل بنصحه ،على ما فيه من نزقه .
هناك شيء يكرهه ميشيل من ك َلّ قلبه :الجرس الذي يدقّ ليِذن بانتهاء الفرصة ،ويدعو
إلى الدرس أو الصفّ .إنه ،وهو يحمل كتبه تحت ذراعه ،أشبه بصغير ال َسّنّ حُكِ َم عليه بالاعمال

28.9 Page 279

▲back to top


الشّاقّة .
حــزن صبيّ
كان الجرس الذي يب ّشره بانتهاء الدرس أحبّ اليه كثيرا .كتب دون بوسكو ن وكان يتتّبعه
من كثب ويعطف عليه " :كان منظره كمنظر من يخرج من فوهة مدفع ،فيركض إِلى جميع
الأطراف ويح ِرّك كل شيء " .وكان في الملعب رئيس فريق ،فظل منذ وصوله أشبه بمن لا يُقهَر .
ومضى شهر .
ذاتَ يوم أَخذ ميشيل ينطوي على نفسه .كان يقف في زاوية يَنظر الى أصحابه يلعبون
ويهرب من معاشرة أصدقائه الصاخبين ،ويبكي أَحياناً عندما لا يراه أحد ،فكأنّ منديلاًمن
الحزن ُيغطّي وجهه .روى دون بوسكو :
" كنت ُم ّطلعاً على ما يحدث له ،فدعوتُه ذات يوم فقلت له :
-يا عزيزي ماغونه ،أرغب أن َت ُسرّني ،ولكني آبى أن تر َدّ طلبي .
فأجاب بجـــرأة :
-قل ما تريد ،فإني مستعدّ لأِن أعمل أيّ شيء كان في سبيلك .
-وددتُ لو جعلتَني هُنيهة سّيدَ قلبك ،فصرحتَ لي لماذا أنتَ حزين منذ بضعة أيّام .
-نعم ،هذا صحيح ،ولكنيّ فقدتُ ِه ّمتي ،ولا أدري ما افعل .
وأخذ يبكي ،فتركتُه يعود الى نفسه ،ث َمّ قلت له مازحاً :
-أأنت القائد ميشيل ماغونه ،رئيس عصابة كارمانيولا كلّها ؟ أ ُيّ قائد أنت ؟ إِّنك لا
تقوى على أن تقول لي ما يجعلك حزيناً مثل هذا الحزن ؟
-وددتُ لو استطعتُ ذلك ،ولكني لا أدري كيف أعَبّر عما في نفسي .
-قل لي كلمة واحدة .
-إن ضميري مشوّش .
-حسناً ،ها قد فهمتُ كل شيء .يمكنك ان ُتسَوّي كل شيء أيضًا بسهولة .حسبك أَن
تقول للكاهن في اعترافك لديه إن هناك شيئا في حياتك الماضية تريد إعادة النظر فيه ،وهو يراجع
جميع شؤونك تباعاً على نحو لا يبقى لك فيه سوى أن تقول نعم أو لا " .
كان بعض الكهنة يأتون فالدو ّكو ليستمعوا إلى الاعتراف ،ولك َنّ الصّبيان كَلّهم على
التقريب يعترفون لدى دون بوسكو .في ذلك المساء ،ذهب ميشيل فقرع باب غرفته وقال له :
-يا دون بوسكو ،لرَّبما أزعجتك ،ولكنّ ال َرّ َبّ انتظرني طويلا ،وآبى أن ُأطيل انتظاره ولا

28.10 Page 280

▲back to top


الى غد .
ساعد دون بوسكو ماغونه فوضع عند ق َدمَي الصليب ذنوبه الصغيرة التي كانت تبدو له
عظيمة وطلب منه الغفران .شاهد دون بوسكو تلك القيامة من الموت فكتب " :فقد ميشيل
الفرح لما تَنَبّه إلى أنّ الغبطة الحقيقيّة لا تأتي من القدرة على القفز ،بل من صداقة ال َرّبّ ومن راحة
الضمير .كان يرى أترابه يتق ّدمون ليتناولوا القربان المقدّس فيصبحون أحسن مما كانوا ،في حين
أنه لم يكن يشعر براحة الضمير ،بل كان القلق الشديد يساور فكره . . .لما فرغ من اعترافه قال
بلهجة الفرح :ما أسعدني ! " .
عاد ميشيل في الغد إلى ترأُس فريقه في ساحة المصلّى وسار به إلى انتصار لا يزول ذكره .لقد
عاد َمِلكَ الفرح .
الضربات بقبضة اليد في ساحة كاستلّو
روى بوسكو حكاية ميشيل ماغونه ،فكشف لنا عن الخطة التي جرت بموجبها مئات ومئات
من اللقاءات بينه وبين الصبيان " الذين أخذ الشر يعمل فيهم " .عرف كيف يصالحهم مع الله ،
بوسائل بسيطة ج ّداً ويدفعهم إلى طريق القداسة .
استأنف دون بوسكو كلامه فقال " :لم يبقَ بعد اليوم الجرسُ الذي يدعو إلى الكنيسة ،
بغيضاً لدى ميشيل :إنه يدعوه إلى لقاء يسوع ،وقد أصبح صديقه " .
فوضع بعون دون بوسكو " خ َطّة للمعركة" ليحافظ على هذه الصداقة وينميّها " الالتزام
بأن يحافظ على عفاف تامّ في حياته ،والالتزام التامّ بأَن ُيشعّ المحبة والفرح بين أترابه .
كتب ماغونه في دفتره الشخصيّ سبع عبارات سّماها " رجال الدرك السبعة" للدفاع عن
صداقته للربّ ،وهذه هي :
.1لقاء يسوع مرات كثيرة في تناول القربان المقدس والاعتراف .
.2محبة السيدة العذراء مريم من ك َلّ قلبي .
.3الاكثار من الصلاة .
.1التضرّع إلى يسوع والسيّدة مرات كثيرة .
.2عدم الافراط في حُسن معاملة جسمي .
.6أشغل نفسي دائماً بعمل شيء .
.2الابتعاد من رفاق السوء .
(يسهل على المرء أن يرى ،في هذه الأمور السبعة ،الطريق الذي كان دون بوسكو يعرض
على صبيانه سلوكَه ،لكي يظلّوا صالحين ) .

29 Pages 281-290

▲back to top


29.1 Page 281

▲back to top


كان ميشيل يقود المعركة على جبهة المحبة والفرح باسلوبه العاصف غير المبالي ،وهو يختلف
اختلافًا كبيراً عن اسلوب دومنيك سافيو .هناك ،في جمع صغير منعزل تحت الحنايا ،َيروي صبيّ
حكايات فيها بذاءة ،وأناس من الذين حوله يهتفون ساخرين ،في حين أَنّ غيرهم يودّون الذهاب
ولكنهم لا يجرؤون على ذلك .ادرك ميشيل الأمر كلّه فدنا من الصبيّ من خلف ،وجعل في فمه
أربعاً من أصابعه على طريقة الرعاة ،وَأرسل في أُذنيه صفيراً شديداً ،فقفز الصبيّ من الخوف ،
والتفت وقال حانقاً :
-لقد جُنِنتَ ؟
-أأنا جُننتُ أَم أَنت الذي يروي هذه الحكايات القذرة كالخنازير ؟
ذات يوم استصحبه دون بوسكو ليقضي بعض حاجاته ف َم ّرا بساحة كاستلّو ( ، )Castello
فكان صَبيّانِ يقامران ،فأَخذ أحدهما يكفر كفراً شديداً ،ويشتم اسم الرب ،فأسرع ميشيل إِليه
توّاً ،ولطمه لطمتين على خ َدّيه ،فتلقّى الصب ُيّ اللطمتين مرتكباً ،ولم يكن يتوقعّهما ،ثم رَ ّد عليه
لوقته ،فأخذ ك ُلّ منهما ينهال على الآخر بالضربات العنيفة في حلقة أناس تجمّعوا لينظروا اليهما .
فاض ُطر دون بوسكو إِلى أن ُيلقي بنفسه بينهما ،لكي يفصل الواحد عن الىخرة .فصَّفر ميشيل
قائلا :
-ُأش ُكر هذا الكاهن ،فلولاه لكنتُ ألبستك ثياب العيد .
اص ُط َرّ دون بوسكو الى إقناعه أَنّه لا حاجة به الى ضرب جميع الذين يكفرون .
وليس ميشيل قادرًا على التضارب وغيره فحسب .فقد صار يوما بعد يوم سريعاً الى خدمة
الناس ،سخيّاً ،يساعد ال ّصغارَ على إصلاح سريرهم وتنظيف احذيتهم ،وُيعيد دروس الصف
مع أًقَّلهم ذكاء .
يَد دون بوسكو على رأس ميشيل
بلغ سرور دون بوسكو بسلوكه أَنه استصحبه في الخريف مع أحسن التلاميذ ليقضوا بضعة
أيام عطلة في البكّي .
وفي تشرين الاول ( أكتوبر) بدأ ميشيل سنته المدرسية الثانية في فالدوكّو .
في 31كانون الأول (دسمبر) ،بينما دون بوسكو يُلقي " كلمة المساء " ،أَوصاهم جميعاً
بأن يُحسنوا بدء العام الجديد ويحسنوا السير فيه بنعمة الله ،لأنهُ " قد يكون العام الأخير لحياة هذا

29.2 Page 282

▲back to top


أو ذاك " .قال دون بوسكو هذه الكلمات ،وهو يضع يده على رأس ميشيل فف َكّر هذا ":أتُرى
هذا التنبيه يتناولني ؟ " .لم يرتعب ،ولكنّه قال في نفسه " :سأكون مستعدّاً " .
بعد ثلاثة أيّام شكا ألماً في جوفه ،وهو ألمُ شعر به في السنين الماضية ،وقد عاوده حينا بعد
آخر .لرَّبما كان يعود إلى الزائدة الدودية المزمنة ،فذهب إلى غرفة التمريض ،فلم تبدُ حالته
مدعاة للقلق ،ورآه دون بوسكو من نافذته فسأله ما به فأجاب " :لا شيء .إنه ذلك الألم
المألوف " .
ولكن المرض اشتدّ في مساء التاسع عشر من كانون الثاني ( يناير) فأسرع الطبيب واستمع
الى ميشيل يلهث ،وهو يتنفّس بعناء ،ورفع ذراعيه لعجز الطب في ذلك العصر .قال هذه
الكلمة فحسب " :الحالة سيئة ( ."إنّ أول العمليّات الجراحية للزائدة الدودية ُأجريت على
سبيل التجربة في آخر القرن التاسع عشر ،لا قبل ) .
في 21كانون الثاني 1320أشرف ميشيل على الموت ،فأخذ أصدقاؤه يصلّون من أجله وقد
استولى عليهم الغمّ ،وزُ َوّد بالزاد الاخير .
والآن أزف نصف الليل .عادت ُأ ُمّه إلى بلدها لتُعنى باولادها الأصغر سِنّا منه ،ولكن دون
بوسكو هنا بالقرب من سرير ميشيل فقال فجأة :
-ها قد وصلنا .ساعدني يا دون بوسكو . . .قل لامي تغفر لي كلّ ما سَبّبت لها من
أحزان . . .قل لها إنيّ أحبّها فلتتش َدّد ...إِني أنتظرها في الفردوس . . .
كان نصف الليل .غفا ميشيل لحظة ،ثم قال لدون بوسكو ،وكأنّه قد أَفاق من نوم
عميق ،وأشرقت أساريره :
-ُقل لأصدقائي إِني أنتظرهم في الفردوس . . .يسوع ويوسف ومريم . . .
لبث وجهه لا يتح ّرك ،وقد ساده سلام الموت .
" السياسة العظمى"
ابتدأ عام 1320بالمأساة الصغيرة الأليمة ،وانتهى بالإِنشاءِ الرسمّي للرهبانّية الساليسيّة
كما روينا في الفصل السابق .
جلبت السنة 1320على إيِطاليا المغامرات والانقلابات .
إن تاريخ ايطاليا وأوربّا في السنوات بعد 1313واصل سيره صامتاً في أوّل أمره ،ثم أشتدّ
الصراخ فيه يوماً بعد يوم .

29.3 Page 283

▲back to top


في كانون الأول ( دسمبر) 1322أعلن لويس نابليون ،ابن أخي بونابرت ،نفسَه
امبراطوراً ،بعد انقلاب وتسمّى نابليون الثالث ،وقدّم نفسَه لأوروبّا على أَنّه يواصل مجد
نابليون ،وأَنّه مستعد لتأييد الأمم التي تريد التحرّر من الامبراطورية النمساويّة .
وابتدأ في إِيطاليا عهد جديد ،عهد كافور ال ّداهية ،فأرسل حملة عسكرية من البيمونته إلى
حرب القرم ،اشتركت مع الجيوش الفرنسية والانكليزية في محاربة روسيا ،فمات الجنود في بلاد
بعيدة في حين أَن البؤس ساد البيمونته ،فبيع كيلو الخبز بثمانين سنتيماً مع أَن أُجرة العامل 1ليرات
في اليوم الواحد .
ولكن موتى حرب القرم أتاحوا لكافور فرصة الاشتراك في مؤتمر باريس للسلام في ربيع
" ، 1326والعودة إلى مناقشة المشكلة الايطالية " .
في 11كانون الثاني ( يناير) 1323ف ّجر أُورسيني ( )Orsiniقنبلة في باريس ليقتل نابليون
الثالث ،فجرح نحو مائة شخص ولم يُصَب نابليون بأذى .فقُِتل أورسيني في 13آذار ( مارس)
ولكنه أرسل قبل موته كتابين الى الامبراطور يدعوه فيهما إِلى تحرير ايطاليا .
في تموز ( يوليو) 1323اتّفق نابليون الثالث وكافور على محاربة النمسا وعلى مستقبل
إيطاليا :ففي الشمال تقوم مملكة تخضع لأسرة سافويا وتشمل البيمونته ،وفي الوسط تقوم مملكة
تكون نصيب أمير فرنسي ،وفي الجنوب ممكلة ثالثة لسليل من القائد الفرنسي مورا ( . )Murat
وأ َمّا الدولة البابويّة ،فتقتصر على اللاتسيو ( ، )Lazioويصبح البابا رئيس اتحاد الممالك
الثلاث ،وتحصل فرنسا على نيس والسافويا مكافأة لها .
" اذا دعت الضرورة أقيمت المتاريس في تورينو "
في 23نيسان ( ابريل) ابتدأت الحرب بين النمسا والبيمونته ،ودخل الجيش الفرنسي
يقوده نابليون الثالث ،فحاول النمساويون الاستيلاء على تورينو ،فدَبّ الرعب في المدينة فأَبرق
كافور إلى الملك " :اذا دعت الضرورة أُقيمت المتاريس في تورينو " .
وصل نابليون فهزم الفرنسيون النمساويين في ماجنتا ( )Magentaفي 1حزيران ( يونيو) ،
وبعد أربعة أيام وصل الخبر إلى تورينو " :دخل الامبراطور والملك ميلانو " .
ولكن امبراطور النمسا فرنسوا جوزيف غادر فِيَنّا ليقودَ الجيش بنفسه .
كانوا يستعدون لمعركة حامية الوطيس ،فاستولت الحماسة على أبناء الشعب في تورينو
فاخذوا ينقسمون الى فريقين فيلعبون لعبة الحرب في الأراضي البور ،حول المدينة ،ويتقاذفون
بالحجارة .
روى بطرس إنريا ":دخل يومَ الأحد دون بوسكو المعبدَ ليرشد صبيان المصلّى ،فلم يجد

29.4 Page 284

▲back to top


سوى الداخليين ،فسأل مستغرباً ":أين سائر الصبيان ؟ " .فلم يعرف أحدٌ مكانَهم ،فخرج
وذهب الى المروج ،فرأى صبيانَ المصلّى يتحاربون بعنف .كانوا نحو ثلاثمائة وكانت الحصى
الكبيرة تصّفر في الهواء ،فزَ َجّ دون بوسكو نفسه في المعمعة .رأيته عن بعد فخفت أَن يُصاب
بالحجارة ،ولكَنّه خطا نحو خمسين خطوة إلى وسط المعركة .فلما رآه كلهم كُفّوا ،فقال لهم
مبتسماً " :أ َمّا وقد ُقمتم بالحرب فلنذهب ونُقم بالتعليم الديني ."فلم يحاول أحد منهم الهرب
ودخلوا كُلّهم الكنيسة معه " .
في الساعة العاشرة َتفََتّحت أبواب الجحيم
بدأت المعركة الحامية الوطيس بين النمساويين وبين الفرنسيين والبيمونتيين في 21حزيران
( يونيو) عند الفجر ،وفي الساعة العاشرة تفتّحت ابواب الجحيم فدَوت أصوات المدافع ،ولعلع
الرصاص ،وعلا صراخ عشرات الآلاف من المحاربين ،فاستبسل الجنود من الفريقين .وفي
الساعة الثالثة بعد الظهر انتصر الجيش الفرنسّي ،وفي الساعة الخامسة هجم الجنود البيمونتيون في
زوبعة هائلة ،وفي الساعة الحادية عشرة قذف الملك فيتّوريو عمانوئيل بفرسانه ،فكان الاصطدام
الأخير مرّوعاً و ُه ِزم النمساويون بعد معركة دامت 11ساعة .
سقط في حقول سولفيرينو ( )Solferinoوسان مارتينو ( 38) San Martinoالفاً من
الرجال ،وارتفعت أصوات الجرحى والمحتَضَرين معاً ،كأنّهم ينشدون الرعب .
جال هنري دونان ( ، )1( )Dunantالشاب السويسري ،في ساحة الحرب ،وهو يحمل
مصباحاً فكتب " :كنتُ كمن ينظر إِلى جهنم ،لا بل إلى قعر جهنم .فالجرحى يزحفون من هنا
وهناك ،طالبين عوناً لا سبيل إليه ."ولما طلعت الشمس صار الجوّ رهيباً :جثث منتنة ،وغيوم
من الذباب ،وجراح يدبّ فيها الفساد ،وأصوات وحشية .
هذه هي الحرب الحقيقية .كتب دون بوسكو في ك ّراس نشره في آخر السنة " : 1320بعد
معركة سولفيرينو قلت دائماً إن الحرب شيء فظيع ،وأعتقدُ أنها مخالفة للمحبة حقاً " .
لم َتجرِ الأمور كما توقّعها كافور ونابليون والملك فيتّوريو عمانوئيل ،فاختلفوا ولم تتَحّقق
آمالهم .
وفي 2حزيران ( يونيو) شاع خبر يَكاد لا يُص َدّق :مات كافور موته ضربة قاسية
لمملكة ايطاليا الفتيّة .

29.5 Page 285

▲back to top


)1أنشأ بعدئذ جمعية الصليب الأحمر للدفاع عن حقوق الجرحى والأسرى والمنكوبين في الحرب ( حاشية من
المترجم ) .
11
نزهات في المونفرّاتو
والحياة في المصلّى
كان دون بوسكو يذهب كل سنة بأحسن تلاميذه إلى البكّي ،من أجل عيد سّيدة الوردّية .
كانوا في الأعوام الأولى نحوَ عشرين ثم كثر العدد ،وفي 1323بلغوا نحو المائة .
كتب الأب لموان " :في الأيام الأولى من شهر تشرين الأول ( اكتوبر) ،كان يذهب من
المصلّى جماعةُ المرّتلين والموسيقيين وغيرهم ،وكان كلٌ منهم يحمل صرّةً صغيرة فيها ثيابه ،لكي

29.6 Page 286

▲back to top


يب ّدل ملابسه في أثناء العطلة ،وبعض الأرغفة الصغيرة وقليلُ من الجبن والفاكهة " .
كان يستقبلهم هناك يوسف بوسكو ،وهو صادق المودة دائماً ،ومستعد دائماً ليتغاضى ،إذا
أفلت الصبيان فذهبوا إلى الكروم لكي يخفّفوا من عبء القطف .
كانوا يحتفلون بالعيد في الأحد الأول من تشرين الاول ،وكانوا يشرعون في الغد بالرحلات
التي كانت تدوم عشرة أيام أو عشرين أو اكثر من ذلك .
بقيت البكّي المركز العامّ حتى السنة : 1323كانوا يذهبون عند الصباح الى بلد غير بعيد
كثيراً ،فيعودون في المساء .و منذ 1320تح َّولت النزهات الى رحلات حقيقيّة إلى المونف ّراتو .
كان دون بوسكو ُيعِدّ خَطّ المسيرة سالفاً ،وكان خورانة الرعيّة والمحسنون مستعدّين
لاستقبال الجماعة ،وقد تعبت وجاعت .وكانوا يُسافرون سالكين ُطرق الرّيف والتلال
والكروم ،ًيسيرون فئات فئات ،وهم يُغَنّون ويدقّون الطبل ،ويستحثّون ال ُح ُمر الصغيرة التي
تحمل على عجزها الزينة والامتعة التابعة للمسرح .وكان دون بوسكو في أقصى المؤخرة ،يُحدق به
فرقةٌ جميلة من الأحداث لا َي ّملون أبداً من الاستماع إلى حكايات البلدان التي يجتازونها .
كانت الفرقة ُكلّها ُترَتّب صفوفها ،عندما يظهر بلد عن بعد ،وكانوا يدخلونها دخولاً رسميّاً
تتقدمهم الموسيقى .
كتب أنفوسّي ( " : )Anfossiإِني أذكر دائماً تلك الأسفار الحافلة بالمغامرات .كانت تُفعمني
عجباً وغبطة .رافقتُ دون بوسكو خلال تلال المونف ّراتو من 1321إلى . 1368كنّا نحو مائة
صبيّ نرى ما َيحظى به دون بوسكو من صيت قداسة عظيم منذ ذلك الحين .كان وصوله إلى كلّ
من تلك القرى نصراً .كان خوارنة الأماكن المجاورة يقفون على الطريق الذي يمر بها ،وكذلك
السلطات المدنية على العموم ،وكان السكان يظهرون على النوافذ أو يَخرجون فيقفون عند
الأبواب ،وكان الفلاحون يتركون عملهم لِيرَوا القديس ،وكانت الأمهات يَدنين منه وهن يق ّدمن
له أولادَهنّ ،ويجثين أرضاً فيطلبن بركته .جرت بنا العادة أن نذهب ت ًوّا الى كنيسة الرعية ،
لنعبد المسيح في القربان المقدس ،فلا تلبث أن تمتلئ بالناس ،فيُلقي إليهم دون بوسكو لوقته
خطبة من ال ِمنبر .ثم كانوا ينشدون نشيد الزياح تتخّلله الموسيقة .وكان الحضور ينالون البركة
بالقربان المقدس " .
كانوا يأكلون ما يسوقه الحظ اليهم ،ولكن الطعام كان وافراً كما العادة هي عند الفلاحين .
كان الناس يأتون مسرورين هؤلاء الصبيان بسلال من الفاكهة والخبز الرّيفي والجبن ،وبأباريق
صغيرة فيها خمر .وكانوا ينامون في مستودعات التبن ،أو في غرف كبيرة وهم م َّضجعون على

29.7 Page 287

▲back to top


أكياس كبيرة من ورق الشجر والتبن .
طفل في سِنّ الخامسة :فيليّبو رينالدي
وصلت دون بوسكو وصبيان المصلّى إلى مدن كثيرة ،من 1320إلى ، 1368وفي السنة
1362نقلت السكك الحديد الخاصة بالدولة دون بوسكو والصبيان في حافلتين لدى رجوعهم إلى
تورينو ،وفي 1363و 1361نُقلوا بالسكة الحديد في الذهاب والاياب .ولكن في 1361حالت
سلسلة من المتاعب دون هذه النزهات الطويلة ،فاقتصروا على الذهاب إلى البكّي والى موندونيو ،
َوطَن دومنيك سافيو .
كانت تلك النزهات عند الصبيان مغامرات لا تُنسى ،وعند دون بوسكو بطاقة الدخول ِإلى
بلاد المونف ّراتو ،حيث نجح في توجيه دعوات سالسيّة رائعة الى المصلّى .لما وصل الى لو ( )Luفي
1361أمام بين رينالدي ( ، )Rinaldiرأى تسعة أولاد يتدرّجون كأنابيب الأرغن ،وكان الثامن
طفلاَ صغيراً ج ّداً في سِنّ الخامسة يُدعى فيليبّو ،فنظر معجباً الى هذا الكاهن الذي يطلق بإشارة
منه موسيقى الجوقة ،فلما انتهى العزف صَّفق وقد أخذه الطرب .رأى دون بوسكو ذلك الطفل
الصغير مرة ُأخرى بعد نصف ساعة في ساحة مزرعة رينالدي ،حيث أعاره كريستوفورو رينالدي
أبو فيليبّو عربة تنقله الى سان سالفاتوري ( ، )San Salvatoreوقبل أن يذهب م َّرر يده على جميع
هؤلاء الصبيان الخجولين الذين يراقبونه متعجّبين ،وَنظر طويلا إلى عَينَي فيليبّو الصغير .لقد صار
في ما بعد ثالث خلف له في رئاسة الرهبانية السالسيّة واسمه الاب فيليّبو رينالدي .
صبيّ شعره أصهب والمَطَر
في السنة 1362وصلت الجوقة الموسيقية الى مونتيمانيو ( . )Montemagnoكان صبيّ
يلعب في الوادي ،فسمع أصواتَ أبواق الموسيقى ،فترك أترابه وحذائيه ،وركض نحو ساحة
البلد ،فاندسّ بين الناس وهو يشق طريقه بمرفقه ،ووصل الى الصف الاول .رأى دون بوسكو
هذا الناظر المحبّ للاستطلاع ،وهذا الشعر الكثيف الأصهب وسأله قبل أن يدعه يذهب :
-من انت ؟
-لازانيا لويجي ( . )Lasagna Luigi
-أتريد أن تجيء الى تورينو ؟
-لمــاذا ؟
-لتدرس مثل جميع هؤلاء الصبيان .
-لِمَ لا ؟
-إذاَ قل لأ ّمك تأتِ فتكلمني غداً في فينيالي ( )Vignaleعند خوري الرعيّة .
لويجي لازانيا في الثانية عشرة .دخل المصلّى في آخر تشرين الاول ( اكتوبر) .إنه سريع

29.8 Page 288

▲back to top


الانفعال كالباردو ،ولكنه مرهف الشعور ،فاخذته الوحشة ،فهرب بعد بضعة ايام ،وعاد الى
بيته ،فرأى واحد من الرؤساء ألاّ يُعاد الى المصلّى ولكن دون بوسكو أعلن أنّه كفيل له " :في هذا
الولد خصال كما ترون " .
عاد لويجي وتعلّق بدون بوسكو وصار المطران السالسيّ الثاني و ُمرسَلا عظيماً جداً .
عاد دون بوسكو بعد سنتين إلى مونتيمانيو في شهر آب ( أغسطس ) فجرى على يده حادث
خارق للعادة .
انحبس المطر منذ ثلاثة أشهر والكروم تيبس على التلال ،ووصل دون بوسكو ليعظ في الأيام
الثلاثة قبل عيد انتقال السيدة العذراء ،ليستعدّ الناس للعيد ،وأنبأ بغته في نصف العظة الأولى :
-إذا تصالحتم مع الله باعتراف جيّد في أثناء هذه الأيام الثلاثة ،وتناولتم جميعاً القربان
المقدس يوم العيد ،فَإنّي أعدكم باسم العذراء أن المطر سينزل غزيراً .
فلما نزل من المنبر ،رأى الخوري يقول له ،وهو مقطّب :
-ان الشجاعة لا تعوزك أنت .
-في أي موضوع ؟
-وعدتَ علانية بنزول المطر يومَ العيد .
-أأنا قلتُ ذلك ؟
-سمعه جميع الناس وإِنّ هذه الحكايات لا تعجبني كثيراً .
أقبل الناس على الاعتراف بايمان ،وبعد بضع سنوات لم يكفّ الأب روا والأب كالييرو
اللذان صحبا دون بوسكو عن ذكر ما أصابهما من التعب لا ستماعهما إلى الاعترافات ساعات
طويلة .
ذاعت النبؤة في بلاد المجاورة أيضاً ،فانتظر كثير من الناس حائرين ،وظلّ كثير منهم
مرتابين .طلع صباح عيد السيدة العذراء ،يوم الخميس في سماء تامّة الصفاء .ولم َيظهر عند
الظهر ولا أَثر للغيم .
وشهد الاب لويجي بورتا ( " : )Portaكنّا ،ونحن ذاهبون الى الكنيسة من اجل صلاة
المساء ،مع المركيز فاسّاتي ( )Fassatiنتكلم على المطر الموعود ،مع أنه لم يكن بين القصر والكنيسة
سوى عشر دقائق من السير ،كان العرق يتصبّب من جبهتنا .فلما وصلنا إلى الموهف قال المركيز
لدون بوسكو :
-يا دون بوسكو العزيز لقد أَخفق َت هذه المرة إِخفاقاً تامّاَ .وعَدَتَ بالمطر ،وهناك ما هو
مضادّ للمطر على وجه تام .

29.9 Page 289

▲back to top


ّلما انتهت صلاة العصر لبس دون بوسكو القميص والبطرشيل .وصعد المنبر ،وبينما هو
يتلو " السلام عليك يا مريم " قبل العظة ،أَخذت الشمس ُتظلم ،ولم يمضِ على شروعه في
الكلام سوى بضع دقائق حتى بدأت البروق والرعود ،فتوّقف دون بوسكو لحظة وقد شعر
بالانفعال الشديد ،فأخذ مطر هطّال يضرب زجاج الكنيسة .
استأنف الأب بورتا قوله في شهادته التي نوجزها " :فَكّروا في الكلام البليغ الذي فاض به
قلب دون بوسكو في أثناء نزول المطر هطّال يضرب زجاج الكنيسة .
استأنف الأب بورتا قوله في شهادته التي نوجزها " :فَكّروا في الكلام البليغ الذي فاض به
قلب دون بوسكو في أَثناء نزول المطر مدراراً .كان ذلك الكلام نشيد الشكر للسيدة مريم .وّلما
انتهت رتبة زياح القربان ظلّ الحضور في الكنيسة ،وتحت المدخل المسقوف ،لان المطر كان لا
يزال يهطل " .
إ َنّ زوابع الصيف في المونف ّراتو يتخللها الَبرَد أحياناً كثيرة ،فسقط شئ منه في ذلك اليوم .
فاخذ " المتشدون" يُحَقّقون لوقتهم وأوضحوا ان " الَبرَد سقط على كروم أهل غرانا " ( )Grana
القرية المجاورة ،وهي بين كالّيانو ( )Gallianoوميرابلّو .فإ َنّ أهل غرانا كانوا قد ن ّظموا حفلة
راقصة علنية في الساحة ،احتفالا بِعيدِ شفيعة القرية ،الامر الذي أثار غضب خوارنة الرعايا .
صبّية من مورنيزي :ماريّا مازّارلّو ()Mazzarello
في اثناء نزهة الخريف لتلك السنة 1361وصل دون بوسكو مع صبيانه الى مورنيزي
. )Mornese (كان الليل قد أظلم ،فجاء الناس الى لقائهم يتقَ ّدمهم الخوري فالّي ( )Valleوالأب
بستارينو ( )Pestarinoوكانت الموسيقى تعزف ،وكثير من الناس يجثون لدى مرور دون بوسكو
وهم يسألونه أن يباركهم .فدخل الأحداثُ والجمعُ الكنيسة ،فأقُيم فيها زياح القربان المقدّس
وتناولوا من بعده طعام العشاء .
ثم إنّ صبيان دون بوسكو ،وقد ش ّجعهم التصفيق ،وأقاموا لاهل البلدة حفلة قصيرة عزفوا
فيها قطعاً من الأناشيد العسكريّة والموسيقى الخفيفة .واكن في الصف الاول آنسة في السابعة
والعشرين اسمها ماريّا مازارلّو .فلما انتهت الحفلة ألأقى دون بوسكو كلمة " :لقد تعبنا ويرغب
صبياني في أن يناموا نومًا هنيئاً .غداً نتحدث حديثاً أطول ."
في الغد قَدّم الأب بستارينو في ساعات الصباح " بنات البريئة من الدنس" فأثّر في دون
بوسكو لطفُ هؤلاء الصبايا وشخاؤهن وكّلمهن كلاماً وجيزاً فشجعهن على أن يبقين مثابرات على
الحياة التي اخترنها وعلى عمل الخير .صارت ماريّا مازارلّو أ َوّل رئيسة لرهبانية بنات مريم معونة
المسيحين وهنّ الراهبات السالسيّات .
َخلَفُه فيليّبو رينالدي ،ومطران هو لويس لازانيا ،ومنشئة بنات مريم معونة المسيحيين :
هؤلاء كلهم حصيل ٌة حسنةٌ لتلك النزهات في شهر تشرين الأول .

29.10 Page 290

▲back to top


تكلمنا على هذه النزهات في مونف ّراتو فخطونا بعض الخطَوات قبل أوانها في التاريخ ،
فنعتذر ،ونعود إلى تسلسل الأخبار .
أول قداس أقامه الأب روا
في التاسع والعشرين من تموز ( يوليو) 1368رُسم الأب روا كاهنا ،فأرسله قبل ذلك دون
بوسكو ليستعد بالرياضة الروحية عند " كهنة الرسالة" ( . )Pretres la Missionكتب ميشيل في
آخر الرياضة رسالة بالفرنسية وهي اللغة التي كان يستعملها كهنة الرسالة فبعث بها الى دون بوسكو
يطلب إليه " ذكراً" لأعظم أيام حياته شأناً .
كان دون بوسكو في سانت اينيازيو ( )SanT’ Ignazioبالقرب من تورينو ،وكان هو أيضاً في
رياضة روحيّة فأجابه باللاتينية " :كتبت إليّ بالفرنسية فأحسنتَ ،ابقَ فرنسيًا بالغة والكلام
فحسب ،وأما نفسك وقلبك وعملك فكن فيها رومانيّاً باسلاً شجاعاً ."
كتب الأب جيوفاني المعمدان فرنتشيسيا ( " : )Francesiaفي 20تموز ذاك ،عاد دون
بوسكو إلى سانت اينيازيو وكنتُ معه ،وكان دون بوسكو يتضايق من السفر في داخل العربة ،ويا
لدهشتنا لما رأينا ثلاثة أثواب كهنوتية سوداء تظهر عن بعد ،فعرفنا آخر الأمر دون روا والأبوين
دوراندو ( )Durandoوأنفوسّي ( . )Anfossiفرجا دون بوسكو من السائق أن يوقف العربة ،
وسأل دون روا :
-إلى أين تذهب ؟
-إلى كازلّي ( )Caselleحيث المطران بالما ( ، )Balmaوهو الذي ُوكل اليه أن يمنحني
الرسامة الكهونية .
-ما أَسعدني .صَلّيتُ من أجلك ،أيها الأب روا العزيز ،وأرجو أن يستجيب لي الرب .
بَلّغ المطران بالما سلامي .
نظرنا مسرورين غلى هؤلاء الرفاق الثلاثة الذاهبين سيراً على الأقدام مثل الفقراء إلى الرسامة
الكهنوتية ؟
أقُيمت حفلة العيد الكبرى إكراماً لأول قداس للأب روا في المصلّى ،يوم الاحد الذي
بعده ،َفزُيّن المذبح زينة ب َّهية بالأزهار البيضاء أتى بها منظّفو المداخن الصّغار من مُصلى مار لويس .
لما صعد الأب الى غرفته الصغيرة بعد يوم العيد وجد على طاولته رسالة من دون بوسكو

30 Pages 291-300

▲back to top


30.1 Page 291

▲back to top


فقرأها " :سترى احسن مني المشروع السالسيّ يجتاز حدود إيطاليا ،ويترسخ في عدة أطراف
العالم .ستعمل كثيراً ،وتتألم ولكن ،كما تعرف ،لا يبلغ المرء أرضَ الميعاد إلاّ بعد أن يجتاز
البحر الاحمر والصحراء .تَحَ ّمل ذلك بشجاعة .وان عزاء الرب وعونه لن يُعوزاك حتى في هذا
العالم " .
بعد أول قداس أقامه الاب روا شعر دون بوسكو في نفسه بسلام أكثر صفاء وبطمأنينة
مؤثرة .لقد أصبح المصلى الآن بيتاً واسعاً جدّاً .بلغ عدد الداخلين بعد قليل نحو خمسمائة .
يتعلم ثلاثون من التلاميذ الصغار صناعة في ورشات تعمل بكل نشاط ،ويُض َطرّ دون بوسكوإلى
التغيّب كثيراً ،فان إِشباع هذا العدد الكبير من البطون ليس بالمسألة اليسيرة ،ولكنه يذهب ناعم
البال إلى جولاته لجمع الاحسانات :أصبح الأب روا " بوسكو الثاني" للمصلّى .
إِن الثالث والعشرين من حزيران ( يونيو) في تلك السنة 1368سبّب لدون بوسكو ألما
شديداً ،فقد تُوفّي الأب كافاسّو .اخبر بعد فوات الاوان بأن صديقه الكبير في حالة خطرة إلى
أقصى حدّ ،فذهب لوقته يصحبه الشاب فرنسيس تشيرّوتي ( ، )Cerrutiفوصل إليه بعد أن لفظ
روحه بقليل .إِنه مَدينٌ إلى الأب كافاسّو كما لا يدين الا إلى عدد قليل من الناس ،فقد آمن الأب
كافاسّو به وبرسالته في حين أنه كان هو لا يزال يشك فيها .لقد ساعده الأب كافاسّو وشجّعه كل
حين ،لقد كان أباه الروحي بالمعنى الحقيقي التام لهذه العبارة
اربعمائة رغيف في سلة فارغة
22تشرين الأول ( اكتوبر) . 1368دخل المصلّى فرنسيس دالماتسو ( )Dalmazzoوهو في
الخامسة عشرة ،ُولد في كافور وتلقى في بينيرولو ( )Pineroloدروس الصفوف الاولى .روى :
" قرأت هناك أجزاء القراءات الكاثوليكية ،فسألت من هو دون بوسكو ،فّلما علمتُ أن له بيتاً
للأحداث في تورينو عزمت على الانضمام اليهم " .
قُبل فرنسيس ليكون تلميذاً في السنة الاخيرة للمعهد .وبعد عشرين يوما ذهَبت عنه
عزيمته :"ت ُعّودتُ العيش الرغيد في البيت فلم يمكنني تقُبّل الطعام الرديء حقا ،على المائدة
المشتركة ،وعادات المؤسسة ،فكتبت إلى أمي لتأتي وتذهب بي لأني عزمت العودة إلى البيت عزماً
لارجعه فيه " .
11تشرين الثاني ( نوفمبر) .جاءت الأم لتذهب به " .أردت مع ذلك قبل الذهاب أن
أعترف مرة أُخرى لدى دون بوسكو ،فانتظرتُ دوري في أثناء القداس .وكان ك ُلّ صبي ُيعطى
عند الخروج من الكنيسة رغيفاً صغيراً من أجل طعام الصباح .

30.2 Page 292

▲back to top


وبينما أنتظر دوري لأعترف جاءَ الصَبيان اللذان يوزّعان الخبز فقالا لدون بوسكو " :لم
يبقَ خبز " .
فأجاب دون بوسكو :
-ماذا تريد أن أعمل ؟ إِذهبا إلى ماغرا ( ، )Magraخبّازنا فليُعطكما منه شيئاً .
-قال ماغرا إِنه لن يُعطينَا شيئاً لأنه لم يُدفع ثمن الخبز .
-سنفكّر في الأمر .دَعاني أسمع إلى الاعترافات .
سمعت هذا الحوار الذي جرى بصوت خافت ،ثم جاء دوري فأخذتُ أعترف ،وكان
الكاهن قد وصل في القداس إلى كلام التقديس ،فعاد الصبيّان وقالا :
-يا دون بوسكو ،حقاً لا شيء عندنا من اجل طعام الصباح .
-دعاني أستمع غلى الاعترافات ثم نَنظر في الأمر .إِذهبا ففتّشا في غرفة المؤونة وفي غرف
الطعام ،فلا بد من وجود شيء .
وبينما هما ذاهبان واصلتُ اعترافي وما َفرغتُ منه حتى عاد واحد من الصبييّن مرة ثالثة فقال :
-جمعنا كل شيء وهذه هي الأرغفة الصغيرة القليلة التي وجدناها .
-ضعها في السلة .سآتي انا بنفسي فأوزّعها .دعني أستمع إلى الاعترافات بسلام.
وواصل الاستماع إلى اعتراف الصبي الواقف امامه .وكانت سلّة الخبز قد ًوضعت على غير
بعد من الباب الذي يُفتخ بعد مذبح السيدة ،فتذكرتُ الاحداث المعجزة التي كانت تُروى عن
دون بوسكو ،واستولى عل َيّ حُبّ الا ّطلاع فطلبت مكانًا مؤاتياً لأرى ما سيحدث .
وكانت أُمي تنتظرني عند الباب فقالت لي " :تعالَ يا فرنسيس" .فأشرتُ لها بأن تصبر
بضع دقائق أيضاً .فلمّا وصل دون بوسكو أخذتٌ رغيفاً صغيراً ونظرتُ إلى السلّة ورأيت فيها خمسة
عشر رغيفاً أو عشرين ،فوقفتُ من غير أن ينتبه اليّ أحد خلف دون بوسكو ،على الدرجة ،
وعيناي ترقبان ،فشرع دون بوسكو في التوزيع .كان الأحداث يمرّون أَمامه وهم سعداء بتلقّي
الخبز من يدهِ َفيقبّلونها ،وكان يقول لكل منهم كلمة أو يمنحه ابتسامة .
تلَقّى التلاميذ خبزهم وعددهم نحو أربعمائة .فلما انتهى التوزيع أردتُ أن أفحص السَلّة
حقًا ويا لشدة دهشتي ّلما تحَقّقت أن فيها من الخبز مثل ما كان قبل التوزيع .فبقيتُ مذهولاً
فاسرعت توّاً إلى أمّي وقلت لها " :لن آتي ولا ُأريد الذهاب .أبقى هنا ،اعفي عنّي لأني طلبتُ
إليك أن تأتي تورينو" .ورويتُ لها ما رأيتُ بأُمّ عيني وأضفت :لا ُأريد أن اترك قدّيساً مثل دون
بوسكو .

30.3 Page 293

▲back to top


وهذا هو السبب الواحد الذي من أجله بقيتُ في المصلّى ،وانضممت بعدئذ إلى ابناء دون
بوسكو" .
صار فرنسيس دالماتسو سالسيّاً ،وظل ثمانية أعوام رئيس معهد فالساليتشه ( )Valsalice
وسبعة أعوام وكيلاً عامّاً للرهبانية السالسيّة لدى الكرسيّ الرسولي .
الاحسان الى الفقراء دون سواهم
قبل رأس السنة الدراسية 1361 – 1368بقليل ،تحّقق دون بوسكو أنّ طلبات اكتتاب
التلاميذ في المصلّى كثيرة ج ّداً فخاف أن " ُيعطى ثمرة الاحسان" أناساً لم يُجعل لهم ،ولذلك أعاد
طبع نظام المدرسة الداخليّة ،وأضاف إِليه بنداً صغيراً وهو أ َنّ التلاميذ سيدفعون في الشهرين
الأولين أجرة محددة ،ولن تخفض الاجرة أو ُتلغى في بعض الأحيان الا إذا أَثبتوا بحسن سلوكهم
أنّهم أهل للإحسان الذي يحسن إليهم .قال الأب لموان وهو يروي هذا الخبر " :كان دون
بوسكو ،لما فيه من المحبة ،يكثر من الاستثناءات " .
وهذه هي شروط القبول ،كما طُِبعت و ُوزّعت في السنة الدراسية : 1361 – 1368
من أجل طلاب الصناعة :
-أن يكونوا أيتام الأب والأمّ .
-أن يكونوا قد أتمّوا الثانية عشرة من غير أن يتجاوزوا الثامنة عشرة .
-أن يكونوا فقراء متروكين .
من أجل التلاميذ :
-أن يكونوا قد أتّموا الصفوف الابتدائية وأن يريدوا اّتباع الحلقة الثّانوية .
-أن ُيشهد شهادة حسنة لذكائهم وحسن خلقهم .
-أن يُحفظوا شهرين على سبيل التجربة بأُجرة شهرية قدرها 21ليرة ،ثم تُتّخذ التدابير
وفقاً لاستحقاقهم .
وفي التدابير العامّة التي بعدها ،يجدر التنبيه لهذا التدبير " :يتحمّل التلاميذ نفقة الثياب
كّلها إِلا إِذا استطلعوا أن يثبتوا عجزهم عنها لفقرهم " .
" اللجنة السرّية " في السنة 0110
في السنة 1361جرى حدث غريب يكاد أن يكون بغير مثيل ،عظيم الشأن .اجتمع
الآباء الاسوناتّي ( )Alasonattiوروا ( )Ruaوفرنتشيسيا ( )Francesiaوعشرة سالسيين آخرين

30.4 Page 294

▲back to top


فأَلّفوا لجنة ِسرّية .كانوا مقتنعين كلّهم أنّ ما يحدث حول دون بوسكو يَتّصف أحياناً كثيرة بطابع
خاص بل فائق الطبيعة حقّاً .فضياع ذكر هذه الأحداث يعني فقدان كنز ،فيجب على ك َلّ منهم
" أن يحفظ ذكرها" ،فيدَ َوّن ما َيعلق بذهنه ،وعندما َتعقدُ اللجنة اجتماعاتها النتظمة ،يقرأ على
الحضور كلّهم ما جرى تدوينه وَيُصَوّب وفقاً لشهادة ك َلّ منهم ،لكيلا يتدوّن سوى أُمور
صحيحة .
كتب الأب لموان وهو يروي ذلك في المجلد السادس لذكريات السيرة " :يمكننا إِذاً أن
نكون على يقين من حقيقة ما بلّغه إلينا هؤلاء الشهود .وقد حلّ محلّهم آخرون على َمرّ السنين ،
ليواصلوا العمل بمحبة مماثلة لدون بوسكو وللحقيقة " .
إنّنا نشكر لهؤلاء السالسيّين الأولين شكراً عظيماً ،فقد كان العمل فوق طاقتهم يثقل
كاهلهم ،ومع انتزعوا ساعات من نومهم في سبيل هذا العمل الذي لا بديل له ،الثمين
ج ّداً ،ولولاه لضاعت أخبار كثيرة جدّاً أو تطايرت في ضباب الاسطورة .
وهذا لا يحول دون أن نعلّق بعض التعليقات على العمل الذي قاموا به ،وننبّه الذين كتبوا
سيرة دون بوسكو معتمدين شَهادتهم ،وليست غايتنا أن نلومهم( فذلك غباوة ) بل أن نساعد على
حسن تفهّم تاريخ دون بوسكو .
أولاً .كان دون بوسكو يستفيض في الكلام من غير تكّلف ،وكان ذلك من حقّه ،فالذي
يكلّم الصبيان وتلاميذه الأحداث قلّ أن يفكّر تفكير " من ُيملي لكتابة التاريخ " .
جرى مثل ذلك لنابليون في روايته للاحداث في جزيرة القديسة هيلانة وللوثر ( )Lutherفي
كلامه وهو على المائدة ولغيرهما كثيرين .فما رواه نابليون يفيض شعورا وذكريات ولكن الويل
للذين ينظرون إليها نظرهم إلى شهادة دقيقة مف ّصلة للتاريخ ،بل يجب عرضها على الوثائق
وخرائط المعارك والرسائل والمعاهدات .وأما دون بوسكو فقد اتفق ان بعض احاديثه " لم تكن ذا
شأن كبير" ف ُح ِملت على محمل الجد حملا دقيقا مطلقا في أصغر تفصيلاتها .
ثانيا .إن الذين جهدوا في جميع ذكريات دون بوسكو وأقواله د َوّنوا أعماله كّلها ،غير
انهم ،لكثرة انشغالهم في المصلّى ولقلّة معرفتهم للمدينة ،لم يدوّنوا على وجه التقريب مما كان
يجري في المدينة وجوارها ،ولذلك فكلّ ما يقولونه في دون بوسكو صحيح على الاطلاق ،ولكن
يظهر من روايتهم للاحداث ان دون بوسكو كان يقوم وحده بهذه الاعمال ،في حين أَنه كان في
تورينو عدد لا يعرفه الا الله من الذين يحاولون مثل ذلك التجربات الرسولية ،ويؤيدون المطالب

30.5 Page 295

▲back to top


الاجتماعية نفسها .لقد كان عظيماً ج ّداً ،ولكن كان بجانبه وامامه ووراءه غيره كثير يبذل جهده
في خطة تشبه خطته .
إن إنشاء كنيسة السيدة العذراء معونة المسيحيين التي سنتكلم عليه في الفصل الذي بعده ،
يبدو معجزة فريدة في نوعها :نفقة كبيرة ج ّداً وهبات عظيمة وسرعة البناء ،والجموع الضخمة
لدى التدشين ،ولكن عندما يفحص المرء في تاريخ تورينو يجد أربع كنائس أُخرى أُنشِئَت بمثل
تلك السرعة وبنفقة ذات شأن في الاعوام 1363و 1362و 1363وقبل ذلك التاريخ في العامّ
. 1323
إِن بناء كنيسة السيدة العذراء مريم معونة المسيحيين معجزة من الشجاعة والايمان والمحبة ،
ولكّنها ليست وحدها .
ويمكن قول مثل ذلك في الدروس الليلية وورشات العمل وإِرسال المر َسلين :إِنها ُأمور
مدهشة ولكّنها تعود إلى جملة من أعمال كاثوليكية أكثر مدعاة للدهشة فلا يبدو دون بوسكو حَدَثاً
فريداً في نوعه بل قديساً في بيئة كاثوليكيّة ملتزمة ،يُسَخّر ايمانه لإِحداث معجزات حقيقيّة ،
وبجانبه كهنة آخرون لم يكونوا كّلهم مثله قدّيسين ولكّنهم عملوا بمثل إيمانه وشجاعته .
ثالثاً ؟ مَنّ الله على دون بوسكو بِنَعم عجيبة ،فحلم أحلاماً كشفت له عن المستقبل ،
وبشّرته بأحداث تحقّقت على نحوٍ مُفَ َصّل .ولكنه كان أيضاً انساناً مسكيناً يحاول مرات كثيرة
بتواضع ،كما يفعل كل منا ،أن يرى ما هو أبعد من أنفه .وكان يَحدث له أيضاً أن يُدلي بآراء
ويؤمّل آمالا ويق ّدر تقديرات بَدت صواباً في بعض الأحيان ،وخطأ في غيرها .فتدوين " كل " ما
توقّع حدوثه وآماله والادعاء بأنّ ذلك سيتحَقّق كله ،يؤ ّديان إلى تشويه شخصية دون بوسكو .إّنه
ُيجرَ َدّه من حقه لأن حقه لأن يكون إِنساناً يتعرض مثل الناس لمساوئ الوجود .ذلك العيبُ كان عيبَ
" الروح" الذي ساد جمع أحداث حياة دون بوسكو وأقواله .لو د َوّن هؤلاء الشهود لا ما اصاب
من نجاح باهر فحسب ،بل ما تردّد فيه وقلقة وأخطاءه ،لزاد شكرنا لهم ،ولا سيما في هذه
الأيام ،من غير أن ينفي ذلك أنّ دون بوسكو كان مثالاً جبّاراً يتحلى بأحسن الخصال
" الانسانية " .
ولا ُيعَ َدّ ذلك كُلّه لوماً يَنزل بهؤلاء السالسيّين الأ ّولين ،وعملهم يحتفظ بقيمته التي لا تث َمّن
على ما فيه من عيوب ظاهرة .

30.6 Page 296

▲back to top


11
الكنيسة الكبيرة كما رآها في الحلم
في تشرين الاول ( اكتوبر) 1311حَلَمَ دون بوسكو ُحلمين تكلّمنا عليهما في الفصل 13
ولكن يجب علينا أن نعود الآن اليهما ونتب َسّط في نقل ما ورد في المراجع .وأول ما نستشهد به نأخذه
من ذكريات المصلّى كما رواها بنفسه ،وأما الثاني فنأخذه من القصة التي كتبها الأب بربيرس
)Barberis (والأب لموان ( . )Lemoyne
" دعتني الراعية الى أن أنظر نحو الجنوب ،فنظرتُ فرأيتُ حقلا زرع فيه ال ّذرة الصفراء

30.7 Page 297

▲back to top


والبطاطا والقّنبيط والسمندر والخسّ وغير ذلك كثير من البقول .فقالت لي :أنظُر مرّةً ُأخرى ،
فنظرت أيضاً فرأيتُ كنيسة رائعة كبيرة فدعتني فرقة الموسيقى والأصوات الى ترتيل الق ّداس .وكان
في داخل تلك الكنيسة شريط أبيض كتب عليه " :هنا بيتي ومنه ينطلق مجدي " ( ذكريات
المصلّى ،ص . ) 1361
الحلم بثلاث كنائس
" ظننت نفسي في سهل كبير يملأه جمع من الأحداث غفير .كان اناس منهم يتشاجرون ،
وآخرون يكفرون وكان غمام من الحجارة يجتاز الجوّ يقذفه المتشاجرون .أَزمعتُ أن أبتعد إِذ رأيتُ
بالقرب مني سيّدةً قالت لي :
-اذهب فادخل بين هؤلاء الأحداث وقم بعمل ما .
فتق َّدمتُ ولكن ما العمل ؟ فلم يكن من موضع أُووي اليه كائناً من كان .فالتف ُتّ إلى
السيّدة فقالت لي :
-هذا هو الموضع ! – وأَرَتني َمرجاً .
-ولكن ليس هناك سوى مرج – .فأجابت :
-لم يكن لا بني ولل ّرسل قطعة من الأرض عرضها عرض اليد ،يضعون عليها رأسهم .
أخذتُ أعمل في هذا المرج ،فأرشد وأعظ وأستمع الى الاعترافات ،ولكن كلّ جهد أبذله
يذهب أدراج الريّاح اذا لم أجد أرضاً حولها سياج ،وفيها بناء ،فأجمع فيها الأحداث .فقالت لي
السيدة :
-حَ ّدَد النظر .
فرأيت كنيسة صغيرة منخفضة وساحة صغيرة ،وعدداً من الاحداث كثيراً ،فعدت إلى
العمل ولكن الكنيسة ضاقت بي وبالأحداث ،فخاطبت السيّدة َم َرّةً ُأخرى ،فأرتني كنيسة أخرى
أكبر كثيراً ،وبيتاً على غير بعد منها .ثمّ سارت بي إِلى مكان غير بعيد من هناك ،الى مساحة من
الأرض المزروعة تكاد أن تكون تجاه الكنيسة الثانية ،ثم أضافت :
-في هذا المكان الذي فيه استشهد الشهيدان من تورينو أَفنتوري ( )Avventoreواوتّافيو
، )Ottavio(على هذه الكتَل من الطين التي سقاها وقدّسها دمهما أُريدُ أَن ُيك َرّمَ الله تكريماً عظيماً .
وبينما هي تقول هذا الكلام ،ق َّد َمت رجلها ووضعتها على المكان الذي جرى فيه
الاستشهاد .دلتني عليه بدقة ، )1(فأردتُ أن اضع فيه علامة لكي أجده عندما أعود إليه ،فلم

30.8 Page 298

▲back to top


ألقَ شيئًا حولي ،غير أَني تَذ َّكرته بِدِقّة .
في أثناء ذلك رأيتُ حولي عدداً كبيراً من الأحداث ظَلّ يزداد دائماً .وبينما أنظر إلى السيدة
كانت الوسائل والاماكن التي تتيسر لي تزداد أيضاً .ثم رأيت كنيسة واسعة ج ّداً في ذلك المكان
عينه ،الذي أشارت الي بأنّه جرى فيه استشهاد قدّيسَي الكتيبة الثيبيّة ،وحولها كثير من الأبنية ،
وفي وسطها نصب جميل " ( ذكريات السيرة ،ج ، 2ص . ) 203
تَ َذ ّكر دون بوسكو دائماً أَبداً " الحقل المزروع بالذرة الصفراء والبطاطا والقنّبيط والسمندر
والخسّ وبُقول ُأخرى " ،وكان قد عرفه بعد الجدار المُح َدق بالمصلّى وكان قد سمّاه " حقل
الاحلام" .وما إن أَمكنه الامر في 28حزيران ( يونيو) 1328حتى اشتراه ولكنّه في السنة 1321
وهي سنة الكوليرا ،وفيها آوى عشرين يتيما ،اضطُرّ الى بيعه ،ليؤدّي ديوناً مستعجلة .بيد أَّنه
صار ملكه َم َرّةً أخرى في 11شباط ( فبراير) . 1363ولكن وقع في الأشهر الاخيرة هذه حدَث
جديد .
" ستكون الكنيسة الأمّ لرهبانيتنا "
ذات مساء من كانون الأول ( دسمبر) السنة 1362سمع باولينو البيرا ( )Paolino Albera
)1انّ هذا المكان الذي أشار اليه دون بوكسو إشارة دقيقة هو في المعبد للذخائر القائم اليوم في كنيسة السيّدة مريم
معونة المسيحيين ،وعلامته في البلاط صليب ذهب .
( وهوصبيّ في السابعة عشرة قُِبل في تلك السنة في الرهبانيّة السالسيّة ) دون بوسكو ُي ِس ُرّ إليه
بِقَولِ ،فقد استمع دون بوسكو إلى الاعترافات حتى الحادية عشرة ليلاً ،وفي تلك الساعة المتأخرة
فقط ،أمكنه النزول يَصحبه باولينو ليتناول شيئاً من الطعام .كان في هَمّ شديد فأخذ يروي
فجأة " :قد استمعتُ إلى اعترافات كثيرة ،ولكنيّ ،والحق يقال ،لا أعرف معرفة حسنة ما
أعمل او أقول ،لكثرة ما ساورتني فكرة ،فكانت تجعلني أسهو وتستحوذ علي .فَ َكّرتُ :إِن
كنيستنا صغيرة تضيق عن الاتساع لجميع الصبيان ،ولذلك نبني غيرها أجمل وأوسع تكون رائعة .
سنسمّيها كنيسة السيدة معونة المسيحيين .ليس لدي فلس ،ولا أدري من أين آخذ المال ولكن
الأمر ليس ذا بال :إِذا شاء الله ،فسوف نبنيها " .
وبعد قليل َكلّم على هذا المشروع يوحنا كالييرو فشهد " :في العام 1362قال لي دون
بوسكو إَنّه يَُفكّر في بناء كنيسة عظيمة تليق بالسيدة مريم العذراء القديسة قال :
-احتفلنا بأُبّهة الى اليوم بِعيد مريم البريئة من الدنس ،ولكن السيدة تريد أن ُن َك ّرمها

30.9 Page 299

▲back to top


ِبلَقبها مريم معونة المسيحيين ،إن عصرنا تاعس جدّاً حتى إنّنا نحتاج الى أن تساعدنا السيدة
العذراء القديسة على حفظ الايمان والدفاع عنه .أو َتعرف أيضاً لماذا ؟
أجبتُ :أَرى أنّ تلك الكنيسة ستكون الكنيسة الأمّ لرهبانيتنا المستقبلة ،والمركز الذي منه
تنطلق مشروعاتنا في سبيل الشبيبة .
قال لي :لقد حزرتَ .إن مريم معونة المسحيين هي منشئة مشروعاتنا وستكون سَنَدها "
( ذكريات السيرة ،ج ، 2ص . ) 331
كنيسة أكبر تتسع لجميع الاحداث ،الكنيسة الأم للرهبانية ،هذان هما السببان اللذان من
أجلهما عزم على بناء كنيسة مريم معونة المسيحيين ،ولكنه أشار إلى سبب ثالث :إِن عصرنا تاعس
جداً . . .نرى من الضروريّ تفسير هذه الكلمات لكيلا تُصََنّف في " عبارات الت َذ ُّمر المُب َهمة "
التي تنشأ في كل حقبة على شفاه الذين يحَترفون الأسف على الماضي .
أحداث سبوليتو ومعونة المسيحيين
كتب جياكومو مارتينا " : )Giacomo Martina ( :انّ تاريخ الكنيسة في نصف القرن
التاسع عشر تَمََيّز بصراع عنيف بين القديم والحديث ،بين مُقَ َوّمات مجتمع هو ،من الجهة
الرسمية ،مجتمع مسيحّي ،والتأكيد الذي ازداد وضوحا بِ َعلمَنَة الحياة الاجتماعية " .
وكان من أشد اوقات هذا " الصراع العنيف" ،الوقت الذي فيه قامت مسألة رومة والدولة
الباباويّة .كان الكاثوليك يَرون أنّه لا غنى عن الدولة الباباوية ،أو دولات الكنيسة ،لكي يبقى
البابا مستقلاّ ،في حين كان غيرهم يَرَون أنه يجب على المملكة الايطالية أن تستولي عليها .ففي
12شباط ( فبراير) 1368دعا مطارنة اومبريا ( )Umbriaالمؤمنين الى الصلاة لله بشفاعة قلب
مريم الطاهر أمّ الله ،معونة المسيحيين .
في سبوليتو ( ، )Spoletoوهي مدينة صغيرة من أَومبريا ،شاع بين الشعب أنه حدثت
معجزة كبيرة ،ففي اذار ( مارس) 1362كّلمت السيدة مريم طفلاً في الخامسة ،وشفت فلاّحاً
شاباً بواسطة صورة تقوية محفوظة في كنيسة مته ّدمة ،فأخذ الحجّاج يتدَفّقون على هذه الكنيسة .
فأَرسل مطران سبوليتو أرنالدي ( )Arnaldiمقالاً في هذه الاحداث يفيض حماسة ،إلى
الجريدة الكاثوليكية الارمونيا ( )Armoniaالتي تظهر في تورينو فتكلم على كثرة الحجّاج من
مختلف المدن .
ونادى المطران نفسه في ايلول ( سبتمبر) 1362بفكرة بناء معبد كبير ،في مكان

30.10 Page 300

▲back to top


المعجزات ،وأطلق على صورة السيدة التي كانت ُتسمّى الى ذلك الحين " سيدة النجمة" الاسم
الرسمي معونة المسيحيين .
قرأ دون بوسكو " بسرور عظيم" على أحداثِه مقالَ المطران أرنالدي ،وفي ذلك الوقت َحلَم
الحلم ال ُمهِمّ وموضوعه " العمودان" ،فرواه في 38أيار ( مايو) للأحداث :إن سفينة الكنيسة
يقودها البابا فتمخر بأمان الموج العاتي وتسلم من القذائف التي تطلق عليها من السفن العدوّة وهي
كثيرة ج ّداً .ووجدت السفينة آخر الأمر ملجأ بالقرب من عمودين ،فألقى البابا المرساة بينهما وكان
على أحدهما القربانُ المقدس وعلى الىخر تمثال العذراء البريئة من الدنس ،وكُتِب على التمثال
" معونة المسيحيين" .
كان هذا اللقاء بين الحقبة التاعسة ج ّدًا والآمال العظيمة ،السببَ الثّالث الذي دفع دون
بوسكو إلى الشروع في بناء كنيسة معونة المسيحيين .
َل َقب يدعو الى التكشير
عهد دون بوسكو إلى المهندس انطونيو سبيزيا ( )Speziaوضع المخططات ،فأعدّ مشروعا
على شكل صليب لاتيني مساحته 1288متر مربع ،وكانت الكنيسة تبلغ 13متراً في أقصى
طولها .
فأخذ دون بوسكو مل َفّ المخطّطات تحت ذراعه ،ومثل لدى البلدية لينال الموافقة عليها ،
فلم يعترضوا أيّ اعترض كان على الرسوم ولكنهم وعدوا وعداً اقتصر على الكلام بأن تحظى هذه
الكنيسة بمعونة خارقة العادة قدرها 38الف ليرة ،تمنحها البلدية ك َلّ كنيسة للرعية .
ولكن ما جعل أهل البلدية يك ّشرون هو اللَقَب ،كنيسة مريم معونة المسيحيين ،فإ َنّ
أحداث سبوليتو ورسالة مطارنة أومبريا ،والمجادلات مع جريدة الأرمونيا دعت سلطات البلدية
إلى حذر .كان يُشتَ ُمّ من ذلك الاسم رائحة المعارضة .
-ألا ُيمكن تبديل هذا اللَقَب الغريب ؟ َس ّمَها كنيسة الوردية أو السلام أو الكرمل . . .
للسيدة مريم ألقاب كثيرة ج ّداً !
فأخذ دون بوسكو يضحك وقال :
-وافقوا على مشروعي ،واما الاسم فلا بدّ لنا من أن نَتّفق عليه ذات يوم .
فلم يتفقوا عليه قطّ وتركه كما هو .
ثمانية فلوس للشروع في البناء
حصل دون بوسكو على رخصة البناء وعهد بالتنفيذ إلى المتعهد كارلو بوتسيتّي ( )Buzzetti

31 Pages 301-310

▲back to top


31.1 Page 301

▲back to top


أخي يوسف .كان دون بوسكو قد صادفه في كنيسة مار فرنسيس الأسّيزي ،وقد صار مديراً
لاعمال البناء يحظى بالتقدير .
ثم دعا وكيلَ المال الأب سافيو أن يعمل للشروع في تمهيد الارض فقال " :ولكن يا
دون بوسكو ،كيف العمل ؟ فليس المسألة مسألة معبد ،بل كنيسة تكلّف غاليا جدّاً .في هذا
الصباح لم يكن لدينا من المال في البيت ثمن طوابع الرسائل المع َدّة للبريد " .
أجابه دون بوسكو " :باشر أعمال تمهيد الأرض .متى بدأنا عملا ولدينا سالفاً المالُ
اللازم ؟ يجب أن نترك للعناية الالهية شيئا تقوم به " .
أُنفذ قسم من الأعمال في خريف ، 1363ثم عاودا اليها في أذار ( مارس) 1361وفي آخر
نيسان ( ابريل) دعا المتعهد دون بوسكو فنزل يصحبه كهنة وتلاميذه على كثرتهم ،الى مكان
الحفر ،ليضع فيه الحجر الاول ثم التفت بعد الحفلة الى كارلو بوتسيتّي فقال له :
-ُأريد ان أُعطيك في الحل عربوناً من أجل الأعمال الكبيرة .
ثم أخرج محفظته ودفع في يَدَي المتعهّد ثمانية فلوس وهي لا تساوي ولا نصف ليرة .فلما
رأى بوتسيتّي مرتبكاً ك َلّ الارتباك أضاف لوقته :
-كن ناعم البال .إِ َنّ السيدة العذراء مريم ستُف ّكر في جلب المال اللازم .
أجل ،ان السيدة مريم العذراء ستف ّكرفي ذلك ،ولكنها ستستعمل لجلبه جميعَ أتعاب دون
بوسكو وعرقه .
مَن يَدرس شَخص هذَين القِدّيسين الكبيرَين المعاصِرَين أحدهما للآخر في تورينو ،وهما
كوتولنغو ودون بوسكو ،يدهش للفرق بينهما .لقد ساعدتهما العناية الالهية كلّ يوم ،فعاشا من
العناية الربّانية .ولكن كوتولنغو كان يقول " :إ َنّ العناية الالهية قد أعَدَت المال الذي نحتاج
اليه ،فلننتظر مجيئه الينا " .وأمّا دون بوسكو فكان يقول " :ان العناية الالهية قد أعدّت المال
الذي نحتاج اليه ،فلنذهب في طلبه " .
قال الأب باولو ألأبيرا ( ، )Alberaالخلف الثاني لدون بوسكو ،وقد عاش بجانبه في ذلك
الوقت " :إِن الذي شهد ذلك ،يستطيع وحده أن يتصور تصوّراً صحيحاً العمل والنضحيات
التي بذلها أبونا في هذه السنوات ،ليُتِ َمّ كنيسة السيدة العذراء معونة المسيحيين .وقد ع َدّها كثير من
الناس مشروعاً لا فطنة فيه يفوق قوى الكاهن البسيط الذي أخذه على عاتقه " .
شحذ دون بوسكو مخَّيلته ،لَيض َط َرّ الناسَ الى السخاء فأغرق تورينو والبيمونته بالرّسائل
والّنشرات ،ودعا الى الاكتتاب بالتبرّع ،والتمس عون " كبار" هذا العالم في تورينو وفيرنزي
ورومة ،ونظّم يانصيباً مهيباً يدعو الى الاعجاب .وفي ايار ( مايو) 1366كتب دون بوسكو الى

31.2 Page 302

▲back to top


الفارس أوريليا ( " : )Oregliaانّ البنّائين الاربعين الذين كان يُتوقع أن يعملوا في الكنيسة ،قد
خُفِض عددهم الى ثمانية لانعدام الوسائل .انه زمن كارثة لنا " .
السيدة العذراء مريم تجمع المال من أجل دون بوسكو
وإذا استطاع " دون بوسكو المسكين" أن يذّلل جميع الصعوبات ،فقد كان مَدينا بذلك إلى
عون السيدة معونة المسيحيين " التي اخذت تحصل على أحسن الصدقات قدراً " ،فإ َنّ ذكر الِنعَم
الصغيرة والكبيرة التي تمنحها السيدة العذراء مريم الذين يساعدون على بناء الكنيسة شاع بسرعة
في تورينو وفي نواحٍ من ايطاليا .
ولربّما كانت أكثر النَّعَم صَدى النعمة التي ناَلها ال َصّير فيّ عضو مجلس الشيوخ ،يوسف كوتا
)Cotta (وكان من قبلُ مَحسناً الى دون بوسكو ،ويعرفه كثير من الناس في البيئات السياسية والمالية
في تورينو .
كان ذلك الشيخ في الثالثة والثمانين ،وكان مريضاً يلزم الفراش ،ولم يترك له الأطباء أ َيّ
أمل كان في الشفاء ،فذهب دون بوسكو ،فاستطاع المريض أن يقول بصوت خافت " :بعد
بضع دقائق يجب عل َيّ الذهاب إلى الأبديّة " .
فأجابه دون بوسكو بلهجة الفرح " :كَلاّ أّيها الشيّخ ،إِن السيدة مريم العذراء لا تزال
تحتاج اليك في هذا العالم .يجب عليك أن تساعدني على بناء الكنيسة " .
فَتََنهّد الرجل الطاعن في السن " :لم يبقَ من أمل . " . . .
فانضمّ إِيمان دون بوسكو إلى رباطة جأشه وهدوئه وقال كمن يمزح " :وماذا تعمل إذا
حصلت مريم العذراء معونة المسيحيين على نعمة شفائك ؟ " .
ابتسم الشيخ وجمع قواه وص ّوب أصبعين نحو دون بوسكو وقال " :أَلفا ليرة .إِذا شفيتُ
دفعتُ ألفَي ليرة طوال ستّة أشهر ،من أجل كنيسة فالدوكّو " .
وبعد ثلاثة أيام جاء الشيخ ،وقد شفي فقال لدون بوسكو " :هاءنذا .إ َنّ السيدة مريم
العذراء قد شفتني ،فجئتُ لأدفع أَ َّولَ قسط من دَيني " .
سنروي نعمتين فقط ،في حين أن دون بوسكو كتب في 11شباط ( فبراير) 1363إلى
الفارس أوريليا " :ان السيدة مريم العذراء معونة المسيحيين تجري من اجل الكنيسة كل يوم
أشياء باهرة ،كل واحد منها أعظم من الآخر ...إِن ذلك قد يملأ كُتبًا برمّتها " .ولما ُأجري
التحقيق لإِعلان دون بوسكو طوباوّيا ،شهد المطران برتانيا ( )Bertagnaبعد ما أَدّى اليمين :
" استشارني دون بوسكو في أثناء رياضة روحيّة ،هل يُواصل بركته للمرضى بصورة السيدة

31.3 Page 303

▲back to top


العذراء مريم معونة المسيحيين وبصورة المخلّص ،لأنّ الناس كانوا يلهجون كثيراً ،كما قال ،
بمعجزات شفاء كثيرة كانت تتواصل وتشبه الخوارق .أذلك خير أم شر؟ بَدا لي أن أنصح لدون
بوسكو مواصلة بركاته " .
أ ٌمّ ورضيع وحُليّ بَخسَة الثمن
ذهب دون بوسكو ذات يوم إلى المدينة ،وبينما هو عائد إلى المصلّى رأى بالقرب من المدخل
ُأمّاً مسكينة تحمل على ذراعيها طفلا يناهز عمره السنة ،مهزولاً ُتغطّيه جروح عليها قشور ،وهو
عديم الحركة وأخرس أشبه بالميت .فوقف وسأل الأمّ .
-منذ كم َمرِض ؟
-لقد كان على هذه الحال منذ مولده .
-هل عرضِته على الأطباء ؟
-نعم ،وكنهم يقولون إنه لا سبيل الى أيّ شيء يمكن عملة .
-أََي ُسّركِ أَن يُشفى ؟
-يسرّني كثيراً – وأخذت تقبّله .
-أوتؤمنين ان العذراء تستطيع أن تشفيه ؟
-نعم ،ولكني لا أستحقّ مثل هذه النعمة .إذا شَفَته العذراء أعطيها أثَمن ما عندي .
-دَّبري أمرك اذاً عندما يتيسر لك ،فاذهبي واعترفي وتناولي القربان المقدّس ،واتلي تسعة
أيام صلاتَي أبانا الذي في السماوات ،والسلام عليك يا مريم ،واطلبي الى زوجك أن يتلوهما
معك .إِن السيدة العذراء ستستجيب لكما .
ثم بارك الطفل بركة السيدة العذراء معونة المسيحيين .
يوم الأحد بعد خمسة عشر يوماً ،كان في موهف المعبد بين الذين يطلبون التحدث إلى دون
بوسكو امرأة تحمل طفلاً عيناه مشرقتان ،كلهما حياة ،فلما وصلت إلى دون بوسكوصاحت
مُتهّللة :
-هذا هو ابني الصغير .
-ماذا تريدين مني يا سيدتي ؟
لم يذكر دون بوسكو البركة التي منحها ،فذ َّكرته بها السيدة ،َورَوَت أَنّ الطفل شُفِي في
اليوم الثالث أو الرابع من التساعية وأضافت " :والآن جئت لأفي بوعدي " ،وبينما تقول ذلك ،
أَخرجت علبة فيها حُل ٌيّ بَخسَة الثمن :طوق صغير من الذهب ،وخاتم ،وقرطان للأذنين .
فاضطرب دون بوسكو ،ولا شَ َكّ في إنه ف َّكر في ُحلي أُمه ،وهي تكاد تشبهها ن ولكن المرأة
واصلت كلامها :

31.4 Page 304

▲back to top


-وعدتُ السيدة العذراء أَن اعطيها أثمن ما عندي ،وأرجو منك أن تتقبله .
فهّز دون بوسكو رأسه :
-يا سيدتي الكريمة أعندك ما يكفيك مؤونة معيشتك ؟
-كلا ،اننا نعيش يوما بيوم على ُأجرة زوجي الذي يعمل في معمل ال َسّبك .
-هل وُفّقتما الى اذَخار شيء ؟
-كيف تريد اذّخار ،والأجرة ثلاث ليرات في اليوم ؟
-وهل يعلم زوجك أنّك تريدين أن تعطي السيدة العذراء هذه الاشياء ؟
-نعم ،إنّه يعلم وهو مسرور .
-ولكن إذا تَجردّتما من كلّ شيء ،فماذا تعملان عند وقوع حادث أَو مرض ؟
-إِن الرب يرى أنّنا فقيران وهو يدّبر الأمر .يجب علي أن أفي بما وعدت .
فتأثر دون بوسكو تأثراً شديداً فقال :
-أصغي ،نعمل هذا :إِنّ السيدة مريم العذراء لا تطالبك بمثل هذه التضحية الكبيرة .
فإِذا شئتِ أن تُقَ َّدمي لها علامةً لشكرك ،فانك ُتعطيني الخاتم وحده ،وأما الطوق والقرطان
فتعودين بها الى البيت .
-هذا ما لا أرضاه ،كلاّ ،وعدتُ بك َلّ شيء ،ويَجب َعليّ أن أٌعطي ك َلّ شيء .
-اعملي كما أقول لكِ .إ َنّ السيدة ُتسَرّ هكذا .
-أهذا صحيح ؟ فاني لا أُريد أَن ًأخلِف وعدي .
-لن تُخلفي وع َدكِ .إني أَضمن لك ذلك من قِبَلها .
بدت السيدة مَُتر ّددة ،ثم ختمت كلامها فقالت :
-اذاً ،أَعمل ما تقول ولكن اذا اردتَ ذهبي كلّه ،فلك أن تأخذه .
فكرّر دون بوسكو قوله لها لا َتهتَم ،وداعبَ الطفل ( ذكريات السيرة ،ج ، 18ص
. ) 02 – 01
عامل من ألبا
وصل رجل مسكين من أَلبا سيراً على قدميه ،بعد ما سافر نهاراً وليلا ،فاعترف وتناول
القربان المقدّس ،ثم مَثُلَ بين يدي دون بوسكو ،لكي يَفي بوعد ،فروى له أَنّه مرض ،فقال له
الاطباء أن حياته قد انتهت ،فوعد بأن َيحمل الى السيدة العذراء مريم ك َلّ مالديه من المال إِذا
شُفي ،وقد شُفي بغتة .فنظر دون بوسكو الى ذلك الرجل اللابس ثياب البؤساء ،وقد أخرج من
جيبه ورقة وفتحها بحذر :ها هوذا المال في وسط الورقة :ليرة ،فق َّدمها الى دون بوسكو وقال

31.5 Page 305

▲back to top


بلهجة الجِدّ :
-هذا كل ما أَملك .هذه ثروتي كَلّها .
-ما عملك ؟
-عامل في الزراعة .أعمل يوماً بعد يوم .
-كيف تعود إلى البيت ؟
-أعود كما جئت :سيرًا على قدمَيّ .
-ألستَ َتعِباً ؟
-قليلاً لأن السفر طويل .
-ألا تزال على الرّيق ؟
-أجل ،لأني أريد تناول القربان المقدس ،ومع ذلك أكلتُ ،قبل نصف الليل ،كسرة
من الخبز كانت في جيبي .
-والآن ما عندَك من أجل طعامك ؟
-لا شيء .
-اذاً هذا ما نعمل :اليوم تبقى عندي فأُعطيك طعام الغداء والعشاء ،وغداً ،اذا وافقك
ذلك ،تعود إلى البيت .
-ما أحلى ذلك !آتيك بليرة وُتطعمني بما يكلّف ليرتين او ثلاث ليرات !
-أصغِ :ق ّدمتَ الى السيّدة مريم .ودون بوسكو الىن يق َدّم لك تقدمتَه وهي
قليل من الحساء وكأس َخمر .
-اقول لك :لا ،أعلم أن لدون بوسكو وللسيدة صندوقاً واحداً .هاءنذا أعود سَيراً على
قدمَيّ .إذا جعتُ طلبتُ الص ّدقة .إذا تعبتُ قعدتُ تحت شجرة .وإذا َنعستُ فسيدَ ُعني الَنّاسُ
ا َضّجِع على الَتّبن .أريد أن أُتِ َمّ وعدي كما يجب .أحيّيك .ص َلّ من أجلي .
لم يُقل غير ذلك ومضى ( ذكريات السيرة ،ج ، 18ص . ) 03 – 02

31.6 Page 306

▲back to top


39
الأب روا :من ميرابلّو
الى تدشين الكنيسة
في ميرابلّو ،في ابرشية ( )Casaleمونِف ّراتو ،رغب خوري الرعية في الحصول على
مدرسة في رعيته ،فدعا دون بوسكو فَقَبِل هذا بعد ما تـكد أنه " سيكون السَي َدّ في بيته" ،واشترط
أن المعهد سيُف َضّل قبول طالبي الكهنوت .
كان عند ذاك غارقاً حتى عنقه في بناء كنيسة السيدة معونة المسيحيين .وقد ابتدأ العمل قبل
قليل ولكنه اتّخذ كل التدبيرات اللازمة لنجاح مبادرة ميرابلّو ،فوافق السيد كالابيانا

31.7 Page 307

▲back to top


)Calabiana (مطران كازالي موافقة تاما ،ولم يكن لديه سوى عدد قليل جداً من طلاّب
الكهنوت ،وٌأطلِق على الدار اسم " الاكليريكية الصغيرة " .
في خريف 1363دعا دون بوسكو الاب وقال له :
-هناك تضحية كبيرة أطلبها منك .ُعرِض علينا فتح " اكليريكية صغيرة" في ميرابّلو في
مونفرّاتو .أنوي إرسالك لكي تديرها .هذا أ ّول بيت يفتحه السالسيّون في خارج تورينو .إن
آلافاً من العيون سوف تح َدّق الينا لترى كيف " ندبّر أمرَنا" .إنّي أثق ثقة تامة بك فسأعطيك ك َلّ ما
يلزمك من المعاونين لكي يبدأ هذا البيت بداءة حسنة .
كان روا في السادسة والعشرين .درس معه دون بوسكو جدول السالسيين الذين
سيرافقونه ،فاختير الشمامسة بروفيرا ( )Proveraوبونيتّي ( )Bonettiوتشيرّوتي ( )Cerrutiوألبيرا
)Albera(ودالماتسو ( )Dalmazzoوكوفّيا ( . )Cuffiaودرسا أيضاً خطة تنتج بسرعة نتائج
حسنة :يُنقل أناسٌ من أحداث مصلّى تورينو الى معهد ميرابّلو ليكونوا خميرة صالحة بين الصبيان
التسعين الذين قُبلوا للسنة الأولى .
أربع صفحات قيمتها قيمة وصية
ذهب الأب روا ميرابلّو بعد عيد الوردية ،في أول تشرين الأول ( اكتوبر) فحمل معه
أربع صفحات من النصائح الثمينة ،كتبها له دون بوسكو .
قال بيترو ستيلا ( )Pietro Stellaفي هذه الصفحات الأربع الصغيرة " :لها قيمة دستور
ووصية ،فقد رسم فيها خطّةً تحوي أهَ َمّ ما يساور فكره ليكون أباً و ُمرَبياً ،وكاهناً يهدف الى
خلاص النفوس " .
وشعر دون بوسكو أيضاً أَنّه أفلح في أن يخ َطّ في هذه الاسطر مو َجزاً من أحسن موجزات
" طريقه للتربية" حتى إنّه نسخ بعد حين هذه الصفحات ( مع بعض التبديلات والاضافات )
لَي َطّلِع عليها جميع الرؤساء السالسيين ،وجعل عنوانها ذكريات سِرّية من أجل الرؤساء .
فلنحاول ان ُنجملها بايجاز .
" إني أ َكَّلمُكَ بصوت أب وَدود يَفتح قلبه لولد من أعزّ أولاده .
أنت ونفسك

31.8 Page 308

▲back to top


-لا تدع مجالا للقلق .
-تَجََنّب التَق ُشّف في الطعام .لا تسترح ك َلّ ليلة أق َلّ من س َتّ ساعات .
-أقِم القدّاس وأُتَلُ الفرض بتقوى وَتعَُبّد وانتباه .
-تأَمّل كل صباح بعض الوقت ،وزُر القربان المقدس في أثناءِ النهار .
-أبذلُ جهدك لكي تكون محبوباً ،قبل أن تكون مرهوباً ،اذا أمرتَ وأدَبّتَ أحداً فاجعله
دائماً يفهم أنّك تبغي الخير لا هوى النفس .لا ت َذّخِر وسعاً لتَحول دون ارتكاب الخطيئة .
-فكّر مليّاً قبل أن تعزم على شيء ذي بال .
-عندما ُيعرض عليك مسألأة تتناول بعضهم ،فاجتهد أن توضِحَها قبل أن تحكم فيها .
علاقاتك بالمعلمين
-إجتهد أن تُكثر من محادثتهم .إذا َعلمتَ أن هناك شيئاً ناقصاً ،فابذل كل ما بِوسعك
لكي تحضره .
-فليتجنبوا الصدقات المريبة بينهم وبين التلاميذ ،والمحاباة .
علاقتك بالناظرين
-إجتهد أن تح َدّثهم لتعرف رأيهم في سلوك الأحداث .ليراعوا الدقة في عملهم .ليقضوا
فرصهم مع الأحداث .
علاقاتك بصغار التلاميذ
-لا تقبل لأ َيّ سببٍ كان صبياً ُطرد من مدارس أخرى ،أو نُّبهت بطريقة ُأخرى إِلى أَن له
عادات سيئة .
-اعمل كل ما بوسعك لكي تقضي وقت الفرصة كّلها بين الأحداث ،فاسعَ لأن تهمس في
آذانهم بعض الكلمات الودّية التي تعرفها ،عندما تسنح الفرصة أو ترى أنّ ذلك ضروريّ .هذا
ِس ٌرّ عظيم لكي تملك قلب الأحداث .
-اعمل ك َلّ ما يلزم لكي تنشئ جمعية من الدنس .
علاقاتك بالخارجين
-إِنّ المحبة والتأدب هما ميزتا الرئيس في معاملته للداخليين والخارجيين على ح ًدّ سواء .
-في الامور المادّية كن متساهلا الى أقصى حدّ ،ولو كّلف ذلك بعض الخسارة ،ما زالت

31.9 Page 309

▲back to top


المحبة سليمة .
-في الأمور الروحية أو ال ُخلُقيّة فحسب ،يَجب أن يُ َح َلّ ك ُلّ شيء في سبيل مجد الله الأعظم
وخير النقوس .فالمشاغل والزهو ،وحب الثأر ،والإعجاب بالنفس ،والتعلق بالرأي والادّعاء
بل الشرف نفسه ،ذلك كله يجب أن يُبذل في تلك الحالة " .
وهذه هي أهمّ الإضافات التي زادها لدى نسخه هذه الاسطر وتقديمها للرؤساء وجعل
عنوانها ذكريات سرّية من أَجل الرؤساء .
-تَنََبّه فلا تأمر أحداً قطّ بما يفوق طاقته أو كانَ خطراً على صحّته .
-ارفع دائماً قلَبك الى الله لحظةً قَبل أن تعزم على شيء .
-أُب ُذل جهدك لكي يعرفك تلاميذك وتعرفهم ،بقضاء أطول وقت ممكن معهم .
-إع َهد إِلى غيرك في أعمال القمع والتأديب .
-إهت َمّ اهتماماً كبيراً بتشجيع ما يوافق مُيول ك َّل واحد ،فاعهد بالمناصب الى الذين َتسُ ُرّهم
أَكثر من غيرهم .
-يجب الاقتصاد في كل شيء بشرط أن لا ينقص شيء لدى المرضى على الاطلاق .
-ان التفكير والزمان والخبرة جعلتني ألمس دائماً لمس اليد أن الشراهة والطمع والكبرياء
سَبّبت خراب جمعيات عظيمة الازدهار ،ورهبانيات ذات شأن .إنّ الأعوام ستَُي ِسّر لك معرفة
حقائق لربما تبدو غير قابلة للتصديق في الحاضر .
" الكلمات الصغيرة التي يهمس بها دون بوسكو في الأذن"
أوصى دون بوسكو الأب روا " :إسعَ لأن تهمس في آذانهم بعض الكلمات الودّية التي
تعرفها" .كانت الكلمة الصغيرة التي " يهمس بها دون بوسكو في الأذُن" ،كما شهد تلاميذه ،
س ّراً من أسرار تربيته .حاول الاب لموان أن يجمع هذه " الكلمات الصغيرة" فسأل الذين كانوا
صبياناً عند دون بوسكو ،وهذه بعضها مأخوذة من جدوله :
- " -كيف حالك ؟ وكيف حال نفسك ؟
-عليك أن تساعدني في مسألة عظيمة .أتعرف ما هي ؟ أن تصير صالحاً .
-متى تشرع في أن تكون عَزائي ؟
-متى ُتريد أن تحطّم قرنَي إبليس باعتراف حسن ؟
-أتريد ان نصير صديقَين في شؤون نفسك ؟
-أَتخشى أن يكون الرب مستاءً منك ؟ التفت الى السيدة مريم العذراء .
-إِن الفردوس لم ُيج َعل للكسالى .

31.10 Page 310

▲back to top


-ص َلّ وأَح ِسن الصلاة فتنال الخلاص من غير شك .
-أتجدُ نفسك في العاصفة ؟ أُدعُ السيدة مريم العذراء ،إِنها نجمة البحر .
-فكّر في دينونة الله .
-لا ُتس ِرف في الاتكال على قواك .
-ف ّكر في الله ،تصبح أحسن ُخلُقاً واكثر سعادة .
-إِذا ساعدتني ،فاني أُريد أن أجعلك سعيداً في هذه الحياة وفي الحياة الاخرى .
-من يثبت الى النهاية فذلك الذي يخلص .
-العمل ! العمل ! فالراحة في الفردوس .
-تشَ َجّع ! فان زاوية صغيرة من الفردوس ستُصلح ك َلّ شيء " .
أ ٌمّ و َعمل كثير
رغب دون بوسكو أَن تَصحب الابَ روا ُأ ُمّه الى ميرابلّو .ذلك منه عطف ولطف ،إنها
سُتعنى بثياب الصبيان وتكون على الخصوص عنصرَ توازن في الاوقات التي لا َمناص منها ،إِذ تخور
قوى ابنها الشابّ .
قامت بعض المشاكل بادئ ذى بدء بسبب شهادات التعليم ،ولكن السالسيين في ميرابلّو
ما عتّموا أن حصلوا على نتائج حسنة ج ّداً ،ولا سيما في ايقاظ الدعوات الكهنوتية .جاء في بعض
الاخبار بلهجة الثناء أنّ " الأب روا تص َرّف في الامور في ميرابلّو تص ُرّفَ دون بوسكو في تورينو " .
هكذا لمدّة سنتين .
في أ َوّل السنة 1362كان في الرهبانية السالسية ثمانون عضواً ،فيهم أحد عشر كاهناً ،
فمن بين الشمامسة الذين أُرسلوا مع الأب روا إلى ميرابلّو صار الأب بونيتّي ( )Bonettiوالأب
بروفيرا ( )Proveraكاهنين ،وفي تورينو أيضاً ،بالقرب من دون بوسكو والأب الاسوناتّي
، )Alasonatti(تَلَقّى الكهنوت الآباء كالييرو ( )Caglieroوسافيو ( )Savioوفرنتشيسيا
)Francesia(وروفّينو ( )Ruffinoوغيفارلّو ( ، )Ghivarelloودوراندو ( . )Durando
ومع ذلك ففي تلك السنة نزلت بالرهبانية الفتَيّة محنة شديدة ،ذلك بأن خمسة من أعضائها
الأ ّولين انقطعوا عن العمل لأسباب مختلفة في بعض أشهر ،بينما يتجاوز الداخليون السبعمائة ،
وكنيسة مريم معونة المسيحيين تبتلع أموالا ضخمة ،وُتسبّب للأب روا تعباً بلغ حدود استنزاف

32 Pages 311-320

▲back to top


32.1 Page 311

▲back to top


قواه .
صورة مريم معونة المسيحيين
في الأشهر الاولى للعام 1362تسلطت على ذهن دون بوسكو الصورةُ الكبيرة التي ستوضع
في الكنيسة ،فعهد باخراجها إلى المصور لورنزوني ( )Lorenzoneوحاول أن يشرح له ك َلّ ما
يرغب أَن يراه في هذه الصورة :
-في الأعلى السيدة العذراء بين الملائكة ،يحدقُ بها الرسل والأنبياء والعذارى والمعترفون ،
وأما في الأسفل فشعوبُ مُختلف أَطراف العالم يبسطون أيديهم اليها ويطلبون عونها .
تركه لورنزوني يفرغ من كلامه ثم قال :
-وهذه الصورة ،أين توضع ؟
-في الكنيسة الجديدة .
-أوَ تظن ان الكنيسة سَتَّتسع لها ؟ أين أجِد ردهة لأرسمها؟ فاذا أردتَ الحصول على
المساحة الملائمة ِلما تتخيّلُه ،وَ َجب العمل في ساحة كاستلّو .
فَاض ُط َرّ دون بوسكو الى الاعتراف أنّ الرسام على صواب ،فاُتِّف َق على أن يرسم حول السيدة
العذراء الرسل والأنجيليين وحدهم ،وفي أسفل الصورة ُيرسم المصلّى .
استأجر لورنزوني َبهواً كبيراً جداً في قصر مداما ( )Madamaوشرع في العمل ،فدام عمله
ثلاث سنوات وقد وَُفّقَ في أن يرسم وجه مريم معونة المسيحّيين بملامح ُيشرق فيها كلها لطف
الأمّهات .
وروى كاهن مِن المصلّى " :دخلتُ ذات يوم مكان عمله لأرى الصورة .كان لورنزوني ،
وقد ارتقى الكرسي ،يُنهي بريشته رسم وجه مريم ،فلم يلتفت للضجة التي أحدَثُتها عند
دخولي ،وواصل عمله ،ثم نزل بعد قليل وأخذ يتأمل ،واذا به يشعر بوجودي فيمسك بذراعي
ويقودني الى مكان يسطع فيه النور ويقول لي " :أنظر ما أَجملها .إِنها ليست عملي ،كلاّ ،فلست
أنا الذي أُصوّر .هناك يدٌ تقود يدي .قل لدون بوسكو إنّ الصورة ستكون رائعة " .كان
متح َّمساً الى حد يفوق ك َلّ وصف ثم عاد إلى العمل " .
لما ُح ِملت الصورة الى الكنيسة و ُعَلّقت بمكانها ،جثا لورنزوني على ركبتيه وأخذ يبكي
كالطفل .
وداع الأب الاسوناتّي وقدوم الأب روا

32.2 Page 312

▲back to top


صباح الثامن من تشرين الأول ( اكتوبر) 1362وصل الشماس شيبراريو ( )Cibrarioمن
لانتسو ( )Lanzoإلى فالدوكّو ،يحمل إلى دون بوسكو خبر وفاة الأب الاسوناتّي في الليل ( وكان
قد ذهب ليستعيد شيئاً من صحته ) وسلم إِليه رسالة .قضى السنين الاحدى عشرة الأخيرة
من حياته في عمل بَ َذلَ فيه نفسَه صامتاً .كانت كومة الملّفات والقوائم ودفاتر الحساب قد بلغت
مبلغاً عظيماً حينذاك ،حتى إِنّه قضى لياليه الاخيرة من غير أن ينام .كان قد ضمن لنفسه
الفردوس ضماناً جِدّياً كما طلب لدى وصوله .في أيلول ( سبتمبر) أذاقته قرحة في حلقه آلاماً
مب َرّحة .أحيا دون بوسكو ذكراه لدى الصبيان بتأثر كالذي يُظهره لأخ له .كانت وفاته
خسارة جسيمة جداً للمصلّى .
كان الأب روا ُيعِ َدّ البرنامج للسنة الدراسية ،وقد أوشكت أن تبتدئ فجاء الأب برافيرا
من تورينو وقال له :
ـ ان دون بوسكو يطلبك إلى المصلّى .سيتولّى الأب بونيتّي إِدارة المعهد .إذهب إليه باسرع
ما ُيمكنك .
ذكر الأب بروفيرا " :كان الأب روا يكتب جالساً الى طاولته ،فلم يَتردّد ولا لحظة بل نهض
من غير أن يسألأ سؤالاً أو يطلب تفسيراً ،وأخذ كتاب صلاة الفرض وقال " :لنذهب " .ترك في
ميرابلّو أ َمّه الى أن يجدوا من يهتمّ بثياب الصبيان " .
فلما وصل إلى تورينو اكتفى دون بوسكو بقوله هذا :
-لقد عملتَ عملَ دون بوسكو في ميرابلّو ،والآن تعمله في فالدوكّو .
سَلّم إليه كل شيء :ورشات طلاب الصناعة الثلاثمائة والخمسين ،وورشات بناء
الكنيسة ،ونشر القراءات الكاثوليكية ( 12888مشترك) وعبء قراءة معظم الرسائل التي
يتلقّاها والجواب عنها .
الصباح تلتهمه المقابلات
صار صباح دون بوسكو بعد ذلك " تلتهمه " المقابلات .
روى الأب لموان " :ابتدأَت منذ اول عهده أي في 1316وتضاعفت شيئاً فشيئاً .في السنة
1323كان لا يزال بوسع دون بوسكو أن يخرج من البيت نحو الساعة العاشرة والنصف ،أو
الحادية عشرة ،ولك َنّ الاقبال بلغ في السنة 1368مبلغا اضطرّه إِلى البقاء في غرفته طوال
الصباح ،من الساعة التاسعة حتى الساعة الواحدة بعد الظهر ،واستمرّ ذلك حتى مرضه الاخير .
ولّما تُوفّي الأب كافاسّو صار وارثاً ِفعليّاً لروحه .كان ك ُلّ ما في تورينو من صالح وَوَجيه َورفيع في

32.3 Page 313

▲back to top


مختلف الطبقات الاجتماعية يًراجع دون بوسكو في أُموره " .
أضاف الأب كالييرو " :رأيتُ دائماً كثيراً من الناس يصعدون إليه ليروه ،فكانوا يأتون
فيسألونه أن يصلّي من أجلهم ،أَو يباركهم أو ينصح لهم في اعمال صالحة يقومون بها ،أو يأتونه
بهبات من أجل صبيانه ،وكانوا يأتون أيضاً ليروه ويتحدثوا إليه .كانوا من أبناء الشعب ومن
أصحاب السلطة ،والوزراء أيضاً ومن رؤساء المعاهد الكهنوتية والمطارنة " .
َذ ّكر محامٍ استقبله دون بوسكو كثيراً " :ولا َشكّ في أنّه كان هناك أشياء ضرورية عليه أن
يعملها من غير تأخير ،ومع ذلك لم يكن ُيظهر شيئاً من قلة الصبر لكي يُقصّر الحوار ،كان يرعى
حرمة الناس وكان بسيطاً ودوداً .سمعتُ عدّة م ّرات مَن قال :ما أحسن استقبال دون بوسكو
للناس ! " .
سمعه الأب يواكيم برتو ( )Bertoأمين سره ُيشَجّع مراراً المرضى ،فكان يسندهم عندما
يدخلون إليه .كان دون بوسكو ُيك ّرر القول " :إ َنّ الرب أبٌ حنون ولن يسمح أبداً أن ُنج َرّب
فوق طاقتنا " .وإذا َذك َرّه المرضى بالاعمال الصالحة التي قاموا بها ،صاح " :إنّ الله لا ينسى شيئا
وسيدفع كل شيء بسخاء في الفردوس .إنّه أحسن مَن يؤدّي ما عليه " .
روى الأب دلماتسو ( " : )Dalmazzoجاءه ذات يوم تاجر غنيّ جداً غير مؤمن ،جاء بدافع
الفضول فحسب .رأيتُه يخرج وقد أَخذه الدهش كل ماخذ وهو يصيح ثلاث م ّرات أَو أَربع " :يا
للرجل هذا رجل ! " .سألته ماذا تعلّم من دون بوسكو فقال " :تعلّمتُ أشياء لا يتعلّمها المرء
من سائر الكهنة .فبينما يصحبني إلى الباب قال لي :لنعمل أنت بمالك وأنا بفقري على وجه يمكّننا
من أن نجد نفسنا في الفردوس ذات يوم " .
التمثال الكبيرتحت القبة
في السنة 1366بلغت أعمال الكنيسة القبّة ،ثم توقّفت إِذ لم يبق شيء من المال ،فأمر دون
بوسكو بأَن يبدّل بالقبة عقدٌ بسيط وبإنهاء الأعمال على النحو هذا ،َفلَِبث المتعهّد بوتسيتي ووكيل
المال الأب سافيو متكَدّرَين وقد فاجأهما الأمر :فإن الكنيسة تفقد هكذا شيئاً كثيراً من جمالها ،
فق ّررا التريّث شهراً والسير في الأعمال الأخرى لعلّ دون بوسكو يغيّر رأيه في أثناء ذلك .فإذا ِبعُضوٍ
من مجلس الشيوخ يحضر فيقول :
-أصحيح َأَّنّك تريد إِلغاء القبة ؟
-ما من أحد يريد الغاء شيء .إِن الوسائل ناقصة ويجب إِنهاء السطح قبل الشتاء .
-نِفّذّوا مخطط الكنيسة كما هو .إنّ الوسائل لن تنقص .
وقال أيضاً لدون بوسكو :
-انّي آتٍ بأحداث تُثبت أ َنّ الرب يردّ عليّ منذ الآن مائة ضعف ما أعطيته في سبيل حَبّه .

32.4 Page 314

▲back to top


رُفعت القبة ويوم الاحد الموافق 22أيلول ( سبتمبر) 1366صعد دون بوسكو يصحبه
صب ٌيّ إلى السقالة فوضعا الحجر الذي يختم آخر حلقة من الحجر .
في العام 1362وُضِع تمثال في قمّة القبة .كتب دون بوسكو " :طولها نحو أربعة أمتار ،
وتعلوها إثنتا عشرة نجمة .إِنّها من النحاس المطلّي بالذهب وهي نّيرة تتلألأ لمن ينظر إليها عن
بُعد ،عندما تضربها أشعّة الشمس ،كأنّها تتكلم فتريد أن تقول :إنِّي ههنا أتَقّبل صلوات أبنائي
فأغمر بالنعم والبركات أولئك الذين يحبّونني " .
كان لا يزال فالدوكذو وبورغو دوار ضاحيتي فقيرتين كئيبتين في بعض الاحيان لِما فيها من
حقول بور ،وبيوت وأكواخ يسكنها الفقراء ،وفيها الدار الكبيرة مأوى الالم التي يقال لها
" الكوتولنغو" ومشروعات السيدة بارلو ودون بوسكو .
كانت الأ َسر النيبلة الغنيّة من المدينة ،وهي تقود عربتها إلى الريف ،تنزل مراراً في هذا
الحيّ .
وقد نزل به أيضاً دوموندو دي أَميتشس ( )Edmondo De Amicisالكاتب الشهير ،وكان
أَهل عصره موَلعين به فكتب " :يُوافق حزن هذا الحيّ الغريب الرّيفُ المُحيط به المنبسط الصامت
ولا سيما في الشتاء ،ساعةَ الشفق عندما يتلألأ في آخر أشعة الشمس تمثالُ مريم معونة المسيحيين في
العالم المذ ّهب ،وهو منتصب فوق قبة الكنيسة المنعزلة ،وذراعاها مفتوحتان نحو جبال الألب ،
إِنها ترتفع فوق الأسطحة والحقول التي ُيغطّيها الثلج ،وقد َغرَِقت في ظل المساء الضارب إلى
الزرقة " .
عندما تتمّ " النبوءات الجنونّية"
في 1حزيران ( يونيو) 1363ك َرّسَت كنيسة السيّدة معونة المسيحيين .
فيي الساعة العاشرة والنصف صعد المطران ريكاردي ( ، )Ricardiرئيس أساقفة
تورينو ،إِلى المذبح الكبير ،لِيُقيم أول ق ّداس ،ثمّ أقام القداس دون بوسكو لوقته ،يعاونه الأب
فرنتشيسيا ( )Francesiaوالأب لموان ( . )Lemoyneكان في الكنيسة 1288من الأحداث .
فكانت تلك الساعة ساعة تَأثُر شديد في جميع الحضور ،فان " النبؤات الجنونية" التي أنبأها
دون بوسكو هي حقيقة تراها العيون كُّلها .إِن " الكنيسة الرائعة الكبيرة" ارتفعت على نحو
عجيب " في الحقل المزروع بالذرة الصفراء والبطاطا" ،وكان حول القبّة الشريط الأبيض الذي
كُتب عليه " بأَحرف كبيرة :هنا بيتي ،ومنه ينطلق مجدي " وكان " يحدق بالمذبح عدد كبير ج ّداً من
الأحداث " .
فَنَبّه للأمر امرؤ بصوت عالٍ في ذلك اليوم ،كأَنه يريد أن يكافئ دون بوسكو على كل ما
تح ّمله من مشقّات في السنوات الاخيرة ،فأجاب بتواضع " :لستُ صانع هذه الامور العظيمة .

32.5 Page 315

▲back to top


إِن الرب ،إِن مريم معونة المسيحيين هما اللذان شاءا أن يستخدما كاهناً فقيرا لكي يحققها .إ َنّ
كل حجر في هذه الكنيسة نعمة من السيدة العذراء مريم " .
بعد يومين كتبت جريدة الوحدة الكاثوايكية في كلامها على تكريس الكنيسة جملةً ُس َرّ بها
دون بوسكو سروراً لاحَدّ له " :شََيّد الكنيسة الفقراءُ من أجل الفقراء " .
ان ذلك اليوم وهو يوم عيد َعظيم لم يُفقد دون بوسكو ُرشده .ولو تع َرّض لتلك التجربة ،
فَإن المصاعب الشديدة التي عادت تساوره في الغد ،كانت كافية لتمنعه من ذلك لوقته .
كتب في أثناء تلك الأيام " :إن ثمنَ الخبز يذهلنا ،ففي تورينو وميرابلّو ولانتسو ( )Lanzo
( هو المعهد الثالث الذي فتحه حينذاك ) يجب علينا أن ندفع اثني عشر ألف ليرة من اجل الخبز
وحده " .
الأب روا ينهار
إِن الذي بذل نفسه أكبر بذل في ذلك الوقت وهو يلزم الصمت دائما ،هو الأب روا .لم ينم
طوال أكثر من شهر ما يزيد على ثلاث ساعات او أربع في الليل ،فنال الافراط في العمل آخر الامر
من جسمه .في 20تموز ( يوليو) 1363انهار فسقط بالحرف الواحد بين ذراعي صديق له ،في
مدخل المصلّى .
فنُِقل إلى غرفته ،فحصه طبيب فح ّذر بقوله :إِنه مصاب بالتهاب حادّ للصفاق .
كان دون بوسكو غائباً فأرسلوا لوقتهم يطلبونه ،فوصل عند المساء ولكنه ،لما عاد ،كان
الصبيان يملأون الموهف وهو ينتظرون أن يعترفوا لديه .كان دون بوسكو مشرق الوجه على نحو
عجيب .قال له الأب سافيو :
-َهلّمّ في الحال لترى الأب روا ،فقد يذهب من لحظة إِلى لحظة .
-كلا ،إِن الأب روا يذهب من غير إِذني .انا ذاهب لأستمع إلى اعتراف الصبيان .
سمع الاعترافات حتى جاءالليل ،ثم لم يصعد إلى المستوصف بل ذهب فتناول طعام
العشاء ،فساد حوله سكوت فيه تَوّتر .فما من أَحد يفهم لماذا ُيظهِر مثل هذا الإِعراض عن أهمّ
معاون له ،وهو ُيلِحّ في طلب مشاهدته ،في حين أَن من عادة دون بوسكو أن يعطف عطفاً شديداً
على المرضى .
تناول الطعام ثم صعد إلى غرفته ليضع فيها حقيبته ،وعزم عند ذلك فحسب على الذهاب
إلى الأب روا .كان عرق بارد يغطي جبين المريض .إِن حالته سيئة حقّاً .رأى دون بوسكو
فتمتم :
-إِذا كانت هذه الساعة ساعتي فقل لي :إِنّي لا أخاف الموت .

32.6 Page 316

▲back to top


فصاح دون بوسكو " :الموت ؟ أُّيها الأب روا العزيز ،إِنّي لا أريده .أفهم َت ؟ لا أُريد ان
تموت ،سأَكون ُمرتَبِكاً من دونك .يجب علينا أن نعمل أيضاً ،وأن نعمل ،فلا مجال للموت " .
رأى على الطاولة علبة الزيت المقدس من أجل مسحة المرضى فسأل :
-من ذا الذي يريد مسح الأب روا المسلحة الاخيرة ؟
أجاب الأب سافيو " :أنا " .
-إِنّكم اناس قليلو الايمان حقاً .َتشَ َجّع أيَّها الأب روا .إِسمع :ولو قذفتُ بك من
النافذة فلن تموت .والآن أَعيدوا الزيت المقدس إلى مكانه ودعوه يستريح .
شُفي الأب روا بعد ثلاثة أسابيع ،وبعد شهر ونصف الشهر من النقاهة عاد إلى الساحة
مثل صبي من الصبيان .لا َيسعُه بعد أن يركض ،ولكَنّه يلعب " بالكلل" مع أَصغر الصبيان
سِنّاً ،فيقعد القرفصاء ويستهدف كريات من الفخار بإِبهام متوّتر العصب .
في آب ( اغسطس) 1326سأل راهب سالس ٌيّ دون بوسكو بغت ًة بعد العشاء :
-أصحيح أن رهباناً سالسيين ماتوا لإِفراطهم في العمل ؟
فأجاب " :لو ص َحّ ذلك لما أصيبت الرهبانَيّة بأذى ،بل العكس بالعكس .ولكن ليس
ذلك صحيحاً .هناك واحد قد يستحقّ لقب ضحية العمل هو الأب روا .ولكن الحمد لله ،إن
الرب قد حفظه لنا متيناً قوّياً " .
11
" مرحلة جديدة" للسالسيين
يشعر المرء ان دون بوسكو ،منذ إن شرع في الاهتمام بكنيسة مريم معونة المسيحيين ،شبه
جامد وسجين مشروعه ،وكأ َنّ التاريخ الذي حوله لا يتصل بتاريخه.
يبدو أ َنّ " التاريخ السالسي" قد بدأ مستقلاً عن التاريخ " الآخر" .إنّه التاريخ السالسي
بما فيه من مراحل ونجاح ،ومعارك خاصّة به :إِنشاء بنات مريم معونة المسيحيين ،وذهاب
المرسلين ،وقدوم عهد المعاونين ،والمقاومة الحميدة على ما فيها من المشقة لأصحاب السلطة
الكنسية في تورينو في سبيل استقلال الرهبانية ،وما وجب استعماله من المحاولات المُضنية في رومة
لنيل الموافقة على القوانين السالسية .ومع ذلك فقد امتزج تاريخ ايطاليا وما فيه من تقلّب وصراع
شعبي لتحسين أَحوال التعليم ،وغير ذلك ،بتاريخ عمل دون بوسكو في سبيل الخير العام .لقد
استوحى من احداث إِيطاليا ما يساعده في حكمه على ماجريات الأمور .

32.7 Page 317

▲back to top


كان عدد سكان ايطاليا قبل احتلال دولات الكنيسة 22مليونا ،ثمانون بالمائة منهم
ُأمّيون ،وعدد طلاب الجامعة لا يتجاوز ، 6288وكان سبعون بالمائة من الايطاليين يُقيمون في
الريف ويحرثون الأرض .طول السكة الحديد ألفا كيلومتر ،والاسطول التجاري الايطالي هو
الثالث في العالم بعد انكلترا وفرنسا .
وكانت الحالة السياسية والاجتماعية عسيرة في إيطاليا ولا سيما في الجنوب ،وكانت
عصابات من اللصوص تعيث فساداً في أماكن كثيرة ،فكانت الحكومة تكافحها بوسائل العنف من
غير أن تحاول القضاء على أسباب اللصوصية ،وهي الجهل والبؤس الاجتماعي وثورة أهل الريف
على أصحاب السلطة الذين يفرضون ضرائب باهظة ،ويجنّدون الشبان .
قُِتل نحو خمسة الاف لصّ في السنوات بين 1368و ، 1362ولكن مشاكل جنوب ايطاليا
ظلّت على حالها ،فأخذ أهلها يهاجرون بعد السنة ، 1361وكان المعدل السنوي للمهاجرين 23
الفاً كل عام ،وبلغ في السنة 1326خمسمائة .
لما بعث دون بوسكو بمرسليه الأ ّولين إلى الارجنتين قال لهم " :اذهبوا فابحثوا عن إِخوتنا
الذين ساقهم البؤس والمغامرة إلى أرض غريبة " .
المعارك في تورينو
في السنة 1362تجدّد الصراع بين الدولة الايطالية والكرسيّ الرسوليّ من أجل رومة ،
فوقعت معارك عنيفة فمُنِيَت الحكومة بالهزيمة ،وعزمت على نقل عاصمتها من تورينو إلى فيرانزي
بناءً على اتفاق مع نابليون الثالث الذي رضي بأن يُخرج جيشه الفرنسي ،وكان قد دخل ايطاليا
للدفاع عن البابا .
فلما بلغ الخبرُ أهلَ تورينو ثار ثائرهم ،فن ّكلت بهم قِوى الأمن الداخلي ،وسقط عدد من
الموتى والجرحى .هاج الشعب فخاف وزير الداخلية وقوع حرب أهلية فاستدعى 23ألف
جندي ،و ُوضعت المدافع على مكان يشرف على المدينة ،وفوهاتها مص َوّبة إلى قلب المدينة.
في مساء الواحد والعشرين من أيلول ( سبتمبر) جمع دون بوسكو أَحداثَه كَّلهم تحت حنايا
فالدوكّو ،فصلّوا من أجل تورينو وأهلها .
وفي 22أيلول تج َّدد الشغب وقتل 26رجلاً ونقلت العاصفة من تورينو إلى فيرانزي وشعر
أهل تورينو بأنّهم أٌصيبوا بالخيانة .

32.8 Page 318

▲back to top


أزمة دينية :الكتاب المقدس وأسعار البورصة
وشعر البابا أيضاً بأَنه مُني بالخيانة .رأى بيوس أَنّه حُرم حماية نابليون العسكرية
فتش َدّد في مواقفه المخالفة للحرّيّة مستنكراً في وثيقة قيل لها " الجدول" ( )Syllabusاستنكاراً شاملاً
" العقائد الحديثة" ،وانكر البابا في الأسطر الأخيرة من الوثيقة أنه " يسع الكنيسة بل يجب عليها
أن تصالح وتوافق التقدم والحرية والمدنّية الحديثة " .
كان البابا وكثير من الهيئات الكاثوليكية في خوف من الأزمة الدينية الشديدة ،التي تبدو كأّنها
تب َّدل منظر العالم .
قال ترانيلو ( " : )Tranielloكانت الطبقات الحاكمة الجديدة ،ورؤساء الاعمال ،تفضّل
قراءة أسعار البورصة على قراءة الكتاب المقدس .وكانت الطبقات الكادحة ،وقد أٌقِتلعت من
جذورها ،واسُت ِغَلّت ،تعتنق صراع الطبقات أكثر مما تعتنق الطوباويات الانجيلية .فإنّ هجرة
أهل الريف إلى المدن ،والتبديل القسريّ للصناعة والأعمال ،وأحوال المعيشة الجديدة ،
وانحلال النسيج الاجتماعي القديم على العموم ،ذلك كله سَبّب تبديلاً عميقاً في أساليب
التفكير ،وحوّل فئات من الناس مه َمّة عن خوارنتهم ورعاتهم ،وقد ظهر ذلك بمظهر الرفض
للمبادئ الكاثوليكية التقليدية والتخلي عن أعمال التقوى المسيحية أو تضاؤلها .وفوق كل شيء
المقاومة لأصحاب السلطة الكنسية .وقد بقيت متعلقة مدة طويلة بعالَم قد ولّى عهده " .
بلغت هذه الحالة ذروتها لّما استولت الجيوش الايطالية على رومة في السنة ،1328فدفعت
الكاثوليك إلى الاعتصام بأنفسهم وتنظيم أُمورهم فاصبحوا " دولة في الدولة" .أرادوا أن يُنقذوا
ِق َمهَم الخاصة ويرَبّوا أجيالاً جديدة في ج َوّ مسيحي ،فانشأوا ( بالمحاذاة مع مؤسسات الدولة
المعادية للكنيسة) تعاونيات " كاثوليكية" ،ومصارف شعبية " كاثوليكة" ووكالات ضمان
" كاثوليكية" ومدراس ومعاهد "كاثوليكية،"من أَجل تربية أولادهم .
عاش دون بوسكو هذه الحقبة من تاريخ ايطاليا فبذل شيئاً كثيراً من قواه ليفتح " معاهد
ومدارس كاثوليكية" ،حتى جعل رهبانيته تعيش " مرحلة جديدة" :مرحلة المعاهد .وسنفيض
في الكلام عليها في القسم الآخر من هذا الفصل .
تاريخ العمال غير الرسمي
وقعت في محاذاة تاريخ ايطاليا الرسمي ،أحداث أُخرى دار الكلام عليها في الكتب التي
تروي التاريخ " الكبير" .

32.9 Page 319

▲back to top


فبؤس العمال والفلاحين شديد :العمل طويل والاجرة ضئيلة لا تكفي لسدِّ الجوع ولا
تزال هذه الحالة في أقصى جنوب ايطاليا عند كعب قدم شبه الجزيرة في السنة 1031كما كانت
حينذاك ،فيُهاجر كثير من الايطاليين في بعض الاشهر الى فرنسا وسويسرا وُيهاجر غيرهم إلى
أَمريكا فلن يعود .
في السنة 1361ولد " اتحاد العمال الاول" في لندن .وسيطر عليه بعدئذٍ كارل ماركس
وفرض عليه الشيوعة .وفي السنة 1361نشر الاسقف كيتلير ( )Kettelerالالماني مطران مايانس
كتاب المسألة ال ّعمالية والمسيحية .إنه برنامج الحركة الكاثوليكية الاجتماعية الالمانية القوية :
دعت إلى تد ُخّل الدولة ِلسَ َنّ القوانين في شؤون العمل والضمان الاجتماعي ،يجب أن تضمن هذه
القوانين ح ّداً أدنى من الأجرة ،وتحدّ من ساعتا العمل وتضمن العطلة الاسبوعية ،وتحظر
تشغيل النساء والأولاد ،وتحتاط للضمان الاجتماعي .
وقد حصل العمال بعد كفاح طويل على شيء من حقوقهم :في 1361اعترفت حكومة
نابليون في فرنسا بحق الإِضراب ،وفي 1366منحت حكومة بسمارك الألمانية جميع المواطنين حق
الاقتراع ،فاستطاع العمال لأول مرة إرسال ممثليهم إلى المجلس ،وفي 1366اعترفت الحكومة
البلجيكية ،على اثر ضغط شديد من الجمعيات الكاثوليكية ،بنقابات العمال اللأولى وقد تبعتها في
مثل ذلك النمسا ( )1328وانكلترا ( )1326وفرنسا ( . )1331
في أول أيار 1366بدأت الحملة الدولية لتقليل ساعات العمال ،وجعلها ثماني ساعات ،
وفي السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر خََفّضت جميع دول أوروبا على وجه التقريب ساعات
العمل حتى ال َعشر ،وحظرت استخدام الصبيان في سِ ِنّ دون الثالثة عشرة طوال النهار ،ووافقت
على قوانين تجنب حوادث العمل ومراعاة أسباب الصحة وعطلة يوم الأحد ،وأَدخلت الضمان
الالزامي لمعالجة إصابات العمل والمرضى والشيخوخة .
" ضريبة الجوع"
في السنة 1363ُفرض على فلاّحي إِيطاليا ،على ما فيهم من الفقر ،ضريبة جائرة هي
الضريبة على الدقيق :ُفرِض على طحن الحنطة والحبوب رَسمٌ باهظ يؤخذ من الذين يعيشون على
الخبز والبُولِنتا أي على أفقر الناس ،فه َبّ عاصفة من الفتن الداعية إلى القلق حقاً في البلاد كّلها .
كتب فرنسيس ترانيلّو ( " : )Tranielloاستنجدت الحكومة بالجيش لقمع أهل الفتنة ،وقد
خرجوا أحياناً وهم يصيحون " :عاش البابا والنمساويون" ! فقتل و ُجرِح مئات من الناس وأبقيت
الحكومة " ضريبة الجوع" سارية المفعول .
في المصلّى أيضاً وفي سائر بيوت دون بوسكو ،حيث يبتلع صبيانهُ " جبالاً من الارغفة

32.10 Page 320

▲back to top


الصغيرة " ،زاد ال َّرسمُ على الدّقيق النفقاتِ زيارة كبيرة .كَتَب في تلك الأشهر " :إِن غلاء ثمن
الخبز ُيثقل كاهلنا " .
مولد " المعهد السالسيّ "
لما فتح دون بوسكو " الإِكليريكية الصغيرة" في ميرابّلو في السنة 1363ُطلب إليه من عّدةِ
نواحٍ في إيطاليا أَن يُنشئ ،لا مصليات بل معاهد ،فرَضِي ولكنه فتح مصلّى ك َلّ مرة بلزق ك َلّ
معهد .
وهكذا وجدت الرهبانيّة السالسيّة نفسها ملزمة في بضع سنوات بمدارس كثيرة تنشر التعليم
الابتادئي والثانوي والمهني .كيف صار ،خلالَ بضع سنوات ،سالسيّو دون بوسكو ،وقد ُولدوا
في مصلّى " ،اختصاصيّين في معهد لأبناء الشعب " ؟
لقد رسمنا الموضوع رسماً سريعاً في الصفحات السابقة وها هوذا جواب أكمل نقلاً عن بيترو
ستيلا ( " : )Pietro Stellaازدهرت المعاهد الكاثوليكيّة ،وتضاعف عددها في النّصف الثاني من
القرن التاسع عشر ،لما اعتمدت السياسة والشريعة الايطالية أكثر فأكثر على قواعد حرة .كان بين
ايطاليا الشرعية المؤلفة من الطبقة الحاكمة ،وبين ايطاليا الحقيقة المؤلفة من طبقات كثيفة من
المعارضة الكاثوليكية وسائر القوى المتقدمة ( كالاشتراكية) خلاف عميق أد َىّ في المدارس الرسمية
إلى اتجاه علماني عدوّ للكنيسة وإلى منازعات عنيفة على تعليم الدين في الصفوف .وردّ الكاثوليك
على ذلك ،بأَن مالوا إلى تنظيم شؤونهم في جميع الجوانب من جمعيات دينية ،ومكاتب تعاون ،
ومصارف شعبية ،وجمعيات ضمان ،ومعاهد لتربية الأولاد يأتي أكثرهم من طبقات
البورجوازية الصغيرة والشعب العامل والفلاحين فأنشأوا شبه مجتمع في مجتمع الدولة .
وهذا ما ُيفسر كيف شهد الناس في السنة 1363تضاعف عدد المعاهد والبيوت والمادرس
لطلاب الصناعة ،والمدارس الزراعية والاكليريكيات يفتحها السالسيون أو يُديرونها ،وهم
يفضّلون المدارس الداخلية .ان المعهد السالسّي ساهم في تغذية القوى الكاثوليكية في إِيطاليا
والعالم إِذ قدّم عدداً ضخماً من الأجيال الشابة " .
" ربّوا الاحداث الفقراء"
ُسمّيت المؤسسات لطالبي الصناعة بيوتاً ،فلا يُقبل فيها سوى " الصبيان الأيتام
المتشردين " ،و ُسمّيت معاهد المؤسسات للتلاميذ العاديين ،وهي أيضاً مخصوصة بالصبيان
الفقراء .تلك كانت دائماً إِرادة دون بوسكو الواضحة .
في مساء السابع من اذار ( مارس) 1360رجع من رومة ،فبَلّغ السالسيين بعض وصايا

33 Pages 321-330

▲back to top


33.1 Page 321

▲back to top


بيوس التاسع " :اقتصروا في عملكم على أولاد الشعب الفقراء .رَبّوا الأحداث الفقراء .لا
يكن لكم أبداً معهد للاغنياء والنبلاء .ح ِدّدوا سعراً معتدلاً للاجرة المفروضة ،ولا تزيدوه .لا
تقبلوا إدارة البيوت الغنّية .إِذا ربَيّيتم الفقراء ،وإِذا بقيتم فقراء ،يدعونكم وشأنكم وتَعملون
الخير " ( .ذكريات السيرة ،ج ، 0ص . ) 266
وافقت ماجرياتُ الأمور التوجيهات ،لا في السنوات الاولى فقط .كان لدون بوسكو
أن يكتب في السنة " : 1325في الأسّيو ( )Alassioوفاراتسي ( )Varazzeوسامبيردارينا
)Sampierdarena (رصيدنا المالي صفر" .في السنة ،1303عشر سنوات بعد موت دون بوسكو
كان 131صبياً يقمون في بولونيا ( )Bolognaيديرها أمين سره السابق ،ولم يكون يدفع
الاجرة كلها ،وهي 22ليرة ،سوى 33صبياً ،في حين أنّ سائر الصبيان ،وعددهم ، 00
يساهمون بما لا يكاد يبلغ نصف الأجرة .كان الداخل السنوي 23الف ليرة والصادر 16الف :
هناك خسارة " صافية" قدرها مائة بالمائة .
المعاهد الخمسة الاولى
في السنة 1361فُتح معهد لانتسو ( . )Lanzoأرسل دون بوسكو الأب روفّينو
، )Ruffino (وعمره 21سنة ،لكي يكون رئيساً ،وسبعة من الشمامسة .
كان الفقر والحرمان صاحبيهما في الأشهر الأولى .كتب الشماس سالا ( )Salaالذي صار
بعدئذ وكيل الرهبانية العام " :دار فارغة ،جدانها نصف متهدمة ،ولم يكن من كرسي أو
طاولة .كان جيفونه ( )Givoneيصلح الحساء ،وكنا نتناوله على باب مُحطّم موضوع على
قاعدتين ،ولم يكن للنوافذ زجاج ،َفسُ َدّت بمناشف وأغطية ،وكنا ننام على التبن" .لم يكن في
السنة الأولى سوى 32تلميذاً ،وحشد كثير من الخارجيين الذين لا يرعون نظاما .في آذار
(مارس) اضط َرّ المرضُ الشماس بروفيرا الى ترك كل عمل ،وقد زاد الارهاق َمرضَه سواءاً ،وفي
تموز ( يوليو) اصيب الرئيس الشاب بال ّسل فقضى نحبه ،َف ُسَّلم المعهد الى الشمامسة السبعة
الباقين .ذكر الأب سالا " :كم عملنا ! كنا نأبى أن يُقال المعهد لا يسير سيراً حسناً لانه لم يكن
فيه سوانا ونحن شمامسة " .
في السنة التي بعدها تولّى الأب لموان ( )Lemoyneالادارة ،وأخذت الامور تتحسن .
وفي السنة 1328فُتِح معهد الاسّيو ( )Alassioوكان الرئيس الأب تشيرّوتي ( )Cerruti
في السادسة والعشرين .
وفي السنة 1321فُتح بَيتٌ في ماراسّي ( )Marassiنقل بعد سنة إلى سامبيردارينا وكان

33.2 Page 322

▲back to top


الرئيس ألبيرا ( )Alberaفي السادسة والعشرين :بدأ العمل في ثلاث ورشات " للصبيان الأيتام
المشرّدين" ،وأراد دون بوسكو بجانب الدروس المهنية فرعاً للصبيان " الذين يف َكّرن في الدعوة
الكهنوتية " .
في السنة 1321دخل عشرون سالسيا المعهد المدني في فاراتسي ( )Varazzeفتولّى توجيههم
الأب فرنتشيسيا ( )Francesiaوهو واحد من أول تلاميذ دون بوسكو .قام هؤلاء السالسيون
العشرون بفتح معهد في كراسكو ( )Cherascoثلاث سنوات ،ولكنهم ُأض ُطّروا إلى التخلي عنه .
جاء دون بوسكو إلى المعهد وكُلّهم جماعة من الناس في فاراتسي فصفّقوا له ،فقال ضاحكاً :
" لا أحتاج لإعالة الأحداث إلى أُناس يضربون أيديهم في الهواء ،بل إلى أُناس يضربون أيديهم في
جبيهم ! فلو اكتفيتُ عند ساعات الطعام بضرب يَدَيّ ،لكان الصبيان على اسوإ حال " .
في السنة 1322قبل دون بوسكو معهد فالساليتشي ( )Valsaliceمن أجل شبان من الأسر
الارستقراطية .
كانت تلك الحقبة عسيرة على الرهبانية ،فقد فتحت جمعية من سبعة كهنة معهداً للنبلاء
الأحداث فانتهى الأمر بالافلاس .كان رئيس الأساقفة الجديد لتورينو المطران غاستدالدي
)Gastaldi (وكانت علاقاته بالسالسيين سيئة .دعا دون بوسكو وَفر َ ض عليه أن يَتسلّم هو زمام
المعهد ،فلم ُي ِرد أن يسمع شيئاً من ذلك وقد جزم منذ سنين كثيرة " :لا أقبل هذا أبداً ما كنتُ حيّاً
ففيه خرابنا " .ولكن رئيس الأساقفة كان ينوي أن يفرضه عليه بأسم الطاعة .
فعرض دون بوسكو المسألة على مجمع الرهبانية الحديث العهد ،فأَجمعوا على رَ َدّه فصعد إلى
لا نتسوا ليستشير الأب لموان ،فسمعه يجيبه " :أُرفُض .ألم تقل لنا مِراراً :إن قبول معاهد النبلاء
يعني انحطاط رهبانيتنا ،وأَنّه يجب علينا ان نقتصر دائماً على أولاد الشعب الفقراء ؟ " .
رضي دون بوسكو ُمكرَها لتجّنب الاصطدام بالسلطة الكنسية .
كان ذلك المعهد عبءاً باهظا على الرهبانية خلال خمس سنوات ،فعدَدُ التلاميذ قليل ج ّداً
ويكلّفون نفقات ضخمة فاض ُطرّ مصلّى فالدوكو إلى مساعدته بمعونات ماليّة كبيرة .صرخ دون
بوسكو صراخاً ّمراً " :إِ َنّ الفقراء هم الذين يُضّط َرّون إلى مساعدة الأغنياء ."
في السنة 1332صار دون بوسكو آخر الامر مالكاً للدار بعد دفع قدراً من المال عظيماً
138 (الف ليرة) فب َّدل بالنبلاء شمامسة سالسيين .وأعلَنت لوحة كبيرة في باب المدخل غاية
المعهد الجديدة " :إِكليريكية الرسالات الأجنبية " .إِنحَّلت مشكلة فالساليتشي بعد خمس عشرة
سنة .
منعطف يُبرز مبدأ أساسيا

33.3 Page 323

▲back to top


نوقف هنا جدول المؤسسات الجديدة .ّلما مات دون بوسكو كانت دور الرهبانية المتفرقة في
سِ َتّ أمم 61وكان السالسيون . 263
نختم كلامنا بملاحظة :في السنة ، 1361أخذت تنشأ المعاهد بجانب المصليات
والبيوت .
بقي مصلّى يوم الأحد ( ،ويُقام كلّ يوم أذا أمكن الأمر) العمل الأول للرهبانية .إِن
قوانين السالسيين تؤكده ،وحقيقة عملهم تظهره .فبجانب المشروعات العظيمة التي فُتحت في
ايطاليا والتي فُتحت بعد قليل في الأحياء الشعبية في الارجنتين واسبانيا والبرازيل ،تك ّررت
" البلبلة المحببة" التي ُولِد فيها مصلّى فالدوكو .ألَحّ خلفاء دون بوسكو :لكل مشروع سالسي
مصلّى .
ولكنّ دون بوسكو أدرك في أ ّول السنة 1361حاجةً جديدة لاولاد الشعب :الحاجة الى
مدارس حسنة مؤ َّهلة تمنح تعليماً متيناً ومسيحيّاً .إِنّه منعطف حاسم في الرهبانية :فقد انتقل عدد
أكثر من السالسيين من بلبلة المصليات إلى صفوف المعاهد المنظمة .
لم يتر َدّد دون بوسكو سلوك هذا المنعطف ،فكأنه قد ر َسّخَ مبدأ أساسيّاً لرهبانيته :
إِن العنصر الأساسي غير القابل للتبديل في الرسالة السالسية هو الشبيبة الفقيرة أي أولاد
الشعب .يجب على السالسيين أَن يُط َّوروا مشروعهم ليكون ملائما لهؤلاء بعد أن يفطنوا بسرعة
وشجاعة لآيات العصر ومتطلبّاته .وخلاصة القول :ليست الشبيبة الفقيرة هي التي يجب عليها
أن تتطور لتلائم السالسيين ومشروعاتهم ،بل يجب على السالسيين ومشروعاتهم أن يتطوروا
ليلائموا الشبيبة الشعبية .

33.4 Page 324

▲back to top


10
مورنيزي مثل فالدوكو
21حزيران ( يونيو) . 1366كانوا يحتفلون في المصلّى بعيد شفيع دون بوسكو ،فجاء
رئيسا البيتين السالسيّين الأ ّولين ميرابلّو ( )Mirabelloولانتسو ( . )Lanzoروى الأب لموان
)Lemoyne (رئيس لانتسو :
" غابت الشمس وتلألأ القمر بهّياً في السماء .صعدتُ إلى غرفة دون بوسكو وانفردتُ به
نحو ساعتين ،وكان يصعد من الساحة ضَ َجّة الصبيان وهم في حفلة عيد .كانت قد أوقدت على
النوافذ وحواجز الشرفات مئات من ال ُّشعل في زجاجات ُملوّنة ،فتَق ّدمتُ ودون بوسكو إلى
النافذة .كان المنظر خلاّياً فابتسم دون بوسكو فإذا بي أقول :
-دون بوسكو ،أتَذ ُكر الأحلامَ القديمة ؟ ها هم الأحداث وها هم الكهنة والشمامسة
الذين وَعَدتك بهم السَيّدة العذراء مريم .فقد مضى نحو عشرين سنة ولم يُعوز الخبز أحداً .
فأجاب دون بوسكو " :ما أطيب الربّ ! "
َفعُدنا إلى الصمت وقد تأثرنا تأثراً شديداً ثم تكلمتُ م َرّة أُخرى .

33.5 Page 325

▲back to top


-دون بوسكو ،ألا يبدو لك أ ّن هناك شيئاً ناقصاً لكي يكونَ عملنا كاملاً ؟
-وماذا ؟
-الفتيات .ألا تريد أن تصنع شيئاً َلهُ َنّ ؟ ألا تعتقد أَنّه لو كان لنا مؤ َسّسة راهبات انشأتَها
أَنتَ ،لكللّ ذلك عملنا بالنجاح ؟ أ ُيّ عمل لا تعمله الراهبات لخير تلاميذنا المساكين ؟ وقد يمكنه
أن يعملن للفتيات ما نعمله للصبيان .
لبث يف ّكر بعض لحظات ثمّ قال :
-أجل ،سيتحّقق ذلك ،سيكون لنا راهبات ولكن لا في الحال ،بل بعد وقت قليل .
في رأي بيتروستيلا ( )Pietro Stellaأنّ دون بوسكو أ َّمل مدة من الزمن أن يضمّ الى الرهبانية
السالسيّة مشروعات ماريّا لويزة كلاراك ،وهي راهبة من راهبات المحبة تعمل على غير بعد من
مصلّى مار لويس .
إِ َنّ ذلك المشروع وإن سعى دون بوسكو في تحقيقه ،لم يعش إِلا وقتاً قليلا ،في
حين أن لقاءاته وشخصين هما الأب بستارينو ( )Pestarinoوماريّا دومينكا مازّا ِرلّو
)Maria Domenica Mazzarello (كانت حاسمة .
التيفوس والساحر وعين النحس
في السنة 1368ظهر التيفوس في اثناء الصيف في تلال مورنيزي ( . )Morneseإِنّ حرب
الاستقلال الثانية في السنة التي مضت أودت بحياة عدة آباء ُأسر .والآن خرج التيفوس من بئر فيها
الماء اجتمع وأَ َسن خلال الصيف ،فأشاع الذعر في الناحية كلها .
وجرى ما يجري كلما تفشّى مرضٌ ُمعدٍ ،فتح ّدث الناس حديث السحرة وعين النحس
فالجراثيم والنظافة والتعقيم كلمات كانت لا تزال مجهولة .
كان الناس جميعاً يتخلون عن الأسر التي يظهر فيها التيفوس فيعتصم الأص ّحاء في منازلهم .
وكانت ٌأسرةٌ تحمل اسم مازّارلو ( )Mazzarelloمن الأسر الأولى التي أُصيبت :أُصيب
الزوج أولاً ثمّ زوجته ثمّ أولادهما ،وبعد بضعة أيام ساءت حالة الأب وكبير أولاده حتى أشرفا
على الموت .
فعاد هؤلاء الناسَ الأ ُب بستارينو ،الكاهن الذي لُقَّب في موريزي " بريفن" ( )Previn
لأِنّه قصير القامة ولأِنّه مُحبّب إلى الشعب ورأى أنهم يحتاجون الى من يساعدهم فذهب ت ّواً إلى بيت

33.6 Page 326

▲back to top


فيه يُدعى الأبوان أيضاً مازّارلّو ،ودعا ماريّا وهي فتاة متينة البنية في سِنّ الثالة والعشرين .إَِّنها
تعمل عمل الانسان وتصلي الملاك .قال لها :
-في بيت َع َّمك اثنانِ يتع َرّضان للموت .ما قولك لو ذهبتِ لتساعديهما قليلا ؟
فسادَ السكوت برهة ،ذلك بأَن ماريّا خائفة كما أَن جميع الناس خائفون .فنظر الكاهن
إليها بهدوء وانتظر ،فتمتمت ماريّا :
-إذا رضي أبي ،ذهبتُ إليهما .
أبوها مسيحي صادق .دخلت مريم بيت المرضى ،فعاد إليه الترتيب والنظافة بسرعة
وأُعِدّت الأدوية والطعام في الساعات المحدّدة .
شُفي المريضان ونزلا من السرير ،ولكن التيفوسَ أصاب ماريا دومنيكا فصار وجَهها
الجميلُ البيضاويّ الشكل ،في بضعة أيام ،مُثََلّثاً من الجلد الشاحب المُق َطّب .جاء الطبيب فهزّ
رأسه :إِن الموت قد حضر .ووَصف أَدويةً أخرى فقالت له ماريّا وهي منهوكة القوى :
-شكراً ولكن إذا شئت فلا تفرض علىّ ابتلاع عقاقير أُخرى .لا أَحتاج إلى شيء ما عدا
مجيء الله إِليّ لكي يأخذني إليه .
واكن ساعتها لم تأتِ بعد .سَتعملُ كثيراً في هذه الارض ،قبل أن يجيء الله اليها
فيأخذها .
أَسَ َرّت مارّيا الى بترونيلا
وهكذا شُفيت ماريا على غِرّة من غير أدوية ،وعادت إلى وجهها أَلوانُ الصحة ولكن بقي في
أعضائها فتور ووَهن لا يُقهر ،فإِنّ الحمى الشديدة حطمت شيئاً في بنيتها المتينة .
فماذا تعمل الآن ؟ إنّ غير واحد من ال ُشّبان يرغب في أن يح َدّثها حديث الزواج .فما من
شيء ينقصها لتصير زوجة جميلة وُأمُّا حنونا ،ولكنهّا تأبى حتى الشروع في التحدث بهذا الموضوع ،
فهي تساءل نفسها :ماذا أعمل في حياتي ؟
إِنّ اسم ماريّا ما ّزارّلو مكتوب في اتحاد التقوى لبنات مريم البريئة من الدنس .وقد
انطلقت مشروع هذه الجماعة من فكرمُدَ َّرسة البلد ،الشابّة أنجيلا مكانيو ( )MaCcagnoفأوحى
إليها الأب بستارينو أن تضع مشروع نظام أُرسل الى خوري شهير في جينوى .في السنة 1322
اعتمد الأب فراسّينتي ( )Frassinettiتلك الاقتراحات ،فأّلف " نظام اتحاد التقوى لبنات مريم
البريئة من الدنس " فانتشر الاتحاد انتشاراً سريعاً وبنجاح غير منتظر في ايطاليا كلّها .
انشأ الأب بستارينو أ ّول اتحاد تقوى في مورنيري في 0كانون الأول ( دسمبر) 1322بمعونة
خمس فتيات ،وكانت أصغرهنّ سنّاً ماريّا ما ّزارلّو ،وهي في الثامنة عشرة من عمرها .

33.7 Page 327

▲back to top


ولماريا هذه صديقة لا تكتمها س ّراً من أسرارها اسمها بترونيلا ( )Petronillaوهي أيضاً بنت
" البريئة من الدنس" وتحمل اسم الأسرة نفسها ما ّزارلّو .ذات يوم من 1361قالت لها ماريّا :
-عزمتُ على تعلّم صناعة الخياطة ،وعندما ُأحسن الصناعة هذه ،أفتح مشغلا وأعلّم
البنات الفقيرات الخياطة .أوَيس ُرّك أنت أيضاً أن تعملي خَيّاطة فنبقى معاً ونعيش كما
تعيش ٌأسرة ؟
مضت سنة فيها أنشأت ماريّا وبترونيلا مشغلاً صغيراً للخياطة في ضاحية البلد ،فجاء نحو
عشر من البنات ليتعلمن الخياطة .ولكن ها هو شيء جديد يقلب الأمور رأساً على عقب .
زوجان من الأعين ظهر فيهما الخوف
جاء شتاء السنة 1363فما إن عادت البنات الصغيرات الى بيوتهن وهن َيرددن الثلج عنهن
بقباقبهن ومظلاتهن حتى سمعت ماريّا وبترونيّلا قارعاً يقرع الباب ،فوجدتا نفسهما أمام بائع
جوّال يقي أرمل مع طفلتين ،فسألهما أن تقبلاهما ،لا في النهار فحسب ،بل في الليل أيضاً ،لأنه
لا يمكنه هو أن يبقى في بيته ،ولا أن يرعاهما .حضرت اليتيمتان الصغيرتان ولك ِلّ منهما زوجان من
الأعين ظهر فيهما الخوف .أكبرهما في سن الثامنة وأصغرهما في سن السادسة .أَمسكت بترونيلاّ
بيد الكبيرة وأخذت ماريّا الصغيرة بين ذراعيها ،فأوقدتا نارا كبيرة في الموقد .
وهكذا من غير سابق تصميم تَح َوّل المشغل الصغير ،منذ تلك الليلة ،إلى بيت للطفلات
الفقيرات .ذهبت ماريّا وبترونيلا فقرعتا أبواب الجيران وأفلحتا في استعارة سريرين صغيرين
وقليل من الدقيق لإعداد البولنتا .
فما إِن سمع الناس في مورنيزي أَن الما ّزارلو أضافتا في بيتهما يتيمتين صغيرتين حتى جاء كثير
من الناس يحملون حزمة حطب وغطاءين ونصف كيس من الدقيق ،ولكنهم أتوا ايضاً بطفلات
غيرهما يحتجن إلى بيت ،فصار عددهنّ سبعاً بعد وقت قليل .
كانت الطفلات يتلون " السلام عليك يا مريم" قبل العمل في المشغل .إِذا دقّ الجرس
علّقت ماريّا على ذلك بقولها " :ذهبت ساعة من هذ العالم ،ودنونا ساعة من الفردوس " وهي
تريد أن تعمل طالبات الصناعة للرب " :كل شكّة إبرة عمل حبّ الله " .
وأرادت ماريّا أن " تعمل الخير لجميع طفلات البلد " يوم الأحد أيضاً ،فأُنشئ ما يشبه
المصّلى وكانت الصديقتان تجمعان الطفلات أيام العيد وتصحبانهن إلى الكنيسة ،وتساعدانهن
بالألعاب والنزهات على أن يبقين فرحات .
خوري رعية يطلب عملا
ولد الأب دومنيك بستارينو في مورنيزي ورُسم كاهناً في سنّ الثانية والعشرين في معهد

33.8 Page 328

▲back to top


كهنوت جينوى فلبث يعمل في معهد الكهنوت ،ثم عاد إلى بلده وهو في الثلاثين ،وقد دعاه
خوري الرعية الطاعن في السن وطلب إليه أن يساعده .فعرّف نفسه في المنبر إلى أهل بلده بهذا
الكلام " :إنّي أطلب عملاً ،لا في كرومنا بل هنا في الكنيسة في كرم الله الكريم .ُعرِض عليّ
أماكن مختلفة ،ولكني سأبقى هنا بينكم إذا ق ّدمتم لي العمل الذي أطلبه " .
إِلتقى ودون بوسكو في جينوى أ ّول ما تلاقيا ،وكان ذلك اللقاء في بيت الاب فراسّينتّتي
)Frassinetti (ولكن الالتقاء الحاسم حصل في القطار في أَثناء سفر لهما من أكوي ( )Acquiإلى
أل َسّندرية ( )Alessandriaفعرض عليه دون بوسكو زيارة مصلاّه في فالدوكّو .
فذهب إِليه بستارينو بعد بضعة أشهر ،فالهب قلب الزائر منظرُ ذلك العدد الكبير من
الصبيان الذين يكبرون بفرح في مدرسة العمل والايمان .قال له " :خذني معَك " فوافق دون
بوسكو على أن يصير سالسَيّا ( وقد نذر الاب بستارينو النذور الرهبانيّة في العام القابل ) ولكنّه أراد
أن يبقى في مورنيزي حيث أشياء كثيرة ج ّدًا تجعله ضروريًاّ لا ُيستغنى عنه .ومهما يكن من أمر ،
فقد صارت علاقاته بدون بوسكو علاقات تعاون وخضوع ،فأَخذ الأب بستارينو منذ ذلك الحين
يحضر اجتماعات الرؤساء السالسيّين .
وفي أثناء ذلك حدث في مورنيزي أمر جديد ،فقد طلبت فتاتان من " البريئة من الدنس "
إلى ماريّا وبترونيلّا أن تعملا مثلهما فسُئِل الأب بستارينو فأجاب " :ولِمَ لا ؟ اّنكما كلتيكما
مشغولتان بأمور كثيرة ج ّداً ،حتى إِنكما لتعجزان عن القيام بها " .وهكذا ُأّلف نوع مِن الجمعية :
فالفتيات الأربع يعلّمن البنات الصغيرات الخياطة ،ويقمن مقام الأمهات لسبع طفلات يعشن
عندهن في النهار والليل .
في السنة 1361وصل دون بوسكو إلى مورنيزي كما ذكرنا في الفصل ، 32وكان يصحبه
صبيانه في أَثناء العطلة لنزهات الخريف ،فلبث فيها خمسة أيام فحضرت ماريّا ما ّزارلّو المحاضرةَ
التي أَلقاها إلى بنات " البريئة من الدنس " ،وأفلحت في الاستماع ك َلّ مساء إلى " كلمة المساء "
التي يوجهها إلى صبيانه ،فلامها بعضهم وعدّ ذلك تطفّلاّ فأجابت " :ان دون بوسكو قدّيس ،
إني أُحِسّ ذلك " .
في العام الذي بعده انقسمت بنات مريم البريئة من الدنس قسمين ،فاللواتي عزمن على
العيش عيشة جماعية مع ماريّا وبترونيلا أقمن في بيت قدّمه لهن الأب بستارينو ،وسكناهن أحسن
من ذي قبل ،وهي بالقرب من الكنيسة وَتسمّينَ بنات البريئة من الدنس ،وأمّا سائر الفتيات
اللواتي فقد فَ ّضَلن مثل أنجيلينا مكانيو ( )Maccagnoالبقاء في ُأسرَتهنّ ف ُس َمّينَ الأرسولنيات
الجديدات ( . )Nuove Orsoline

33.9 Page 329

▲back to top


الدفتر الصغير المفقود
كان أهل مورنيزي يبنون في الحي الذي يقال له بورغو ألتو ( )Borgo Altoمعهداً لصفوف
الصبيان ،فوعد دون بوسكو أن يرسل إليه رهبانه السالسّيين ،عندما يتمّ البناء واشترك جميع أهل
البلد في الأعمال بهباتهم أو بتقديم طَوعيّ لليد العاملة .
في السنة 1362تمّ بناء معبد المعهد ،فجاء دون بوسكو ليُقيم فيه الق ّداس ،فالتمس
بركات الله على المعهد الجديد وأهل مورنيزي ،وتوقّف أربعة ايام في البلد ،وألقى محاضرة خ َصّ
بها الجماعة الصغيرة " لبنات البريئة من الدنس " .
في السنة 1360ع ّجل دون بوسكو في الحركة لإنشاء " ُأسرتَه الثانية" فقد شخص بعينيه منذ
ذلك الحين إلى " بنات " مورنيزي المتواضعات ،وأرسل من غير طبل ولا زمر إلى ماريا وبترونيلا
دفتراً صغيراً " كتبه بيده ،وفيه ساعات الدوام اليومّي ونظام صغير لكي تباشرا وطفلاتهما حياة أكثر
نظاماً " ( ذكريات السيرة ،ج ، 18ص . ) 201فُقِد ذلك الدفتر .ذكرت الأخت بترونيلاّ
هذه النصائح " :بذل الجهد للعيش بحضرة الله ،والصلاة باستعمال ابتهلات كثيرة ،والسلوك
بلطف وصبر ومحبة ،والسهر بانتباه على البنات وابقاؤهنّ مشغولات دائماً ،وإِعدادهنّ لحياة
التقوى ،حياة بسيطة فيها الصراحة والثقة " ( .ذكريات السيرة ،ج ، 18ص . ) 202
. 1328ذهب دون بوسكو ثلاثة أيام الى مورنيزي ليستريح قليلاً ،ويراقب أيضاً من كثب
حياة الجماعة ،فأراد أن يرى ما كانت النتيجة التي حصل عليها الدفتر في حياتهن ،َف ُس َرّ تمام
السرور .
1321في 38كانون الثاني ( يناير) .عُقِد في المصلّى اجتماع الرؤساء السالسّيين ،فاشترك
فيه الأب بستارينو وقدّم عرضاً للتطوّر الذي جرى في مورنيزي .
21نيسان ( ابريل ) . 1321جمع دون بوسكو مجمع الرهباَنّية ،فحضر لآباء روا كالييرو
وسافيو وغيفارلّو ودوراندو وألبيرا ،فأعلن أنّه جمعهم لمسألة عظيمة الشأن .وهذا كلامه نقلا عن
محضر الجلسة :
" إِن عدداً من الناس كثيراً حَثّوني مراراً على أن أعمل في سبيل الإِناث قليلَ الخير الذي
نعمله بنعمة الله في سبيل الصبيان .لو أطلعت ميولي الشخصية لما أوجبت على نفسي هذا النوع من
الرسالة ،ولكنني أخاف أن أقاوم مقصدا للعناية الالهية ،فلذلك أدعوكم إلى التفكير لدى الرب ،
لتتم ّكنوا من العزم على أمر سيكون لمجد الله الاعظم وخير النفوس الأعظم .سنوجّه صلواتنا في
هذا الشهر لكي ننال من الرب النور اللازم من أجل هذه المسألة العظيمة الشأن " .

33.10 Page 330

▲back to top


عندما ينقص الدقيق من أجل البولنتا
وصفت فيليشينا مازّارلّو شقيقة مريا الحياة كما كانت في الأوقات الاولى " :كان الطعام
الضّروري ،ولا سيما الدقيق من أجل البولنتا ،ينقص الجماعة الصغيرة مراراً كثيرة ج ّداً .ولما
كان يتوافر ،كان ينقص الحطب اللازم لطبخها .
فكانت ماريا وبعض رفيقاتها َيخرجن إلى الحقول ويذهبن تحت الشجر ليجمعه حزماً من
الحطب اليابس ،ويعُدن بها وهنّ يحملنها على ظهرهنّ ليصلحن الطعام .فإذا طُبخت البولنتا
حملنها إلى الساحة ووضعنها في قصعة على الأرض ،ودعونَ الجماعة إلى المأدبة الفاخرة .
كانت تنقصهنّ الصحون ولوازم المائدة ،وأما الشهيّة للطعام والبشاشة فلا " .
في آخر أيار ( مايو) 1321جمع دون بوسكو المجمع مرّة ُأخرى وطلب من ك َلّ منهم رأيه ،
فارتأوا جميعاً أ َنّ المبادرة في سبيل الإِناث من الشبيبة ملائمة ج َّداً ،فاستنتج دون بوسكو النتيجة
اللازمة " :في هذه الحال يمكننا القول الآن أنّ الله يريد حقّاً أن ُنعنى بالفتيات أيضاً .إِذا أردنا أن
نصل إلى شيء ملموس ،فإِني أقترح أن تكون الدار التي يُتِمّ الأب بستارينو بناءها مسكناً لهذا
المشروع " .
في وقت قريب من نصف حزيران ( يونيو) دعا دون بوسكو الأ َب بستارينو على عجل .إنّ
التقرير الذي خَلّفَه ذلك الكاهن الطيّب هادئ اللهجة ج ّداً كُتِب باسلوب محض رسمّي ،ولكن
ُيرَ ّجح أَن الحوار كان مختلفا ج ّداً حامي الوطيس خشناً ،اذا كان لنا أن نص َّدق الأخت بترونيلاّ ،
فقد روت " أنه كان من عادة الأب بستارينو عندما يرجع من مقابلة لدون بوسكو أن يبدو وكأنه في
السماء السابعة ،في حين أنّه كان في تلك المرة يبدو مشغول البال مضطرباً مغتّماً " .
إِلى القارئ ما ورد في تقرير الأب بستارينو " :أعرَب دون بوسكو عن رغبته في أن
ُيعنى بتربية بنات الشعب تريبة مسيحية ،وأعلن أن مورنيزي هي المكان الأصلح في رأيه :
ان بنات البريئة من الدنس اللواتي يقمن فيه يتيسر لهن تلبية نداء الحياة المشتركة المنفصلة عن
العالم ،والشروع في مؤسسة لبنات السيدة مريم العذراء معونة المسيحيين ،لخير عدد كثير جدّاً
من فتيات الشعب ،فأجاب الأب بستارينو من غير تردد ( على ما جاء التقرير ) " :إِذا قبل دون
بوسكو إِدارة المؤسسة ورعايتها فإني أجعل نفسي في يديه " .
كان في ذلك الحين بالقرب من مارّيا وبترونيلّا تريزيا بامبورو ( )Pampuroوكاترينا ما ّزارلّو
وفيليشينا مازّارلّو ،وحنة فرّيتّينو ( )Ferretinoوالفتيات روزينا ما ّزارلّو باروني ( )Baroniومريم
غروسّو ( )Grossoوكوريّنا أريغوتّي ( . )Arrigtti
هناك مشكلتان تجعلان الأب بستارينو مشغول البال مضطرباً :إِن هؤلاء الفتيات

34 Pages 331-340

▲back to top


34.1 Page 331

▲back to top


مسيحيات صالحات ،ولكن ما من إِحداهن ف ّكرت بعد أن تصير راهبة .أراد دون بوسكو أن
يجعل معهد بورغو التو ( )Borgo Altoداراً لسكني بنات السيدة مريم العذراء معونة المسيحيين ،
في حين أَن البلد عمل للبناء راجياً أن يجعل منه معهداً لصفوف الصبيان ،فقد يثير التبديل
نصف ثورة .
رأي البابا واستياء البلد
ذهب دون بوسكو في ذلك الشهر شهر حزيران ( يونيو) 1321الى رومة ليعرض مشروعه
الجديد على بيوس التاسع فطلب البابا أن يدعه يُف ّكر في الأمر بضعة أيّام ث َمّ قال " :يبدو لي أ َنّ
مشروعك مشروع يريده الله .رأى أنّه يجب على هؤلاء الراهبات أن يجعلن غايتَهن الاولى تعليمَ
الإناث وتربيتهن كما يفعل السالسيّون للذكور .أمّا ارتباطهن فإنّهن مرتبطات بك وبخلفائك .
ولذلك فكّر بقوانينهن ،واشرع في تجربتها ،وأ َمّا البقية فستأتي بعدئذ " .
في 20كانون الأول ( دسمبر) 1322جمع الأب بستارينو ،بأمر من دون بوسكو ،بنات
السيدة مريم العذراء معونة المسيحيين السبع والعشرين لكي ينتخبن أ ّول رئيسة لهنّ ،فكان واحد
وعشرون صوتا نصيبَ ماريا ما ّزارلّو ،فأخذها الرعب ،وطلبت لوقتها من رفيقاتها أن يعفينها ،
فأَصررن على اختيارهن ،وعزم الأب بستارينو على تسليم الأمر كلّه إلى قرار دون بوسكو ،
فتنّفست ماريا الصعداء :إِنّ دون بوسكو يعرف أنها عاجزة عن الأمر ،وسوف يُعفيها ،ولا ريب
في ذلك .غير أنّ دون بوسكويعرف كم هي قادرة على الأمر فثّبتها في منصبها ،فاغتمّت غمّاً
شديداً .
والآن يجب إِعطاء بنات السيدة مريم العذراء معونة المسيحيين مسكناً ثابتاً ،ولكن كيف
السبيل إلى ذلك من غير إِثارة استياء البلد ؟
فقد ساعد حادث على حلّ المشكلة .كان بيت خوري الرعية يُنذر بالانهيار ،فعزمت
البلدّية على هدمه وإِعادة بنائه ،فطلبت من الأب بستارينو ،إلى أن يتم ذلك ،أن يجعل في في متناول
الخوري ،البيت الذي يمتلكه بالقرب من الكنيسة .
-وإِلى أين أُرسل الفتيات اللّواتي يقمن بتدريس الخياطة ،ويُضِفن الطفلات الصغيرات ؟
ف ّكر المستشارون واقترحوا :
-أرسلهن الى بورغو ألتو ،فقد انتهى بناء الطبقة الأرضية هناك ولا أحد يسكنها .
فتنَفّس الأب بستارينو الصعداء :لقد أمروه أن يعمل ما لا يجرؤ على طلبه ،فّتم الانتقال في
عربات للفلاّحين من غير أن يُنسى دود القز :فهو مورد من موارد رزقهن الضيئلة .
لم يُثِر الانتقال لحينه أ َيّ استغراب كان ،ولكن شاع في البلد أ َنّ بنات السيدة مريم العذراء

34.2 Page 332

▲back to top


معونة المسيحيين ( وعددهن يزداد بسرعة ) سوف يشغلن المعهد ،لينشئن فيه مؤ َسّسةً رهبانية
جديدة " ،فحدث لوقته تذمّر واحتجاج عامّان " ( .ذكريات السيرة ،ج ، 18ص . ) 613
كتب فيرث ( )Wirthوصفاً أكثر تفصيلا " :صاح أهل مورنيزي :اّنها خيانة .َخطت
بنات السيدة مريم العذراء معونة المسيحيين خطواتهن الأولى في ج َوّ من قلة التفهّم لهن ،وشبه
عداوة ،فضلاً عن الفقر والحرمان وكان كبيرين " .
كتب الاخت فيليشينا مازارلّو " :شاع أن ذلك كلّه لن يدوم كثيراً " .
وذلك ما كان يجب حدوثه من الوجهة البشرية ،لأن أشياء كثيرة كانت ناقصة ،غير أَن
ماريا دومنيكا لم ترتعب بل واصلت حياتها ،حياة التعب والبذل .لم يكن البناء قد تَمّ ،فكانت
ُتش ِغل نفسها طوال النهار بتكديس الحجارة والغيسل .نهر الروفرنو ( )Rovernoيبعد قليلا من
البلد ،فاذا جاء يوم الغيسل ،أخذَت شيئاً من الخبز وقدراً من البولنتا ،وذهبت إلى النهر مع
بعض أترابها ،وكُنّ يقمن بعملهن هناك ،فإذا عادت إلى البيت متعبة ومبّللة اهتمت بتبديل ثياب
غيرها ،وأع َّدت لهنّ طعاماً ساخناً .كانت مثل الأمّ الحنون .
رائحة حفنة من الكستنة
في آب ( اغسطس ) 1322تلّقت بنات السيدة مريم العذراء معونة المسيحيين الثوب
الرهباني ،ونذرت أيضاً إِحدى عشرة منهنّ نذوراً لثلاثة أعوام ،وكانت ماريا مازّارلّو بينهنّ .
سلّم الاسقف شياندرا ( )Sciandraمطران أكوي الصليب الى خمس عشرة راهبة " :خذن
يا بناتي الصالحات صورة يسوع حبيبكن .سيكون سَنَدَكُ َنّ في ال َصّعاب التي تعترضكن " .
حضر دون بوسكو حفلة ارتداء الثوب الرهباني والنذور ،ثم قال بلهجة بسيطة و َدّية :
" إنكُنَّ مغتّمات ،كما أرى بأُمّ عيني ،لأ َنّ جميع الناس يخالفونكن ،ويسخرون منكن ،
حتى أهلكن يُوَُلّونكن ظهورهم .يجب علي َكّن أن لا تستغربن .قرأتن في فرض السيدة العذراء
مريم :إن نا َرديني أرسل رائحة زكية .أتعرفن متى تفوح رائحة النارَدين ؟ إنِها تفوح عندما يُحسن
َهرسُه .لا تعجبن ،يا بناتي العزيزات ،إِذا أُسيئت معاملتكن في العالم ،كما يحدث ،ولكن الآن
َتش َّجعنَ وتع َزّين لأِنّك ّن هكذا تُصبحنَ قادرات على القيام برسالتكن .إذا عشتن عيشة تليق
بحالتكنَ أَمكنكنّ عملُ خيرٍ كبلير لنفسكن ولنفس قريبكن " .
استمر الفقر حتى بلغ حَدّ البؤس .كان أهمّ الوان طعام الجماعة البولنتا ،والكستنة اليابسة
اَلم ِغَلّية .روت راهبة من تلك الأّيام الأولى " :كانت رائحة تلك الحفنة من الكستنة تنتشر ساعتين

34.3 Page 333

▲back to top


قبل الطعام وتسَبّب لنا الاغماء " .
كانت كثير من الراهبات يستعملن حَطبة ملفوفة بالخرق ،لتكون مخ َدّة لهن .كانت جميع
الوسادات التي في البيت للطفلات الصغيرات .لم ُترِد ماريّا ما ّزارّلو أن تقوم الراهبات الشابّات
بأعمال التقشف هذه ولكنها لم تستطيع أيضاً أن تشرح لماذا كانت هي أوّل من أخترع ذلك
التقشف .
الموت يقرع الباب
في 20كانون الثاني ( يناير) 1321دخل الموت المعهدَ أ َّولَ مرّة .توفّيت ماريا بوجّيو
)Poggio (وهي راهبة شابّة من الرعيل الاول ،كانت مرحة متأهبة ك َلّ حين لتؤدي خدمة ،ولتنفع
غيرها ،وتسهر على المرضى .فقد جاءت وبردت كثيراً في ذلك الشتاء وتوَفّيت صامتة من غير أن
ُتزعج أحداً .
اجتمع أهل البلد كلّه للاشتراك في تشييع تلك الراهبة الشابّة في مورنيزي " ،فبكى كثير
من الناس " كما ذكر الأب بستارينو ،فأوقع ذلك الأمر الصلح بين السكّان وهؤلاء الفتيات
الشاحبات ،اللواتي سرن وهنّ لابسات ثياب الراهبات يتلون السبحة .ومنذ ذلك اليوم لم ينقص
بيتَ المؤونة دقيقُ الذَّرة الصفراء من أجل البولنتا ،ولا دقيقُ الحنطة من أجل الخبز .
ولك َنّ الموت قرع الباب مرّة ُأخرى .
في 12أيّار ( مايو) كان الاب بستارينو يقرأ على الراهبات صفحة على قصر الحياة .قال :
" لرَبّما فاجأني الموت بعد سنة أو ستة أشهر أو أسبوع أو ساعة ولرَبّما في آخر هذه القراءة " .وعندئذ
أخذ الكاهن يبكي ،فاضطربت الراهبات اضطراباً شديداً .
وفي الساعة الحادية عشرة ،بينما هو مكّب على عمله ،وقع أرضاً فمات بعد بضع ساعات
وكان في سن السابعة والخمسين .
ذهبن ثلاثاً والثلج يتساقط
0شباط ( فبراير) . 1326ذهبت الراهبات الثلاث الأوليات والثلج يتساقط ،ذهبن الى
فالّيكروزيا ( )Vallecrosiaفي ليغوريا ليدشنّ مصلّى ومدرسة للاناث .
20اذار ( مارس) .ذهبت سبع راهبات إلى تورينو فافتتحن مصلّى ومدرسة للاناث على
بعد خمسين متراً من مصلّى فالدوكّو .صارت تلك الدار طوال مدة تزيد على أربعين سنة ،الدار
المركزيّة لبنات مريم معونة المسيحيين .
وفي السنة 1326ذهبت 26راهبة أخرى من مورنيزي :ذهبن ليفتحن مدارس ومصلّيات

34.4 Page 334

▲back to top


في بِِيلاّ ( )Biellaوالاسّيو ( ، )Alassioولو ( )Luمونتف ّراتو ولانتسو ( )Lanzoتورينيزي .وذهبت
سبع منهنّ إلى سيستري ليفانتي ( : )Sestri Levanteذهبن لِيُنشئن أ ّول الحمامات البحرية لمائة
صبيب وبنت مصابين بالخنزاريّة ..بين هؤلاء الوجوه الكريهة تعمل بفرح مشرق الأخت هنريت
سوربوني ( )Sorboneوقد وصلت في الماضي إلى مورنيزي يتيمة صغيرة ال َسّنّ ،وهي تُمسك بيد
أخواتهاالأربع الصغيرات .
. 1323لقد أصبحت بنات مريم معونة المسيحيين ُأسرة كبيرة منتشرة في العالم
كلّه ،فانتقل مركز الرهبانية ،بأمر من دون بوسكو ،من مورنيزي إلى نيتسا موتف ّراتو
. )Nizza Monferrato (تف ّطر قلب ماريا ما ّزراّلو لذلك الانتقال ،فودّعت أباها وُأ َمّها الطاعنَين
في ال َّسنّ ،والمقبرة التي فيها يرقد الأب بستارينو ،وبعض أترابها الأوليات ،والبيت الصغير الذي
فيه عّلمت أول البنات الصغيرات الخياطة .
إِنّ تولّي ماريا ما ّزارّلو الرئاسة العامة لم يُفقدها َقطّ الشعور بضرورة العلاقات بغيرها ،فقد
واصلت رعاية البنات في المهجع ،وهي تنظر إليهنّ بعطف وانتباه .هناك طفلة ألصق الخَصَر )1(
قدَميها وجرابها وحذائيها بعضها ببعض ،فنظرت حولها لتعرف هل يراها احد وانسابت بين
َشرشفيها بحذائها وما إليه .فتنَّبهت ما ّزارلّو لتصرّفها ،فلم تقل شيئاً ،بل نزلت إِلى المطبخ فأَتت
بطست من الماء الفاتر ،وشاش وقطن ،ووضعت ذلك كلّه بجانب سرير الطفلة وهمست في
أُذنيها " :الآن أريني قدميك .لا تخافي لن أُصيبكِ بأذى " .
جاء الموت وأزهارَ أيار
كانون الثاني ( يناير) . 1331أخذت الراهبات َيرَينَ أن صحة الأمّ مازّارلّو تتدهور ،
فهمس لها بعض الناس أَنَّه يجب عليها أن ترعى صحتها ،أكثر مما تفعل ،ولكنّها أجابت
مبتسمة :
-إِنه من الخير لجميع الناس أن اذهب عن هذا العالم ،فهكذا تُنتَخب رئيسة أحذق منّي .
اشت َدّت وطأة المرض اذ كانت ترافق جماعة من المرسلات الذاهبات الى أمريكا .فقد عرض
لها حادث طارئ اضطرها الى أن تقضي ليلة منطوية على نفسها في زاوية ،وهي لا بسة ثيابها
ترتجف من البرد .ففي الصباح لم تقوَ على أن تنتصب قائمة .ومع ذلك جارت على نفسها بعد
قليل ،لتُرافق بناتها إلى الميناء .
ولكن قواها خارت بعد بضع ساعات فش َخّص الطبييب أنها مصابة بذات الجنب الحادة ،
فبقيت أربعين يوماً مصابة بالحمى ،بعيدة من ديرها ،تُعاني من اللّبخات التي تُحدِث الالتهاب ،

34.5 Page 335

▲back to top


وتسلخ لها جلدها ،وهي المعالجة المعروفة وحدها في ذلك العصر .
ثم زالت الحمّى ،ولكن الطبيب ظلّ يتكلم صراحة الى حد الخشونة :لن تعيش سوى
بضعة أشهر .
وعادت إلى نيتسا ودون بوسكو وقالت له :
)1تورّم يسبّبه البرد الشديد في الأصابع والقدمين ( حاشية من المترجم ) .
ـ كان كلام الطبيب صريحاً جداً .دون بوسكو ،أسألك ،أيسعني أن أُشفى ؟
لم يُجِب دون بوسكو جواباً مباشراً ،بل روى لها حكاية " :ذهب الموت فطرق باب دير وقال
لجميع الراهبات اللواتي صادفهن :تعالين معي ،ولكَنّهنَ تملّصنَ منه جميعاً ،فقد كُنّ مشغولات
بأُمور كثيرة فذهب إلى الرئيسة وقال :عليك أنتِ أن تكوني قدوة حسنة .تعالي ! فاض ُطرّت
الرئيسة إلى الانقياد والطاعة " .
َف ِهمت الأمّ ما ّزارلّو مغزى الحكاية فطأطأت رأسها وحاولت أن تبتسم .
فعادت إلى نيتسا شاحبة اللون منهوكة القوى ،فأّثرت فيها حفلة العيد التي أُقيمت
لاستقبالها تأثيراً شديداً فشكرت باخلاص :
-لا ينبغي لنا في هذا العالم ،مهما حدث ،أن نُفرط في الفرح ،وفي الحزن .إنّنا في يد
الله ،وهو أبونا ويجب علينا أن نكون متأهبات دائماً للعمل بما يشاء .
وقعت الخاتمة في الربيع ،اذ رأت من خلال زجاج نافذتها ،الخضرة والازهار ،وكانت
تحب صوت الطفلات ،وهنّ يركضن وَيلعبن ولا هَ َمّ لهنّ .وأرادت أن تخاطب أخواتها فقالت
لهن :
-أحبِبنَ بعضكن بعضاً حبّاً شديدا .ابقينَ مَُتّحِدات دائماً أبداً .إِنكنّ تركتن الدنيا ،فلا
تصنعن دنيا اخرى هنا في داخل الدير .َف َكّرن في ما دخلتُ َنّ الرهبانية من أجله .
تألمت ولكنها أبَت حتى النهاية أن تُحزن أحدًا بل حاولت ان تُغَنّي .وجاء الله ليذهب بها في
صباح 11أيار ( مايو) فأفلحت في أن تُتَمتِم " :إلى اللقاء في السماء ! " .كانت في الرابعة
والأربعين .
فَدُعيت كاترينا داغيرو ( )Dagheroوهي راهبة شابّة في سِنّ الخامسة والعشرين ،الى أن

34.6 Page 336

▲back to top


تخلفها رئيسة لبنات مريم معونة المسيحيين وكانت قد دخلت الرهبانية .وهي في الثامنة عشرة ،
فساعدتها الام مازّارلّو على التغُلّب على ما في الايام الاولى من الكآبة والخشونة .وكانت قد
أصبحت في السنة 1320رئيسة مؤسسة تورينو .إنّ مجاورة دون بوسكو قد أيقظت فيها المبادرة في
إدارة المصلّى والمدرسة ،فظهرت خصالها الدفنية من متانة وتوازن ورفق .
وبدافع منها أنمت بنات مريم معونة المسيحيين مشروعاتهن في إيطاليا وفرنسا وأمريكا
الجنوبية ،ولما تُوفّي دون بوسكو ،كُنّ قد اجتزن طريقاً طويلة فك َنّ يدرن 28ديراً وكان عدد
الراهبات ، 308وعدد المبتدئات نحو مائة .
11
فتح رومة وقشعريرة النهاية
في السنة 1328وقع حادثان لهما شأن عظيم ج ّداً في تاريخ الكنيسة وايطاليا ،وهما المجمع
الفاتيكاني الأول واحتلال الجيش الايطالي لرومة .
مجمع في رومة ومجمع مضاد له في نابولي
أُفتتح المجمعُ افتتاحاً رسمياً في 3كانون الاول ( دسمبر) ، 1360وجعل له بيوس التاسع
هَدَفين رئيسين :هما عرض واضح للعقيدة الكاثوليكية تجاه الضلالات العصرية ،وتحديد عصمة
البابا من الغلط .
مضى ثلاثمائة سنة على آخر مجمع وهو المجمع التريدنتيني .وَجّه بيوس التاسع نداءً فيه
إلحاح إلى أساقفة الكنائس الشرقية المنفصلة لكي تشترك في المجمع ،فكانت الأجوبة سلبًا وليس
فيها كثير من الكياسة .
ودُعي البروتستانت أيضاً ،ولكن عبارة الدعوة تكلمت " على الفرصة السانحة للرجوع إلى
القطيع الواحد للمسيح " ،فكان لها صدى سيّئ جداً في مسامعهم .
وكانت الماسونية الايطالية في حقبة من العداء الحادّ للكنيسة ،فأَعلنت مجمعاً مضا ّداً في
نابولي ،فكان أ ّول من تقّبل الدعوة إليه جوزيف غاليبالدي ( )Garibaldiوالكاتب الفرنسي
فيكتور هوغو ( . )Hugoوقد ُن ّظمت ،في عدة ولايات ،مظاهرات شعبية لإعلان " حرب على

34.7 Page 337

▲back to top


البابا لا هوادة فيها " .
وكان عدد الأساقفة الحاضرين لدى افتتاح المجمع المجمع 288إيطالي ،وسبعين فرنسيا و 18
نمساوّياً وهنغارّياً ،و 36اسبانياً 10 ،إرلندّياً ،و 13ألمانّياً ،و 12إنكليزيّاً و 28شرقيّاً و 18
أمريكيًّا من الولايات المتحدة الأمريكية و 0من الكنديين ومائة من مختلف الأمم وبلاد الرسالات .
وحضر مع الأساقفة الرؤساءُ العامّون للرهبانيات ،وكان مجمل عدد آباء المجمع نحو . 288
في 28كانون الثاني ( يناير) 1328ذهبَ دون بوسكو إلى رومة فوصل إليها في اليوم الرابع
والشعرين ،وفي 3شباط ( فبراير) تح َدّث إلى البابا حديثين خاصّين طويلين ،فطلب منه بيوس
التاسع أن ينشر بين الشعب كتاباً صغيراً لتاريخ الكنيسة يُبرز عصمة البابا من الغلط .فأطاع دون
بوسكو أمر البابا ،وأرسل في آخر السنة إلى جميع المشتركين في القراءات الكاثوليكية طبعة جديدة
لكتابة تاريخ الكنيسة وقد أضاف إليه فصلاً على المجمع الفاتيكاني الأول وعصمة البابا من
الغلط .
" صوت السماء يكلّم راعي الرعاة "
في أثناء مقابلة بين البابا وبين دون بوسكو في 12شباط ( فبراير) ،سلّم إليه دون بوسكو
بضع صفحات من " النبؤات على المستقبل " .وجاء في الأسطر الأولى " :في الليلة قبل عيد
الغطاس للعام الجاري هذا ، 1328غابت عن بصري أَمتعة غرفتي ،ووجدتُ نفسي أتأ َمّل أَشياء
عالم الغيب ،وقد دار ذلك وقتاً قليلاً ،ولكني رأيتُ ُأموراً كثيرة " .وكُتِب البيان ( وقد حُفِظ
الأصل بخط دون بوسكو ) بإنشاء تكثر قيه الصور والتنبؤات وتختلط الإِنذارات والكلام على
المستقبل والنداءات وكثير منها غامض ملتبس .وكانت الفقرة التي أّثرت في البابا أكثر من غيرها
( التي ما زالت إلى يومنا غير واضحة لنا أيضاً على وجه كافٍ ) هذه الفقرة :
" والآن ُيكَلّم صوتُ السماء راعيَ الرعاة .إِنّك في المؤتمر الكبير مع الأعضاء ،ولكن عد َوّ
الخير لا يهدأ لحظة واحدة ،بل يدرس جميع الحيل ويعمل بها لِيوُقع بك .سيبذُر بذور الشقاق بين
الأعضاء ،ويبعث لك أَعداء بين أبنائي ،وستقذف ق ّوات الدنيا ناراً وتبذل الجهد لِخنقِ الكلام في
فم ح ّراس الايمان ،ولكن لن يكون هذا .سوف يفعلون الشر ولكن لأنفسهم .واما أَنت
فع َجّل ،وإِذا كان لا يمكن َح ُلّ المشاكل ،فاقطعها قطعاً .واذا وقعت في الضيق فلا تتوقف ،
ولكن واصل سيرك حتى يُقطع رأس وحش الرعب .إِن تلك الضربة ستُزلزل الأرض والجحيم ،
ولكن العالم سيستعيد الطمأنينة وسيفرح الصالحون .فادعُ اليك ُعضوين فقط ،ولكن أينما ذهب َت

34.8 Page 338

▲back to top


فواصل سيرك ،وأتِمّ العمل الذي ُعهِد به إليك .وإن الأيام تمضي سريعة وإِن السنين تسير إلى
العدد المح ّدد ،ولكن ال َمِلكة العظيمة ستكون دائماً أبداً عونَك ،وكما كانت في الماضي فستكون في
المستقبل عَونَ الكنيسة العظيم القدير " .
وتكلم دون بوسكو بعد عشرين سطرًا على مستقبل البابا فقال " :أنتَ الآن كبير
ال َسّنّ ،نال منك الضعف ،ولا حماية لك ،لقد ُج ِرّدتَ ،ولكنك بكلامك المُقَيّد تجعل العالم
يرتجف ( ان احتلال الدولة البابوية لم يحدث إلاّ في 28أيلول سبتمبر ) .
الانذارات القاتمة لفرنسا
إِن الصفحة التي بدت أكثر غموضا حينذاك هي الصفحة التي تتناول فرنسا .ففي تلك
الأشهر كان نابليون الثالث أقوى ملك في أُوربا .ماكان لَيخطر ببال أحد وقوع كارثة الحرب بين
فرنسا وبروسيا ( وقد بدأت في 10تموز يوليو ) 1328ومذابح الحكومة الثورية في باريس ( اذار
مارس – أيار مايو . ) 1321وهذا كلام دون بوسكو كما كتب :
" ان قوانين فرنسا كفّت عن الاعتراف بالخالق ،وسيع َّرف الخالق نفسه ،ويتفّقدها ثلاث
م ّرات بعصا غضبه .سيخفض كبرياءها بالهزائم والنهب وإِبادة الغلاّت وذبح الحيوانات والناس .
إنّ اعداءكِ سيُنزلون بك الشدائد والجوع والخوف ورجاسة الأمم .ولكن الويل لك إذا لم تعرفي
اليد التي تضربك .ستسقطين في أَيدٍ غريبة ،ويرى اعداؤك عن ُبعد قصورَك تلتهمها النيران ،
وتصبح دُورُك كومةً من الأنقاض تسبح في دم أبطالك الغابرين " .
والتقى ،في الأيام بعدئذ ،وكثيراً من الأساقفة ،واستعمل ما يَتَمّتع به من مكانه ،لُيشَجّع
على التعجيل في تحديد عصمة البابا من الغلط .ويبدو أنّه أل َحّ أشد إلحاحه على السيد غاستالدي
، )Gastaldi (وكان حينذاك مطران سالوزّو ( )Saluzzoوصديقه الحميم .
وأ َكّدَ الأب لموان ( )Lemoyneأنّ بيوس التاسع سُ َرّ أعظم السرور بنشاط دون بوسكو حتى
إِنه قال له ذات يوم :
-أَلا يمكنك أَن تترك تورينو فتجيء لتقيم هنا في رومة ؟ أترُى جمعيتك تخسر شيئاً في ذلك ؟
-أيهّا الأب الأقدس ،إِن ذلك يؤول إلى خرابها ( .لموان ،حياة دون بوسكو ،ج ، 2
ص . ) 11
غادر دون بوسكو رومة في 22شباط ( فباير) .
وفي 21نيسان ( أبريل) وافق المجمع بإِجماع الاصوات على الوثيقة " ابن الله " وفيه َعرضٌ

34.9 Page 339

▲back to top


ُمكثّف واضح للعقيدة الكاثوليكية على الله والوحي والايمان .وقد أبرزت على وجه خاصٌ القول
إِن العلم والايمان ،إذا أَحسن المرءُ تفهّمَه لها ،لا يخالف الواحد منهما الآخر ،لأّنهما كليهما
من الله .
أتُرى البابا معصوماً من الغلط
في 12أيار ( مايو) بدأ النقاش في عصمة البابا من الغلط ،في ردهة اجتماعات المجمع ،
واستمرّ الجدل العامً حتى حزيران ( يونيو) ،فكتَبَ الكردينال بونشوز ( )Bonnechoseفي
دفتره " :يبدو أَننا أَبحرنا لرحلة عسيرة ،في سفينة يضربها الموج ،وأُصيب جميع ركابها
بال ُدّوار " .
َقسَم أباءَ المجمع تَيّارانِ ،فتجادلوا جدالاً عنيفاً في داخل المجمع ،وخارجه ،فكانت
الأكثريّة تؤيد عصمة البابا من الغلط في حين أن الأقلَيّة ( نحو ستين ُأسقفاً من الالمان والفرنسيين
والايطاليين والأميركيين ) كانت تَرى في إعلان تلك العصمة عقبةً كأداء دون التقارب من الكنائس
البروتستانتية .وقد أَشعر بيوس التاسع عِدّة م ّرات بما له من السلطة لكي ُتعلَن عصمة البابا من
الغلط .
في 13تموز ( يوليو) وافق المجمع على النصّ الذي يتناول العصمة من الغلط ،فروى
شاهد " :كان ذلك اليوم يومَ مطر هطّال على رومة ،وزوابع متواصلة شديدة ج ّداً ،وبينما يَقرأُ
المطران فالنزياني ( )Valenzianiالنصّ ،كان الرعد يهزّ النوافذ ،ولما كانت البروق تكفّ عن
وميضها ،كان يسود الج َوّ ظلامٌ يدعو الى الكآبة " .
أَعلن قرار المجمع ،وقد وَقّع عليه البابا ،هذه الحقيقة عقيدةً من الايمان :
" إِن الحبر الرّوماني يتكلّم من أعلى عرشه ،عندما يقوم ب َعمله قيامَ الدليل والمعلّم لجميع
المسيحيين ،إِستناداً إلى سلطته الرسوليّة العليا ،فهو يتمَتّع بالعصمة من الغلط .عندما يُح َدّد في
هذه الأحوال أ َنّ عقيدة تتناول الايمان أو الأخلاق يجب على الكنيسة العامة أن تتقبلها قبولها
لعقيدة ايمانية .فقد شاء الفادي الالهي ،بالتأييد الذي وعد به الرسول بطرس ،أن يز ّود الكنيسة
بهذه العصمة من الغلط ،لذلك فان هذه التحديدات التي يقوم بها الحبر الأعظم هي غير قابلة
للتعديل ،لا لأن الكنيسة تحكم بأنّها كذلك ،بل لأنها غير قابلة للتعديل في حدّ ذاتها " .
ولما فُرِغ من الأعمال المخصوصة بالعصمة من الغلط ،تق َرّر التوّقف عن العمل مدة أَربعة
أَسابيع ،يعود من بعدها المجمع إلى العمل ليُناقش مسألة المطارنة .ولكنّ أحداثاً جسيمة أوشكت
أن تقع في أوروبا .

34.10 Page 340

▲back to top


الجيش الايطاليّ يحتلّ رومة
في 10تموز ( يوليو) 1328أعلن نابليون الثالث الحرب على بروسيا ،فأًصيب بكارثة ف ُهزِم
جيشه وُأسِر هو بنفسه في 2أيلول ( سبتمبر ) .فأُعلنت الجمهورية في فرنسا وقامت ثورة قمعها
الجيش الفرنسي قمعاً وحشيّاً .
ًغلِب نابليون فأرادت الحكومة الايطالية الاستيلاء على رومة .فنصح بعض الناس لبيوس
التاسع أن يغادر المدينة ،فاستشار البابا من يَِثق بهم ،ودون بوسكو واحد منهم ،ليعرف ما يحسن
به أن يعمل ،فأجابه دون بوسكو " :ليبقَ الخفير ،ملاك الرب في مكانه ،ويحرس صخرة الله
والتابوت المقدس " .
في 28أيلول دخل الجنود الايطاليون المدينة ،فأَمر البابا برفع الراية البيضاء ،وأمر قائد
جيشه أن يستسلم حقناً للدماء ،وأَنزل بالمسؤولين عن الاستيلاء على رومة الحرم الأعظم ،
" وإن كان لهم أعلى المناصب " .
كتب الأب لموان " :َتلَقّى دون بوسكو خبر الاستيلاء على رومة ،وهو في لانتسو
، )Lanzo (وقد تلقّاه بهدوء ،الأمر الذي تعجّب منه الحضور ،وكأنه سمع الكلام على شيء
يعرفه منذ عهد بعيد " .
وبعث البابا إلى آباء المجمع ،وكانوا لا يزالون في رومة ،ببلاغ جاء فيه " :في هذه الأحوال
المحزنة ،وقد رأينا أن آباء المجمع لن يتمتعوا بالحرية الضرورية ،وبالأمن والسلام ،ليبحثوا معنا
في شؤون الكنيسة ...فإننا نعلّق الاحتفالا بمجمع الفاتيكان المسكوني " .
قشعريرة الموت في فاراتسي
كان لاحتلال رومة ونهاية الدولة الباباوية صدى عظيم لا ُيمكننا أن نتخّيله .كان ذلك
الحدث نهاية عهد دام 1288سنة ،فظنّ كثير من الناس أنه نهاية الكنيسة .
وبعد سنة شعرت الرهبانية السالسية الفتيّة النحيلة ،هي أيضاً ،بقشعريرة الموت تنتابها
لحظة من الزمن .
ففي 6كانون الاول ( دسمبر) ، 1321بينما دون بوسكو في فاراتسي ( ( )Varazzeفي
الريفييرا الايطالية على بعد نحو أربعين كيلومترا من جينوى إلى الغرب ) وقع أرضاً وأُغمِيَ عليه ،
فخاف الحاضرون أَنّه أُصيب باحتقان في دماغه ،فرفعوه وحملوه إلى البيت السالسي ،واضطُرّوا
الى وضعه في السرير ،كما يُوضع الطفل .

35 Pages 341-350

▲back to top


35.1 Page 341

▲back to top


بعد بضعة أيام من الحيرة بدا أ َنّ المرض جسيم ج ّداً ،فقد غطّت حيناً بعد آخر ،جسمَ دون
بوسكو بثورٌ صغيرة صلبة ،فسبّبت له آلاماً لا تُطاق ،وارتفعت الحمى ارتفاعاً يدعو الى القلق
فزُ ّود المريض بالزاد الأخير ،وهو على حافة القبر .
فع َمّ الأسى تورينو .إذا مات دون بوسكو ،فماذا يُنقَذ من مشروعه ؟ فالأب روا ،ذراعه
اليمنى ،في سِنّ الرابعة والثلاثين فقط .فق َدّم كثير من السالسيين حياتهم بدل حياة دون بوسكو في
تلك الأيام .ويُروى أنّه قال بعدئذ " :كُتب َعل َيّ أن أموت في فاراتسي ،فالأعوام التي تبعت
كانت هبة من الله ِلك َلّ من أبنائي " .
دام المرض شهرين ،وكانت الأخبار ،أول الأمر تدعو الى القلق الشديد ،حتى إِنهم كانوا
يبلغونها بالبرقيات فحسب وبعبارات لا تفصيل فيها ،ليتجنّبوا إِشاعة الاضطراب في حياة
المصلّى .
ولكن هذا الايجاز أتاح الفرصة السّانحة لإِظهار علامات المودّة المؤثرة لدون بوسكو .
فبين فاراتسي ( حيث نزل بطرس إنريا ،اليتيم على أثر الكوليرا في السنة ، 1321ليسهر
على دون بوسكو ) وبين يوسف بوتسيتّي الذي يرتعد في تورينو ،لأنه محروم الأخبار المفصلّة عن
صحة دون بوسكو ،بدأَ في العمل نوع من البريد الخفّي .إن رسائل هذين الشخصين اللذين
تقبّلهما دون بوسكو صبييّن ،رسائل خالية من الزخرف ،مليئة بالعبارات العامّة ،ولكنها تحتوي
شعوراً رقيقاً جداً كله صدق وطرافة .
رسائل المودّة
اننا نورد بعض ما جاء فيها :
23كانون الأول ( دسمبر) . 1321من إنريا إلى بوتسيتّي :
" أشعر بحزن شديد ،وانا ُأض َطرّ إلى إ ّطلاعك على أَخبار غير حسنة عن أبينا المسكين .ان
الحمّى لم تفارقه اليوم لحظة واحدة .كان طوال النهار غارقاً في العرق الذي يتصبّب منه .وقد
أصابني الخوف عليه كثيراً لأنه كان يِئنّ أنيناً شديداً ،وهو يحلم في نومه ،فدنوتُ من سريره فقال
لي إ َنّ ذلك ليس بشيء .
آه ،يا بوتسيتّي العزيز ،إِنّ حزني شديد جداً حتى إني لا أقوى على الكتابة .أتوسّل إليك
أن تقول لهم ُيصلّوا ولكن من صميم قلبهم ،فيشفق الطفل يسوع علينا .الساعة هي الساعة
الثانية في الصباح ،فكأنّه الآن قد نام قليلا ،أَتمنىّ لكم جميعاً عيداً سعيداً سأقضيه ،وقلبي
ينفطر ،بالقرب من سرير أبي وأبيكم العزيز " .
فأجاب بوتسيتي :

35.2 Page 342

▲back to top


" لم أَقَوَ على إتمام قراءة رسالتك المؤرخة في 23ِلما أصابني من الحزن الشديد والضيق ،ولأِني
لم أَقَوَ على حبس دموعي ،َلمّا علمت ان دون بوسكو العزيز يتألم ،فيزداد ألمهُ قليلاً ك َلّ يوم .صلّيتُ
وطلبتُ الى جميع الذين معي أن يصلّوا ،لا بل طلبتُ الى الطفل يسوع أن يجعلني أَتألم جميع آلام
دون بوسكو ،وأن يُميتني إذا وجب الأمر ،لكي يُعافى سريعاً ويعيش أعواماً طويلة .واصِل الكتابة
ولا تَخَف إزعاجي ،فإَّنك ُتزعجني إذا تركتَ يومًا واحداً يمضي من غير أَن ُتطلعني على حال صحّة
أبينا العزيز .قَّبل يده المقدسة من قِبَلي وقل له يباركني " .
3 "كانون الثاني ( يناير) . 1322بوتسيتي العزيز ،إِن صحة أبينا المحبوب في تح ُسّن
مستم ّر ولكن بطيء .إِنّ بثوراً صغيرة لا تزال تصيبه ،فتعذّبه قليلاً وتسبّب له شيئاً من ال ّحمى " .
فأجاب بوتسيتي " :يا بطرس العزيز ،إننا ننتظر أخباراً طيبة .أنهيت المبارحة التساعية ،
ولذلك اذا رأت مريم معونة المسيحيين أنّنا نستحق حّبها ،فانها سََترُدّ علينا عزيزنا دون بوسكو
معافى ،وإِلاّ فسنواصل إِبرامها طوال ما كان ذلك ضرورياً .لا شَ َكّ في أَنك تعلم بالبرد الشيطاني
الذي نعاني منه ،ففي كل يوم نَجِد كثيراً من الأباريق ،وقد حطّمها الجليد .كان مصير إبريقك
في السقيفة مثل مصيرها " .
فلما أخذ دون بوسكو يتماثل إلى الشفاء حقاً ،أرسل إنريا برقية إلى بوتسيتّي " :البارحة
عيد .أبونا قام .زيارتك تَ ُس ُرّه .اليوم حالته حسنة " .
ان الكلمتين " أبونا قام " انتشرت على الفور في المصلّى ،وسبّبت فرحاً عظيماً .
واستمرّ التحسّن ،فلبث إنريا يومين أو ثلاثة من غير أن ُيرسل خبراً ،فكتب إليه
بوتسيتّي " :يا بطرس العزيز ،أَلا تزال حيّاً ؟ إِذا كنتَ حيّاً كما أرجو ،فلماذا لا تَفي بوعودك بألاّ
تدع يومًا واحداً يمضي من غير أن ُتطلعني على أخبار دون بوسكو العزيز ؟ إذاً دَع عنك كل
خزعبلة " .
فأجاب إنريا لوقته " :إِن صحة دون بوسكو لا تزال تتحسن ،فقد صاح عدة مرات " :آه
يالليوم الذي فيه نعود الى المصلّى " ،ولبث متأثراً وقد غرق فكره في ما سيَحدث عندما يعود الى
بيتنا المبارك " .
في 12شباط استطاع دون بوسكو العودة إلى تورينو فدخل كنيسة مريم معونة المسيحيين من
الرتاج الكبير وكان ينتظره فيها صبيان فالدوكّو وكثير من الأصدقاء .فّلما وصل إلى الخورس أمام
المذبح أنشد بوتسيتّي المزمور " سبحوا الرب أّيها الاطفال " فجثا دون بوسكو عند بيت القربان
والعذراء معونة المسيحيين وصلّى طويلاً ثمّ شكر الصبيان ،ودعاهم إلى شكر السيدة مريم .ذكر

35.3 Page 343

▲back to top


الأب أماديي ( " : )Amadeiلبث إنريا جاثياً في الخورس ،فأمسك بوتسيتي بذراعه ،وصحبه إلى
خارج الكنيسة " .فقبل الواحد منها الىخر وهما يبكيان .
11
المعاونون :سالسّيون في العالم
في السنوات من 1328الى 1320تَبلوّر مشروع السالسّيين المعاونين .ولّم يُرتجل هذا الفكرَ
دون بوسكو ،كما لم ُترتجل سائر أفكاره ،فقد كانت جذوره قديمة ،وكتب هو بنفسه " :ما إن
ابتدأ مشروع المصلّيات في ، 1311حتى جاء ع َدّة كهنة وعلمانيين أتقياء ليساعدوا في رعاية
الحصاد الذي بدا كثيراً منذ ذلك الوقت في قطاع الأحداث المعرّضين للخطر .إن هؤلاء " المعاونين
أو المساعدين " كانوا في جميع الاحوال ،سندَ المشروعات التي َتعهد إلينا بها العناية الالهية " .
الوداع للأب بوريل
ذكر دون بوسكو أوّلَ الأمر الكهنة ،وقد صادفناهم نحن أيضاً في أثناء روايتنا للتاريخ في
مصلاّه المتَنّقل أوّلا ،ثم في فالدوكّو ،وقد وقعت خلافات في أفكاره " الجنونية " ثم في شأن موقفه
السياسّي .ولكن الحُ َبّ العملي للشبيبة تغلّب على العقبات والحواجز ،فقد ارتبط بمشروع دون
بوسكو دائما أبداً بطرس ميرلا ( )Merlaولويجي ناسي ( )Nasiوليوناردو موريالدو ( )Murialdo
واغناطيوس ويوسف فولا ( )Volaوجياسنتو كاربانو ( )Carpanoولا سيما الأب كافاسّو ( )Cafasso
والأب القصير بوريل ( . )Borel
اطبق الأب القصير عينيه في هذه الأرض في 0أيلول ( سبتمبر) ، 1323فبكى دون بوسكو
بجانب الذي انطفأ سراجه وقال " :كان منظر من لا شأنَ له على الاطلاق في حين أ َنّ عشرة

35.4 Page 344

▲back to top


من الكهنة الصالحين لم يكونوا ليصنعوا ك َلّ الخير الذي صنعه هذا الخادم الكبير لله " .
لما تُوفي ،لم يترك حتى الضروري لجنازته ،ولكن دون بوسكو عرف كم مرّة أفرغ محفظته في
يديه ،من غير أن يهتم هل كان ما فيها عملة صغيرة أو ليرات ذهب ،عليها صورة نابليون .وحمل
الرؤساء السالسّيون الذين دعاهم دون بوسكو إلى الجنازة نعشَ الأب بوريل على أكتافهم ،وشَيّعه
الى المقبرة الشمامسةُ والأحداث وموسيقى المصلّى .وهؤلاء الكهنة والشمامسة والأحداث هم الذين
قال دون بوسكو في شأنهم السنة " : 1311ومع ذلك إّنهم موجودون فإنّي َأراهم " .
رجال ونساء أصحاب ه ّمة حسنة
بالاضافة الى الكهنة ،كان يعاونه العلمانيون ،وكان بعضهم ينتسبون الى ُأسر
ارستقراطيّة ،كالكونت كايس ( ( )Caysالذي صار سالسيّاً كاهنا ،بعد ما طعن في ال َسّنّ ) ،
والمركيز فا ّساتي ( )Fassatiمن مونتي مانيو ( )Montemagnoوالكونت كالّوري من فيينالي
)Callori di Vignale (والكونت سكارامبي من بروني ( . )Scarampi di Pruneyوكان غيرهم
عمّالا بسطاء أو تّجاراً .كان دون بوسكو يذكر بكثير من الامتنان نحّاساً يُدعى يوسف غالياردي
)Gagliardi (يَخُصّ أحداثَ ال ُمصلّى بفراغه وبما ي َّذخره .
كانت مساعدة هؤلاء العلمانّيين متنوعة ،فكان دون بوسكو يطلب منهم خصوصا أن
يتفرغوا للقيام بالتعليم الدينّي ،يوم الأحد وأيّام الأعياد في الصوم الكبير .وكان أناس منهم
يساعدونه أيضا في الدروس المسائية ومراقبة الأحداث ،وكان غيرهم يبحثون عن عمل جيّد
للصبيان ولا سيما للذين خرجوا من السجن .
ولم يكن الرجال وحدهم ،فقد أشرنا إلى " الأمهات " اللواتي عملن في المصلّى :ماما
مرغريتا ،وأم الأب روا ،وأم ميشيل ماغونه وأخت ماما مرغريتا ،وأم الأب غاستالدي .
وقد تولّت هذه الاهتمام بأن تغسل ثياب صبيان الداخليّة ،وتوزّعها يوم السبت .قال دون
بوسكو " :كان ذلك ضروريا ،فبين هؤلاء الصبيان المساكين أناس لا يمكنهم أبداً تبديل القميص
الوسخ الذي على ظهرهم ،وكانوا قذرين ج ّداً حتى إنه ما من رَبّ عمل كان يرضى قبولهم في
معمله " .
كانت السيدة غاستالدي تجمع الأولاد يوم الأحد وتقوم " ،كأنها قائد جيش " ،بتفتيش
دقيق لثياب ك َلّ منهم ولنظافته ،بما فيها أسرّتهم ،وقد صارت م ّراتٍ كثيرة أوجرة صغيرة رائحتها
كريهة .
وكان كثير من الناس لا يعانون بالعمل بل بالمال .كان كاهن يعطي للانفاق على الصبيان

35.5 Page 345

▲back to top


ك َلّ المال الذي يتلّقاه من ذويه الميسورين ،وكان صيرفّي يدفع على نحو منتظم أجرة كأنه " نزيل "
مدرسة دون بوسكو ،وكان حرفيٌ يأتي على نحو منتظم بكل ما ي ّذخره .
المعاونون الخارجيون يُرفضون
ازداد دون بوسكو تُيّقناً يوماً بعد يوم من أَنه يحسن جمع هؤلاء المعاونين في جمعية .
فحاول محاولة أُولى في ، 1328فجمع سبعة رجال ثقة " ،كلّهم كاثوليك علمانيون " ،
فلم يُفلح .
حاول في 1361محاولة أخرى ،فلما قدّم قوانين رهبانية الى رومة ،أدخل اليها فصلًا جعل
بضعة من أصحاب السيادة يُقلّبون شفاههم .كان يتكلم على " سالسيّين خارجين " .فكل
امرئ ،ولو كان يعيش في أسرته ،يستطيع أن يصير سالسيّا :فليس عليه أن ينذر نذراً ،بل
يعاون في عمل السالسيّين في سبيل الصبيان الفقراء .واستدرك في البند الخامس أ َنّ كل سالسيّ
يخرج من الرهبانية " لسبب مقبول " يُصبح " عضواً خارجياً " فيها .
رُفِض ذلك الفصل لدى فحصه ،فعاد دون بوسكو بما فيه من عناد أهل البيمونته إلى تقديمه
مرّة أخرى ،بعدما حّوره ،ثم جعله ملحقاً .فلم يُجِده ذلك نفعاً ،واضطُرّ لينال الموافقة على
القوانين ( وقد نالها في ) 1321إلى قبول حذف ذلك الفصل ،الذي قد ُيعَدّ اليوم " َحدساً
عبقرياً " .
رُفِضَ مشروع السالسيّين الخارجين ،فأكبّ دون بوسكو لوقته على العمل لاستنباط ما
ُيشبهه .ففي 1321رسم م َخ َطّطاً أ َّوليّاً لاتحاد مار فرنسيس دي سال ،فأبدى الرؤساء الذين
استشارهم ،قليلاً من التحمّس للمشروع ،فهو أشبه باحدى الأخويات الكثيرة العدد .قال :
" إِنكم لا تفهمون ،ولكنكم سترون أَن هذا الاتحاد سوف يكون سَنَدَ رهبانيّتنا .فَ َكّروا فيه " .
كان دون بوسكو يجعل للاتحاد ثلاثة أهداف :
-إحسان الانسان إلى نفسه بالقيام بأعمال المحبّة للقريب ،ولا سيما للأولاد الفقراء
المش َرّدين ،
-الإِسهام في أَعمال التقوى وال ِدّين التي يقوم بها السالسّيون ،
-تَقَُبّل المرء للأولاد الفقراء ،وتعليمهم في بيته ،والدفاع عنهم لانقاذهم من الأخطار .
المعاونون السالسيّون
في 1326اهتدى الى الصيغة النهائية .سّمى الاتحاد التقوي لمساعديه المعاونين السالسّيين
فكتب قانونهم ،وطبعه على عجل ،وأرسله الى البابا لِيُوافق عليه ،فعاد ومعه رسالة من البابا

35.6 Page 346

▲back to top


بيوس التاسع في 0ايار ( مايو) . 1326
إنّ الأهداف هي التي وردت في جدول ما قبل سنتين :إِحسان الانسان إلى نفسه بحياة
مسيحية ملتزمة ،ومساعدة السالسّيين في مشروعهم ،ودفع الأخطار التي ُتهدّد الشبيبة ،ووسائلها
هي الوسائل التي يستعملها السالسيّون :التعليم الديني والرياضيات الروحية ،والاهتمام
بالدعوات الكهنوتية ،ونشر الطباعة الصالحة والصلاة والصدقة .
إن الكلمة الاخيرة هذه دعت إلى كثير من الالتباس .فقد قّلص السالسيّين نشاط
المعاونين وقصَرها على العون المالي لمشروعهم ،فاحتجّ دون بوسكو بحزم على هذا ال َح َطّ من شأن
المعاون .
قال في طولون في السنة " : 1332يجب على المرء أَن يُحسن تَفَ ُهّم هذف الاتّحاد التقوي ،
ولا ينبغي للمعاونين السالسيّين أن يقتصروا على جمع الهبات لمشروعاتنا ،بل يجب عليهم أيضاً أَن
َيسعوا بكل ما لديهم من الوسائل ليؤازروا في خلاص إِخوتهم ولا سيمّا الأحداث " .
بذل دون بوسكو كثيراً من الجهد في أثناء أَسفاره في إِيطاليا وفي خارجها ،لِيُنّمي عدد
المعاونين .كتب موران فيرث ( " : )Morand Wirthإِن جينوى والليغوريا ( )Liguriaزوّدتاه بعدد
كبير منهم ،وصارت نيس في فرنسا مركزاً ذا شأن ،بسبب تع ُدّد جنسيات أهل المدينة .كان
المعاونون في مرسيليا متح َمّسين أَشدّ الحماسة حتى ان دون بوسكو شعر بِأَنه يُقيم في ُأسرته " .
وفي اسبانيا عاشت امرأة من أَكثر المعاونات طرافة وهي السيدة دورتيا دي تشوبيتيا
. )Dorotea De Chopitea (فقد صارت أُ َمّ المشروعات السالسيّة ،و ُش ِرع في دعوى إِعلانها
طوباويّة .
" النشرة السالسية" تصل إلى سوتّو المونتي نفسها
أراد دون بوسكو أن يعطي المعاونين وسيلة تحفظهم متّحدين بعضهم ببعض وِبمركز
المشروعات السالسيّة ،فأَصدر النشرة السالسيّة ك َلّ شهر ( صدر العدد الأول في آب أغسطس
. ) 1322
كانت النشرة عظيمة الشأن عند دون بوسكو ،حتى إِنه أَعَ َدّ هو بنفسه الأعدادَ الأولى .ولما
تع ّذر عليه الأمر ،حَرَم إخوانه رئيساً ،ليسلم النشرة إليه ،وهو الأب يوحنا بونيتّي ( )Bonetti
الذي صار عُضواً في المجلس الأعلى للرهبانية .ولما سُِئل دون بوسكو إلى من تُرسل النشرة أجاب :
" الى من يريدها وإلى من لا يريدها " .
في النشرة السالسيّة طُبعت الرسائل الأولى التي َبعث بها ال ُمرسَلون السالسيّون ،فقرأها
الأحداث والكهول بشغف .وفيها ُطبع أ ّولُ تاريخ لمصلّى دون بوسكو ،في بضعة اعداد ،انتظر

35.7 Page 347

▲back to top


القرّاء بتشوق شديد للاطّلاع عليها ،وقُرئ فيها على نحوٍ منتظم اخبار المشروعات السالسيّة في
طول الأرض وعرضها ،وأهمّ الِنعَم التي جاءت بها مريم معونة المسيحيين .
دخلت تلك المجلة الشهريّة البسيطة ك َلّ مكان ،واكتسبت كثيراً من الأصدقاء لدون بوسكو
ومشروعاته .ذكر البابا يوحنا الثالث والعشرون الذي ُولد في إِلمونتي ( : )Sotto il Monte
" إِن السنوات الأولى من حياتي نالت الفرح والحماية من صورة معونة المسيحيين العزيزة .أجل
كانت صورة بسيطة جداً ،فقد اقُت ِطعت من النشرة السالسية التي كان كبير أعمامي زافيريو
)Zaverio (يتلقّاها ويقرأها بحماسة شديدة .كانت الصورة التقوية عند رأسي في السرير .
كم من الصلوات والثقة قبالة هذه الصورة البسيطة ،وقد ساعدتني معونة المسيحيين دائماً أبداً " .
في السنة ، 1331بينما دون بوسكو يخاطب الأب لموان ،كشف له عن فكر ازداد وضوحاً
عنده شيئاً فشيئاً " :إن غاية المعاونين الحقيقية ليست مساعدة السالسّيين بل مساعدة الكنيسة
والمطارنة والخوارنة ،يديرهم السالسّيون من علُ " .
كتب موران فيرث " :لما مات دون بوسكو في 1333كان هناك أمر واضح ،وهو أن القوة
الرسولية للرهبانية السالسيّة المتواضعة تضاعفت عشر م ّرات بفضل العون الأخوي الذي أتاها من
معاونيها ،وا َنّ كثير منهم يستحق ّون أن ُيعَدّوا بالفعل ،إِن لم يكن في القانون ،سالسيّين حقيقيين
في العالم " .

35.8 Page 348

▲back to top


11
فرنسيس وأوسيبيو وفيلّبس وميشيل
وغيرهم كثيرون من الاصدقاء
في 1328أت َمّ دون بوسكو الخامسة والخمسين .كانت حياته حياة حزم ونشاط كالسيل
الجارف النازل من الجبال في العشرات الأولى ،فاّتسعت وصارت نهراً .فدُوّنت الأعوام الثمانية
عشر الأخيرة من حياته تدويناً دقيقاً في القناطير من الوثائق والشهادات ،ثم كَُثّفت في تسعة
مجلّدات من ذكريات السيرة يحتوي اثنان منهما أكثر من ألف صفحة لكل واحد .
من الواضح أََنّه يجب على ك َلّ كاتب سيرة دون بوسكو أن يترك جانباً أموراً كثيرة .إن
الأحداث واللقاءات والارشادات للصبيان والاحلام مُؤّثرة وذات طابع إنساني عظيم ،ويأسف
الكاتب على تركه جانباً عشرات وعشرات منها .ومع ذلك بعدما نكون قد حسبنا حساب
صفحات كتابنا ،نضطَرّ نحن أياً إِلى التقضيب والتشذيب بحزم .
ولكننا ُنعَ َوّض نفسنا تعويضاً صغيراص في هذا الفصل ،فنروي رواية حرة طائفة من هذه
الأحداث واللقاءات في هذه الاعوام ،تلك التي أثَّرت فينا من غيرها ،ونعتذر إِذا لم نُفلح في
وصل بعضها ببعضها الآخر ،برباط منطقيّ ،علماً بأَن الحياة لا تسلك دائماً المنطق طريقاً رئيساً
لها .
" سرقت رغيفين "
آب ( اغسطس ) . 1322د َقّ الجرس وخرج من الصفوف والورشات جيش ضخم من
الأحداث ،وهم يصيحون " :الخبز ! الخبز ! " .

35.9 Page 349

▲back to top


وَضع خبّازان سلّتين كبيرتين من الخيزران تملأهما أرغفة صغيرة طريئة تفوح منها رائحة
طيّبة ،َفعَلا الصّياح " :رغيف لك َّل واحد فحسب ! " .
فرنسيس بيكّولّو ( )Piccolloصبيّ في الحادية عشرة وصل لعهد قريب من بيجيتّو تورينيزي
)Pecetto Torinese (نظر هذا الازدحام وانتظر دوره .لقد تناول قدراً حسناً من الحساء عند
الظهر ،ولك َنّ شهيته ثارت على مر الساعات ،فَف َّكر أ َنّ رغيفاً صغيرًا واحداً غير كافٍ لس َدّ
جوعه ،بل يجب أن يُضا ِعف الوجبة .بيد أَن المصلّى فقير ،ثم إِن الخبز مقنّن في تلك السنة
. ) 1322 (
وبينما هو يُفكّر في هذه الامور كَّلها ،رأى أ َنّ أناساً من أصحابه يأخذون أول رغيف ،
ويضعونه في جيبهم ،ثم يعودون بهدوء الى الوقوف في الصف ،ويأخذون رغيفاً ثانياً وثالثاً من
دون أن يشعربهم أحد .
روى فرنسيس بعدئذ " :واستسلمت أنا أيضاً الى شَهّيتي فسرقت رغيفين ،وذهبت إلى ما
وراء الحنايا لآكلها ِبشراهة ،ثم داخلني الندم .قلت في نفسي :سرقتُ ،فكيف أجرؤ على تناول
القربان المقدس في الغد ؟ يجب علي أن أعترف .
ولكن دون بوسكو هو الذي كنت أعترف له .وخطر ببالي كم سيتأَلّم عندما يعلم أنّي
سرقت .فما العمل ؟ لا ِلما ينالني من الخجل ،بل لكيلا ُأحزِن دون بوسكو ،فهربتُ من باب
الكنيسة وأسرعت تواً الى كنيسة سيدة التعزية وهي غير بعيدة .
فدخلت الكنيسة المظلمة واخترت كرسي الاعتراف الأكثر خفاء وشرعت في اعترافي :
-جئتُ أعترف هنا بخجلي من الاعتراف لدون بوسكو ( ولم أكن ملزماً أَن أقول ذلك ،
ولكني كنت قد تع َوّدتُ الصدق إلى ح ًدّ بعيد حتى إن ذلك بدا لي ُم ِهمّا ) .
فأجابني صوت :تكلم ،إِن دون بوسكو لن يعلم شيئاً من ذلك .
كان ذلك الصوت صوتَ دون بوسكو .رحماكَ ر َبّ ! أخذ العرق البارد يتصَبّب مني ،إذ
كان دون بوسكو قد دُعي جريا على العادة ليستمع الى الاعترافات في كنيسة سيدة التعزية ،فاتّفق
لي أن ألقى ذلك الذي كنت أُريد الهرب منه .
-تلكم يا بُنَ َيّ العزيز .ماذا حدث لك ؟
كنتُ أرتجف كالورقة .
-سرقت رغيفين .
-وهل أضّرا بِكَ ؟
-كــلأّ .

35.10 Page 350

▲back to top


-اذاً لا تغتمّ .أَكنت جائعاً ؟
-نعــــم .
-الجوع للخبز ،والعطش للماء ،جوع حسن ،وعطش حسن :فإذا احتجتَ إلى شيء
ما فاطلبه من دون بوسكو ،فانهُ يعطيك كل ما شئت .ولكن تذ َكّر أَن دون بوسكو يُفَضَّل أن تثِق
به ،على أن ُتوهمه أََّنك بريء .إذا وثقتَ به ،أمكنه أن يساعدك ،ولكن إِذا تظاهرت بالبراءة ،
فقد ت ِزلّ قدمك فتسقط ،وما من أحد َي ّمد إِليكَ يدَه .إِن ثروة دون بوسكو هي ثقة أبنائه به .لا
تنسىَ ذلك أبداً ،يا فرنسيس .
في السنة بعدها كنتُ في الصف الثاني ،فقيل لي ذات يوم بعد الطعام إنّ والدتي تنتظرني في
ردهة الاستقبال فوجدتها تبكي .
-ما الذي جرى لك ،يا ُأمّاه ؟
-لا شيء ،يا فرنسيس ،لا شيء .ولكن أنت تعرف أّننا فقراء ،وقال لي المحاسب إنه
سيُض َط ُرّ إلى صرفك إِذا اسّتمر عدم دفعنا لأجرة معيشتك .
وكانت تبكي لهذا التهديد ،وتركُتها ودموعها تسيل ،لأنّه كان عل َيّ ان أذهب إلى الصفّ .
ولكنّي رأيتها تنتظرني في فرصة بعد الظهر في غرفة البواب ،وكانت عند ذاك سعيدة تبتسم فقالت
لي :تَرى ،يا فرنسيس ،انّي لا أبكي الآن .ذهبتُ إلى دون بوسكو فقال لي :يا سيّدتي الطّيبّة ،
قولي لابنك ،إِذا صرفه المحاسب من الباب ،عليه أن يدخل من الكنيسة ويجيئ إليّ .لن يصرفه
دون بوسكو أبداً .
ثم عانقتني والدتي ومضت .في ذلك المساء دعاني المحاسب فارتعبتُ ،وقبل أن أذهب إليه
أسرعتُ إلى دون بوسكو فقرعتُ الباب .
-من الطارق ؟
-أنا بيكّولّو فرنسيس .
-أُدخل ،أُدخل .اذاً ماذا ،يا فرنسيس ؟ -فأخذ ورقة وسألني - :كم شهراً من معيشتك
يجب على والدتك أن تدفع ؟
قلتُ العدد فكتب دون بوسكو بما فيه من اللطف وصلاً بأجرة المعيشة للسنة كّلها ،ووَقّع
عليها ،فلم يشعر أحد بسخائه حتى ولا المحاسب الذي حملت إليه الوصل ،فأَخذ مني كلّ مأخذ
طريقته اللطيفة لمساعدتي ،أكثر من عمله نفسه .
مضت ثلاث سنوات وكنت عندئذ في الصف الخامس .ذات يوم كّنا ،نحن أكبر
التلاميذ ،نُح ِدق بدون بوسكو وكنا نمشي معه تحت الحنايا ،فأردتُ أن أُخاطبه وحده ،ولكن لم

36 Pages 351-360

▲back to top


36.1 Page 351

▲back to top


اجرؤ على أن اطلب إليه ذلك ،فشعر بالأمر على عادته وانفرد بي من غير سؤال وقال لي :
-في ظني أنّك تريد أن تقول لي شيئاً ،أليس كذلك ؟
-لقد حَزرتَ .ولكن لا ُأريد أن يسمعه الآخرون . -وهمستُ في أُذنه - :ُأريد ان أُهدي
إليك هدّية ،وأظنّ أَنها ستعجبك .
-وما هَدَيّتك اليّ ؟
-إقبلني بين السالسيّين .
فابتسم دون بوسكو وقال :
-وماذا تريد ان أصنع بامرئ غريب الأطوار مثلك ؟
وإذا به يصير جا ّداً ويقول لي :
-شكراً يا فرنسيس .لم يكن بوسعك أن تهدي إل ّي هدية أحلى من هديتك .إني أَتقَّبلها لا
لأجلي ،بل لأق ّدمك وأن َذرَكَ كَّلك للرب ولمريم معونة المسيحيين .
صار فرنسيس بيكّولّو كاهناً سالسيّاً وعمل أكثر من ثلاثين سنة في صقلّية مُ َدرّساً ورئيساً ثم
مسؤولاً عن المشروعات السالسيّة في إقليمه الرهباني ،وعاش حتى السنة . 1038
أوسيبيو كالفي من بالِسترو
في تلك السنة عينها 1322كان صبيّ طّيب آخر اسمه أُوسيبيو كالفي ( )Calviمن باِلسترو
)Palestro (في هَ َمّ لِأن والديه يعجزان عن دفع ُأجرة معيشته فرآه دون بوسكو حزيناً فسأله :
-ما لكَ أُوسيبيو ؟
-آه يا دون بوسكو .إن والديّ أصبحا عاجزين عن دفع أُجرة معيشتي ،وأنا ُمض َطرّ إلى
قطع دروسي .
-ولكن أنرك لست صديقاً لدون بوسكو ؟
-بــلى .
-اذاً فإن المسألة تَ َحلّ بسهولة .ُأكُتب إِلى والدك ليترك الماضي وشأنه ،وأمّا المستقبل
فليدفع من أجله ما أَمكنه .
-إِن والدي سيطلب تلّقي رقمٍ دقيق لأنه يريد أن يلتزم دفعَ كلّ ما بوسعه .
-كم كانت أجرة المعيشة إلى اليوم ؟
-اثنتا عشرة ليرة في الشهر .
-اكتب إِليه أنّنا جعلناها خمسا ،وأنه سيدفع إِذا أمكنه الدفع .هل َمّ إلى مكتبي لأكتب لك

36.2 Page 352

▲back to top


بطاقة إلى المحاسب .
صار أوسيبيو كالفي هو أيضاً كاهناً سالسّيياً ،وعمل في كالابريا وصِقلّية وعاش إِلى السنة
. 1023كتب الأب أماديي ( " : )Amadeiكم من الصبيان َتلََقّوا من دون بوسكو علامات المودة
هذه " .
دون بوسكو ُيفاجأ مفاجأة غير سارة
لما وصل دون بوسكو الى لو ( )Luفي أثناء رحلاته الخريفية ( كما رويناها في الفصل ) 32َّمرر
يده على طفل في الخامسة من عمره أسمه فيلّبس ،في ساحة دار ُأسرة رينالدي .
لما بلغ سنّ العاشرة عاد اسم دون بوسكو يُدَويّ صداه في حياته ،فقد فتح دون بوسكو
إِكليريكية صغيرة في بلد ميرابّلو على بعد طلقة بندقية من لو .
أخذ الصبي ،وهو قوي البنية لطيف ،صرّته تحت ذراعه وعانق ُأمّه وذهب إلى المعهد في
عربة أبيه .كان قلبه منقبضاً قليلا ،شأن جميع الأطفال عندما يتركون البيت أ ّول مرة ،ولكنه كان
رصيناً ،َحسَن التفكير ،يفهم أ ّن هذه التضحية قد تفتح لمستقبله آفــاقاً غير آفاق حقول أبيه
وكرومه .
كان مُ َد َّرسُه الأب باولينو البيرا .كتب بعدئذ " :كان الاب البيرا ملاكاً حارساً لي فهو الذي
وُكل إِليه أن يسهر عل َيّ .قام بعمله بمحبة عظيمة حتى إنّني أَتعجّب منه كّلما ف ّكرتُ فيه " .ولكن لم
يكن الأب ألبيرا وحده ،ويا لسوء الحظ .فقد كان هناك ناظِرٌ أساليبه خشنة مؤلمة .
جاء دون بوسكو مرّتين من تورينو ليتفَقّد معهد الكهنوت فخاطب فيلبّس طويلاً فَتصَادقا .
ولكن لما جاء الربيع ،وقعت المأساة ،ويا لسوء الحظ .تعب فيلّبس من الدروس الشديدة
في أشهر الشتاء وكان ذات يوم موَتّر الأعصاب على نحو حادّ ،فأغاظه الناظِر الغليظ في أساليبه على
وجه أخرق .فلم يغضب فيلّبس بل ذهب ت ّواً إلى الرئيس ،وأخبره أنّه يبغي العودة غلى البيت ،
فظنّوا الأمر َعمَل طيش في حين أنه جِدّ .فقد عزم فيلبس عزمه وما من أحد يمكنه أن يب َّدل له
رأيــه .
لما عاد دون بوسكو إلى ميرابلّو المرة الثالثة في تلك السنة علم أن فيلبّس رينالدي قد عاد إلى
أُسرته .ففوجئ مفاجأة غير سارّة ،فكتب إليه رسالة إلى لو سأله فيها أن يرجع عن عزمه .تلقّى
فيلبّس في السنوات بعدئذ رسائل من دون بوسكو أشبه بهذه " :أُذ ُكر ،يا فلبّس ،أَن بيوت دون
بوسكو مفتوحة لك ك َلّ حين " .
قلّ أنّ دون بوسكو ألحّ على أحد مثل الإِلحاح ،فكأنّه رأى شيئًا واضحاً في مستقبل هذا
الشاب الذي ظلّ صديقه ولكنّه أبى أن يُصغي إلى أيّ شيء كان .
1321فيلبّس في سِنّ الثامنة عشرة .جاء دون بوسكو إلى لقائه في لو ،وجاءت في ذلك

36.3 Page 353

▲back to top


الحين إلى البيت أمرأة مسكينة تمشي متوكئة على عكازين ،وذراعها مريضة .جاءت تتو ّسل إلى
دون بوسكو أنَ يشفيها ،فباركها القديس بركة مريم معونة المسيحيين فألقت تلك المرأة عكازَيها
بمرأى من فيلبس ،وعادت إلى بيتها معافاة .فأخذ الأمر من فيلبس كلّ ماخذ ،ولكنه أجاب
" لا " عن دعوة جديدة أضافها دون بوسكو إلى دعواته السابقة التي لا يُحصى لها عدد .لقد ندم
على قوله " لا " هذا طول حياته .كتب ذات يوم بعدئذ بتواضع " :لِيشأ الرب والسيدة مريم ألاّ
ُأسيئ استعمال النعمة في المستقبل ،بعد ما قاومتها في الماضي " .
ان " لا " هذه صارت أول "لا" في سلسلة من " لاءات" غيرها .فأَخذ يقول " لا"
للصلاة ،ولأمّه التي وَبّخته بأَنّه أَخذ يُقحم نفسه في صداقات خطرة ،ثم لخوري رعيته الذي دعاه
إلى المجيء إلى الكنيسة أَكثر مما يفعل .أَصابته " أزمة" دينيّة حقيقية تغلّب عليها بصلوات أُمّه .
عندما يشنّ دون بوسكو معركة
1326بلغ فيلبس رينالدي سِنّ العشرين .جاء أهلُ فتاة الى والده كريستوفورو
)Cristoforo (ليُق َّدموا طلباً للزواج ،ولكن دون بوسكو وصل هو أيضاً من تورينو عازماً على شَنّ
معركة ليمضي بفيلبس .
كانت المواجهة طويلة حاسمة ،فعرض فيلبس جميع اعتراضاته بكلّ ما في طبيعة الفلاحين
من عناد ،ولكنّ دون بوسكو هو أيضاً فلاح ففنّد بهدوء الاعتراضات واحداً بعد الآخر ،فقد
اكتشف في مُخاطِبه مزاجَ سالسيّ كبير ،فهو يأبى أن يُفلت من يده .كتب فيلبس بعدئذ " :كان
يََت َغلّب عل َيّ شيئاً فشيئاً ،وتركني اهلي ُحرّاً وقد اخترتُ دون بوسكو " .
تشرين الثاني ( نوفمبر) . 1322ذهب فيلبس إلى سامبيير دارينا ( )Sampierdarena
بالقرب من جينوى ،حيث فتح دون بوسكو بيتاً " للدعوات المتأخرة " .عاد فلاح لو ( ، )Luوهو
في الحادية والعشرين ،إلى تعُلّم قواعد الايطالية واللاتينية .كانت الأيام الأولى شاقّة ج ّداً :كان
على أول فرض كتبه مقبرة من الصبان ،فضلاً عن علامة الى الخَجل .ومعَ ذلك فقد كان له
مِثلُ العناد الذي قاوم به دون بوسكو مدة طويلة ،حتى إِنه ارتقى يوماً بعد يوم طريق الدروس
الشاقّ .كان الرئيس في سامبيير دارينا الأبُ بولس ألبيرا ذاك الذي ُس َرّ به سروراً عظيما في ميرابلّو ،
وقد لقي منه التشجيع في الساعات العسيرة .قلت له ذات يوم " :أخشى أن اقوم بحماقة
فأهرب " ،فأَجابني " :وأنا أمضي للبحث عنك " .
13آب ( أغسطس) . 1338جثا فيلبس عند قَ َدمَي دون بوسكو َولفظ نذور الفقر
والعفاف والطاعة .صار سالسيّاَ وهو في الرابعة والعشرين .في الخريف أ َخذ في الصعود نحو

36.4 Page 354

▲back to top


الكهنوت فتلّقى الرّتب الصغيرة ،َف ُر ِسم شمّاساً رسائلياً وإنجيليا .وهناك أَمر يدعو إلى
الاستغراب :إِن فيلبس يتقدم ،لا لأنه يريد ذلك ،بل لأِن دون بوسكو يأمره بذلك ،وقد وثق به
فيلبس ثقة تامة .روى بعدئذ " :كان يقول لي دون بوسكو :في كذا تُق َدّم فحص كذا ،
تتلقّى درجة كذا ،فأُطيع كلما أَمرني بشيء " .لمَ يتصَ ّرف دون بوسكو قطّ مثل ذلك التصرف مع
شخص آخر :كان يوصي أو يدعو ،ولكَنّه كان يت ُصّرف تص ُرّف مَن يترك للمرء أن يعزم عزمه .
فلا بدّ أنه اطّلع اطّلاعًا واضحاً على مستقبل ذلك الشاب .
في اليوم قبل الميلاد ، 1332أقام فيلبس رينالدي ق ّداسه الأول ،فسأله دون بوسكو وهو
يعانقه " :والأن أأنت مسرور ؟ " فكان الجواب ما يدعو إلى العجب " :إِذا حفظتني عندك ،وان
لم تحفظني فلن أدري ما أعمل " .
ولكن بعد بضعة أشهر عاد الأب كوستامانيا ( )Costamagnaمن رسالات أميركا الجنوبية ،
فاستولت الحماسة على الأب فيلبس أ َوّل مرّة فطلب من دون بوسكو ان يَدَعه يذهب إلى الرسالات
فأتى دور دون بوسكو ليقول له لا " :ستمكث هنا وُتر ِسل الآخرين إلى الرسالات " .
كان الأب روا أول َخلَف دون بوسكو في رئاسة الرهبانية الساليسية ،وكان الثاني الاب
بولس ألبيرا والثالث فيلبس رينالدي .قال فيه الأب فرنتشيسيا ( )Francesiaوهو طاعن في
السن " :لا ينقصه من دون بوسكو سوى صوته في حين أنّ له سائر ما عند دون بوسكو " .
الكاهن الذي كان يستريح
في السنة 1322ذهب دون بوسكو إلى جينوى لزيارة سريعة .روى الأب أماديي
" : )Amadei (كان في من جاؤوا اليه فزاروه الأب أمبونياتي ( )Ampugnaniالذي كان َيسكن
مارا َسّي ( )Marassiوقد ساعده في شراء معهد الاسّيو ( . )Alassioفسأله دون بوسكو :
-والآن ماذا تعمل ؟
-أنا لا أعمل شيئا .إِني أستريح ؟
-كيف ،أنت تستريح ؟ صِ َحّتك جيّدة وما زلتَ شابّاً .
-لقد عملتُ سنين في أمريكا وإِني َأستريح .
فبلغ الجِدّ من دون بوسكو مبلغاً كبيراً وقال :
-ألا تعرف أَن الكاهن يأخذ نصيبه من الراحة في الفردوس ؟ وأنّنا سنؤ ّدي حساباً لله دقيقاً
ج ّداً عن كل الوقت الذي أضعناه ؟ " .
أصاب كلام دون بوسكو الكاهنَ في الصميم ،فلم يعرف من أين يجد لنفسه مخرجاً .فعاد
في اليوم الثاني إلى البيت السالسّي ،وطلب إلى الرئيس أن يدعه يعزف على آلات الموسيقى ،

36.5 Page 355

▲back to top


وُيلقي الدروس والعظات .صاح " :قال لي دون بوسكو كلمات رهيبة ! " .
ولقي دون بوسكو ايضاً الرئيسَ العام لرهبانية الإِخوة الصغار لمار فرنسيس دي بولا .وكان
رجل علم كبير ،وكان يقوم بعمل خوري رعية ،فحيّاه بوقار ،وقال له :
-ما أكثر عملك وأنت رئيس عام لرهبانيتك .
-الصواب أ َنّ عملي قليل ج ّداً لا بل لا عملَ لي .إ َنّ عددنا قليل كما تعلم .
-كم مبتدئا عندك ؟
-ليس عندي ولا مبتدئ واحد .
-كيف ؟ -فعبس دون بوسكو ،وأخذ صوته يرتجف . -وأنت لا تعمل شيئاً لتَحُول دون
موت رهبانية خدمت الكنيسة خدمات جليلة ،ولم تبلغ بعد الهدف الذي من اجله أنشأها
مؤسّسها ،والتي لا يزال لا نبؤات مجدية يجب أن تتِمّ !
-ولكن ليس عندنا دعوات !
-إذا لم يكن لدك دعوات في ايطاليا ،فاذهب إلى فرنسا واسبانيا وأميركا وأوقيانيا .عليك
عبء خطير جدا وحساب شديد تؤدّيه لله .كم من التعب وكم من الآلام أض ّطر مار فرنسيس دي
بولا إلى ان يتح َمّل ليُنشئ رهبانيته ! أفترضى أنت أن تضيع تلك الصلوات جميع تلك المتاعب والأشياء
التي ترجى ؟
كان الأب المسكين أشبه بمن ناله الفناء ،فوعد أن يبذل كل جهده ليجد دعوات .
البناؤن الصغار لمصلّى يوم الأحد
قد يشعر الناظر إلى حياة دون بوسكو في تلك الحقبة أن ُمصلّى أيام الآحاد الذي عاش واياه
أعواماُ مجيدة ،قد زال عن أفقه ،في حين أن ذلك لم يحدث .أجل إنّ دون بوسكو يصرف 08
بالمائة من وقته في الدار الكبيرة التي تؤوي 388من التلاميذ وأولاد الصناعة ،وفي سائر المشروعات
السالسّية التي تضاعف عددها ،ولكنه لم ينسىَ المصلّى .إن الشهادات ليست كثيرة ولكنّها كافية
لُتظهِر هذا الجانب أيضاً .
روى إنريكو أنجلو برنا ( " : )Bernaوصلتُ إلى المصلّى في أيام الصوم الكبير لعام 1321
وقد جئت من مانيانو بيلّيسي ( )Magnano Bielleseفكُنتُ أنهِكُ قواي وأنا أعمل بَنّاءً .ولما
سنحت فرصة العيد أول مرة ذهبتُ الى مصلّى دون بوسكو ،كما أوصاني بذلك خوري رعيتي وكما
أوصى سائر الصبيان الذين يغادرون البلد ،ف َس ّرني ما لقيت في المصلّى .وكلّما رجعت الى تورينو
كلّ سنة من آذار ( مارس) إلى تشرين الثاني ( نوفمبر) واظب ُت على التر ُدّد الى المصلّى الى أن ذهبتُ

36.6 Page 356

▲back to top


إلى خدمة ال َعلم .
كان مدخل المصلّى ،في ذلك العهد ،إلى الشمال من كنيسة السيدة مريم معونة
المسيحيين .كان المدخل باباً كبيراً من ألواح الخشب ،وكان معنا ثلاثة كهنة أو أربعة ،
وبضعة شمامسة ،وكان من عادة دون بوسكو أن يأتي في الصباح للقداس ،وبعد الظهر للتعليم
الديني .
وفي السنة الثانية لقدومي إلى تورينو ،تناولتُ القربان المقدس أول مرة في المصلّى .كان على
جميع الأولاد ثياب نظيفة وكان الذين لا ُيمكنهم الحصول عليها من أهلهم يَتلقّونها من دون بوسكو ،
وهو الذي أقام القداس في كنيسة مار فرنسيس ،وناولنا القربان المقدس .ثم خرجنا من
الكنيسة ،فإِذا مائدة ُمعَ َدّةٌ من أجلنا ،عليها خبز وجبن ونقانق ،و َم َرّ دون بوسكو بيننا ،وق َدّم لنا
جرعة من الخمر صَّبها في كأس ك ِلّ منا ،ووزّع أيضاً قطعاً من الحلوى .
إذا كانت سترة بعض الأحداث مم ّزقة ،أو كان بنطاله أوحذاؤه ممزقاً ،أعطاه دون بوسكو
ثياباً أو أحذية قد تكون ُمرَقّعة ،ولكنّهافي حالة جيدة .وما كان يجذبنا إلى المصلّى هو السبّاق أو
خطوة العملاق أو الهدايا التي كنا نتلقاها .وكانت الموسيقى وجوقة آلات الَنغَم تجذبنا هي
أيضاً " .
في السنة 1321تلك جاء عامل شا ٌبّ اسمه فرنسيس أليمانو ( )Alemannoمع ُأسرته
كلّها من فيلا ميروليو ( )Villa Miroglioإلى تورينو ،وأخذ يتردّد إلى مصلّى يوم الأحد .وفي أول
يوم ذهابه إليه صادف دون بوسكو ،وبعد صلوات الطقس أُقيم يانصيب صغيرفربح فرنسيس
ربطة عنق فوضعها دون بوسكو حول عنقه وسأله :
-ما اسمك .
-فرنسيس أليمانّو .
-أتجيء إلى المصلّى منذ وقت بعيد ؟
-هذه أوّل مرّة .
-أتعرف دون بوسكو ؟
فبدا الصبي حائراً ثم رفع عينيه بحياء :
-أنت دون بوسكو .
-ستعرف دون بوسكو معرفة جيدة إذا تركته يعمل الخير لنفسك .
-ذلك ما أنشده .إني أنشد صَديقاً يُعنى بي .
-يا للعجب العجاب .في هذا المساء ربحتَ ربطة عنق ،وإني سأش ُدّك بهذه الربطة شَدّاً

36.7 Page 357

▲back to top


وثيقاً إلى المصلّى ،فلا يمكنك أن تبتعد منه .
صار فرنسيس صديقاً لدون بوسكو وانتقل من المصلّى إلى الرهبانية السالسيّة .
البناؤون الصغار ،وتوزيع الثياب على أفقر الأولاد ،ومحادثة الصبيان من غير تكّلف :هذا
مصلّى دون بوسكو ،يواصل حياته وازدهاره في ظل الكنيسة .
َعهد دون بوسكو بإِدارته بضع سنوات إلى الأب بربيرس ( ، )Barberisثم طوال سنين
كثيرة إلى الأب بافيا ( ، )Paviaيساعده الأخ المعاون الشهير يوحنا غاربلوني ( . )Garbellone
كان ذلك الرجل بمزاجه الغريب الأطوار بعض الشيء ،دليلا حيًّا على قدرة دون بوسكو التربوية
العجيبة ،فاستطاع أن يُنَمّي المواهب الطبيعية لأقل الأمزجة شأناً .
كان غاربلّوني طوال خمسين عاماً روح مصلّى يوم الاحد .حفظَ في دفتر صغير ستّة آلاف إسم
للصبيان الذين أع َدّهم لتناول القربان المقدس أول مرة .وصار منذ العام 1331مًديرَ الجوقة
الموسيقيّة ،وقد أدارها على وجه رائع حتى العام 1023وفيه توفّي .
كسب دون بوسكو صداقته بعمل فيه ثقة عظيمة ،إذ وضع في يده ثلاثين ألف ليرة لكي
يذهب فيؤدّي دَينا ،وقيمتها تساوي نحو 228ألف فرنك .كان غاربلوني في الثامنة والعشرين ،
وكان فقيراً ُمعدماً فأخذ منه ذلك العمل كل مأخذ ،حتى ليقذف بنفسه في النار في سبيل دون
بوسكو .
ميشيل أونيا ،فلاح
في 10اذار ( مارس) 1322وصل إلى المصلى فلاح في السابعة والعشرين اسمه ميشيل اونيا
)Unia (فقال لدون بوسكو إنه يرغب في الدرس ليصير كاهنا لا سالسيّاً :
-أو ُدّ أن أعود إلى بلدي روكافورتي دي موندوفي ( . )Roccaforte di Mondovi
-ولكن ماذا إذا أرادكَ الرّب لرسالة أعظم ؟
-إذا أفهمني الرب أن مشيئته هي هذه . . .
-إذا كشف لي الربّ عمّا تعرفه أنت وحدك عن نفسك ،وقلتُه َلكَ هنا ،أفيَبدو لك ذلك
علامة كافية على أّنه يريدك كاهناً سالسيّياً ؟
لم يدرِ ميشيل أونيا هل يجب عليه أن يحمل الأمر على محمل الجِدّ أو المزاح ،ففكّر ثم قال :
-أجل ،قل لي شيئاً تراه في ضميري .
فقال له دون بوسكو كلّ شيء فأظهر له لائحة لأعماله الصالحة وخطاياه مفصلّة تفصيلاً
دقيقاً ج ّداً ،فبدا لأونيا أنّه يحلم ،فأضاف دون بوسكو :

36.8 Page 358

▲back to top


-وأنا أعرف من ذلك أكثر مما تعتقد .كنتَ ذات يوم وأنت في الحادية عشرة في خورس
كنيستك عند صلاة المساء ،وكان بالقرب منك صاحبٌ لك وكان نائماً ،ورأسه مرفوع ،وفمُه
مفتوح ،وكان في جيبك شيء من الخوخ فَبَحثتَ عن أكبر خوخة ،وتركتها تسقط في فم ذلك
الصبي المسكين المفتوح ،فأحَسّ أنه يكاد يختنق ،وأخذ يركض في جميع الجهات كأنه مجنون ،
فاض ُطرّوا إلى قطع صلاة المساء ،وكنتَ تضحك وتُقهقه ،ولكن الكاهن لطمك س ًتّ لطمتن
شديدة على خ َدّيك " .
بقي ميشيل أونيا مع دون بوسكو فكان أول سالسيّ ذهب إلى الُبرص في كولومبيا
)Colombia (إلى مكان مغمور يقال له أكوَا دي ديوس ( )Agua de Diosفعاش بين 238مريضاً
مصابين بهذا الداء الوبيل ،وقام بعمل مُضنٍ أودى بحياته آخر الامر ،فأعاد إلى هؤلاء المرضى
كرامتهم على أَنّهم أبناء آدم وأبناء الله .

36.9 Page 359

▲back to top


11
الذهاب إلى البلاد البعيدة
حلم دون بوسكو حلماً رهيباً في ما بين 1321و ، 1322ويبدو أَنه رواه أ ّول الأمر لبيوس
التاسع ثم لبعض السالسيّين ،وقد دوّنه بكثير من ال َدّقَة إثنان منهم هما الأب بربيرس ( )Barberis
والأب لموان ( : )Lemoyne
" ظَنَنتُ نفسي في َبرّية مجهولة على وجه تامّ ،وهي كناية عن سهل واسع لا زرع فيه ولا
جبل ولا تلّ ،ومع ذلك كان يظهر في الافق البعيد ج ّدًا صورة مُتَق ِطّعة للجبال .ورأيت أُناساً
يجولون في ذلك السهل ،وهم شبه عُراة ،وقامتهم عظيمة ومنظرهم وحشيّ ،وشعرهم طويل
كَ ُثّ ،ولونهم أسمر يضرب إلى السواد .ولم يكن عليهم سوى أردية عريضة من َفرو الحيوانات ،
تنزل من أكتافهم ،وكان السلاح الذي يستعملونه ومحاً طويلاً ومقلاعاً .
وكانت هذه العشائر البشرية المتفرقة تظهر للعيان في مشاهد مختلفة :فبعضهم يركض ،
وهو يصطاد الوحوش الضارية ،وبعضهم الآخر يسير حاملاً قطعاً من اللحم معلّقة في طرف
الرماح ويسيل الدم منها ،وكان أناسٌ منهم يتحاربون في حين أنّ غيرهم يقاومون جنوداً لا بسين
الزيّ الاوروبي ،وكانت الجثث ُتغطّي الأرض .
فلما رأيت ذلك المشهد أخذتُ أرتجف ،وإذا بكثير من الناس يظهرون في الأفق :فأدركت
من زيهم وتص ُرّفهم أنهم مُر َسلون من مختلف الرهبانيات .كانوا يتق ّدمون لِيعظوا هؤلاء البرابرة ،
ويبش ّروهم بدين يسوع المسيح ،فَراقبتُهم مراقبة حسنة ،ولكني لم أعرف أحداً منهم .فدخلوا بين
البرابرة ،ولكن البرابرة ،ما إن رأوهم ،حتى هجموا عليهم ليقتلوهم ،وكانوا يعلّقون في رؤوس
رماحهم الطويلة غنائم مروّعة " .
مُتطوعون آخرون متأ َهّبون للمخاطرة بأنفسهم
"رأيت تلك المشاهد الهائلة فقلت في نفسي :ما العمل لهداية مثل هؤلاء الناس
الشرسين ؟

36.10 Page 360

▲back to top


فرأيتُ عند ذاك ،على بعد ،جماعةُ من ال ُمرسَلين الآخرين ،على رأسهم زمرة من الشبان
يدنون من البرابرة بوجوه فرحة ،فارتعدتُ وقد جال في فكري " :إنهم سوف يُقتَلون" .فدنوتُ
منهم فإذا هم شمامسة وكهنة ،فح َدّقتُ إليهم وعرفتهم :إنّهم سالسيّون من عندنا .كنتُ أعرف
الأولين منهم ،ومع أنّي لم أعرف غيرهم كثيرين يتبعونهم ،فقد شعرتُ أنهم هم أيضاً ُمر َسلون
سالسيّون ،وأنهم من عندنا حقاً .
قلتُ في نفسي " :كيف حدث ذلك ؟ " وَددتُ ألاّ أدعَهم يتق ّدمون ،وكنت هناك لأمنعهم
وأنا أتَوقع أن يكون مصيرهُم مثل مصير المرسلين الأولين ،في هذا الحين أو ذاكَ فإذا بي رأى أ َنّ
قدو َمهم َي ُس ُرّ جميع هؤلاء العشائر البربرية ،فخفضوا سلاحهم وتَخََلّوا من منظرهم الوحشي ،
ور ّحبوا بإخواننا ،وأَظهروا لهم علامات التأدّب .فأخذني العجب العجاب ،وقلتُ في نفسي :
" دعنا ننظر كيف ينتهي الأمر! " .فرأيتُ ُمر َسلينا يَتق َّدمون نحو هؤلاء البرابرة ،فكانوا
يعّلمونهم ،فُيصغون إليهم بارتياح ،وكانوا يرشدونهم ،وهم يتقبّلون ارشاداتهم ويعملون بها .
لبثت أُراقب :كان المرسلون يتلون الوردية فيردّ البرابرة على صلاتهم .وبعد قليل ذهب
السالسّيون إلى الجماعة ،فأقاموا وسطها وكانت تُحدق بهم ،فجثوا فترك البرابرة سلاحهم من
أيديهم ولَووا هم أيضاً ركبهم ،وإذا بسالسيّ قد أخذ ينشد :احمدوا مريم يا أصوات المؤمنين ،
فواصلت هذه الجموع النشيد بقلب واحد وبقوة عظيمة حتى إني ارتعبت فاستيقظت " .
كان لهذا الحلم شأن عظيم في حياة دون بوسكو فأكّد هو بنفسه " :شعرت في نفسي بعد
هذا الحلم برغبتي القديمة في العمل للرسالات تنتعش " .
أخذ دون بوسكو يف ّكر في الرسالات ،وهو طالب شاب في كييري ( . )Chieriروى الأب
لموان " :كان عمل نشر الايمان يبلغ مبلغاً عظيماً عند أهل البيمونته فكانوا يقرأون بشغف ما ُيكتَب
في وصف متاعب المر َسلين ،واستشهادهم ،فكان دون بوسكو يشعر برغبة شديدة في نذر حياته
للرسالات الغريبة " .
وقد ساهم المجمع الفاتيكاني الأول ( )1328 – 1360مساهمة حسنة في تنمية
الرسالات ،فكان مطارنة الأميركيتين وأفريقيا وآسيا ينتهزون فرصة سفرهم إلى ايطاليا ،
فيحاولون أن يجنّدوا كهنة وراهبات لل َعمل في بلادهم وكان رجال الكنيسة كثيرون ج ّداً في ايطاليا ،
إذا قيس بما في بلاد الرسالات من نظرائهم .
وصلت طلبات واضحة إلى فالدوكّو أيضاً .طلب المطران باربيرو ( )Barberoإلى دون

37 Pages 361-370

▲back to top


37.1 Page 361

▲back to top


بوسكو راهبات من أجل حيدر أباد في الهند ،وطلب إليه الأسقف اليماني ( ، )Alemanyمطران
سان فرنسيسكو في كاليفورنيا ،أن يفتح هناك مدرسة صناعية ،فلم ُيل َبّ دون بوسكو تلك
الطلبات لأنه لم يكن آنذاك قد وضع خطة " َع َمليّة" للاهتمام بالرسالات .
حلم دون بوسكو بعد سنة حلم " السهل الواسع والرجال ذوي المنظر الوحشي " ،فشعر
" بالرغبة القديمة " تنتعش فيه ،فحاول منذ ذلك الحين أن يعرف البلد الذي جعلته العناية الربانية
للمرسلين السالسيين ،واستم ّرت طلبات إنشاء المشروعات في ما وراء البحار تصل إلى مكتبه ،
فيفحصها بانتباه يختلف كثيراً عن فحصه لغيرها .
بَ َحثَ عن نهرين وصحراء
روى " :ظننت أول الأمر الرجالَ الذين يضرب لونهم إلى السواد ،افريقيين من الحبشة ،
ولكني سألت بعدئذ الذين يعرفون تلك البلاد ،وقرأت كتب الجغرافيا فتخلّيت من تلك الفكرة ،
ثم توقّفت عند هونكونغ ،وهي جزيرة من الصين فسألتُ أيضاً عن استراليا ،فتلقّيتُ شرحاً لحالة
هؤلاء السكان ،فلم يوافق وصفه ما رأيتهُ .ثم و ّجَهتُ ذهني إلى مانغالوري ( )Mangaloreفي
مالابار ( ... )Malabar
آخر الأمر في 1321جرى لقاء بين السيّد غازّولو ( )Gazzoloقنصل الأرجنتين في
سافونا ،ورئيس أساقفة بونس فكّلمه على السالسييّن فأعرب هذا عن رغبته في أن يذهب
السالسّيون إلى الأرجنتين ليعملوا فيها .فطلبتُ كتب جغرافيا على أميركا الجنوبية وقرأتُها بانتباه ،
فبدا لي أمرٌ عجيب وهو اني لما قرأتُ هذه الكتب ،ونظرت إلى سائر الصور ،عرفتُ على وجه تامٌ
البرابرة ،والبلاد التي رأيتها في الحلم :إنها الباتاغونيا وهي بلاد واسعة ج ّداً في جنوب
الارجنتين " .
وكان هناك شيء بحث عنه دون بوسكو بحثاً ُمستِمراً في خرائط الجغرافيا ليكتشف " المكان
الذي أشار إليه الله " .ذكر الأمر الأب اماديي ( ، )Amadeiوهو واحد من كتبة سيرة دون
بوسكو الأكثر تنبّهاً " :كان دون بوسكو قد لاحظ ،في حقل الرسالة الذي تَبدّى له في
الحلم ،نهرين عند مدخل صحراء واسعة جداً ،ولم يكن يًوَفّق إلى العثور عليهما في الخرائط
التي يفحصها بصبر .كان ذاّنك النهران الريو كولورادو ( )Rio Coloradoوالريو نيغرو
)Rio Negro (في باتاغونيا ،وعلم ذلك لدى مُحادثته الاولى للسيّد غازّولو ( )Gazzoloقنصل
الأرجنتين في سافونا .وأذكر أنّي رأيتُ أنا بنفسي واحداً من مجلدات الخرائط الجغرافية التي فحصها
دون بوسكو ،وقد ورد فيها في ذيل صفحة اميركا الجنوبية هذه الكلمات :بلاد الباتاغونيين

37.2 Page 362

▲back to top


والسكان فيها عمالقة ( .ذكريات السيرة ، 18 ،ص . ) 1223
ف َّكر بيترو ستيلا ( )Pietro Stellaفي هذه الأحداث فعّلق عليها " :إن اتّجاه دون بوسكو
هو على وجه واضح البحث عن بابٍ لنشر مشروعاته في خارج أُوروبا .إنّه يُف ّكر ويَحلم في رسالة
بكل معنى الكلمة ،إلى بلاد غير المؤمنين ،أي غير المسيحيّين وبالمعنى الأكثر إثارة للمخيلة في ذلك
العهد :الرسالة إلى الشعوب الشرسة المتوحّشة .كان له في الأرجنتين القبائل المتوحّشة ،بل
قبائله المتوحشة " المنشودة" .القبائل المتوحشة كلمة سحرية تبعث الاهتمام وحبّ الا ّطلاع .كان
ج ٌوّ أسطوريّ يحيط بِقوم باتاغونيا المتوحّشين ،وقد وصفهم الرحّالون الأقدمون بأّنهم عمالقة ،
وقد صُ َوّروا في القرن التاسع عشر وفقاً لما تَخَّيله رسّامو كتب الرحلات ،كأنّهم جبابرة لا يَصل
الاوربيون الا ِبكّ ًدّ إلى ما فوق زنارهم ،أو إلى ما يقرب من أعلى المواليد الصغار من أهل تلك
البلاد .وكان هؤلاء القوم المتوحّشون حتى في 1361يُصَ ّورون في قاموس المعارف
المفيدة المطبوع في تورينو " :أعراض الأكتاف ،ضخام الرؤوس ،شعرهم أسود كثيف ،لهم
لحية صغيرة ومنظرهم لا رُواء فيه ،وقامتهم نحو مترين تجعلهم أطول أهل الكرة الأرضية " .
وكانت شراستهم على قدر أرضهم البور ،ولا شجر فيها ،وهي غير صالحة للسكن ،وتعصف
فيها أرياحٌ شديدة ويسير العمالقة على خيل سريعة العدو وسلاحهم الوهق )1(والرماح
ُيل َوّحون بها بمهارة " .
رسالة عامة لتجنيد المتطوعين
وصل من رئيس أساقفة بونس أيرس طلب واضح في آخر . 1321كتب دون
بوسكو " :قرأتُ الرسائل الاولى في مجمع الرهبانية في مساء 22كانون الأول (دسمبر) " .
كان العرض مزدوجاً :التولّي في بونس أيرس رعيّة يسكنها مهاجرون إيطالّيون ،ومنذورة
لأم الرحمة ،وإدارة معهد للذكور ُفرِغ من إِنشائه قبل وقت قليل في سان نقولا ،وهو مركز ُمهِ ُمّ
جداً في أبرشية بونس أيرس .
فأجاب دون بوسكو بكتاب إلى الأرجنتين َعرَض فيه ثلاثة أجزاء برنامجه :
-ُير َسل ِبضعةُ كهنة إلى بونس أيرس ليبنوا فيها مركز انطلاق السالسيّين في أميركا ويُوكل
إليهم " الشبيبة الفقيرة المشرّدة على الخصوص ،والتعليم الدينّي ومدارس ومواعظ ومصلّيات يوم
الأحد " .
-يتولّى السالسيّون في مرحلة ثانية مشروعَ سان نقولا أيضاً .

37.3 Page 363

▲back to top


)1الوهق :حبل في طرفه يطرح في عنق الدابّة أو غيرها لتؤخذ ( حاشية من المترجم ) .
-بوسع السالسيّين من بعد ذلك أن يَتلقّوا الدعوة من تينك القاعدتين الأولَيَين للذهاب إلى
أماكن أُخرى .
وقد ضمّن دون بوسكو هذه النقطة الثالثة ،وأَخفى الى حَ ًدّ ما ،قَصدَه في " الوصول بأَسرع
مايمكن غلى الأقموا المتو ّحشين " .
وهكذا حُ َدّدت بعبارات عملّية حسّيّة طريقةٌ للتبشير الرسولي :إِن رهبان دون بوسكو لن
يُلقوا بأنفسهم لوقتهم بين القبائل البعيدة ،بل يُنشئون مراكز في أرض أمينة ،بين المهاجرين
الايطاليين ،وهم كثيرون جداً في الأرجنتين ومحرومون حقّاً الاسعافَ الديّني والخلقيّ .ومن هناك
يذهبون للشروع في محاولاتهم الرسولية في الجبهة الأمامية .
في 22كانون الثاني ( يناير) 1322أَخبَر القنصلُ دون بوسكو أن شروطه قد قُبِلت .
روى الأب تشيريا ( " : )Ceriaحينذاك أَعَدّ القديس مفاجأة حسنة من غير أن يَدَعَ أحداً
يشعر بشيء في البيت ،ففي مساء 20كانون الثاني ،وهو عيد مار فرنسيس دي سال ،جمع طالبي
الصناعات والطلاّب والرهبان في ردهة الدرس وقد أُقيمت فيها من َصّة ،فصعد دون بوسكو اليها
مع قنصل في زَيّه الطريف ،وأعضاء المجلس الأعلى ،ورؤساء البيوت السالسيّة " .
فأخبر دون بوسكو الحشد المقبل عليه بسمعه ،أ َنّ السالسيّين الأوّلين سيذهبون بعد وقت
قليل إِلى رسالات أَمريكا الجنوبية ،وقد وافق البابا على ذهابهم .فلم تبعث هذه الكلمات خوفاً
من الأخطار التي قد َتعرِض للذاهبين ،ومن عمل قد يبدو مغامرة ،بل أَثارت حماسة لا توصف
بين الأحداث والسالسيّين .
" فقد ُألُقيت خميرة جديدة بين التلاميذ والسالسيّين الشبان ،وتضاعف على اثر ذلك عددُ
الدعوات الكهنوتية وازدادت طلبات الاكتتاب في الرهبانية زيادة ملموسة واستولت الحماسة
الرسوليّة على جميع الناس " .
كتب هذه الكلمات اوجينيو تشيريا في حوليات الرهبانية " :إِذا أردنا أن نق َّدر التأثير الذي
كان لكلام دون بوسكو ،وجب علينا أن نعود الى ذلك الوقت الذي كانت الرهبانية تبدو فيه ُأسرة
ُملت َمّة التماماً وثيقاً حول رئيسها ،فحملها الاندفاع الذي ه َزّ مخيلتها في ذلك اليوم على ت ّخطي
الآفاق المحدودة وعظّم مرة واحدة تقدير الناس العالي لدون بوسكو ومشروعه .لقد بدأ تاريخ
جديد للمصّلى وللرهبانية السالسيّة " .
في 2شباط ( فبراير) أعلن دون بوسكو إلى جميع السالسيّين المقيمين في خارج فالدوكّو ،
أ ّولَ رحلة رسوليّة ،فسأل في رسالته جميع المتطوّعين أَن يق َّدموا طلباً مكتوباً ،وكان التاريخ المحدّد

37.4 Page 364

▲back to top


مَبدَئِيّاً شهر تشرين الاول ( اكتوبر) .تضاعفت الحماسة في كل مكان ،ف َعرَضَ جميع السالسيّين
على وجه التقريب أنفسَهم للذهاب الى الرسالات .إِنّ الكلمات " بدأ تاريخ جديد " لا تبدو
مبالغة .
رئيس الرحلة :صبي العمالقة
َن َظّم دون بوسكو هو بنفسه إِحدى عشرة رحلة رسولية في أثناء حياته ،ولكن لم تَفُق أيٌ منها
حماسةَ الرحلة الاولى وَحَمَيّتَها ،فقد ُن َّظمَت تنظيما تناولَ أصغر الأمور فيها .
أَراد دون بوسكو أن يُستقبل ابناؤه كما يُستقبل " الأصدقاء عند أصدقائهم " ،فَاتّصل بِأُناس
لهم شأن عظيم في بونس أيرس ،وأراد أن يَحصلوا على كل حاجاتهم فالتمس مساعدة المعاونين ،
ودهش هو بنفسه من سخائهم .
يَجب على الذاهبين ان يجعلوا الناس َيعرفون أحسن ما لدى الرهبانية الفَِتّية الصغيرة العدد ،
فاختار دون بوسكو من الذين لبّوا نداءه ( وكانوا جماعة كثيرة) ستّة كهنة وأَربعة إخوة معاونين .
وكانت آخرة بعضهم سيئة ،فإنّ دون بوسكو لم يُحسن الاختيار كل مرة ،ولم يََتَل َقّ دائماً الأنوار التي
ُترسَل من أعلى السماء .
صار يوحنا كالييرو ( )Caglieroرئيس الرحلة ،فهو الصبي الذي رأى دون بوسكو في
الماضي جنديَين عملاقين ،لونهما نحاس ٌيّ ،ينحنيان عليه .كان في السابعة والثلاثين من عمره ،
وكان كاهناً قو َيّ البنية َمرِحاً ،حا َدّ الذكاء زاخراً بالنشاط ،فتأ َهّب ليكون في أميركا الرجل الملائم
للموقف .وي َعسر تَخَُّيلُ المصلّى من دونه :حصل على شهادة في علم اللاهوت ،وهو أستاذ
الشمامسة ومعلّم لا نظير له ،ومؤّلف موسيقى ،ومسؤول عن أعمال يلزمها كثير من الفطنة ،
ومرشد روحيّ لعدة مؤسسات رهبانية في المدينة .فلا بدّ من أن يترك ذهابهُ فَراغاً مؤلماً ج ّداً .
دعاه دون بوسكو على وجه غريب لينضمّ إلى الرحلة .روى الأب تشيريا :
" بقي دون بوسكو يُف َّكر مليّاً ،وهو صامت فذات يوم من أيام اذار ( مارس) قال للأب
كالييرو الواقف بجانبه :
-أوَ ُدّ أن أُرسل كاهناً من أقدم كهنتنا لِيُرافق المرسلين إلى أميركا ،فيبقى معهم هناك ثلاثة
أشهر ،حتى يُنَ َظّموا إِقامتهم تنظيماً حسناً .فإنِّه يبدو لي أمراً عسيراً بعض الشيء أن أتركهم لوقتهم
من غير سََند أو مرشد .
فأجاب كالييرو :
-إِذا لم يجد دون بوسكو احداً غيري وفَ َكّر ف َيّ من أجل هذا العمل ،فإِنّي على أهبة
للذهاب .

37.5 Page 365

▲back to top


فختم دون بوسكو الكلام بقوله " :حسن "
م ّرت الأشهر من غير تلميح الى هذه المحادثة ،ولكن لَمّا اقترب تاريخُ الذهاب ،قال له دون
بوسكو ذاتَ يوم بغتة :
-أَتراك لا تزال على رأيك في مسألة الذهاب إلى أميركا ؟ فلرّبما قلتَ ما قل َت على سبيل
المزاح .
-أنت تعلم ح َقّ العلم أنيّ لا أمزح في كلامي إلى دون بوسكو .
-حسناً .فاستعدّ إِذن ،ها قد حان الوقت .
نشط الأب كالييرو ليعدُ العدّة وأك ّب على العمل حتى أحكم تهيئة كلّ شيء " .
وهكذا بدأ أوّل المرسلين السالسيين وأعظمهم رسالتَه بما ُعهِد فيه من بساطة ولطف .
ودامت الأشهر الثلاثة " المتوقعة " للعمل ثلاثين سنة برمتها .
وذهب كاهن آخر ذو قيمة هو الأب فانيانو ( )Fagnanoوكان جنديّاً قديماً لغاريبالدي ،
ونفسه نفس رائد ،وأما سائر الكهنة الأربعة فهم الآباء كاسّينيس ( )Cassinisوتوماتيس
)Tomatis (وباتشينو ( )Baccinoوألّافينا ( )Allavenaوكان الإِخوة المعاونون الأربعة
سكلفيني ( )Scalviniالمعلم النجار ،وجيويا ( )Gioiaالطباخ ومعلم صناعة الأحذية ،
وموليناري ( )Molinariمعلم الموسيقى ،وبلمونتي ( )Belmonteالمدَّبر .
عشرون ذكريات مكتوبة بالقلم الرصاص
صرف الذاهبون إلى أميركا الصيف في َتعُّلم الاسبانية .
وفي شهر تشرين الأول ( اكتوبر) سار بهم الأب كالييرو إلى رومة ليتلقّوا بركة الباب " ،فما
إِن دخل بيوس التاسع ال َرّدهة حتى قال :ما أشقاني من رجل كبير ال َسّنّ .أين مرسل َيّ الصغار ؟
أنتم إذاً أبناء دون بوسكو ،وستذهبون لتب ّشروا بالانجيل في الأرجنتين .أمامكم مجال واسع
لتعلموا الخير .كونوا بفضائلكم قدوة حسنة بين هؤلاء الشعوب .أرغب في أن يكثر عددكم لأ َّن
العمل لا حدّ له ،والحصاد فائض بين القبائل المتوحشة " .
عادوا إلى تورينو فجاء في ما رواه اوجينيو تشيريا " :كان لرحلة مرسلين إلى مجاهل أميركا في
1322صفة البطولة في نظر العائشين في تلك الزاوية المغمورة من تورينو التي يقال لها فالدوكّو .
كانوا ينظرون إلى الذاهبين نظرهم إلى أبطال كرام يِثَبون بجرأة إلى لقاء الغيب ،فإذا رأوهم يرفلون
في ثوبهم الغريب حاولوا الدنّو منهم ليبادلوهم بعض العبارات " .

37.6 Page 366

▲back to top


في الحادي عشر من تشرين الثاني ( نوفمبر) 1322و َدّعَهم دون بوسكو في كنيسة السيّدة
مريم معونة المسيحيين وفي الساعة الرابعة بعد الظهر كانت الكنيسة تغصّ بالحضور وفي آخر صلاة
المساء اعتلى دون بوسكو المنبر ،ورسم للراحلين برنامج عملهم .
عليهم أَن َيهتمّوا أوّل الأمر بالايطاليين المهاجرين إلى الأرجنتين :
" إني أوصيكم على نحو خاص ،بحالة كثيرين من الأسَر الإِيطالية المؤلمة .ستجدون عدداً
كبيراً من الأولاد وحتى من الكهول يعيشون في جهل يؤسف عليه للقراءة والكتابة ولكلّ مبدأ
ديني .اذهبوا فابحثوا عن إِخواتنا الذين قادهم البؤس والشقاء إلى أرض الغربة . " . . .
ثم يشرعون في تبشير الباتاغونيا :
" إِنّنا نبدأ عملاً عظيماً ،لا لأننا نظن انّنا سَنهدي العالم بأسره في بضعة أيّام ،ولكن من
يدري ما سيكون هذا الذهاب ،فلرّبما ُتخرِج هذه الحَبّة الصغيرة شجرة كبيرة ! من يدري ؟ فقد
تكون تلك الحََبّةُ الذرّة الصغيرة أو حَبّةَ الخردل التي تنمي وتخرج خيراً عظيماً " .
ولما فرغ دون بوسكو من كلامه ،عانق الراحلين معانقة أخوية .كان الانفعال عظيماً ،لما
اجتاز ال ُمرسلون العشرة الكنيسة بين الشبان والأصدقاء ،فكانوا يزدحمون حولهم ووصل دون
بوسكو بعدَهم كلّهم إلى عتبة المدخل .كان المنظر رائعاً فقد ملأ الجمعُ الساحة وانتظرت صفوفٌ
طويلة من العربات المرسلين ،وأضاءت المصابيح ظلامَ الليل .
وقال الأب لموان لدون بوسكو وهو واقف بجانبه :
-دون بوسكو ،أهذا بدء الآية :من هنا ينطلق مجدي ؟ ( راجع الفصل . ) 33
فأجاب دون بوسكو وهو شديد الاضطراب " :صدقت " .
تلك لحظات قد يفقد فيها المرء معنى الامور الراهنة ،ولكن قَدمَي دون بوسكو راسختان
رسوخاً ثابتاً في الأرض .قال قبل بضعة أشهر فقط " :ما هو مصلّى فالدوكّو في العالم ؟ إنه ذرّة .
ومع ذلك ما أَكثر العمل ،وها إِننا نَُف ّكر في ان نرسل من هذه الزاوية الصغيرة اناساً الى هنا
وهناك .يا للطف الله ! " .
تلقّى كل ذاه ٍب ورقة صغيرة عليها " عشرون ذكرى خاصة " كتبها دون بوسكو ،وقد َدّونها
بالقلم الرصاص في دفتره ،وهو يسافر بالقطار ،وطلب اليهم كّلهم أن ينسخوها ،وفيها خُلاصة
تَصَّو ِره للمرسَل السالسيّ .
وهذه هي البنود الأكثر عبرة :

37.7 Page 367

▲back to top


.1اطلبوا النفوس لا المال ،ولا أسباب التكريم ،ولا المناصب .
. 2أُعنوا عناية خاصة بالمرضى والأطفال وكبار السن والفقراء ،فتكسبوا بركة الله وعطف
الناس.
.12دعوا الناس يَرون أّنكم فقراء في ثيابكم وطعامكم ولبوتكم ،وتكونوا أغنياء عند
الله ،وتمكلوا قلوب الناس .
.13تحابّوا ،ولينصح أحدكم الآخر ،وليؤدّبه ولكن دعوا عنكم ك َلّ حسد وحقد ،بل
ليكن خير الواحد منكم خيركم أجمعين .لُِتعَ َدّ أكدارُ الواحد منكم وآلامُه أكدارَكم وآلامَكم
جميعاً ،وليبذل ك ُلّ منكم جهده ليشفيَهُ منها ،أو على الأقلّ لِيُخَفّفها عنه .
.28لا ننسىَ في المتاعب والمحن ا َنّ لنا مكافأة كبيرة ُمعَ َدّة في السماء .أمين .
في 11تشرين الثاني ( نوفمبر) رافق دون بوسكو المُرسلين إلى جينوى حيث أبحروا في الرابع
عشر منه على السفينة البخارية الفرنسية " سافوّا" وذكر شاهد عيان أَنه كان شديد الاحمرارِ لِما بذلَ
من الجهد ليملك نفسه .
لم يكن المستقبل الذي يبدو في الأفق يدعو إلى الارتياح التامّ ولكن الأب كالييرو يحمل رقعة
كََتب له فيها دون بوسكو " :اعمل ما بوسعك والله يعمل ما لا يسعنا نحن أن نعمل .ثق بيسوع
القربان وبالسيدة مريم معونة المسيحيين ،تَرَ ما هي المعجزات " .

37.8 Page 368

▲back to top


11
باتاغونيا ارض الميعاد
نزلوا إلى الأرض في بونس أيرس في 11كانون الأول ( دسمبر) 1322ووجدوا أنف َسهم بين
أصدقاء ،فكان مع رئيس أساقفة المدينة والكهنة ،مائتا مهاجر إِيطالي ُيرَ َحّبون بهم ،بأعلى
أصواتهم ،بل وجدوا جماعة من تلامذة فالدوكّو القدامى .
ولكنهم ذُهِلوا " لرؤيتهم شعباً لَيّن العريكة حسن التقاليد ،يوقّر الكهنة ويجود عليهم
ولكنه غاية في الجهل ،محتاج على الخصوص إلى الاسعاف الدّينيّ .كان في بونس أيرس ،على ما
جاء في رسائلهم الاولى ،نحو 38ألف إيطالي ونحو 388ألف في الأرجنتين كلّها ،متروكين
لشأنهم لقلة الكهنة من َأمّتهم ،فشعر الأب كالييرو وإِخوته أَنّهم منُتَظرون كما يُنتظر المطر على
الأرض اليابسة ( .بيترو ستيلاّ ) .
وانقسم الساليون بعد بضعة أيام فرقتين ،كما ُق َرّر لدى ذهابهم من تورينو ،فاتخذ الأب
كالييرو مع إِثنين من إخوانه مقاماً لهم بالقرب من كنيسة أُم الرحمة ،لكي يسيِّروا الرعية التي يسكنها
المهاجرون الايطاليون ،وسار الأب فانيانو بالستة الآخرون إلى سان نقولا لرعاية معهد للذكور .
وما بدا نعمةُ من السماء حقاً ،هو مصلّى أيام الأحد ،وقد فُِتح لوقته ،ولم يكن أيّ إِسعاف
كان للصبيان في المدينة الكبيرة .كتب الأب ستيلا " :ذَهل الأب كالييرو ومعاونوه لما وجدوا
أنفسهم يًحدق بهم أحداث جاؤوا إليهم طوعاً .كان أكثرهم إيطاليّين ،فلما رَجى منهم أن يرسموا
اشارة الصليب ،نظروا مستغربين ،ولم يَفهموا معنى ما يقال لهم ،ولما سئلوا لُيع َرف هل يذهبون
إلى القداس أجابوا أنّهم لا يتذكرونه ،لأنهم لا يعلمون متى يكون يوم الأحد ومتى لا يكون " .
وكانت المدارس على الخصوص قليلة ج ّداً ،وانهالت الطلبات على الأب كالييرو في بضعة
أسابيع ،لا من الأرجنتين فحسب بل من الاوروغواي المجاور ،فحثّه القاصد الرسولي في مونتي
فيديو ( )Montevideoعلى إِرسال السالسيّين إِليها ،وأطلعه على أرقام مؤلمة :ليس في
الاوروغواي ،وهويساوي نصف إيطاليا ،معهدُ كهنوت للصغار ولا للكبار،ما من طالب
كهنوت واحد ولم يكن في العاصمة ولا مدرسة كاثوليكية واحدة .

37.9 Page 369

▲back to top


أين المتوحشون ؟
وُترك جانباً التفكير بالمتوحشين الذي كان ح َمل كثيراً من السالسيّين على اجتاز المحيط
فَوجّه الأب كالييرو واهتمامه نحو ثلاثة مشروعات بدا له فتحها حاجة ماسّة ،أولها مدرسة
صناعية " .ان مدرسة للصنائع والحرف حدث تاريخي ،حدث بارز في تاريخ الوطن ،ُتعجَب به
الجمهورَيّة كلها ،ويصنع خيراً عظيماً " ،كما جاء في رسالته إلى دون بوسكو كُتبت في 2شباط
( فبراير) . 1326ثم معهدٌ في مونتي فيديو ،وهو أولُ معهد مسيحي في عاصمة الاورغواي .
وآخر الأمر مشروع للصبيان في الحي الأشد فقراً في بونس أيرس " البوكّاً " وسكانه إيطاليون
وتسيطر عليه الماسونيّة ،ولم يكن يجسر أحد على المرور في شوارع ذلك الحيّ .
فذهب إِليه الأب كالييرو ولوقته وجمعَ زمرةً من الصبيان بتوزيعه عليهم أيقونات السيدة مريم
العذراء ،وأفلح في التحدث إلى بعض الأسر ،فبلغ الخبرُ رئيس الأساقفة فقال له :
-لقد خالفتَ الفطنة مخالفةً كبيرة .لم أذهب قطّ إليه ،ولا آذِن لأحد من كهنتي بالذهاب
إليه .فالمرء يتعرض فيه لأخطار جسيمة .
-ومع ذلك أشعر بالرغبة في العودة إليه .
فبعد يومين أو ثلاثة عاد إليه فأسرع الصبيان نحوه وهم يصيحون بلهجة أهل جينوى :
" كاهن الأيقونات " .حينذاك تجددت المشاهد القديمة التي جرت في ضواحي تورينو " :أُعطيها
أحسَنكم ، . . .أسوأكم . . .أتعرفون رسم اشارة الصليب ؟ والسلام عليك ؟ " .
فخرج الرجال والنساء إلى عتبة الدار لَِيروا ذلك الكاهن الذي َيجسر على البقاء بين رعاعهم
الصغار وَيعد بأرضٍ للعب والغناء والموسيقى والفرح
ولك َنّ أهل فالدوكّو كانوا يطلبون بإلحاح أخبار المتوحشين .كتب اوجينويو تشيريا
" : )Ceria (كانت كلمة باتاغانيا تلهب مخيلة الأحداث .كم منهم كان يحلم بمغامرات بين الهنود
يجوبون تلك الرحاب غير المأهولة " .كان على دون بوسكو أَن يغذّي أَوهام الشبيبة ولا يدع
حماستها تزول .
وكان المُرسلون يبعثون في رسائلهم بأخبار يََتلَقونها من هنا وهناك ،وكان أكثرها غير صحيح
أ ّول الأمر ثم صارت أَكثر دَقّة على مَرّ الأيام .ورد في رسالة مؤرخة في 18اذار ( مارس) : 1326
" إِن أحوال الهنود أي القبائل البامبا والباتاغونيين ،أحوالهم المادية والروحية تملأ نفوسنا مرارة
شديدة .إِن رؤساء تلك القبائل يحاربون الحكومة .إَِنّهم يشكون الإِذلال وسوء المعاملة ويتجنبون

37.10 Page 370

▲back to top


الجيوش المعسكرة لكبحهم ،ويسيرون في الأرياف فيسرقون ،وهم يحملون بندقيات رمنكتون
)Remington (فيأسرون الرجال والنساء والأولاد ،ويستولون على الخيل والغنم .وإِن جنود
الحكومة من جهتهم يحاربونهم حتى الموت فتستعرّ العقول غيظًا وتتحمس للانتقام بدل أن تتفاهم .
ولرّبما صارت الحالة غيرما هي عليه ،لو أرسلت جماعة من الكبوشيين أو غيرهم من المرسلين
عوض الجنود :فالراجح أَنهم يُ َخلّصون كثيراً من النفوس فينشأ الازدهار والرخاء الاجتماعي بين
هؤلاء المتوحشين .فلما كان الهنود في نزاع مع الحكومة وساخطين عليها ،فلا َيسع المرسلين أَن
يعلموا شيئًا ولن يعملوا إلاّ شيئاً قليلا . " . . .
ِصبيان وَصلوا من تورينو
َفهم دون بوسكو الموقف وهو في فالدوكّو :إن بونس أيرس ،وقد اكتظّت بالمهاجرين ،
ف ّكرته بمدينة تورينو بما فيها من صبيان كانوا ينزلون من الوديان العالية إذ كَان كاهناً شابّاً .
فأعَدّ بعثة ثانية فأرسل في 2تشرين الثاني ( نوفمبر) 1326الى امريكا 23سالسيا لِيتمكّن
الأب كالييرو من أن ينشئ هناك المشروعات التي يبدو أن الناس يحتاجون إليها أمَسّ الحاجة وكان
بينهم الأب بودراتو والأب لويجي لازانيا ( الصبي الأصهب) فدفعنا النشاط السالسيّ دفعة شديدة
إلى الأمام .إن ذلك الجهد أصاب الرهبانية الفتية التي كانت لا تزال نحيفة ،بنزف لقواها .كتب
إلى الأب كالييرو " :إنّ تلك البعثة دفنتنا حتى عنقنا ولكن الله يُعيننا وسنخرج من المحنة " .
ولكن دون بوسكو لم يشأ التخلّي السّريع عن المشروع الاول ،وهو تبشير الهنود بالانجيل ،
فعرض ُخ َطّة تبدو عَن ُبعدٍ صالحة ليعمل بها ،أي فتح معاهد في المدن القريبة من أراضي الهنود ،
وتَقُّبل أولادَ المتو ّحشين ،والاقتراب عن يدهم إلى الراشدين " ،والاعتناء بالوقت نفسه بالدعوات
التي قد تظهر بين التلاميذ ،وهكذا ُيرجى إعداد مُرسلين من أجل البامبا والباتاغونيين فيصير
المتوحشون مبشّرين للمتوحشين " .
ولكن الخطة غير صالحة لأن يُعمل بها هناك .قام الأب كوستامانيا والأب لازانيا بجولات
رسولية بين القبائل التائهة في الأرياف الواسعة على بعد كبير من مراكز الحياة المَدَنيّة ،ولكنهم لم
يصادفوا قَطّ وجه امرئ متوحش .إن " المدن القريبة من أراضي الهنود " غير موجودة ،فمن أراد
الوصول إلى أراضي الهنود ،وجب عليه أن ينضمّ إلى المغامرين والتجار الذين يسافرون إلى
الجنوب في قوافل على مراكب شراعية ،ويقطع ألف كيلومتر ،فهناك تج ُمّعات لبضعة بيوت ،
وكثير من الأكواخ صارت مُدُناً بعدئذ .
في تشرين الثاني ( نوفمبر) 1322أرسل دون بوسكو الى الارجنتين جماعة ثالثة من السالسييين
عددهم 13ُس َمّيت " حملة الأطفال " لأنها حوت ثمانية شمامسة صغار ال ِسّنّ ،ولكن النتائج دلّت

38 Pages 371-380

▲back to top


38.1 Page 371

▲back to top


على أنه كان صواب .
وذهب مع السالسيين لأول مرة بنات السيدة مريم العذراء معونة المسيحيين :كنّ جماعة
صغيرة وشيئاً من تلك الأشياء القليلة الشأن التي اعتاد دون بوسكو دائماً أبدا أن يباشر بها أعماله
العملاقة .وراء هؤلاء البنات ،بنات مريم معونة المسيحيين اللواتي رافقتهن الأمّ ما ّزارلّو إلى
السفينة ،اجتاز المحيط بعدئذ آلاف من المرسلات .
أدرك رئيس أساقفة بونس أيرس أن دون بوسكو يعمل في سبيل أبرشيته " أشياء تفوق حدودَ
ما يمكن عمله " ،فأراد أَن يظهر عرفانه للجميل بالعمل وفقاً لآرائه ،فأرسل نائبه صاحب السيادة
اسبينوزا ( )Espinosaوسالسَيّين ليقوموا برحلة إلى أراضي الهنود في باتاغونيا ،وهكذا يتسنى لدون
بوسكو ان يَتلقّى آخر الأخبار على المتوحّشين التي يرغبون فيها .
في 2آذار (مارس) 1323ركب الأب كوستامانيا والأب رابالياتي والنائب على شاطئ نهر
بارانا ( )Paranaسفينةً بخارية ذاهبة إلى الجنوب ،فنزلوا في باهيا بلانكا ( )Bahia Blancaعلى بعد
ألف كيلومتر عند البحر ،وواصلوا من هناك " على وجه ما " طوال 228كيلومتراً آخر رحلتهم إلى
باتاغونيس على الريو نيغرو ( )Rio Negroالذي يفضل بين البامبا وباتاغونيا .
فلم تُخفق المحاولة فحسب ،بل كادت أن تتحوّل إلى مأساة ،ذلك بأن عاصفة هبّت فهزت
ريح بامبيرو ( )Pamperoبعنف ثلاثة أيام وليلتين السفينة البخاريّة فاض ُط َّرت آخرَ الأمر إلى العودة
إلى ميناء بونس أيرس ،بعدما نزل فيها عطب جسيم .
فأصابت الرسالة الطريفة جداً التي وصف فيها الأب كوستامانيا العاصفة لدون بوسكو ،
نجاحاً خياليّاً بين أحداث فالدوكّو وق ّراء النشرة الساليسيّة .
" الصليب يسير وراء السيف ! علينا بالصبر! "
بدأت الحملة الثانية على أرض الهنود في 16نيسان ( ابريل) 1320فذهب جوليو روكا
)Julio Roca (وهو قائد ووزير للحرب ،نحو الجنوب ومعه 3888جندي :إنها عملية " تطهير"
واسعة هدفها قبائل ذلك المكان الذي فيه يثيرون بلا هوادة الفتن وحرب العصابات .
قُِتل في المعارك السابقة كثير من الهنود ،وسيق اخرون إلى بونس ايرس ،و ُو َّزعوا عبيداً في
الأسر ،فساد القبائل التي نجت بغض شديد ،ومن اليسير التنبّؤ أَنها ستفضّل أن تباد على أن
تستسلم ،ومن اليسير أيضاً التنبّؤ أن الجنود سوف يقومون بالمجازر المألوفة .
أراد مع ذلك وزير الحرب أن يحاول استعمال " وسائل أَخلاقية " فطلب الى رئيس الأساقفة

38.2 Page 372

▲back to top


كهنةً يعملون عمل المرشدين العسكريين بين الجنود ،و َعمَل المُرسلين بين قبائل الأهلين ،فبعث
إليه رئيس الأساقفة بنائبه ،وسالسَيّين هما الأب كوستامانيا والأب بوتّا ( . )Botta
" فلم تَ ُرق هذه المسألة الأب كاستامانيا كثيراً " ،كما كتب الأب بودراتو إلى دون بوسكو في
ذلك الحين " .إِنه َيخشى أَن يُبعد الكاهنُ المختلطُ بالجنود النا َسّ عن الانجيل .ومهما يكن من
أمر ،فمن الضروريّ أن يصلّي من أجلهم اكثر منه في أي وقت كان " .
بونس أيرس وآزول ( ، )Azulكارهوي ( )Carhueفشويلي شويل ( )Choele Choel
فباتاغونيس ( : )Patagonesنحو 1388كيلومتر قطعوها على ظهور الخيل ،أو في عربات
متأرجحة من طراز عربات الغرب البعيد ( الفارويست ) .هذه أول " رحلة رسولية قام بها
سالسيّان ،ورواها باسلوب شعبي حيّ الأب كوستامانيا في رسائل إلى دون بوسكو بعث بها في
أثناء السفر ،فقرأها أهل فالدوكو ،فأّثرت فيهم تأثيراً شديداً ،وطُبعت في النشرة
السالسيّة والجرائد الكاثوليكية ،ف َسّببت حماسة لا حَدّ لها .
وهذا بعض ما جاء فيها :
" ذهبنا مع وزير الحرب وكثير من العسكريين من أزول ،وهو آخر بلد في الارجنتين ،
وبعده تبدأ الصحراء الكبيرة ،صحراء البامبا .
الصليب يسير وراء السيف :علينا بالصبر! رضي رئيس الأساقفة وطأطأنا الرأس .ُجعل
لنا حصان ،وجعل لنا ُكلّنا عربة فنقلنا إليها المذبح والهرمونيوم وحقائبنا .
رأينا في اليوم الأوّل ،حينا بعد آخر ،ِخياماً أو أكواخاً مصنوعة من جلد الحيوانات ،إنها
لهنود البامباس وكادوا أن يصبحوا متمدّنين ،لونهم شديد السمرة ووجههم عريض م َس َطّح .
عندما َنمُ ُرّ بالقرب منهم ،نسَلّم عليهم ببعض الكلمات من لغتهم ونواصل سيرنا في الصحراء .
كارهوي ( )Carhueمَحطّةٌ في قلب صحراء البامبا ،والحد الفاصل بين الأرجنتين وقبائل
الهنود ،وتتألف المحطة من حصن مصنوع من التراب ومن نحو أربعين بيتاً وخيمة لقبيلتين هنديتين
الايريبايلا ( )Eribaylaوالمانويل غراندي ( : )Manuel Grandeقد اسَتعر ُت حصاناً ولحقت
بالقبيلتين .
فلّما دنوتُ من الخيام شعرت بقلبي يخفق .فما العمل ؟ هُوذا ابن رئيس الايريبايلا آتٍ
للقائي ،ومن حسن الطالع أنه يتكّلم الاسبانية ،فاستقبلني استقبالاً و َدّيّاً ،وسار بي إلى أبيه ،
وكان لي ترجمانا .فاستقبلني الرئيس بلطف وقال لي إِنه يرغب رغبة شديدة في أَن يتعلموا كُّلهم
الديانة الكاثوليكية ،ويتلَقّوا العماد .فجمعت الصبيانَ بكلّ بساطة وشرعتُ في التعليم الدينيّ
وعَّلمتُ بشيء من الصعوبة إِشارة الصليب . . .
منحنا في كارهوي العماد نحوَ خمسين صبيًّا هندياً وعشرين َولداً أهلهم من المسيحيين ،ولو

38.3 Page 373

▲back to top


شاء الله ،لَوددنا أن نبقى هناك شهراً على الأقلّ ،ولكن الوزير رجا مِنّا أن نتبعه ،فذهبنا على كره
منا وبِنَا رغبةٌ شديدةٌ جداً في العودة بأسرع ما يمكن . . .
ِسرنا في طريق الصحراء لا بصحبة الجيش فحسب ،بل بصحبة قبائل هنديّة أمَرَ ُهم الوزير
ان ينقلوا خيامهم إلى شويلي شويل ،ليصيروا شعباً جديداً في هذه الحدود الجديدة ،و ِسرنا في
الصحراء على نحو متواصل طوالَ شهر . . .
وفي 11أيار (مايو) بع َدما مررنا في الجبال والوديان والبحيرات المالحة والأنهار ،وصلنا آخر
الأمر ِإلى ريو كولورادو ( )Rio Coloradoوهو نهر َعرضه يكاد أَن يكونَ كعرض نهر البو ( ، )Poفي
تورينو ،فأقمنا القدا َّس على ضفّته .
فطلبتُ وِنلت أن أُرافق المق َدّمة التي سَبَقت موكب العربات لكي تصل قبل سواها إلى الريو
نيغرو .تَقَ َّدم ُت وأنا راكب حصاني ثلاثة أَيام بين أدغال الشوك ،فأَعمل ما لا يُستطاع لكيلا أترك
ثيابي ُت َمزّق شَ َذر مَ َذر .وفي صباح يوم الرابع والعشرين من أيّار نهضت عند الفجر ،ونفضت عني
الصقيع من على ما كان يجب أن أُسمّيه سريري ،واستدفأتُ بنار حسنة وذهبت راكباً حصاني ،
يخبّ تارو ويعدو تارة حتى وصلتُ إلى شويلي شويل ،وفي الساعة الرابعة ظهراً والدقيقة ، 31لما
غابت الشمس وراء الكورديليرا ( )Cordiglieraترجّلتُ عند ضفّة الرينو نيغرو ،أي على جانب
الباتاغونيا لأنّ هذا النهر يفصلها عن البامبا ،وأنشدت من صميم قلبي نشيداً لأمّنا العزيزة السيدة
مريم معونة المسيحيين قي ذلك اليوم ،يوم عيدها . " . . .
مطاردة الانسان
" وفي الغد بحثت في شويلي شويل ،من غير تأخر ،عن الهنود أسرى الحرب ،لأعّلمهم
الدين المسيحي .إِن حالة البؤس التي وجدتُهم فيها سيئة ج ّداً ،فبعضهم نصف عراة ولم يكن لهم
خيام ،فكانوا ينامون تحت السماء ،ولا ملجأ لهم .يا لهم من مساكين .فلما رأوني واصلا التفوا
حولي نساء ورجالا وفتيانًا وفتيات . " . . .
وذهب المرسلون إلى باتاغونيس ،وهو مركز فيه 1آلاف من السكان على ضفة الريو نيغرو ،
وعادوا من هناك إلى بونس أيرس في آخر تموز ( يوليو ) .
ولكن الحملة العسكرّية على الريو نيغروا استمرت نحو سنتين حتى نيسان ( ابريل )
، 1331فاستولى الخوف واليأس على الهنود ،فهربوا من الكورديليرا إِلى الشيلي واستوطنوه .
وهرب القائد الأبيّ عمانوئيل نامونكورا ( )Namuncuraمع جماعة صغيرة من الهنود إلى
الكورديليرا ،واعتصم في واد عالٍ .

38.4 Page 374

▲back to top


ولم يبقَ الهنود منذ ذلك الحين ،منظّمة عسكرية ،فقد أصاب الخوف والجوع التجّمعات
التي نَجت ،فتعرضت في السنين بعدها ِلمطاردة صامتة لا هوادة فيه ،وهدفها أن تجعل منهم عبيداً
للمزارع أو أن تبيدهم إبادة تامّة .
في 2آب ( اغسطس) 1320ق ّدم أساقفة بونس ايرس رسالة باتاغونيس لدون بوسكو ،
فعهد هذا إِلى الأب كوستامانيا بأن يبحث مع رئيس الأساقفة بجدّ في مسألة " فتح بيت مركزي
للراهبات والسالسيّين .سأهتم أنا بالاشخاص وسنهتّم معاً بالوسائل الماديّة " .
وفي رسالة التهنئة بالعام الجديد إلى المعاونين المؤ َرّخَة في أول كانون الثاني ( يناير) 1338
أعلن بدء الرسالة في باتاغونيس " :قبلتها وقد ملأتني الثقة بالله وبمحبتكم " .
كان قد نما على ك َلّ من ضفتي الريو نيغرو ،عند مصبّه ،تَ َج ُّمعان للمساكن ،هما باتاغونيس
وفييدما ( . )Viedmaفي 12كانون الأول ( دسمبر) 1320ذهبت جماعتان صغيرتان من
السالسّيين إِلى بونس أيرس ،فقد ُوكِل إليهما رسالتا باتاغونيس وفييدما .
فسيجب على الأب فانيانو خوري باتاغونيس ،يؤازره كاهنان ومعاونان وأربع راهبات ،أن
يهتَ ّم بجميع المستعمرات والقبائل بين الريو نيغرو والريو كولورادو ،المبعثرة على أرض يقال لها
" البامبا" مساحتها تساوي أرض ايطاليا من البيمونته إلى الفينيسيا ،وسيجب على الأب ميلانيزيو
)Milanesio(خوري فييدما أن يهتَمّ بجميع الساكنين في جنوب الريو نيغرو في البقعة التي يقال لها
باتاغونيا وهي أرض مساحتها تساوي مساحة ايطاليا من نهر البو إلى كالابريا .
اتخذ الأب فانيانو له خُ َطّة أن يجلب إلى بيتنا أكبر عدد ممكن من الناس وفي عشرة أشهر
أنشأ مدرستين للذكور والاناث ،وكان عدد الجماعة الاولى 33من الأحداث فيهم أولاد هنود .
واتخذ الأب ميلانيزيو له ُخطّةً مختلفة ك َلّ الاختلاف فذهب يبحث عن الناس في بيوتهم .
ركب الحصان وذهب للبحث عن الهنود ،فتعلّم لهجتهم بوقت قليل ،ووصل إلى قبائل كثيرة
وأصبح صديقاً لها ،وأنقذ كثيراً من الجماعات والأسَر المعزولة ،من مضايقة البيض لها ،وصار
بلحيته التي تعبث بها الريح مثال المرسل الرائد ،وأظهر له الهنود الثقة والتوقير ،وبلغ بهم الأمر إلى
الاستغاثة باسمه كأَنّه اسم سحريّ إِذا أساء معاملتَهم البيضُ الذين يُزعم أنّهم متم َدّنون .
ان خُطّتي المرسلين الكبيرين كانت الواحدة منهما تُتَ َمّم الأخرى فصارت فييدما وباتاغونيس
مكانين لمدارس ذات نفوذ ومعاهد ،تهيّأ فيهما جيل جديد من المواطنين المستقيمين المسيحيين
المراعين لحقوق الهنود ،وصارتا المر َكزَين اللَذين منهما انطلق المرسلون الجَوّالون الذين سلكوا مجرى
الأنهار فتقدموا وهم ي ّمرون بالوديان والتّلال والجبال ،ليزوروا خيام الهنود وبيوت المستعمرين
البيض .
فلما عزم عمانوئيل نامونكورا ( ، )Namuncuraوهو آخر قائد كبير ،على مفاوضة الحكومة

38.5 Page 375

▲back to top


الأرجنتينية في استسلامه ،اختار الأب ميلانيزيو ،وتلّقى بدل عمله هذا لقب لواء في الجيش وبزّته
وراتبه .
" رأيت في جوف الجبال "
في السنة 1333تلك رأى دون بوسكو في حلم جديد ،وهو على بعد آلاف من
الكيلومترات ،مستقبل أميركا الجنوبية و ُمرسَليها .
. . . "نظرت من نافذة فرأيت تهرب أمامي مناظر مختلفة مدهشة ،من غابات وجبال
وسهول وأنهار طويلة ج ّداً فخمة . . .وحاذينا طوال آلاف من الفراسخ ،طرف غابة بكر لم
يدخلها أحد إلى ذلك اليوم . . .
ورأيت ما في جوف الجبال وأعماق السهول .ظهرت لعيني ثروات لتلك البلد لا مثيل لها
وسُيكشَف عنها ذات يوم .ورأيت مناجم كثيرة للمعادن الثمينة ،ومناجم فحم لا تَفنى ،ومخزونا
من النفط غزيراً ج ّداً لن يوجد مثله في مكان آخر .. .
وعاد القطار إلى السير في البامبا والباتاغونيا . . .فوصلنا إلى مضيق ما جلانو
)Magellano (فنزلنا فإذا بنا أمام البونتا آريناس ( )Punta Arenasوكانت تغطي الارض ،على
مساحة عدة فراسخ ،أكداس من الفحم الحجري والعوارض واكداس عظيمة من المعدن بعضه
خام وبعضه الآخر مصنّع .أشار صديقي إِلى هذا كلّه وقال لي :ما هو مشروعٌ الآن ،سيصبح
حقيقة ذات يوم .
فاستنتجت :حسبي ما رأيت ،َف ِسر بي الآن إلى أبنائي السالسيين في باتاغونيا .
فعدنا إلى المحطة ورجعنا إلى القطار وقطعنا مسافة طويلة جداً ،فتوقّفت القاطرة بالقرب من
قرية كبيرة ،فنزلت من القطار ولقيت السالسيين لوقتي ،فدخلت بينهم فكانوا كُثُراً ولكني لم
أعرفهم ولم يكن فيهم واحد من أبنائي القدامى ،فكانوا كُّلهم ينظرون اليّ متعجبين كأني غريب ،
فقلت لهم :
-ألا تعرفوني ؟ ألا تعرفون دون بوسكو ؟
-إيِه ،دون بوسكو نعرفه بسمعته ،ولكننا لم نَره إلا في الصورة .أمّا هو بنفسه فلا
نعرفه أبداً .
-والأب فانيانو والأب كوستامانيا والأب لازانيا والأب ميلانيزيو ،أين هم ؟
-لم نعرفهم .هم الذين جاؤوا إلى هنا في الماضي ،وهم أول السالسيّين الذين وصلوا من
أوربا .وأمّا الآن فقد ماتوا منذ سنين كثيرة .

38.6 Page 376

▲back to top


فلما سمعتُ ذلك الجواب فكّرتُ مدهوشاً :أَتراني في الحلم أم في اليقظة ؟
وصعدنا إلى القطارفصفّر وسار إلى الشمال ،فتق َّدمنا ساعات كثيرة على ضفاف نهر طويل
ج ّداً ،وكان القطار يسير على الضّفة اليُمنى تارة وعلى اليسرى تارة .
وكان يظهر على تلك الضفاف قبائل متوحشة كثيرة وكان رفيقي ُيكرّر القول :هُوذا حصاد
السالسّيين ! هوذا حصاد السالسيّين !
وفي أثناء هذا الحلم الطويل الغريب ،كان دليل دون بوسكو العجيب يُنبئه بالوقت اللازم
لِيتَمّ فداء الشعوب المتوحشة في جنوب أميركا " :سيتّم الأمر قبل زوال الجيل الثاني ،وعمر كل
جيل ستون سنة " .
ودلّه أيضًا على الطريقة التي َيحصل بها المرسلون على طلبهم " :بالعرق والدم " .
آخر حلم رسولي حَلمه دون بوسكو
في الليلة بين التاسع والعاشر من نيسان ( أبريل) ، 1336َحلم دون بوسكو آخر حلم في
شأن الرسالات ،فرواه بصوت مته َدّج ،ِلما أصابه من التعب والانفعال ،للأب روا وأمين سره
فيليتي ( . )Vigliettiكان ذلك الحلم رؤيا للمستقبل فخمة هادئة .إنّنا نختار مما د َوّنه السامعان
الفقرات التي تبدو لنا جوهرية .
. . . "فألقى نظره من أعلى قِمة إلى الأفق فرأى عدداً من الشبان كثيراً ج ّداً ،يركضون
حوله ويرافقونه قائلين :
-انتظرناك ،انتظرناك طويلاً ج ّداً ولكّنك الآن ههنا ولن تُفلت منا . . .
قالت له راعية ترعى قطيع حملان كبيراً جداً :
-ح َّدد النظر ،ح َّددوا النظر جميعاً .ماذا ترون ؟
-أرى جبالا ثم البحر ثم تلالاً وجبالاً أيضاً وبحوراً .
قال صبيّ :أقرأ كلمة فالباريزو ( . )Valparaiso
وقال آخر :أنا اقرأ كلمة سانتياغو ( . )Santiago
فواصلَت كلامها :أَجَل ،إذهب من هذا المكان ترَ جميعَ ما يجب على السالسيّين أن يعملوا
في المستقبل .أُنظر من هنا إلى الأمام .
فح ّدق الأحداث فصاحوا كُلّهم صيحة واحدة :نقرأ كلمة بكين ( . )Pekin
فقالت الراعية :الآن ارسم خطًّا واحداً من مكان آخر ،من بكين الى سانتياغو ،
وارسم مركزاً في وسط افريقيا ،فتعرف معرفة صحيحة ما يجب على السالسيّين أن يعملوا .

38.7 Page 377

▲back to top


فصاح دون بوسكو :ولكن كيف نعمل ذلك كلّه ؟ إنّ المسافات كبيرة ج ّداً والبلاد عسيرة
المنال والسالسيّين قليلون .
-لا تضطرب .إِن ابناءك يصلون إِليها ،أبناء أبنائك وأبناؤهم .ارسم خطّاً من سانتياغو
في وسط افريقيا .ماذا ترى ؟
-عشرة مراكز محطّات .
-أجل ،إِن هذه المراكز التي تراها ستكون مراكز درس ،أو دياراً لطالبي الحياة الرهبانية
وتُخرج جماعات من المبشرين ليسدّوا حاجات هذه البلاد .والآن التَفِت نحو الجهة الاخرى .إِنك
ترى عشرة مراكز أُخرى من وسط أفريقيا إلى بكين ،وسوف تخرج هذه المركز أيضاً مرسلين لجميع
هذه البلاد .هنا بكين وهناك كلكتا ( )Calcuttaثم هنالك مدغشقر ( . )Madagascarسيكون
لهم ولبضعة غيرهم بيوت ومراكز للدروس وأديار لطالبي الحياة الرهبانية " .
لما بلغ دون بوسكو اجله الأخير كان 128سالسيّا وخمسون بنتاً للسيدة مريم العذراء معونة
المسيحيين يعملون في أمريكا اللاتينية .كانوا قد َرسّخوا أقدا َمهم في خمس ُأمم :الارجنتين
والاوروغواي والبرازيل والشيلي والاكوادور ،ففي 13سنة تَ َمّ عمل عظيم .

38.8 Page 378

▲back to top


11
دون بوسكو
ورئيس الأساقفة غاستالدي
في السنة 1322بينما دون بوسكو يُح ّدث الأب كولومياتي ( )Colomiattiقال في رئيس أساقفة
تورينو لورينزو غاستالدي ( " : )Lorenzo Gastaldiلم يبقَ إلا القليل حتى يغرز سكّيناً في
قلبي " .
إِن هذا القول الشديد خليق بأن يوقف دعوى تطويب أيّ امرئ تفوّه به .ومع ذلك فحص
هذا القولَ خبراءُ الكرسي الرسوليّ بالمجهر طويلاً ثم أعلنوا أن فضائل دون بوسكو بطولّية ،جميع
فضائله حتى الصبر .لم يجدوا في ذلك الكلام شتيمة لأسقفه ،ولا نزوة غضب أو قلة صبر ،بل
وجدوا فيه صوتاً بشرياً أطلقه كاهن بلغ حدود الت ّحمل ولم يتجاوزها .
نروي في هذا الفصل أحداثاً بَدَت في الماضي حرجة في رأي الذين كتبوا سيرة دون بوسكو ،
فأغفلوها أو ذكروها ذكراً عابراً .
نعتقد أن المسيحيّين في أيامنا قد كبروا وبلغوا سِ َنّ الرشد ،ونعتقد أنه ليس هناك سبب
للعثار بل سبب للبناء أن يعرف الناس كيف أَخطأ أكبر " رجال الله" أيضاً ،وكيف كان لهم لا أن
يتألموا فحسب بل أن يسببوا الألم ،لأننا جميعًا على وجه الأرض قوم مساكين أيّاً كانت البزّة التي
نلبسها أو الشارات التي على أكمامنا .
فتور المطران ريكاردي
وقع خلاف طويل مُ ِذلّ مؤلم كاكليل من الشوك بين دون بوسكو ومطرانه ،فعانى دون بوسكو
طوال السنين التي قام فيها بأعظم المشروعات التي حقّقها .
مات المطران فرانسوني منفيًاّ في ليون السنة 1362وكان قد رَسَم دون بوسكو كاهناً ،ورأى
مشروعه ينشأ وينمو ،فأَيّده دائمًا وسمّى مصلاّه " رعية الصبيان الذين لا رعية لهم " .
وكانت المنازعات السياسية سبباً حال دون حصول تورينو على رئيس إلاّ في السنة ، 1362
وهو المطران ريكّاردي ( ، )Riccardiوكان من نبلاء نيترو ( . )Nietroكان يكبر دون بوسكو بسبع

38.9 Page 379

▲back to top


سنوات ،وكان له صديقاً جميماً وتلّقى تسميته لكرسي تورينو وهو مطران سافويا ( . )Savona
فذهب دون بوسكو إلى زيارته فألقى المطران بذراعه حول عنقه وقال له إنّه يعرف قدرته المشهود له
بها ،على العمل بين الأحداث ،والخير الذي يصنعه إلى الكهنة في معهد الكهنوت للصغار في
ميرابلّو ،وهو ذاهب غلى تورينو ولديه خطّ ٌة واضحة يقصد بها أن يعهد إليه بانعاش معهدَي
الكهنوت في جيافينو ( )Giavenoوبرا ( )Braوإعادة تنظيم معهد الكهنوت في كييري ( . )Chieri
ولكنّ شيئاً ما إنكسر بينهما أول ما تلاقيا في تورينو ،فأخبره دون بوسكو بأنه أنشأ رهبانية منذ
1320وأن الكرسيّ الرسوليّ وافق عليها موافقة أُولى ،وضمّ إليها قرارَ ثناء في السنة ، 1361
فصعق المطران ريكاردي فقال وقد انفعل بعض الانفعال :
-كنت أعتقد أنّ مؤسّستك عائدة للأبرشية وأنها خاضعة لأبرشيتي خضوعاً تامّاً . . .
يسهل تفهّم ذهول المطران ريكاردي ومرارته ،ففي وقت كانوا قد خرجوا فيه من شدائد
كثيرة فحاولوا جمع قوى الأبرشية وتحقيق الوحدة والالتفاف في صفوف متراصة حول رئيس
الأساقفة ،بدا دون بوسكو كمن يهرب .كان هذا يَصبو إلى رسالة أوسع ،فينظر الآن إلى الكنيسة
أكثر من نظره أبرشية تورينو .
وازداد المطران ريكاردي فتوراً في معاملته لدون بوسكو ومشروعه على مَرّ السنوات الثلاث
بعدئذ .
لما أُغلق معهد الكنهوت لكبار الطّلاب لجأ كثير منهم إلى فالدكّو ،وغيرهم إِلى دار
الكوتولنغو ،فاكتسب دون بوسكو كثيراً من المودة من جراء ذلك ،فظهر المصلّى بمظهر قلعة جادت
بها العناية الالهية ،وملجأ للشبان الذين ُيرجى أَن يكونوا رجال الكنيسة في تورينو .
وأما الآن فقد تبدلت الحالة تب ُدّلاَ تامّاً ،ففي 11أيلول ( سبتمبر) 1362كتب رئيس
الأساقفة إلى دون بوسكو :
" وأما شمامسة أبرشيتي فإني لا آذن بعد اليوم أن ُيعَلّموا أو ُيلقوا دروساً أو يعملوا عمل
الناظرين في المهاجع أو الصفوف ،وما ذلك إلاّ لكي يُقبلوا على دروسهم .ولقد عزمت ألاّ أمنح
ال ُرّتب المقدسة إلا الذين هم في معهد الكهنوت " .
فبدأت الأوقات المظلمة لدون بوسكو ،فإن كثيراً من طلاب الكهنوت الذين لم يكونوا
يبغون البقاء عند دون بوسكو تركوا المصلّى ،وانتقلوا إلى معهد الكهنوت وأمّا الذين كانوا قد
ارتبطوا به بنذور ،فقد ساءلوا أنفسهم قلقين هل يتأتى لهم ذات يوم أن يصيروا كهنة .
فذهب دون بوسكو إلى مطران ريكاردي وح َدّثه في الأمر وأعرب عن رأيه بشيء من
الاحتداد :

38.10 Page 380

▲back to top


-قضت أوامرك بأن يذهب الكهنةُ والشبان إلى المركز الكهنوتي ،وطلّاب الكهنوت إلى
معهدهم .أفيبقى دون بوسكو وحدَه بين صبيانه كلهم ؟
ف َظلّ رئيس الأساقفة ثابتاً في مواقفه .ومن حسن الحظ أنّ الحبل لم يبقَ مشدوداً مدة طويلة
ج ّداً ،ففي أول آذار ( مارس) 1360وافق قرار من المجمع المقدس ،كان دون بوسكو التمسه
بالحاح ،موافقة رسمية على الرهبانية السالسية ،ومنح قرار آخر دون بوسكو إِذنًا صالحاً لعشر
سنوات بأَن يعطي رسائل تؤ َّهل للرسامات المقدّسة طلاّبَ الكهنوت الذين دخلوا المصلّى قبل
الرابعة عشرة ،ومعنى ذلك أنه يح ُقّ لدون بوسكو أَن يُقَ َدّم للرسامات من نشأ في المصلّى منذ
حداثته ،ُمزَ َوّداً إياه بضمانه ( رسائل تأهيل للرسالة) ولو لم يتر َدّد إلى معهد الكهنوت .
مات المطران ريكاردي في السنة . 1328
" أنت تريده فأنا اعطيك اياه "
كان لدون بوسكو شان عظيم عند بيوس التاسع .فاستشاره البابا في اختيار المطران الجديد
لتورينو ،فاقترح دون بوسكو المطران لورينزو غاستالدي مطران سالوزّو ( )Saluzzoوكان بيوس
التاسع يعرف ما لِغالستادي من طبع حادّ ،فرأى غير ذلك الرأي ،ولكن دون بوسكو ألَحّ فقبل
البابا الاقتراح قائلاً علة ما شهد الأب أماديي ( : )Amadei
-أنت تريده فأنا اعطيك إيّاه وأترك لك أمر إِعلام غالستالدي إِني أجعله الآن رئيس أساقفة
تورينو ،وسأجعله بعد سنتين أَكثر من ذلك ( .وفي هذا القول تلميح لا يخلو من الوضوح إلى
شرف الكردينالية ) .
أبرق دون بوسكو لوقته إلى المطران غاستالدي :
-يا صاحب السيادة لي الشرف بأن أكون أول من يخبرك بانك سُّيمتَ رئيس أساقفة
تورينو .
فما إِن عاد دون بوسكو من رومة حتى ذهب المطران غالستالدي غلى جناح السرعة إلى
تورينو.
"صادف الأب لموان فعانقه وصعد وإياه ،وهو لا يقوى على البقاء في مكانه ،وعلى أحَرّ من
الجمر ،لشدة انفعاله .وإذا دون بوسكو يظهر فأمسك المطران بيده وصحبه وظلّ يخاطبه وقتاً
طويلاً " ( ذكريات السيرة ،ج ، 18ص . ) 116وبدر من دون بوسكو شيء من قلة الحذَر
فلمّح في آخر المحادثة إِلى أنه ساهم هو ايضاً في التسمية ،وبلّغ المطران ذات الكلمات التي فاه بها
البابا " :الآن رئيس أساقفة وبعد سنتين أكثر من ذلك " فقاطعه المطران بقوله " :لِنَدع العناية

39 Pages 381-390

▲back to top


39.1 Page 381

▲back to top


الإلهية تعمل ما تشاء " .كان ذلك عمل تواضع ولكنّه ايضاً ستاراً للاستياء .
كان يمكن القول بحق إنّ صداقة دون بوسكو وغالستالدي لاتنال منها القنابل .علمت أ ُمّ
المطران سنين كثيرة في المصلّى ،وع َدّت دون بوسكو ابناً لها ،وكان دون بوسكو والمطران غالستدي
في سِ ّن واحدة .
لما أراد دون بوسكو الحصول من مطران على رسالة توصية ،لكي توافق رومة على رهبانية ،
كتب له المطران غالستادي رسالة رائعة :
" إني أشهد أن فرانسوني ،وهو في منفاه الأليم في ليون ،قال إِنه َيعُ ّد هذه الرهبانية بركة
خاصّة من السماء ،لأن كثيراً من الشَبّان استطاعوا أن يستعدّوا فيها للكهنوت ،إِذ كانت معاهد
الكهنوت للابرشيّات مغلقة " ( 11تموز يوليو . ) 1362
وكتب أيضاً بعد عشرة أشهر :
" إِن الله الرحيم ُيسبغ بركاته بغزارة :رسالة خاصة في سبيل ظاهرة هنا . . .
فقد رأى صاحب التوقيع ما ُيشبه المعجزة إِذ قامت في حضن الرهبانية كنيسة جبارة
( كنيسة السيدة مريم معونة المسيحيين ) هي آية عجيبة لمن يفحص أمرها ،فقد أُنفق أكثر من
نصف مليون ليرة تولّى جمعها كهنة فقراء لا شيء عندهم ،فكانت أشبه بمعجزة تثبت أن الله يبارك
هذه الرهبانية " .
وكتب في مؤَلّفة ذكريات تاريخية في كلامه على حيّ فالدو ُكّو :
" إن هذه الأرض قد نالت على وجه جلّي بركة الله بمختلف مؤسسات المحبة والتقوى التي
أنشئت فيها .يكفي القول إِن المرء ُيعجب فيها بالبيت الصغير للعناية الالهية ( كوتولنغو) ومصّلى
مار فرنسيس دي سال " .
كََّلمَهُ دون بوسكو دائماً كلامه لصديق هو أخ له ،وأرسل إليه ُمخ َطّط كنيسة السيدة مريم
معونة المسيحيين ليفصحه وتقبّل بضعة تبديلات أشار بها .
كان رئيس أساقفة عظيما
كان المطران غالستادي أسقفاً عظيماً في تورينو .
وصفه المطران دون ( )DuCأسقف أوستا هذا الوصف " :ُولد ليكون مطراناً .كان له طبع
شديد التأثير في الناس وحزم في خططه وعزائمه ،وسعة في معارفه ،وسهولة في الكلام وتقوى
حارّة ،وتعلق بتعليم البابا وحبّ للنفوس والكنيسة المقدسة الى حدّ العشق ،فكان ينبئ ذلك كُلّه
بأنه سيكون قائدا للشعب " .

39.2 Page 382

▲back to top


وإذا أردنا أن نُتِمّ هذا الوصف ،وجب أن نضيف إليه كلام المطران ري ( )Reأسقف ألبا
)Alba (الذي شهد بعد ما أدّى اليمين " :كان لرئيس الأساقفة كثير من الخصال الحميدة ،ولكّنه
كان يبالغ بعض المبالغة في تقديره لسلطته ومعرفته ،فضلا عن أَنه كان من طبعه التسرّع في ما يعزم
عليه ،فلا يُحبّ الرجوع عنه ،خوفاً من أن تق ّل هيبة سلطته " .
زال عهد الحماسة المضطربة " للنهضة " وأدار المجمع الفاتيكاني ال ُّدفة نحو المركزيّة في
الكنيسة ،فكانت ك ُلّ أَبرشية ُتعيد تنظيم شؤونها على وجه محدّد حول مطرانها ،وكان المطران
مَّتصلًا بالبابا ت ّواً .
كان المطران غالستالدي مُصلحاً كبيراً لأبرشية تورينو ن فأعاد الحياة والنظام إلى معهد
الكهنوت ،وجمع في يديه ك َلّ ما في المدينة من قوى كنسية ،وأفهم المؤمنين في رسائله الرعائية ما في
الكنيسة من مسائل حسيّة ،ودعاهم إلى إِيمان أكثر متانة في حياتهم .
وهذان نموذجان :كتب في رسالته الرعائية للعام " : 1323تُوفّي في السنة الماضية أربعون
كاهناً من الأبرشية ولم نرسم سوى 11كاهناً .ما قولكم يا أخوتي وأبنائي الاعزاء ؟ ما الذي يبقى
من رجال الكنيسة بعد بضع سنوات اذا لم تمدّوا إلينا يد المساعدة ،و إذا تز َوّدونا بالوسائل اللازمة
لرعاية هذه الأبرشية التي تَعُدّ نصف مليون نفس ،والتي تحتاج إلى كثير من الكهنة الجديرين بهذا
الاسم على وجه أكيد ؟ " .
وكتب في رسالته للعام 1322على تربية الفتيات " :أن التربية التي تقتصر على تنمية
العاطفة الدينية عند الفتيات ،وتُحّبب إِليهن كل ما هو عاطفي في الأعمال الايمانية فتكتفي بوضع
صور العذراء مريم في أماكن حسنة من المعابد ،وبالقناديل وزينات المذابح ،وبروعة الطقوس
والأنغام ،وبرائحة البخور والعظات لبعث مشاعر القلب ،من غير أن تصل أبداً الى عمل البذل
والتضحية والتواضع والعفو ّحباً ليسوع ،إن هذه التربية لا يحقّ لها أبداً أن ُتسمّي نفسها
مسيحية ،إلاّ بمعنى ناقص ج ّداً ،ولن تجعل الفتيات مسيحيات حقاً يقتدين بالمسيح حقاً " .
كان يكرّم السيدة تكريماً صادقاً ،فأراد قبل موته أن يذهب إلى كنيسة سيدة التعزية
وقال " :لنذهب إلى أُمنا العزيزة ،لنذهب فنجعل أنفسنا في حمايتها .يشعر الانسان بالعزاء في
حياته وفي موته عندما يجعل نفسه في حمايتها " .
لما بلغ خبر وفاته في 22اذار (مارس) 1333الى الفاتيكان شعر الكردينال نينا ( )Nina
الحامي الرسمي للرهبانية ،بحزن شديد ،وكتب بعدئذ " :ف ّكرت ان أعمال نشاطه الرعائي
الأخيرة التي أساء فيها إلى أبنائي السالسيّين لن تكون عقبة دون إِعلان قداسته " .لا يفكّر أحد في
إعلان قداسة رجل قليل الشأن .

39.3 Page 383

▲back to top


الخطأ الأساسي الذي ارتكبه دون بوسكو
فلماذا هّبت إذاً تلك العاصفة الشديدة بين دون بوسكو وغاستالدي ؟ ولماذا صارت المشادّة
حادّة ج ّداً حتى إِنه وجب في الفاتيكان إِقامةُ دعوى ،وتدَ ّخل البابا فيها ؟
ارتكب دون بوسكو خطأً أساسيّاً ،ودفع ثمنه غالياً ،فقد أرسل في 11أيار ( مايو) 1323
كتاباً طويلاً جداً من بورغو سان مارتينو ( )San Martinoإلى رئيس الأساقفة ،وضرب على جميع
الأوتار لكي يُقنعه بالعودة إلى أن يكون صديقه العزيز كما كان في الماضي ،ولكنه كتب في آخر
الكتاب هذه الأسطر المشؤومة " :أودّ إِعلامك أن هناك فقرات محفوظة في مكتب الحكومة دّونها
بعض الناس وتتداولها الأيدي في تورينو .ويظهر من هذه الفقرات أنّ الأب غاستالدي إنما
صار مطران سالوزّو بناء على اقتراح دون بوسكو ،وإذا صار ذلك المطران رئيس أساقفة
تورينو فقد جرى هذا الأمر أيضاً بناء على اقتراح دون بوسكو " .
كان خطأ دون بوسكو الأساسي إعتقاده بأن هذا الكلام ،ومثل هذا التصرف يبعثان عرفان
الجميل ،في حين أنّه لم يكن للمطران غالستالدي سوى أن يستاء لهما استياء شديداً .
فقد كانت مشاعره قد بلغت درجة عالية من الحيرة والمرارة ،ُقبيل أَن ُتكتب الرسالة
المذكورة .ولكن دون بوسكو أخطأ هو أيضاً لما كتب العبارات المذكورة أعلاه ،فما كان لغيظ
المطران غاستالدي إِلاّ أن يتفاقم .
كان على دون بوسكو أن يدرك ذلك منذ الأيام الأولى التي فيها ارتكب أخطاء غيرها مماثلة
لها ،وإِن كانت أقل شانا .فما إن ُسمّي مطرانًا على تورينو حتى بادره بون بوسكو ،من غير أن
يستشيره الأسقف الجديد ،واقترح عليه اسم اللاهوتيّ برتانيا ليكون نائباً له .ولما دخل رئيس
الأساقفة المدنية كان دون بوسكو إلى جانبه ،كان قد أكّد له أنه حصل من السلطات العدوة
للكنيسة في مدينة تورينو على استقبال بأُّبهة عظيمة لدى دخوله ،غير أن ذلك لم يحدث .إِن أمثال
هذا التصرّف تبقى عند امرئ ليس مرهف الاحساس ،تص ُّرف صديق ،ولكن أمرأً مرهف
الاحساس إلى درجة تفوق ما عند أغلب الناس ( كما شهد بذلك المطران ري ، )Reيرى في هذا
التص ّرف أعمال من يجعل نفسه " حامياً " مستعلياً .فما إِن وصل المطران غاستالدي
إلى الكاتدرائية ،واعتلى المنبر حتى أكّد بقوة " أنّ انتخابه كان عملا غير منتظر من العناية
الالهية لم تساهم فيه أي محاباة بشرية كانت ،فإن الروح القدس وحده دون سواه ولاّه رئاسة
أبرشيّة تورينو " .
كّرر هذه الكلمات عدة مرات في الخطاب نفسه وشّدد عليها على وجه غير مألوف ،فكان في
ذلك علامة ظاهرة على أنه يبغي أن ينزل عن كتفيه " كل حماية" وكان في ذلك أيضاً علامة عدم

39.4 Page 384

▲back to top


قبوله للاشاعة التي ورد فيها أن دون بوسكو حصل على تسميته وكانت الاشاعة تسري في المدينة .
كان الأب سوارازيو ( )Sorasioحاضراً فتمتم :
-هذا ينذر بالسوء لدون بوسكو . . .هذا ينذر بالسوء ! ( . . .ذكريات السيرة ،ج
، 18ص . ) 238
كتب الأب أماديي ( )Amadeiأن ذلك " أول وميض برق للزوبعة غير المنتظرة " .ولكن
رسالة 11أيار ( مايو) 1323أثارت عاصفة هوجاء ،فلم يهضم المطران غاستالدي تلك الأسطر
الاربعة َقطّ .فإن عسر على المرء أن يسمع صديقاً له يقول " :أنا حصلت لك على وسام
فارس " ،فكم بالأولى عسر قبول تلك الكلمات على رئيس الأساقفة غاستالدي " الذي كان يبالغ
في تقديره لسلطته " .حتى بعد أربع سنوات قال مستاءً للاهوتي تريسّو ( )Tressoوهو تلميذ قديم
لدون بوسكو ،حاول أن يوقع الصلح :
-إنه يتبجّح بأنه كان السبب لتسميتي مطراناً ،لا بل كتب إِل َيّ رسالة يمنّ فيها عليّ بذلك ،
ولكني بعثت بها إلى رومة لكي يروا ما هو القديس العظيم الذي يولونه ثقتهم العظيمة .
الجرائد والخلاف بينهما
أَح َسّت الجرائد العدوّة للكنيسة أنه بوسعها إِثارة نقمة المطران غاستالدي على دون بوسكو ،
ولم تدع فرصة سانحة واحدة دون أن تفعل ،فكتبت الفانفولاّ ( )il Fanfullaفي 16تشرين الأول
( اكتوبر) " : 1321لما أرادوا تسمية المطارنة للابريشات الايطالية ،عمدوا إِلى اقتراحات دون
بوسكو المقيم في تورينو ،بعد ما استدعوه خصوصاً إلى رومة " .ودعت جريدة في ميلانو دون
بوسكو " بابا بيمونته الصغير " ( وعلى رئيس الأساقفة كما يعرف الناس أن يكون بلإمرة البابا ) .
وكتبت لاغازّيتا دي تورينو ( )La Gazzetta di Torinoفي 3كانون الثاني ( يناير)
" : 1323ان دون بوسكو المشهور هو الآن في رومة ،وهو ينعم بدخوله إلى المقامات العالية في
الفاتيكان حيث ينظر إليه البابا بعين الرضا ،والأبواب مفتوحة له حتى لدى الحكومة " .وبلغ
الأمر بجريدة لالانتيرنا ديل فيكّانا و ( ( )La Lanterna del Ficcanasoفي عددها المؤرخ في 2 – 6
أيار (مايو) إِلى القول إِن رئيس الأساقفة حظر على دون بوسكو إقامة الق ّداس "ِلما لَه من العلاقات
في رومة " ،ولتحرره من سلطة المطران ،وِلسلبِه المشرفين على الموت ميراثهم .وختمت قولها :
"سنرى من سيكون أقوى أدون بوسكو أم المطران غاستالدي" .
ان هذه التلميحات من الصحافة ومن سائر الذين لا يمكننا ان نحصي عددهم َصّبت كثيرا
من الخل على القروح .
اذا اقتصر الأمر على تفسير الخلاف بين بوسكو وغاستالدي بهذه العبارات فحسب ،كان

39.5 Page 385

▲back to top


ذلك تمويهاً .فقد كان فيه نصيب لشعبيّة دون بوسكو العظيمة ،ولشدة إِحساس غاستالدي
" كان يأبى أن يعمل في تورينو عمل نائب دون بوسكو " وذلك ما قاله المطران للاّهوتي بيلازيو
)Belasio (في . 1326وكان نصيب أعظم كثيراً لأمور غيرها سنحاول بأكثر ما يمكن من الايجاز أن
نحلّ خيوطها ،وقد اختلطت بعضها ببعض وزادت تعقيداً طوال 13سنة .
عهد السلطة والسلطة المطلقة
قام رئيس الأساقفة بأشياء كثيرة لا عادة تنظيم شؤون الأبرشيّة ،ولكن الثمن الذي كلّفه
الناس ،لأجل تحقيقها كان غالياً ،من عقوبات كنيسّة ،وتصلّب ،وأوامر قابلة للجدل وطرق
بغيضة .
وكلما مرّت السنون ازداد طبعه الشديد قساوة .كان الأب سورازيو ،أمين ِسرّ إِدارة
الأبرشية ،بوافق ولا ريب في ذلك الوقت ،على بعض التدخلات الشديدة الوطأة التي قام بها
المطران ،ولكنه كتب في 1012إلى الكردينال رئيس مجمع الطقوس " :غفر لي الله .كان ذلك
العهد عهد السلطة المطلقة ،أقول ذلك لئلا أقول أكثر منه " .
كان يحرّم بشيء من السهولة على كهنته اقامة القداس ،والاستماع إلى الاعترافات ،وهما
عقوبتان شديدتان جداً في البيئة الكنسية ،فرفع كثير منهم الدعوى إلى رومة .كان في شباط
(فبراير) 1323لدى الكرسي الرسولي زهاء 38مسألة بين المطران غاستالدي وكهنة أبرشية
تورينو .
فمنذ الأوقات الأولى ،إذا لم يكن الحبل قد شُ َدّ بينهما شَداً مفرطاً ،شفع دون بوسكو بكاهن
من كييري ،فيه شيء من العناد ،ولكنه رجل صالح طيّب السريرة .ومع ذلك حظر عليه رئيس
الأساقفة إقامة القداس والاستماع إِلى الاعترافات فكان ذلك الحرم فضيحة واض ُطّر الكاهن
المسكين إِلى مغادرة المدينة لما ناله من الخجل .
والراجح أن الحادث الأشَدّ ضجة كان ما جرى للاّهوتي برتانيا ( )Bertagnaالذي أوحى
دون بوسكو إلى المطران بتسميته نائبا .علّم اللاهوت الأدبي في المركز الكهنوتي منذ اثنتي وعشرين
سنة ،فكَُفّت يده عن أعماله بغتة في 1أيلول ( سبتمبر) 1326فتح ّمل الضربة صامتاً ،ولجأ الى
بلده كاستلنوفو ،في حين أنّ المركز أُغلق بأمر من السلطة .كانت وطأة ذلك الاذلال شديدة على
الأب برتانيا فأصابه مرض جسيم .ودعاه بعد مدة في السنة 1326مطران آستي السيد
سافيو ( )Savioإليه ،وسمّاه نائبه العامّ ،وكان ُيعَدّ بحق واحداً من أحسن علماء الأخلاق في
عصره ،وفي 1331رسمه الكردينال اليموندا ( ، )Alimondaخلفُ غاستالدي ،مطرانا معاوناً

39.6 Page 386

▲back to top


لأبرشيته وأقامه لمعهد الكهنوت فيها .
وكتب في ذلك الوقت الأب لويجي تيستا ( )Luigi Testaوكان راهباً يسوعياً مسموع الكلمة
كثيراً في رومة " :لقد أصلحت كثيراً من الخلافات بين المطران غاستالدي ومختلف الأشخاص
ذوي الشأن .. .في رومة تعب أُولو الأمر من حكايات الأبرشية هذه ،وطفح الكيل فوق
الرؤوس " .
قد يكون أمراً سطحياً أن نحكم بأن المطران غاستالدي امرؤ َشرس ،فقد كان من طبيعته
متواضعاً ،سخيّاً لطيفاً .كان له " قلب من ذهب " كما يقال ولكن عندما ُت َعرض له مسائل
يعالجها ،فما إِن يشعر بأنّه يتولى سلطته الاسقفية حتى يحدث له ما حدث لكثير من الناس في التاريخ
الكنيسة ( وهو أمر اعتقد أنه يمكن قوله ) :كان يصبح متسلّطاً متصلّباً .إِن هؤلاء الأشخاص
يتصرفون تص ّرفاً " لا رحمة باسم الله " .يستشعر المرء فيهم ممّثل القدير على كلّ شيء ،أكثر مما
يستشعر ممثل الن َجّار ابن الله الذي جعل نفسه خادم العباد ،والذي غسل أقدام سائر العباد
وارتضى أَن ُيصلب .
الموضوع الأول ،قّلة الانضباط
استعمل تصلبه ،وقد زاده شدّةً خوفه من أن يبدو " صنيعة دون بوسكو " لأنظار أهل
أبرشيته ،فأساءَ للرهبانية السالسية الفتية ،وهي كالعشب في أوّل ما ينبت .
كان أول موضوع حمل عليه " ِقلّة الانضباط " في المصلّى .كتب بيترو ستيلا
" : )Pietro Stella (كان يسوءه ما في المصلّى والرهبانية السالسيّة من حماسة بركانية .إنّ دون
بوسكو يمسك بزمام الأمور بيد حازمة ،ولكن َرّبما بدا ك ٌلّ من المصلّى والرهبانيّة صاخبة لا
نظام فيها ،من القوى غير المتماسكة ،وقد ُتضطَرّ السلطات الشرعية إلى التداخل في مستقبل
قريب على نحو مؤلم " .
وكان قوم آخرون في تورينو قد استاؤوا من جوّ الالفة الصافية الذي يشيعه فرح دون
بوسكو .كتب المطران غايتانو طورطوني ( )Gaetano Tortoneالقائم بالأعمال من قِبَل الكرسي
الرسولي لدى حكومة تورينو في السنة 1313في تقرير طويل " :شعرتُ شعوراً أليماً ج ّداً ّلما رأيتُ
في ساعات اللعب هؤلاء الشمامسة المختلطين بسائر الشبان يتعّلمون صناعة الخّياط أو النجار أو
الحذّاء الخ . . .يركضون ويلعبون ويقفزون بقليل من الوقار . . .َيس ُرّ دون بوسكو ال َطّيب
السريرة أن يكون طالبو الكهنوت خاشعين في الكنيسة فلا يُعنى بان يلقّنهم مشاعر الوقار الموافقة

39.7 Page 387

▲back to top


للحالة التي يريدون اعتناقها " .
في رأي المطران طورطوني أنه كان يجب على دون بوسكو أن يعلّم الشمامسة أن " يجعلوا
فاصلاً" بينهم وبين السوقة كالخياطين والحذائين ،وذلك أبعد ما يكون من شعور دون بوسكو .
سبب آخَر للتوتّر
يبدو أنّ المطران غالستالدي أراد أن يداوي بنفسه " قلّة الانضباط " هذه .نُورِد الحادثين
غير الخاليين من الغرابة الّلذين لم نفلح في تفسيرهما على وجه تام ولربّما أخفيا سبباً آخر للتوّتر .
ما إن وصل رئيس الأساقفة الجديد حتى مرض دون بوسكو مرضاً شديداً في فاراتسي
)Varazze(كما شرحنا آنفا ،فعلم المطران غالستالدي بذلك وعرف فداحة المرض فسأل الأب
كالييرو :
-كم عدَدُ الراسخين الحازمين منكم في دعوتكم ؟
-أكثر من خمسين .
-وإذا اتّفق لأبيكم دون بوسكو أن يموت ؟
-نبحث عن ع ًمّ يخلفه .
-أ َجل ،أجَل ولكن لنتمَ َنّ من الله أن يحفظه .
عَّلق الأب أماديي ( )Amadeiعلى ذلك بقوله " :بدا للأب كالييرو أ َنّ المطران فكّر أ َنّ
السالسييّن ،اذا مات دون بوسكو في ذلك الحين ،يلتمسون منه أَن يديرهم " .وكان شعور الأب
مارينغو ( )Marengoأيضاً مثل ذلك ،فقال ،بعد ما روى له الأب كالييرو مواجهته للمطران :
" إنِّه َلشَ ٌرّ أقلّ أنك لم تقل أكثر من ذلك ،ولو اقترحت اقتراحاً لكنت اسأتَ إلى الرهبانية " .
لما عاد دون بوسكو من فاراتسي معافى ،ذهب رئيس الأساقفة ليسلّم عليه .روى الأب
أَنفوسّي ،وكان حاضراً في فالدوكّو بينما الصبيان يحاولون ارتجال كلمة ترحيب " ،رأيت رئيس
الأساقفة ينزل الدرجات بخطى سريعة ج ّداً حتى لم يكن بوسع دون بوسكو أن يتبعه ،ولم يحفل
بتحيات الصبيان ،فقلت لدون بوسكو :انتهى العيد نهاية سيئة .هل حدث أمر ؟ فأجاب :
ماذا تريد ؟ إن رئيس الأساقفة يودّ أن يرئِس الرهبانية وذلك غير ممكن ،على كل حال
سنرى ( " . . .ذكريات السيرة ،ج ، 218ص . ) 311
أي اقترح عملي كان المطران غالستالدي يقترح ؟ أأن يعود دون بوسكو إلى الوراء ،ويكتفي
بأن يجعل السالسيين رهبانية تابعة للأبرشية ؟ ذلك هو الرأي الأرجح ،ولكن أتُرى من باب
المجازفة الاعتقاد بأنّه كان يعّلل النفس بخ َطّة تجعله الرئيس الفعلي للرهبانية السالسيّة ؟ في السنة
1321كتب إلى الكردينال بيزّارّي ( " : )Bizzarriلدون بوسكو ملكة تربية التلاميذ الصغار ،

39.8 Page 388

▲back to top


ولكنه يبدو أنّه ليس له هذه الملكة لتربية رجال الكنيسة " .وكان غاستالدي يعتقد أنه حاصل على
هذه الملكة فبوسعه أن يقبض بحزم على زمام الرهبانية " ويضع كل شيء في مكانه " فيبقى دون
بوسكو ،وقد أصبح منهوك القوى " ،الأب" الحنون للمصلّى .
ولما تلاشت هذه الامكانية أخذ المطران يفرض على السالسيّين نظاماً شديداً كالحديد ،تح َّول
بوضوح إِلى اضطهاد ،فكان كل نقيصة أو تأخير يو َصف بأنه " عصيان " أو " تمرّد " أو " قلة
انضباط " ،وتفصيل ذلك قلّة ذوق ،فإِن الهراءَ يظ ُلّ هراء .
الموافقة النهائية على القوانين
في 38كانون الأول ( دسمبر) 1323ذهب دون بوسكو إِلى رومة ،وكانوا لدى الكرسيّ
الرسوّلي بعد المرجعات المُضنية وإِعادة النظر يناقشون المسألة الحَيويّة للرهبانية السالسيّة ،وهي
الموافقة النهائية على القوانين .
سمّى البابا لجنة مؤَلّفه من أربعة كرادلة ،فطالت المجادلات والتصويبات المتوالية للنصّ
حتى شهر نيسان ( ابريل) ،فتدخّل المطران طالباً ألاّ يُوافق على القوانين ،فكتب إلى الكردينال
بيزّارّي ( )Bizzarriرأيه الذي أوردناه آنفا وهو أن دون بوسكو يصلح لتربية الأحداث ولكنه لا
يصلح لتربية الشمامسة والكهنة .
في أول نيسان اقترعت لجنة الكرادلة اقترعها الأخير فوافق ثلاثة منهم وخالف صوت
واحد ،فبلغ بيوس التاسع أنه ينقص صوت لحسم الجدال ،فأعلن " :أن ذلك الصوت سيكون
صوتي " .
كان ذلك في 3نيسان وبعد عشرة أيام ُنشرت الموافقة النهائية على القوانين السالسيّة .كانت
الرهبانية بإمرة البابا على وجه حاسم ،فانه يمنح دون بوسكو لعشر سنوات الح َقّ بان يق َّدم أي
سالسيّ كان للرسامات الكنسيّة .
ولكن الأمور في تورينو لم تتب َّدل .
جدول " الاجراءات التأديبية "
في 16كانون الأول ( دسمبر) اضطُرّ دون بوسكو إلى أن يعرض في كتاب إلى الكردينال
فرّييري ( )Ferrieriلأهمّ " أسباب الاختلاف " ،وهذا جدولها :
-في أيلول ( سبتمبر) 1322ُحرِم دون بوسكو سلطَةَ الاستماع إلى الاعتراف ( عّلق
النائب الاسقفي زبّاتا Zappataعلى ذلك في سورة غضب :إنِّما هذه امور تُنزل بالسكيرين ! )

39.9 Page 389

▲back to top


فاض ُط َرّ دون بوسكو إِلى ترك تورينو ،لأنه كان من عادة الأحداث أن يعترفوا عنده .ولم يُبيَّن
رئيس الأساقفة قطّ أسباب ذلك الإجراء ،
-ُيح َظر وعظ الرياضات الروحيّة في بيوت السالسيّين على معّلمين من خارجها ،
-إِلغاء الإِذن بالوعظ الممنوح بعضَ الكهنة السالسيّين ،
-رفض رئيس الأساقفة منح سرّ التثبيت صبيانَ المصلّى وحظر أن يمنحهم إِيّاه أساقفةٌ
آخرون .
عّلق دون بوسكو في رسالته بقوله " :إن هذه الاجراءات تَُتّخذ لأسباب خطيرة ،ولا علم
لنا بها ،الأمر الذي يدعو إلى الاستياء في المدينة " .
وفي 22اذار ( مارس) 1323أطلع دون بوسكو الكردينال اوريليا ( )Oregliaعلى جدول
جديد من الاجراءات التأديبية :
-أُنِذر دون بوسكو بأنه سيُحرَم لوقته سلطةَ الاستماع إلى الاعترافات ،إذا كتب أي شيء
لا يوافق رئيس الأساقفة في رسائل غير الرسائل إلى البابا والكردينال أمين ِسرّ الدولة والكردينال
المسؤول عن الرهبان ،
-عوقب أُناس من الكهنة السالسيين بالربط الكنسي ،ولا يزالون على هذه الحال منذ
ثمانية أشهر ،
-ُترَفض الرسامة للشمامسة السالسيّين الذين يُقَ َدّمون له ،الأمر الذي يسّبب أذى كبيراً
لِدُور السالسيّين ورسالاتهم .
ولكن المطران كان يرسل هو أيضاً إلى رومة جداوله .كتب الأب تشيريا " :ان الشكاوى
المتواصلة من غير انقطاع لأيّ سبب يرى فيه المطران مأخذًا على دون بوسكو ورهبانيته ،أدّت آخر
الأمر ِإلى بثّ سوء السمعة عند الكرادلة الذين لم يكونوا م ّطلعين ِإطلاعاً صحيحاً على
الاحداث."فإن الكردينال ف ّرييري ،على سبيل المثال ،قاوم السالسيّين ،لأنه اقتنع أنهم
" كومة مصطنعة من الناس لن يُكتب لها أن تدوم " .
ولكن ما آلم دون بوسكو أكثر من أي شيء سواه هو أن بيوس التاسع نفسه الذي كان دائماً
أبداً صديقه وحاميه ،أخذ يُظهر الفتور في شأنه .كتب الأب تشيريا " :إن نعت دون بوسكو على
نحوٍ متواصل بأَنه امرؤ عنيد متم ّرد أثَّر أيضاً في شعور البابا " .
مات بيوس التاسع في 2شباط ( فبراير) 1323وكان دون بوسكو حينذاك في رومة يقرع
جميع الأبواب ليحصل على مواجهة فلم يمكنه أن يراه م َرّة ُأخرى .
البابا الجديد يمتحن دون بوسكو

39.10 Page 390

▲back to top


كان البابا الجديد الذي انتخب في 28شباط ،لاون الثالث عشر ،فاستقبل دون بوسكو
أول مرة في 12آذار ( مارس) فكتب دون بوسكو وصفاً لتلك المواجهة بلهجة الظفر :رضي البابا
أن ُيكتب بين المعاونين ،واعترف أَ َنّ " أصبع الله " في المشروعات السالسيّة ،وأَرسل بركاته
الحارّة إلى المرسلين ،وذكر الوصف مسألة واحدة بسرعة :أمّا مسألة "خلافاتنا مع رئيس أساقفة
تورينو ،فقد قال إنِّه ينتظر تقريراً رسميّاً من مجمع الرهبان ."
وأمَّا في حديثه الخاصّ إلى بضعة سالسيّين ،فقد كان كلام دون بوسكو أق َلّ فخراً " :فقد
أفهم البابا بوضوح كم عانى لأنه مُنع مراراً أن يواجه البابا ،وحُ ِجزت رسائله ،وتعرّض كثيراً
للمقاومة في السِرّ والعلانية من عدّة جهات ،وتلقى عبارات قاسية مُ ِذَلّة " .
من الواضح أ َنّ البابا كان ُم َّطلِعاً على المنازعات الشديدة المتراكمة فوق رأس هذا الكاهن من
تورينو ،والتي تنذر بالسوء ،وإِذا عامله بلطف في لقاءاته الرسمية ،فقد اهتّم بأن يرى الأمور
رؤية جليّة ،اذ كان في حاشيته أعداء لدون بوسكو كُثُرٌ أشِدّاء المراس .
كان من أكثر أصدقاء دون بوسكو وفاءً له في ذلك الوقت ،الكردينال اليموندا ( )Alimonda
وكان يبحث عن وسيلة يثبت فيها للاون الثالث عشر قداسة دون بوسكو ،وتكون برهاناً ذا شأن
يُظهر ك َلّ ما لهذا الكاهن المسكين من قيمة .
وكانوا في ذلك الزمان يحاولون أن يبنوا في رومة كنيسة لقلب يسوع الأقدس .وكان البابا قد
ساهم مساهمة كبيرة بشخصه فدعا مطارنة العالم كلّه إلى تأييد المشورع ،فجُمِعت الهبات في ُأمَم
كثيرة ،ومع ذلك توقفت الاعمال قبل أن يرتفع البنيان عن وجه الأرض فخارت عزيمة البابا ،
وعليه تدخّل الكردينال أليموندا وقال :
-أيها الأب الأقدس أَقترح عليك وسيلة مضمونة لنجاح المشروع .
-وما هي ؟
-أن ُيعهد به إلى دون بوسكو .
-أو يَقبل دون بوسكو ؟
-أيها الأب الأقدس ،إني أعرف دون بوسكو وتكريمه التام المطلق للبابا ،فإذا عرضته
قداستك عليه ،فإني على يقين تام من أنه سيقبله .
كان دون بوسكو حينذاك يختنق لكثرة ما عليه من أعباء .كان يبني كنيستين :كنيسة لمار
بوحنا البشير في تورينو وكنيسة السيدة مريم معونة المسيحيين في فاللي كروزيا ( )Vallecrosiaوقد
شرع في بناء ثلاث دُور :في مرسيليا وفي نيس ( )Niceوفي لاسبيسيا ( )La Speziaوكان في سِنّ
الخامسة والستين .
في 2نيسان ( أبريل) 1338دعاه لاون الثالث عشر وعرض عليه الأمر ثمّ أضاف أَنه إِذا
قبل أتى عملاً مقدّساً ،َيسُ ُرّ البابا سروراً عظيماً فأجاب دون بوسكو :

40 Pages 391-400

▲back to top


40.1 Page 391

▲back to top


-إِن رغبة البابا هي عندي أمر .أقبل ما عهدت به اليّ قداستك في لطفها .
-ولكن لن أستطيع أن أُعطيك مالاً .
-إني لا أطلب شيئاً .أطلب بركتك فحسب ،وإذا أ ِذن لي البابا فسوف نبني بالقرب من
الكنيسة مصلّى وداراً كبيرة يمكن أن يوُ َجّه فيها كثير من الأحداث المساكين إلى الدروس والفنون
والصناعات ،ولا سّيما من كان منهم في هذا الحيّ المُهمَل .
-حسن ج ّداً .إِنّي أُباركك وأُبارك جميع من يساهمون في هذا المشروع المقدس .
دعوى في الفاتيكان
وازدادت العلاقات برئيس الأساقفة سوءاً في تلك الأشهر ،فاضطُرّ دون بوسكو للدفاع عن
رهبانيته ،إلى رفع المسألة إلى الفاتيكان طالباً أن يفتح فيه دعوى قانونية .
قالت لورينزينا مازي دي لاروش ( )Larenzina maze de La Rocheبنت أُخت رئيس
الأساقفة حين جرى البحث في مسألة إِعلان دون بوسكو طوباويّاً ،بعد ما أدتَ اليمين :
" قامت منذ السنة 1323منازعات بين دون بوسكو والمطران غالستالدي خالي الم ّكرم .
علمت هذه الخلافات من الِإشاعات بين الناس وبما أسَرّه دون بوسكو إل ّي وإلى والدتي ،وهو يحثّنا
على أَن نجد وسيلة نُ ُطلع بها سيّدنا رئيس الأساقفة إِطلاعاً مباشراَ على الحكيات الملفّقة التي تروج
على الخصوص بين رجال الكنيسة ،وتروج أيضاً في الصحافة ،فتُسيء إلى الفريقين .إ ّن تلك
الخصومات كانت شوكة دائمة في قلب أمّي وفي قلبي .
كان يظهر في كل ما يقول دون بوسكو لأمي ولي بنفسي في هذا الموضوع ،كم كان ُيعاني
بسبب هذه المحن ،ولكنّه كان يتكلم دائمًا على رئيس الأساقفة بكثير من الوقار والمحبة حتى إِنه كان
قدوة حسنة .
وجدتُ في دفتر ذكرياتي لتلك السنوات كلماتي التي قلتها أنا بنفسي :لماذا تب ّدل خالنا
المطران هذا التبدل ؟ آه إِنّ الذي قام بإيقاظ هذا الخلاف سيشعر ولا ريب بندم شديد .
يبدو لي أنّ واحداً من أهم المسؤولين عن هذه المنازعات كان أمين س َرّ خالي رئيس الأساقفة
أي اللاهوتي توما كيوزو ( )Chiusoالذي مات منذ عدة سنوات .فيه افكّر وأنا أكتب هذه العبارات
المذكورة آنفا .فقد دعيتُ كثيراً إِلى مائدة خالي رئيس الأساقفة فسمعتً كلام الهزء والسخرية على
أهل فالدوكّو والأخرى على أهل " هناك " .
دَ َوّنتُ في دفتر ذكرياتي هذه الكلمات لدون بوسكو " :مهما أراد المرء أن يكون حازماً ملازماً
الشجاعة ،فإن قلبه المسكين يتأثر ويتَفطّر لِما يتراكم فيه من الاشمئزاز على الاشمئزاز " .لم أرَ قَطّ
طوال حياتي منظر دون بوسكو يتغير ،بيد أ ّن وجهه في ذلك اليوم كان يصفرّ تارة ويحمّر تارة في اثناء

40.2 Page 392

▲back to top


حديثه .
ويجب عليّ أن أشهد من جهة أخرى أن خالي المَوّقر كان يبدو ،وهو يحدّثني ،مغتمّاّ لا في
كلامه بل بِما يظهر عليه من الحزن ،لأنّ علاقاته بدون بوسكو لم تكن في ذلك الوقت كما كانت في
أوّل المصلّى ."
فُحصت الدعوى بين دون بوسكو ورئيس الأساقفة في 12كانون الأول ( دسمبر) فاشترك
فيها ثمانية كرادلة فأوقف البابا المناقشة ،بعد ما ا ّطلع على محضر الجلسة ،وقال للكردينال نينا
)Nina (المحامي الرسميّ للسالسيّين " :يجب إِنقاذ السلطة .إن لدون بوسكو من الفضيلة ما
يجعله يتكيّف وك َلّ شيء " .تلك وسيلة أخرى أراد البابا أن يستعملها ليق ّدر قداسة دون بوسكو .
كأس مرّة لدون بوسكو
حدّد البابا نفسه الشروط " للوفاق" فانتقى كلمات لا يجدها المرء إلاّ في الوثائق الديبلوماسيّة
المحنّكة ،ومع ذلك كانت الخلاصة واضحة ج ّداً لا تَدع المكان لأيّ َمهرَب كان :يجب على دون
بوسكو أن يكتب رسالة يلتمس فيها عفوَ رئيس الأساقفة ،ويجب على رئيس الاساقفة أن يُجيب أنه
سعيد بدفن الماضي .
وجَدَ دون بوسكو الكأس ُمرّة ،فجمع الهيئة الاداريّة للرهبانيّة وتلا عليها نصّ " الوفاق"
فاغتّموا جميعاً ،فعرض واحد منهم أن ُتطلب مهلة للتفكير فَحَسم الأب كالييرو المشكلة
بصراحته " :َتكَلّم البابا فوجبت الطاعة .إن البابا قرر ذلك لأنه يعرف دون بوسكو ويعلم أنّه
يمكنه الوثوق به فلا حاجة إلى انتظار أي شيء كان :الطاعة ولا شيء آخر " .
كتب دون بوسكو الرسالة ،فأتاه الجواب " :إني أمنح العفو من كل قلبي ."
كتب بعدئذ من غير ابطاء الى الكردينال نينا ( )Ninaرسالة تًمكّن المرءَ من أن يًقدّر طعم
العلقم الذي اض ُط َرّ إِلى ابتلاعه والنتائج المرّة التي أخذت تحدث :
" إِن رجال ديوان المطران يُهََنّئون بعضهم بعضاَ بأسباب الإِذلال التي أَنزلزها بدون بوسكو .
إِن هذه الثرثرة تُشاع مشوّهة ،ويُساء تفسيرها فتسحق السالسيّين المساكين .فقد طلب ُمعَلّمان
رئيسان لبيتَين الخروج من رهبانية يبدو لهما أنها صارت موضوع سخرِيّة السلطات ،وهناك آخرون
من كهنتنا وشمامستنا يطلبون ذلك الطلب أيضاً ،ومع ذلك أُريد أَن ألزم الصمت التامّ ،كما
كتبتُ إلى نيافتكم " .

40.3 Page 393

▲back to top


حكيم أصابه الفناء
قام منذ ذلك الحين البابا لاون الثالث عشر ،وهو بابا عظيم ج ّداً في تاريخ الكنيسة ،
بأعمال لطف سامٍ في سبيل دون بوسكو ،فهو الذي أقام الأب يوحنا كالييرو أ َّول مطران
سالس ّي ،ومنح الامتيازات التي جعلت الرهبانية معافاة لا عشر سنوات فحسب بل إِعفاء دائماً من
سلطة المطارنة في المسألة الحرجة ،مسألة الرسامات.
ولكنه لّما انتُ ِخب بابا ،وجد في الفاتيكان بيئة عدُوّة لدون بوسكو ،فقدّر ما عنده من
القداسة ،بامتحانَين .
إذا أراد المرء أن يعرف هل في حجرة ذهبٌ ،فانه ُيلقيها في البوتقة في حرارة صاهرة ،فإِذا
خرج منها ذهب فهي معدن ذو قيمة وإلاّ فإنها نفاية .أمتُحِن دون بوسكو هكذا ،فخرج منه ذهب
خالص ،ولكن طبيعته البشرية فنيت واحترقت كما كتب موران فيرث ( : )Morand Wirthلم يبقَ
دون بوسكو منذ 1331سوى ظلّ دون بوسكو .
إن التماسه عفو رئيس الأساقفة الذي جلده عشر سنوات كلّفه ثمناً غالياً ج ّداً ،ولم يولد ،
كما قلنا ،ليعرض الخدّ الآخر ففرضه على نفسه فرضاً ،وبذل جهداً شديدًا عليه .إِن بناء كنيسة
القلب الأقدس التي ابتلعت مليونا ونصف المليون من الليرات اض َط َرّته في سنين ضعفت فيها
قواه ،إلى متاعب تفوق قوة الانسان .
تقبل ما ُفرِض عليه لإيمانه بنائب المسيح ،ولحَبّه لرهبانيّته التي كانت تحتاج احتياجاً مطلقاً
إِلى تقدير البابا .
خرج دون بوسكو من امتحانَيه حكيماً ولكنه فني ،ولذلك ازدهرت رهبانيته ازدهاراً رائعاً :
فقد ولدت من كاهن ُصلِب .
11
الرحلات الكبيرة :فرنسا واسبانيا

40.4 Page 394

▲back to top


بدأ صليب كنيسة " القلب الأقدس" يعمل في دون بوسكو ،فأرسل أ َّول مرّة إِلى رومة
الأب دلماتسو ( )Dalmazzoثم الأب أنجلو سافيو ( )Savioللا ّطلاع على العمل و " تفتيش
النفقات ."من سوء الطالع أنه رومة تقليد شائع ،وهو "أنه في أعمال البابا مأكل لجميع
الناس ."بلّغ دون بوسكو الأب دالماتسو عدة طلبات ألح فيها ومعناها " :هل هناك مفتش
للموادّ التي ُتسَلّم أم لا ؟" " ،راقب الأسعار" " ،العمل قليل .يُسرق في البيت وفي خارجه .
يُتلفون الأثاث ولا سّيما الطاولات " " ،إِقامة خبير للمراقبة " . . .
ثم إنِّه سيرّ لوقته الجهاز الذي اختُبِر مرات كثيرة لجمع المال ،من رسائل عامة بعدّة لغات ،
ويانصيب ،واكتتابات ورسائل شخصية .إِن هذا الجهاز ليس عصا سحريّة :إنّه يتطلب متاعب
وأسباب اذلال وتفتيشات وعبءاً ثقيلا على كثير من إِخوانه وأمّا ال ِحمل الأثقل فقد جعله دون
بوسكو على كتفيه .
" َأحمل كنيسة القلب الأقدس على كتفي "
شهد الأب روا بعدما أدّى اليمين في أقواله لإِعلان دون بوسكو طوباويّاً " :كان يتك ّدر المرء
إذا رأى دون بوسكو يصعد وينزل السلالم ليطلب الصدقة ،فيعرّض نفسه للاهانات الشديدة ،
وقد عانى كثيراً في بعض الأحيان حتى إنّه أجاب اذا خلا بذويه وسألوه ،وقد رأوه محنّياً ،كيف
يستطيع امرؤ أن ينحني ذلك الانحناء :أَحمل كنيسة القلب الأقدس على كتفي .وقال مرة أُخرى
مازحاً :يقال إِن الكنيسة ُتض َطهَد وأمّا أَنا فيسعني القول إِنّ الكنيسة هي تَضطهدني .يمكن القول
أن ذلك المشوع استنزف شيئاً كثيراً من قواه فضلاً عن سوء حالته الصحّية منذ عدة سنوات " .
وأشدّ التعب الذي تحمّله هو رحلته إِلى فرنسا ،وقد قام بها وهو يشحذ من مدينة إلى مدينة
أربعة أشهر من 11كانون الثاني ( يناير) إلى 31أيار ( مايو) 1333
نُبيح لنفسنا أن ننّبه الأذهان في معرض كلامنا لهذا الأمر ،وهو أ َنّ دون بوسكو في الثامنة
والستين من عمره ،لم يبقَ من الحياة سوى خمس سنوات .إن رهبانيته قد نمت نم ّوًا واسعاً ،
ويجتاز العالم مرحلة من أشَدَ المراحل في إِعادة تنسيق الأفكار والأنظمة ،فكان دون بوسكو يحتاج إلى
التصرف بجميع وقته ،ليحاول جمع فكره وحدسه وهما أشبه بأساس مشروعاته .كان عليه أن
يستعمل ما بقي له من الوقت لُيعيد الفكر في خُطط عمله في بيئة اجتماعية تتبدّل تبدّلاً سريعاً لكي

40.5 Page 395

▲back to top


ينظم الرهبانية تنظيماً متيناً .
فكان الأمر خلاف ذلك إِذ ُأض ُطرّ في السنوات الأخيرة من حياته وهو حسن الصحة إلى
" جميع الفلوس" لبناء كنيسة .ويا ليت الفلوس تُجمَع لسد حاجات الأحداث الفقراء .كانت
تجمع لجدران كنيسة في رومة .فإن هذه الحكاية محّيرة من الأعلى إلى الأسفل .
ولكن هذه السنوات التي " ذهبت فريسة النار " اضطَ َّرت في الوقت نفسه دون بوسكو إِلى
رحلتين كبيرتين ( فرنسا واسبانيا) عادتا بالظفر على " رجل الله" .فقد أتاحتا له الفرصة السانحة
ليلهب " الشعور بالله" في جماهير شعبية ضخمة .
كان ماركس قد عرّف ال َدّينَ بأَنّه " أفيون الشعب" وكان الفوضوي باكونين ( )Bakunin
يفرض على أَتباعه شهادة صريحة بالإِلحاد ،وكانت حكومة باريس الثورية لعهد قريب قد أظهرت
علامات واضحة للإِلحاد المجاهد .كتب فرنسيس ترانِيلّو ( " : )Tranielloكان على الكنائس
المسيحية أن تحسب حسابها لا لمجابهة أحداث كفر تقتصر على جوانب ضيّقة من البيئات الحاكمة بل
لتجابه ابتعاداً كبيراً في طبقات اجتماعية كثيفة عن العمل بشعائر الدين والطاعة للكنيسة " .
كان المجتمع كلّه يفقد الشعور بالله والحرمة الالهية للحياة البشرية .في أيام الحكومة الثورية
لم يكن كفر الثائرين الملحدين أسوأَ من كفر أَهل الطبقة البورجوازية ،الذين أخمدوا الثورة بطلقات
المدافع ،وأبادوا 11ألف عامل ،وكان العمال في ذلك الوقت رجالاً ونساء وأولاداً .
إِن آخر ما عاناه دون بوسكو من تعب لم يكن في سبيل كنيسة أو أحداث فقراء بل في سبيل
جيل بأسره كان يتهدّده الخطر بأن يفقد الشعور بالله وبأعظم قِيَم الحياة ،فقد استعاد هذا الجيلُ
عن يده في فرنسا واسبانيا الشّعورَ بالله .والميل إلى البذل في سبيل الآخرين .
التهبت باريس
نتبع رحلة دون بوسكو إلى فرنسا نقلا عن رواية دقيقة لهنري بوسكو وقد انشاها لا بالاستناد
إلى الوثائق السالسيّة فحسب بل إِلى الجرائد الفرنسية في ذلك الحين أيضاً .
كان ،حين ذهب ،يكاد لا يرى شيئاً فعلاً ،وكانت رجلاه تكادان لا تحملانه وكان يُعاني
من الدوالي .كان جسمه منهوك القوى على وجه تامّ .دخل فرنسا من نيس ولم َت ُعد إِيطاليّة منذ
ثماني عشرة سنة فقط ،وصعد إِلى باريس بعدما مَرّ بطولون ( )Toulonومرسيليا ( )Marseille
وأفينيون ( )Avignonوليون ( ) Lyonومولان ( )Moulinsوكان صعوده بطيئاً دام شهرين و 10
يوماً .وما من أحد توقّع ،وما توقّع هو أقلّ من غيره ،الانفعالَ العظيم والحماسة وت ُّجمع الشعب
والتهاب الايمان وكل ما سببّه حضور " كاهن من الريف مسكين" .

40.6 Page 396

▲back to top


نصح له قوم " ح ِذرون " فقالوا " :لا تذهب إلى فرنسا ،فإنهم يبنون في باريس كنيستهم
الكبرى للقلب الأقدس في مونمارتر ( )Montmarterكلّفت ملايين ولم تَتِمّ .من يعطيك
فلساً ؟ " .وقد خ َطّأَ دون بوسكو مرّة أخرى القوم " الح ِذرين " .ففي أفينيون ( )Avignon
احتشد الجمهور في المح ّطة وجرى الناس وراء عربته ،واقتطعوا بالمقصات قطعاً من ثوبه فاضطُ َرّ
معاونوه إلى أن يأتوه على جناح السرعة بثوب آخر .
امتلأت الكنائس في ليون ،وطوّقت العربة التي قدّمها له مضيفوه ليستعملها ،وأوقِفت
ومُنعت من السير ،فصاح حوذ ٌيّ وقد أغضبه هيجان الجمهور " :إِن السير بالشيطان أيسر من
السير بكاهن مثل هذا " .
كان يُخشَى ان يُمنى دون بوسكو في باريس باخفاقٍ تامّ .كانت ايطاليا الرسمية قد انتقلت من
تحالف وفرنسا إلى تحالف والمانيا والنمسا في معاهدة التحالف الثلاثي .وكان دون بوسكو إيطاليّاً
فضلاً عن أَنّ الحكومة الفرنسية كانت عدوّة لرجال الكنيسة .
رحّبت باريس ،على ما فيها من شدة التحسّس ،برسول الفقراء واستقبلته بحرارة
شديدة .وصل إليها في 10نيسان ( ابريل) 1333وبقي فيها خمسة أسابيع ( ما عدا جولة صغيرة
في مدينتي أميان Amiensوليل . )Lilleاستقبلته ُأسرةٌ باريسية صديقة في الرقم 31من جادة
مسين ( ( )Messineفي الحي السابع) ولكنه كان يذهب بعد الظهر من ك َلّ يوم إِلى شارع
لافيل ليفيك ( )la Ville- Ievequeعلى غير بعد من كنيسة المادلين ( ،)Madeleineإِلى دير رهبان
القلب الأقدس ،لكي يستقبل زائريه ويخَفّف عن الذين أضافوه ضغط الجمهور وقد وثب إليه
لوقته .
كان الناس يقولون " :إنه قدّيس" .في هذا القول خطر ،فقد حاول كثير من الناس أن
يشكّوا فيه ،وكان شيء طفيف جداً كافياً لكي يَتَحَ َّول ك ُلّ شيءٍ إلى السخرية .وكان يدع يص ّوره
كل من شاء ذلك ،فيُصَ َوّر وحده أو مع جماعة من الناس ،فلاموه في ذلك على أنّه إِعجاب
بنفسه ،فكان جوابه " :هذه وسيلة حسنة لا لكي أُ َعرَف بل لكي َيهتَ َمّ الشعب بمشروعي " .
وس ّهل كذلك عمل كَتَبة سيرته كالدكتور ديسبيني ( )dEspineyالذي كان أ َوّل من كتب سيرته
بالفرنسية :كان في كتابه أخطاء جسيمة ولكن طُبع منه خمسون الف نسخة في بضعة أشهر .
صورة شمسية في باريس
هناك صورة شمسية لدون بوسكو ،وهي اشهر صُ َورِه في باريس .إِن وجه دون بوسكو في
هذا الرسم ،وجه شيخ منهوك القوى ،محطّم ،حَفرَت الأخاديد جبهته ،وعاث التغَضّن في
جبينه وتهدّل فمه من كل جهة ،وقد شوّهه تعب لا يطاق ،وغارت العينان وراء حاجبين كثيفين ،

40.7 Page 397

▲back to top


لا تدعان يمرّ سوى شعاع ضئيل من النور ،لقد كاد البصر ينطفئ .إِن الشخص الذي يحيا خلف
هذا الوجه يعرف معنى الأَلم ألمه وألم سائر الناس ،وقد جعلهم ذويه ،وأنقذهم لكي يخ َفّ عذابهم
وهم يحيون في هذا العالم ،ويروا السماء ساعة موتهم .كان يُتَوَقّع لأول وهلة أن يوحي هذا الوجه
الشفقة أكثر منه الحماسة .
وتٌرى في هذه الصورة يدا دون بوسكو ،وهما يدا عامل كريم الخلق ،عامل يعالج الحياة
بقوة .انبسطت هاتان اليدان لتباركا المرضى ولتداعبا الأطفال وتشفيا كما يشفي ماء لورد
. )Lourdes (لما رأى الباريسيّون تينكَ اليدين ،لم يشفقوا على دون بوسكو ،بل التمسوا منه أن
يُشفق عليهم .رأوا فيه رسول الرجاء ورسول الله والمو َزّع الذي أرسلته العناية الالهية ،ليمنح
الشفاء والِنعَم .
في تلك الأيام قرأ الناس في الفيغارو ( " : )Le Figaroأمام بيت لافيل ليفيك ،حيث نزل
دون بوسكو ،وقفت أرتال من العربات طوال النهار منذ اسبوع .إِنّ أعظم السيدات يتوسلن إليه
أن ُيجري المعجزات لهنّ ولأهلهن ،وهو يجري تلك المعجزات بسهولة كبيرة ،على ما يقال " .
وكتبت مجلة البيلران ( " : )Le Pelerinكانوا يَروون ويخترعون المعجزات . . .وكانت
سيّدات الطبقة العليا يجرين وراء آثار القديس الذي لا يُبالي بتصفيق الناس ،ولا يُعِ ُدّ العظات التي
يفوه بها في كنيسة المادلين ،أكثر مما ُيعِ ُدّ ما يقوله لشحاذ ،ويمنح من وقته عاملاً على قدر ما يمنح
أميراً " .
يوم كاهن مسكين
إنّه ينهض من النوم مب ّكراً جداً ،في الساعة الخامسة ،ويذهب للنوم في نصف الليل منهوك
القوى .تبتدئ الزيارات في الساعة السادسة ثم يذهب ليُقيم القداس في هذه الرعية أو تلك ،
والناس يتر َصّدونه عند خروجه ،فيزحمونه بطلباتهم ،ويطاردونه بالتماساتهم ،ويُقبلون عليه
بتو ّسلاتهم وصلواتهم .يريد الناس أن يكلّموه وأن يلمسوه وعلى الأقلّ أن يروه .يوقفونه في كُ َلّ
مكان ،في السلمّ ،وفي الرواق ،وعند باب الموهف ،وفي الشارع .إن لغته الفرنسية رديئة
ولهجته لهجة الغرباء وبلاغته بسيطة .
بينما هو يتأهب لإِقامة القداس في " أَخوية توبة الخاطئين" ،احتشد جمهور ضخم فأراد
بعضهم أن يدخل ،فلم يسعه الدخول فاستغرب الأمر وقال " :ما الخبر؟ " ففسرت له امرأة ما
يحدث " :جئنا لنحضر القداس ،قداس الخاطئين .إِن قديسا سيقدّس ."
عندما يطلبون إليه معجزة " من عنده " يجيب " :إِني خاطئ ،صلوا من أجلي ،ولكن
لنرفع دعاءنا إِلى السيدة مريم معونة المسيحيّين ،فهي التي تشفي ،وتستجيب ،وتفهم ،

40.8 Page 398

▲back to top


وتشفق ،إنها تجيب من السماء ،وّأ َمّا أنا فليس بوسعي سوى أن التمس منها ."ولكن عندما
يلتمس " هكذا الكاهن المسكين " شيئاً منها ،فإن السيدة تجيبه دائماً ،فكأنها هنا بالقرب منه ،قد
جعلت نفسها في متناوله .
رحّبت به أعلى السلطات ترحيباً ودّياً فانتظره الكردينال لافيجري ( )Lavigerieفي كنيسة
القديس بطرس في الحيّ السابع ،وكلّم الحضور فأوصاهم بحرارة أن يُقبلوا عليه بسخائهم ،
وسمّاه " مار منصور دي بول الايطالي ."
ولم يل َبّ النداء الى السخاء الأ َسر الغنية فحسب بل القوم غير الميسورين أيضاً فأعطى جميع
الناس ورقات نقدية ونقوداً صغيرة وقطعاً من الذهب ،لا بل حِليّاً ،وجاء حينٌ لم يعرف فيه أين
يضع ذلك .
وغاب عن باريس ليذهب إلى مدينَتي ليل وأَميان فكانت الحماسة مماثلة ،فصاح بالذين
يقتطعون رقعاً من ثوبه بمقصات لا تعرف الشفقة " :ليس جميع المجانين في مأوى المجانين ."
ثم جاء وقت الرجوع في القطار الذي يعود به إلى تورينو .كان رفيقاه الأب روا والأب
باروييل ( )Barruelصامتين وكانا يُفكّران في تلك الأيام تفكيرهما في حلم لن ينساه أبداً .فخرج
بغت بهما من ذلك الصمت فقال :
-أتذ ُكر ،أيها الأب روا ،الطريق التي ئؤدي من بوتّيلييرا إلى موريالدو ؟ هناك في جهة
اليمين تلّة عليها بيت صغير .كان ذلك البيت بيتي وبيت والدتي .كنت أرعى ،وأنا صبّي ،
بقرتين في تلك المروج .لو علم جميع هؤلاء الأسياد أنهم حملوا حمل الظفر فلاّحاً مسكيناً من
البكّي . . .
الكردينال الذي حمل السلام
في 13تشرين الثاني ( نوفمبر) من تلك السنة ،وصل إلى تورينو وصولاً صامتاً تماماً
الكردينال غايتانو أليموندا رئيس الأساقفة الجديد .سمع دون بوسكو في أثناء مواجهة بينه وبين
البابا لاون الثالث عشر في 1331هذا الكلام " :ف ّكرت بك وأنا أُرسله .إِنّ الكردينال أليموندا
يحّبك كثيرًا بل كثيراً ج ّداً .
كتب الأب تشيريا ( " : )Ceriaإن لطف الكردينال كان تشجيعاً من العناية الالهية لدون
بوسكو ،في السنوات الأربع الأخيرة من حياته ."
بعد ما وصل الكردينال بوقت قليل ،أرسل دون بوسكو من يسأل هل الكردينال في داره
وهل َي َسعهُ أن يستقبله ،فركب الكردينال عربته ووصل لوقته إلى فالدوكّو " .أردت أن يَتِمّ الأمر

40.9 Page 399

▲back to top


بسرعة فجئت أنا بنفسي ."
كانت الساعة العاشرة والنصف من الصباح ،على ما ذكر كاتب السيرة الذي كان حاضرا ،
فدام الحديث في مكتب دون بوسكو ،وهو مكتب صغير ،أكثر من ساعة ،فأُخبر بالأمر الأحداثُ
وكانوا في الورشات والصفوف فأسرع الموسيقيّون إِلى أخذ آلاتهم و ُعَلّقت الأعلام على عجل في
طول ال ُشرَف ،ولما ظهر الكردينال في الشرفة التي يُخرج إليها من مكتب دون بوسكو ،عزفت
الجوقة الموسيقة ،وصفّق الصبيان فقال الكردينال ضاحكاً " :أردتُ أن أفاجئكم ففاجأتموني
أنتم " .
ولّوح بيديه نحو الصبيان وقال لهم ببساطة " :أيها الأبناء الأعزاء ،أشكركم وأبارككم
وألتمس صلواتكم."
ثم زار الورشات ولبث برهة طويلة يصلّي أَمام صورة السيدة معونة المسيحيين .
" ِإذا لم أعُد "
كان المال جمعه في فرنسا كثيراً ،ولكن ظهر أن كنيسة القلب الأقدس في رومة بئر لا
غور لها .في أول 1331كان هناك ديوم باهظة يجب أداؤها ،في حين أَن الصندوق فارغ ،وفي
13شباط ( فبراير) كتب دون بوسكو إلى رهبانه ،مع أن الحالة كانت مفجعة :
-إنِّي ذاهب مرة ثانية إلى فرنسا .
فحاول الأب روا والأب كالييرو أن يصرفاه عن ذلك ،فطلبا إلى الطبيب البيرتوتّي
)Albertotti (أن يأتي لمعاينته ،ففحصه الطبيب فحصاً طويلاً ثم قال :
-عندي أن الأمر سيكون معجزة إِذا وصلتَ حيّاً إلى نيس .
فتمتم دون بوسكو :
-صبراً جميلاً اذا م ُتّ .فقبل أن َأذهب سُأرََتّب ك َلّ شيء ،ولكن يجب عليّ أن أذهب .
فما إِن خرج البيرتوتي من الغرفة حتى قال للأب روا :
-خذوا حذركم .لن أدهش إِذا مات بغتة ،من غير أن تشعروا بالأمر .دعوا عنكم
الأوهام .
فدعا دون بوسكو كاتباً عدلاً وشهوداً أملى وصيّته ،ثمّ استحضر الأب روا والأب كالييرو
وأراهما الوثيقة الرسميّة على الطاولة وقال :
-هذه وصيّتي ،لقد جعلتكما كليكما وكيلَيّ العامّين لتنفيذ وصيتي .إِذا لم أعد فإَِنّكما تعرفان
كيف تدار الامور .
فخرج الأب روا من الغرفة وقلبه يكاد ينفطر وبقي الأب كالييرو ،وهو يكاد يذرف

40.10 Page 400

▲back to top


الدموع .قال لدون بوسكو :
-أتريد الذهاب حقّاً وأنت على هذه الحال ؟
فأجاب " :كيف تريد أن نعمل غير ذلك ؟ ألا ترى أنه ليس لنا وسائل أخرى للسير إلى
الأمام ؟ اذا لم أذهب أين أجد لك المال اللازم لتؤدي الديون التي يقترب موعد دفعها ؟ أيجب أن
نترك الأولاد بلا خبز ؟ لا ُيمكنني أن أحصل على المعونة إِلاّ من فرنسا ."
أخذ الأب كالييرو يبكي ثم ملك نفسه وقال :
-لقد سرنا دائماً إلى الأمام بالمعجزات الواحدة تلو الأخرى سترى أن السيدة مريم
ستساعدنا مرة اخرى .اذهب وأمّا نحن فسَنصلّي .
-أجل ،أنا ذاهب .وصيتي هنا ،أسَلّمها إليك في هذه العلبة .احفظها حفظك لآخر
ذكر منيّ .
لم تطل الرحلة فقد ذهب إلى جنوب فرنسا فقط ولكن استطاع أن يجمع مالا حسناً فإنّ أسرة
الكونت كوليّ ( )Colleفي طولون وضعت في يده 128ألأف ليرة في دفعة واحدة .
وخاف الأب البيرا في مرسيليا على صحته ،فطلب إلى الطبيب كومبال ( )Combalأن
يفحصه ،وكان ذا شهرة عالميّة .فلما فرغ كومبال من الفحص الدقيق الذي أجراه ،أعرب عن
رأيه بكلام وردت فيه الاستعارات :
-أنت ثوب بالٍ ج ّداً لُبِس أيام الأسبوع وأيام الأحد .فإذا أردنا أن نحفظه بعدئذ فلا
سبيل إِلى ذلك إلا بوضعه في الخزانة .وأنت تُدرك أنيّ أُوصيك بالاخلاد إلى الراحة المطلقة .
-أشكرك ،أيها الطبيب ،ولكن هذا هو الدواء الوحيد الذي لا يمكنني تناوله .
واضط َرّته المصاعب أيضاً إلى رحلة أخيرة للاستعطاء في ، 1336قبل موته بسنتين فسافر إلى
اسبانيا ،فكان الاستقبال في برشلونة تكريراً لاستقبال باريس .فغصّت الشوارع بالناس وغزيت
السطوح ،وتعَلّقت عناقيد بشريّة بأعمدة الإنارة ،وكم من السخاء ! قدّموا له في ما قدّموا ،تَلّةً
ُتشرف على المدينة وتنظر إليها منظراً عظيماً .
فعاد بعد ما مرّ بجنوب فرنسا :مونبيله ( )Montpellierوتاراسكون ( )Tarasconوفلانس
)Valence(وغرنوبل ( : )Grenobleكانت عودته إلى وطنه إِيطاليا بطيئة وكانت الأخيرة فقال
لا مرئ يرافقه :
-كل شيء من َعمَل السيدة العذراء ،ك ُلّ شيء يأتي من صلاة السلام عليك تلك التي
ُتليت مع صب َيّ قبل خمس وأربعين سنة في كنيسة مار فرنسيس الأسَّيزّي .
وبينما جسمه يزداد انحناءً ك َلّ حين ،كانت نفسه تشعّ نوراً يزداد سطوعاً .أسَرّ إليه ذات

41 Pages 401-410

▲back to top


41.1 Page 401

▲back to top


يوم الأبُ بلمونتي ( ، )Belmonteرئيس سامبيير دارينا :
-إني تعب ج ّداً حتى إنّي لا أقوى على شيء .
فانحنى دون بوسكو إلى الأمام قليلًا ورفع ذيل ثوبه وكشف عن ساقيه ،وقد تور ّمتا تو ّرماً
شديداً وفاضتا عن حذائيه بما شبه الكرى اللادُنة ،وأضاف هذه العبارة فحسب :
-يا عزيزي ،تش َدّد .سنستريح في الفردوس .
وفي مساء 22حزيران ( يونيو) ك ّرمه التلاميذ القدامى تكريماً حا ّراً ،للاحتفال بعيده ،
فتأثر دون بوسكو وشكرهم ولكنه مُتعَباً جداً فلم يقوَ على أن يقول غير هذه الكلمات :
-لست سوى زيز يصيح ثم يموت .
وإِذا رآه امرؤ يمشي وحده ،وقد اشتدّ انحناؤه فذهب إليه ليساعده وسأله " :إلى أين
نذهب ،دون بوسكو ؟ " نظر إليه وهو يبتسم وأجابه " :إننا ذاهبان إلى الفردوس " .
11
يوحنا كالييرو مطران
كان في خطط دون بوسكو أن يبقى الأب يوحنا كالييرو ثلاثة أشهر في أمريكا ليثّبت الرسالة

41.2 Page 402

▲back to top


الأ ُولى ثم يعود ،فيبقى فيها نحو سنتين .
في السنة 1332أرسل إِليه دون بوسكو جماعتين جديدتين من السالسّيين على رأسهما رجلان
بوسعهما ان يمسكا بزمام الأمور هما الأب لويس لازانيا والأب يعقوب كوستامانيا .
فعاد الأب كالييرو ،في السنة 1322اجتمعت الهيئة العامة للرهبانية أوّل َمرّة فكان من
الطبيعي أن يشترك في هذا الاجتماع هو أيضاً ،وهو المرشد الروحي للرهبانية والخبير الوحيد في
مسائل الرسالات .
و َعهد إِليه دون بوسكو في السنوات بعدئذ بعملين دقيقين هما :أن يُنشئ المشروع السالسّي
في اسبانيا ،وأن يدير رهبانيّة بنات مريم معونة المسيحيين وكانت تخطو خطواتها الأولى .
" َمن له أن يحلَ محلّي ؟"
في السنة 1320لم يكن لدون بوسكو من العمر سوى أربع وستون سنة ،ومع ذلك فقد
شعر بأنّه منهوك القوى وهي تنحطّ انحطاطاً سريعاً ،فأراد أن يختار لنفسه من بين أوّلِ الذين تبعوه
واحداً يضطلع رويداً رويداً بعبء شؤون الرهبانيّة ،ويسعه أن يحلّ محلّه في الوقت الموافق ،
وخلاصة القول هي أنه أراد نائباً له .كان بين الاسماء اسمان :روا وكالييرو .كانا وفيّين
مقتدرين ،فكان دون بوسكو يُحُّبهما جميعاً حبّاً ّجماً ،وكان على قدر ذلك متردّداً فإذا اختار الواحد
منهما أفلا يك ِدّر الآخَر ؟
استعمل دون بوسكو هذه الطريقة اللطيفة .ففي صباح ذات يوم من خريف 1320كان
ذاهباً إلى فوليزّو ( )Foglizzoفطلب إلى الأب كالييرو أن يرافقه وسأله في أثناء السفر :
-إِذا م ُتّ ،في رأيك ،يصلح لأن يحلّ محلّي ؟
لم يتَع َوّذ الأب كالييرو بل َحملَق وهو يجيب :
-يا دون بوسكو العزيز ،ألا تعتقد أن الكلام على هذه الأمور سابقٌ لأوانه ؟
-َفلُنسِلّم بذلك ،ولكن لنفترض الأمر مع ذلك ،فبأ ِيّ أسماء تشير علّي ؟
-أيّ أسماء؟ أختار اسمًا واحداً ،فليس هناك سوى واحد يصلح لأن يحل محلك .
-وأما أنا فأختار اسمين أو ثلاثة .
-ربما كان بعدئذ اسمان أو ثلاثة ،وأما الآن ،فلا أعتقد .قل لي من هم هؤلاء الثلاثة ؟
-قل لي قبل ذلك أسمَ من تقترحه .
-الأب روا ،فليس هناك سوى الأب روا .
-أنتَ على صواب ،لقد كان لي دائماً ذراعي اليمنى .

41.3 Page 403

▲back to top


-الذراع والرأس والقلب ،يا دون بوسكو العزيز ،فهو وحده أَهل لأن يقوم مقامك ،
عندما يشاء الله حقاً أن يدعوك إلى ملكوته .
كان دون بوسكو لطيفاً ج ّداً ،وتنحّى الأب كالييرو بمثل اللطف .فلم يعكّر ولا ظ ٌلّ صفاء
اختيار " دون بوسكو الثاني" .
لم يقل دون بوسكو ذلك قط للأب كالييرو ،ولكّنه حفظ له جميلاً كبيراً لتلك الكلمات التي
فاهَ بها بتواضع عظيم الصراحة ،في عربة ذاهبة الى فوليزّو .
المعانقة الشديدة لأول مطران
في 16و 28تشرين الثاني ( نوفمبر) 1333َنشَر الكرسيّ الرسوليّ وثيقتين ُمهمّتين فإن
الباتوغونيا الشمالية والوسط ( أرض الريو نيغرو Rio Negroوشوبوت Chubutوسانتا كروز
)Santa Cruzأُعلنتا نيابة رسولية بإِمرة الأب يوحنا كالييرو ،وقد سُ َمّي نائباً رسوليّاً ،وأُعلنت
أرض النار ( وهي أقصى الباتاغونيا في الجنوب ) مديرّية رسوليّة رسُ َمّي الأب فانيانو مديراً
رسوليًّا ؟
كان على الأب كالييرو أن يعود إلى أمريكا وهو نائب لا مطران ،فَيُرَقّى إلى الدرجة الأسقفية
بعدئذ ،ولكن دون بوسكو كان مخالفاً لذلك الرأي ،فح ّدث الكردينال اليموندا وكتب إلى
الكردينال نينا ( )Ninaحامي السالسيّين ،وأَلحّ في السؤال على البابا .كان الكردينال فرييري هو
الذي يرفض ذلك رفضاً تامّاً ،ولكن البابا استجاب هذه المرة طلب دون بوسكو .في 0تشرين
الأول أول ( أكتوبر) 1331ُبعثَ برسالة من رومة إلى فالدوكّو جاء فيها ":إنّ الأب الأقدس في جلسة
يوم الجمعة الماضي تقََّبل قبولاً حسناً التماس دون بوسكو ورضي بأن يُمنح الأب كالييرو النائب
الرسوّلي في باتاغونيا ،الرتبة الأسقفية ."
كان ذلك اليوم يوم سعادة عند دون بوسكو ،فقد تحَقّق الحلم القديم ،حلم الحمامة
وغصن الزيتون والكلام الذي قاله لصبّي مشرف على الموت " :سوف تسلّم كتاب الفرض
إلى غيرك . . .وسوف تذهب إلى مكان بعيد ،بعيد ، " . . .لم يكن وهماً سريع الزوال ،بل
صار حقيقة راهنة .
أُقيمَت الرسامة الأسقفيّة في كنيسة السيدة مريم معونة المسيحيين في 2كانون الأول
(دسمبر) . 1331وكان ذلك الحدث في فالدوكّو حدثاً لا يٌنسى ،فإن صبيّاً صغيراً من الذين
رَبّاهم دون بوسكو ،ودخل إلى المصلّى في الثالثة عشرة ،وهو يتيم الأب ،رُسِم في السادسة
والأربعين مطران قطر رسولي واسع ج ّداً .
ووقع حدثان صغيران .لما انتهت الحفلة المهيبة انفصل المطران الشابّ عن الموكب واتجه

41.4 Page 404

▲back to top


نحو أُمه .كانت السيدة العجوز القصيرة القامة تريز الطيّبة ( وعمرها ثمانون عاماً ) آتية إلى
لقتئه ،بسندها ابن لها وابن أخيها .فضمّ المطران كالييرو إِلى صدره الرأس الأبيض ورافقهما
بعطف إلى مكان قعودها فتأّثر الحضور تأثيراً شديداً مما راوا .وكان دون بوسكو ينتظره في جهة
الموهف ،وبيده قبعة ،فأسرع إليه الأسقف وضمه إِلى صدره بيد قوية وأخفى في طيّات ثوبه
يدَه ال ُمزيّنةَ بالخاتم الأسقفي ،فلأ بيه دون بوسكو يعود الحق بان يكون أ ّولَ من يقَبّل ذلك الخاتم .
الأب روا نائب دون بوسكو
أعلن دون بوسكو اختياره لنائبه بعد ما ُسمّي الأب كالييرو مطران باتاغونيا .قال في 21
تشرين الثاني ( نوفمبر) 1331في المجلس الأعلى للرهبانية " :إِنّي أَحتاج إلى مَن ُأسلم إليه
الرهبانية فاجعلها على كتفيه ،وأترك له عبءها .قد ي ّسر البابا أن يتنحّى دون بوسكو تماماً .إنّ
رأسي المسكين يعجز عن العمل . " . . .
فكتب إلى البابا واقترح اسم ميشيل روا فأتته الموافقة في أوّل كانون الأول ( دسمبر) .
أمسكه دون بوسكو بيده
كان على المطران كالييرو أن يذهب من تورينو إلى أميركا الجنوبيّة في أ َّول شباط ( فبراير)
1332ويستصحب 13سالسيّاً ،وستّاً من بنات السيدة مريم معونة المسيحيين ،ولكنه في مساء
الاول من شباط رافق المرسلين إلى المحطة فشعر بِأَنّه َتعِب ،فعاد إلى فالدو ّكو ليقضي الليلة هناك ،
فصعد إِلى غرفة دون بوسكو ،وجلس بالقرب منه فلزما الصمت فترة طويلة ،ثم سأله دون
بوسكو:
-هل ذهب رفاقك ؟
-نعـــــم .
-وأنت ،متى تذهب ؟
-يجب عل َيّ أن أكون غداً في سامبير دارينا ( . )Sampierdarena
-إِذا أَمكنك فاذهب بعدئذ .استرح استراحة حسنة .
-دعني أفعل ،والآن امنحني بركتك .
-لماذا أُبارك هذا المساء .تعالَ إل َيّ غداً في الصباح سنتحادث مرة ُأخرى بهدوء .
-لا يا دون بوسكو ،سأذهب غداً مب ّكراً ج ّداً .
-ولكنك مُتعَب . . .مهما يكن من أمر فاعمل ما تراه الأفضل .

41.5 Page 405

▲back to top


-اذاً باركني وبارك أصحابي .
جثا المطران فأمسك دون بوسكو بيده :
-على الطائر الميمون .إِذا لم يرَ أَحدنا الآخر في هذه الارض فسنرى بعضنا بعضاً في
الفردوس .
-لا تقل ذلك ،سيرى أحدنا الآخر ثانياً .
-سيكون ما يشاء الله ،فهو الرب .سيكون لك في الأرجنتين وباتاغونيا عمل كثير ،
فاعمل كثيراً ،والسيّدة العذراء تعُينك .
فأخذ يتلو كلام البركة وكان يتكلم بصوت بطيء فإذا به لا يذكر الألفاظ ،فهمس بها إليه
بلطف ،وأعادها دون بوسكو طائعاً وهو لا يزال ُممسكاً بيده ،فنهض المطران آخر الأمر وقال :
-اذاً ،ليلتك سعيدة ،يا عزيزي دون بوسكو ،استرح الآن .
-َبلّغ سلامي رفاقك في السفر وسَلّم على اخوتنا الذين يعملون في أميركا ،وعلى
المعاونين .كم عندي من الاشياء وددتُ أن أقولها لك . . .بارككَ الله .
كان بيت المطران كوخاً من جذوع الشجر
تابع دون بوسكو في سنواته الاخيرة بمودّة الأعمال الرسولية التي قام بها الصبيّ الويّ
الشدسد الحماسة .كان يقرأ رسائله ،ويح ّولها لوقته إلى النشرة السالسية لتُطبعَ فيها .
في تموز ( يوليو) 1336أَعلم المطران كالييرو أنّ الجزء الأهَ ّم والأكثر سكّاناً في شمال
باتاغونيا قد أصبح معروفاً وقد زاره المرسلون السالسيّون ،وعلّموا فيه التعليم المسيحي .
وفي أثناء ذلك الشهر ،شهر تموز جاء إلى دير باتاغونيس ،ابن القائد سايوهويك
)Sayuhueque (فطلب إِلى المطران أن يصعد إلى وادي شيشينال ( )Chichinalليب ّشر الراشدين من
أهل القبائل .روى المطران كالييرو " :في وادي شيشينال الواسع ج ّداً عمّدنا 1288من الأهلين
و ّدرسنا التعليم المسيحي ثلاث ساعات قبل الظهر ،وثلاث ساعات بعد الظهر في كلّ يوم .كان
بيت المطران كوخاً من جذوع الشجر والطين ،يعلوه سطح من الغصون ،ليَقيني الشمس والمطر ،
ولا أثر لسرير ما .كنّا ننام على فرو أعطانا إيّاه بكثير من العطف هؤلاء الأهلون الطّيّبون بما فيهم
من دماثة الخلق وقدرة على الحماسة " .
في 1332باشر المطران كالييرو رحلة رسولية جديدة يصحبه الأب ميلانيزو وسالسيّان
آخرون .كان يُقدّر أ َنّ الرحلة التبشرية ستمتد إلى مسافة 1288كيلومتر ،وتشمل وادي الريو
نيغرو ،ووديان الأند والمَ َمرّ الجبلي في الكورديلييرا والمُنحَدر الى كونسيبسيون في الشيلي .اجتازوا

41.6 Page 406

▲back to top


ألفاً وثلاثمائة كيلومتر وهم راكبون على الخيل فسار ك ُلّ شىء سيراً حسناً ،فاستطاع المطران أن
يمنح 002عماداً ،(وجميع الم َّعمدين على وجه التقريب من الهنود الراشدين ) ،وأن يبارك مائة
زواج وزواجاً ،ويوزّع القربان المقدس على نحو ألف من المتناولين ،ويثّبت 1213شخصاً .
ويتعذر إِحصاء الساعات التي ُصرِفت في إلقاء دروس التعليم المسيحي الى الصغار وتبشير الكبار :
في صباح الثالث التي من آذار ( مارس) ما كادوا يغادرون مالباركو ( )Malbarcoعلى ضفة
نوكوين ( )Neuquenحتىّ وقعت حادثة جسيمة رواها المطران نفسه في رسالة له :
" اجتزنا الكورديلييرا في مكان ارتفاعه ألفا مِتر ،فكان علينا أن نصعد إِلى كثير من الآلاف
غيرها .كان الدرب يمر في مُنحدرات صخرية صلبة تشرف إِشرافاً عمو ّديًا على الهاوية ،فإذا
حصاني قد جفل ،وأخذ يرفس كالمجنون ،فاستغثت السيدة مريم معونة المسيحيّين ،وألقيتُ
بنفسي من السرج إلى الأسفل ،فنفذ رأس صخرة في جسمي ،وكسر لي ضلعين ،وثقب رئتي
فلبثت كالميت أتنفس تنفساً عسيراً ولم أق َو على التكلّم .ثم وصل رفاقي ،وّلما استطعت أَن أتمتم
بعض الكلمات ،حاولت ان أظهر شيئاً من النكتة لكي أشجعهم ،قلت :لما كان لنا 21
ضلعاً ،يسعنا أن نضَحّي ببعضها .فاض ُط ِررنا إلى العودة القههرى ،واجتياز نهرين ،وجبلين ،
لنجد مركزاً نتوقف فيه لمعالحة حالتي ،ولكن يا للمعالجة ! لم يكن هناك سوى مت َطِّبّب ،يعالج
الأمراض بطرق بدائية ،فسألته هل يعمل عمل الحداد ليصلح لي ضلعي .فمكثتُ شهراً ،وأنا
أتقدم تق ُّدما بطيئاً حتى شُفيت فعدت إِلى ركوب الحصان ،وما زلت في طور النقاهة ،وسافرت مع
رفاقي ال ُمر َسلين أربعة أيام ،فاجتزت مرة أُخرى الكورديلييرا على ارتفاع يزيد على 3آلاف متر ،
وانحدرت مرة أُخرى من التلال الشيلية المعتدلة الانحدار نحو شاطئ المحيط الهادئ ،فأقمت
هناك أُسُسَ الأديار السالسيّة الجديدة في كنسيبسيون ،وتالكا َوسانتياغو وفالبارايزو .وهكذا
اجتزت تلك السنة اميركا من شاطئ إلى شاطئ آخر ،مع رفاقي الثلاثة ونحن راكبون
الحصان ،ننام في الحفر وتحت الشجر " .
مقابلة صحفية مع دون بوسكو
في نيسان ( ابريل) 1331كان على دون بوسكو أن يذهب إلى رومة فقد وعد بعض
المحسنين بإِعطاء مقادير من المال كبيرة ،للإِنفاق على كنيسة القلب الأقدس ثم كفّوا عن الظهور ،
فقال دون بوسكو وهو يبتسم ابتسامة حزينة " :يجب الذهاب اليهم لدقّ الأجراس " .
ورضي دون بوسكو في تلك الفرصة السانحة أن يمنح مقابلة صحفية لأوّل مرّة في حياته
وكانت هذه الطريقة من اختراع الاميركي هوراس غريلي ( )Greelyفي السنة . 1320وفي رأينا أنّ
مطالعة أجوبة دون بوسكو عن أسئلة مباشرة سألها صحاف ٌيّ من جريدة رومة في 22نيسان

41.7 Page 407

▲back to top


(ابريل) 1331أمرٌ لا يقتصر على حب الفضول بل فيه فائدة .
س – بأ َيّ معجزة استطعت أَن تُنشئ جميع هذه الدور الكثيرة في بلاد من العالم يختلف
بعضها عن البعض الآخر مثل هذا الاختلاف الكبير؟
ج – لقد استطعت أن أحّقق أكثر ّمما رجوت ،ولكن كيف كان ذلك الامر ،فأنا أيضاً لا
أعرفه .إنّ السيدة العذراء التي تعرف حاجات عصرنا ،تساعدنا .
س – كيف تساعدكم ؟
ج – أصغِ .ذاتَ يوم كتبوا إليّ وانا في تورينو أَنّه من عشرين أَلف ليرة خلال ثمانية
أيام من أجل الكنيسة التي تُبنى في رومة .ولم يكن عندي حينذاك شيء من المال ،فجعلت الرسالة
بالقرب من جرن الماء المقدس ،ورفعتُ إلى السيّدة دعاءً حا ّراً وسلمتُ المسألة إِلى يديها ،
واسَتلقيتُ على السرير .وفي صباح الغد تلقّيتُ رسالةً من امرئ مجهول هذه خلاصتها " :نذرتُ
للسيدة أن أهب عشرين ألف ليرة إلى مشروع خيري ،إذا منحتني نعمة أطلبها ،وقد حصل ُت على
النعمة ،فأنا َأجعل هذا المال في تصرفك " .وكنتُ م َرّةً أخرى في فرنسا فبلغني خبر مزعج وهو أَن
داراً من دوري تحتاج إلى 28ألف ليرة لتتجنب خطراً كبيراً .ولم أرَ كيف أعالج الأمر على جناح
السرعة ،فلجأت أيضاً إلى الصلاة ،وفي الساعة العاشرة من الليل ذهبتُ لأنام فسمعتُ من يقرع
باب غرفتي ،فذهبتُ وفتحت فدخل صديق لي يحمل ملفّاً كبيراً بيديه وقال لي " :يا دون بوسكو
العزيز ،كنتُ قد استدركت في وصيّتي قدراً من المال ،من أجل مشروعاتك ،ولكن تَبادَر إلى
ذهني اليوم أَنّه من الأفضل لمن أراد عمل الخير ألاّ ينتظر الموت ،وقد حملتُ اليك لوقتي ذلك المال ،
فها هوذا سبعون الف ليرة " .
س – هذه معجزات .دعني أتطفل عليك :هل أَجريتَ معجزات أُخرى ؟
ج – لم أف ّكر قطّ إِلا في القيام بواجبي .صليتُ وفوّضت أمري إلى السيّدة .
س – أتريد أن تقول لي ما طريقتك في التربية ؟
ج – إِنّها غاية في البساطة :أن يُترك للاحداث الحرّيّة التامّة ليعملوا ما يحلو لهم .والمسألة
هي الكشف عن بزور خصالهم الحميدة وصنع ما يلزم لتنميتها .فك ُلّ امرئ يَطيب له أن يعمل ما
يعرف أنه قادر على النجاح فيه فحسب .اني اعتمد هذا المبدأ ،وتلاميذي يعملون بأجمهعم لا
بنشاط فحسب بل بمحبة أيضاً .في 16سنة ،لم أُنزل عقوبة بأحد قط .واجرؤ عى القول إن
تلاميذي يحُبّونني .
س -ماذا عملتَ ِلتبسطَ مشروعاتك إِلى الباتاغونيا وأرض النار ؟

41.8 Page 408

▲back to top


ج – قليلاً قليلاً .
س – ما رأيك في أحوال الكنيسة كما هي الآن في أُوروبا وإِيطاليا ،وما رأيكُ في
مستقبلها ؟
ج -لستُ نبياً ،في حين أَنكم جميعاً ،يا معشر الصحافيين أَنبياء ،ولذلك يحسن أَن
ُتسألوا أنتم ما سيحدث .فما من أحد يعلم المستقبل إلاّ الله .ولكن إِذا أَردنا أَن نتكَلّم كلام
البشر ،َيسعنا الاعتقاد أ َنّ المستقبل سيكون عسيراً .إن تَوّقعاتي تدعو غلى الحزن الشديد ولكن لا
أَخاف شيئاً ،سيُنقذ الله دائماً أبداً كنيسته ،وإِن السّيدة العذراء التي تحمي عالم عصرنا حمايةً
ظاهرة للعيان ،ستبعث منقذين .
11
الدموع السخينة
ازدادت روحانيّة دون بوسكو صفاء ونقاوة في أعوامه الأخيرة ،فقد يدفع الألمُ المرءَ إلى ق َمّة
اليأس ،وقد يُنمّي فيه القداسة .كان ذلك النموّ يظهر للعيان في دون بوسكو يوماً بعد يوم ،بل
كانت طبيعته الانسانية نفسها تكتسب إشعاعاً على أثر ذلك .
كتب بيترو ستيلا " )Pietro Stella ( :بَدا دون بوسكو في الأعوام العشرة الاخيرة من حياته
ولا سيما بعد العام 1332كمن استوعب كلّ الخير الذي تراكم بعد خبرة طويلة .يبدو أنه لا

41.9 Page 409

▲back to top


يتحمل بعدُ الخلافات التي اض ُطّر إِلى تحملها في علاقاته مع انطون أخيه ،ومعاونيه الأولين ،
والمطران غالستالدي ،إِنه ينفر ،أكثر منه في أي وقت مضى ،من المنازعة ،وهو لا يُحبّ
المجابهات .إِنه يفرض حتى في اثناء المنازعات والمخاصمات ،ألاّ يرفعَ أحدٌ الصو َت وألاّ يُهاجِمَ
أحدٌ الآخر ،ولا يقتدوا بالجرائد الكاثوليكية في المهاترات ال ُم َرّة اللاذعة .إِنه يريد أن يسعوا " إلى
المرور من غير َبلل بين القطرات في أثناء الزوبعة " .كانت أَعوامه الأخيرة خلافات كبيرة وقليلاً من
مظاهر الإِكرام الرسميّ ،ومضايقات ماليّة كثيرة تنزلها به السلطات الإِدارية والسياسية ،ولكنه
يبدو دائماً أبداً بمظهر من استولى عليه مثال أعلى من الوداعة والتفهّم " .
كاهن شاب جا ٌّد مفك َرّ
في السنة 1333جاء من لومبارديا كاهن شابّ جادّ مُفَ َّكر يراه ،واسمه أكليَلّه راتّي
)Ratti(فحدّثه دون بوسكو نصف ساعة وأطلعة على ك َلّ ما اراد معرفته ثم قال له :
-ألآن عُ َدّ نفسك صاحب هذا البيت .لا يسعني أن ارافقك لأنّي مشغول كثيراً ،ولكن
اذهب وانظر كلّ ما تريد أن تنظره .
وكان في ذلك الوقت في فالدو ّكو رؤساء الدور السالسيّة ،وقد جاؤوا للاجتماعات .وكانوا
بعد الطعام يأتون ويعرضون مشكلاتهم على دون بوسكو ،وقد ظَلّ واقفاً يستند إِلى الطاولة ،فأراد
الأب راتّي أن يذهب ،فقال له دون بوسكو على نحو غريب :
-لا ،لا ،أمكُث هنا .
صار ذلك الكاهن الشاب بعدئذ البابا بيوس الحادي عشر ،فروى ذلك الحدث بعد تسعة
وأربعين سنة في كلامه على دون بوسكو إلى الشمامسة الرومانيين فقال " :كان هناك أُناس أتَوا من
ك َلّ مكان ،بعضهم بمشكلة وبعضهم الآخر بغيرها وأَمّا هو فكأ َنّ الامر عنده مسألة لحظة ،
فُيصغي إلى كلِ شيء ويجيب عن كلِ شيء .كان ذلك الرجل مُتنَّبهاً بك َلّ ما يحدث حوله ،ويبدو
في الوقت نفسه كمن لا يهتمّ بشيء ،كأ َنّ أَفكاره في مكان آخر .وكان في مكان آخر حقّاً :كان مع
الله .والأمر العجيب هو أَّنّه كان يقول على أكمل وجه ما يجب أن يقال لك َلّ منهم .كان دون
بوسكو يعيش حياة القداسة تلك التي قوامها المواظبة على الصلاة في أثناء مشاغل دائمة لا هوادة
فيها " .
زهرة لتفكّري بالأبدية

41.10 Page 410

▲back to top


كان في نيسان ( ابريل) 1332يخطو بعض الخطوات في جنينة سيّدة دعته إِلى طعام الغداء
هو وأمين ِسرّ له شابٌ ،والأب فيليتّي ( . )Vigliettiوبينما هو يمشي مشياً وئيداً ،وقف أمام مكان
فيه زهور فقطف بنفسجة ،وذهب إلى سيّدة البيت وقدّمها لها وقال :
-لقد كان من لطفك أنّك دعوتنا الى طعام الغداء ،يا سيدتي ،فأريد أن أشكرك بزهرة
توحي فكرةً .
-وما تلك الفكرة ،يا دون بوسكو ؟
-فكرة الأبدية ،هذه فكرة يجب أن تلازمنا دائماً أبداً .كل شي يزول في هذا العالم ،ولن
يدوم سوى الأبدية .فلنعمل لكي تكون أبديّتنا سعيدة .
كان دون بوسكو يفكّر في الموت ،في لقاء وجه الله وكانت تلك الفكرة تجعله جا ّداً ،مشغول
البال .فسلّم ذات يوم في السنة 1332على رجل في سان بينينيو ( )San Benignoفقال له :
-ص َلّ من أجلي .
-آه ،يا دون بوسكو ،إِّنك لا تحتاج إِلى ذلك .
فشهد الأب بيشيّتا ( )Piscettaوكان حاضراً " :حينذاك صار جا ّداً كثير الجدّ ،واغرورقت
عيناه بالدموع وقال بلهجة من الصدق عميقة :أحتاج إليه حاجة شديدة " .
السيدة العذراء هنا
في آب ( اغسطس) تلك السنة ذهب إلى نيتسا مونف ّراتو ( )Nizza Monferratoلحفلة إِرتداء
بنات السيّدة مريم معونة المسيحيين الثوبَ الرهباني ،وحفلة نذرورهنّ .كان منهوك القوى كثيراً ،
حتى إِنه لم يستطع أن يُنال القربان المقدّس سوى بضع منهن .فشهد حفلة إرتداء الثوب والنذور
وهو جالس إِلى كرسي ،ولكنه أراد أن يتكلم قليلاً فكان صوته ضعيفاً فكان الأب بونيتيّ يقوم
" مقام مذياع " يكرر بصوت عالٍ العبارات التي لا يفهمها الحضور .
-إذاً ُترِدن أن أقول لَكُ َنّ بعض الكلمات .لو كان بوسعي أن ُألقي خطاباً فكم من الأشياء
كان لي أن أقول ،ولكنّي كبير السن عاجز كما تَرين .َيسعني أن أقول لكنّ أمراً واحداً ،وهو أن
السيدة مريم العذراء تحَُبّك َنّ جميعاً حباً جمّاً عظيماً ،عظيماً ،وأنتنَ تعلمن أنّها هنا بينكن .
فاراد الأب بونيتّي أن يفسّر فقال بصوت عالٍ :
-أراد دون بوسكو أن يقول إِن السيدة هي ُأ ُمّكن وإِنها تحرسكنّ وتحميكن .
فردّ عليه دون بوسكو بقوله :
-لا ،لا ،أُريد أن أقول إِن السيّدة هي هنا حقّاً في هذا البيت وإِنّهامسرورة منكن

42 Pages 411-420

▲back to top


42.1 Page 411

▲back to top


فواصل الأب بونيتّي:
-يقول َلك َنّ دون بوسكوإِن السيّدة ،إذا كنتن صالحات ،ستكون مسرورة مِنكُ َن
فجمع دون بوسكو قواه وفتح ذراعيه وقال:
-لا،لا،أريدُ أن اقول إِنّ السيدة هنا حقّا ،ًهنا بينكن .إنّ السيدة تجول في هذا البيت
وتغطّيه بردائها .
دون بوسكو والاغنياء
تداولت يدَا دون بوسكو في السنين الخمس والعشرين الأخيرة من حياته أقداراً من المال
عظيمة ضخمة ،ملايين من الليرات حقيقية ( ملايين لسني . ) 1388مع ذلك ظ َلّ فقيراً
معدماً ،ولم يبقَ ولا سنتيم واحد في يديه .ولكن تساءل بعض الناس " :ألم يفرط دون بوسكو في
تمّلق الأغنياء الذين أعطوه مالاً كثيراً ؟ ألم يبلغ به الأمر إلى طمأنة ضمائرهم في تَبعَتِهم
الاجتماعية ؟ " .إن السؤال هذا جدير بأن ُيسأل .
أمّا وقد درسنا سيرة دون بوسكو ،فإنه يبدو لنا أَنه تص َّرف بلطف كثير في صِلاته بجميع
الذين أحسنوا إليه :الفلاح والعامل اللذان أعطياه عشرة فلوس ،والكونت كولّي ( )Colleالذي
أعطاه 128ورقة كل منها ألف ليرة .
إننا نودّ أن نأتي بالأحداث أكثر منا بالكلمات ( ولا سيما في مسألة " طمأنة الضمائر" ) .
ذهب في سامبيير دارينا ( )Sampierdarenaفي السنة 1332إِلى راهب كبوشي كان مرشداً
لنبيل من جينوى ،يملك عدة ملايين ،وقد طعن في السن ولا ولد له .فلما فرغ دون بوسكو من
مق َدّمات الكلام سأله :
-لماذا لا يفعل هذا الرجل خيراً على قدر ثروته ؟
-إّنك على خطأ ،يا دون بوسكو .إنّه يعطي الفقراء كل سنة عشرين ألف ليرة .
-عشرين ألف ليرة فقط ؟ إِذا أراد أَن يطيع يسوع المسيح ،أي أن يعطي على قدر ما
يملك ،فإنّ مائة ألأف غير كافية .
-إني أُدرك ذلك ،ولكنّي كيف أَقنعه ؟ ماذا تعمل لو كنتَ مكاني ؟
-كنتُ أقول له إني آبى أن أذهب إلى جهنم بسبب منه .إذا أراد يذهب إليها ،فليذهب
إِليها وحده .وإِن أبى ،فإِنّي أقول لا يسعني البقاء مسؤولا عن نفسه .
فوعد الراهب وقال " :سأقوله له " .وفعل كما وعد ،فلم َت ُرق كلماتُه ذلك ال َسرِيّ الكبير

42.2 Page 412

▲back to top


فصرفه ( ذكريات السيرة ،ج ، 12ص . ) 228
كان المتعهد بورغو ( )Borgoهو أيضاً من سامبييردارينا .خدم الدار السالسيّة خدماتٍ
كثيرة في سبيل الصبيان الفقراء حقّاَ ،فقد سلّف أقدراً من المال كبيرة ،من غير أن يطلب فائدة ،
وقد أنفذ مخططات ولم يطالب بأجرة لمراقبته أعمال البناء طوال سنتين .
ماتت أمرأته قبل عشرين سنة وقد خطط لديه جواهر الفقيدة وثيابها الفاخرة .ذات يوم قال
لدون بوسكو ،كَمَنّ يتكلم على سبيل المصادفة ،ِإنّه يَودّ أن يصنع شيئاً ،إِحياءً لذكرى زوجته ،
ومن أجل خلاص نفسها . . .فقال له دون بوسكو بشيء من الخشونة :
-إذا شئت أن تسلك سلوكاً مسيحياً ،فلماذا تحفظ في بيتك جميع هذه الأشياء الغالية
الثمينة غير المفيدة ؟
-بأي شيء تنصح لي ؟
-ائتِ بها إلى هنا وق ّدمها لهؤلاء الصبيان وليس لديهم حتى ما هو ضروريّ .
ابتعد المتعهّد ابتعادَ مَن نزلت به إِهانة .هذه التضحية تجاوز الحَدّ ،ولكنه ف َّكر فيها آخر
الأمر ،فعاد بعد بضعة أيام ،وكان دون بوسكو لا يزال في سامبيير دارينا ،فسلّم إليه جميع الأشياء
الثمينة التي تركتها زوجته ذكراً .
كان الكلام الذي يستعمله دون بوسكو في حديثه إلى الأغنياء ،يبدو لكثير من السالسيّين
كلاماً مُفرطاً في القساوة ،ولكنه شرح الأمر في 1حزيران (يونيو) 1322قال " :رأيت في الحلم
السيدة مريم العذراء في بعض الليالي ،فوبّختني عدة مرات بأني لم أتكلّم على واجب الصدقة ،
وقد أسِفت لأن الكهنة في الكنيسة يخافون شرح واجب إِعطاء الفقراء الفاضلَ عن الحاجة .
فالذنب ذنبهم ،إذا كدّس الأغنياء ذهبهم في صناديقهم الحديد " .
في 22نيسان ( ابريل ) 1332ذهب والأب بلمونتي ( )Belmonteوالأب فيليتّي ( )Viglietti
من سامبيير دارينا الى سيستري بونينتي ( )Sestri Ponenteليزور السيدة لويزا كاتالدي ( )Cataldi
المحسنة إليه الكبيرة ،فسألته في آخر المواجهة ،وهي ترافقه إِلى خارج الدار :
-يا دون بوسكو ،ماذا يجب علي أن أعمل لأخلص ؟
-إِذا أردتِ أن تخلصي وجب عليك أن تصيري فقيرة مثل أيّوب .
فلبثت السيدة في حيرة ،وهكذا لبث الأب بلمونتي وقد سمع السؤال والجواب .فقال له

42.3 Page 413

▲back to top


بلمونتي ،في العربة التي تعود بهم إلى الدير ،بالصراحة المألوفة عند السالسيّين الأ ّولين :
-دون بوسكو ،بكم من الجرأة خاطب َت هذه المرأة المسكينة ؟ إِنها توزّع كثيراً من
الصدقات .
فأجاب دون بوسكو :
-اسمع ،فما من أحد يجرؤ على أن يقول الح َقّ للعظماء .
قام دون بوسكو في أثناء رحلته الأخيرة إلى فرنسا بجولة في هيير ( ، )Hyeresفمرّ السيد
أبيي ( ، )Abeilleرئيس جمعية مرسيليا للتجارة ،هو بنفسه من بين الصفوف في الكنيسة ليجمع
الهبات من أجل دون بوسكو ،فلما انتهى ابتهج بأ َنّ كثيراً من الحضور أفرغوا محفظاتهم في السلّة ،
فقال له دون بوسكو :
-إنيّ أَرى ذلك أمراً طبيعيّاً ج ّداً ،فإذا كانوا مسيحيين وجب عليهم أن ُيعطوا الفقراء
الفاضلَ عن حاجتهم .ألا ترى ،أّيها السيد أبيي ،أّنك اذا اذَّ َخرتَ مائة فرنك في الشهر ( ومائة
فرنك شيء كثير) وجب عليك أن تعطي الله البقية .
إِن موت محسنة من المحسنات إليه ،وهي مركيزة في الرابعة والثمانين ،ظلّ مطبوعاً في ذهنه
يؤلمه دائماً أبداً .كانت قد دعته لديه ثم نظرت إِليه نظرة حائرة وقالت له :
-اذاً سأموت حقاً ؟
فحاول دون بوسكو أَن يحدّثها حديث الله ،ولكنها كانت تنظر الى ما حَوَلها بقلق ولا تنفكّ
تُتمتم :
-قصري الجميل ،وغرفي وَبهوي الذي أنعم فيه ،أفيجب علي أن أتركها حّقاً ؟
طلبت أن يضع الخدم بجانب سريرها سجادة عجمية ثمينة فكانت تلمسها وتقول المرة تلو
المرة كأنها فَقَدت رشدها " :ما أجملها ،لماذا يَجب عليّ أن أَتركها ؟ "
قال بحزم للأب انطون سالا ( ، )Salaوقد رآه يتردد في الذهاب لَِيم َدّ اليد للاستعطاء :
-اذهب وافعل ذلك بشجاعة .إن الاغنياء يخدموننا ،ولكننا نحن أيضاً نخدمهم عندما
نُتيح لهم فرصة مساعدة الفقراء .
في 1326بينما دون بوسكو ُيمرّ بكييري رأى يوسف بلانشار ( ، )Blanchardصديقه في أيّام
الصبا ذلك الذي كثيراً ما أفرغ َسلّة الثمار في البيت لكي يغذيه ،وكان قد صار هو أيضاً رجلا

42.4 Page 414

▲back to top


مسنّاً قصير القامة .كان يسير في الشارع وهو يحمل صحناً وزجاجة خمر ،فترك دون بوسكو الكهنة
الذين كان يح َدّثهم وذهب إليه فرحاً :
-يا بلا نشار العزيز .ما أسعدني بأن أراك ! كيف حالك ؟
فأجاب بلانشار مرتبكاً :
-حسنة ،حسنة ،يا سيدي الفارس .
فعلا الحزن وجه دون بوسكو فقال :
-لماذا تدعوني فارساً ؟ ألا تدَعُ عنك التكُّلف في مخاطبتي ؟ أنا دون بوسكو الفقير ،وما
زلتُ فقيراً كما كنتُ إِذ كنتَ تعطيني ما آكل .
ثم التفت إلى الكهنة وقد َدنوا منهما :
-أيها الأسياد ،هوذا أ ّول مَن أحسن إِلى دون بوسكو الفقير .أترى ،يا بلانشار ؟ أو ُدّ أن
يعرفوا ذلك ،لأنك علمتَ كل ما بوسعك من أجلي .كلما جئتَ إلى تورينو وجب عليك وجوباً
مطلقاً أن تجيء ال َيّ لتتناول طعام الغذاء عندي .
في 1336بعد عشر سنوات بلغ بلانشار أ َنّ صحة دون بوسكو قد ساءت ،فذهب الى
تورينو ليراه ،فقال له أمين السر في غرفة الانتظار :
-إنّ دون بوسكو مريض ُيخلدُ إلى الراحة ولا ُيمكنه أن يستقبل أحداً .
-ُقل له إني بلانشار ،ترَ أنّه سيستقبلني .
فعرف دون بوسكو الصوت من وراء الباب ،فنهض بمشقّة وذهب الى لقائه ،وأخذ بيده
وأدخله وأجلسه بالقرب منه وقال :
-يا بلانشار الطيّب ،ذكرتَ دون بوسكو الفقير .كيف حالك ؟ وكيف ُأسرتك ؟
فتحادثا طويلاً ثم حانت ساعة الطعام ،فقال دون بوسكو :
-إِنيّ ،كما ترى ،كبير ال َسّنّ مريض ،ولا يسعني النزول لتناول طعام الغداء معك ،
و ِرجلاي عاجزتان عن سلوك السلّم ،ولكني أريد أن تنزل فتأكل مع أبنائي السالسييّن .
فدعا أمين سره وقال له :
-تذهب بصديقي إلى غرفة طعام الرؤساء وُتجلسه في مكاني .سأصلّي من أجلك ،يا
بلانشار ،وأنت لا تنسَ صديقك دون بوسكو الفقير .
فخجل شيخ كييري الكبير ال َسّنّ ،القصير القامة ،وتناول الطعام في ذلك اليوم ،بين
أعضار المجلس الأعلى للرهبانيّة ،فروى لهم خبر صداقته ليوحنا في كييري ولقائها قبل عشر
سنوات .

42.5 Page 415

▲back to top


عشرة أيام للنزول إلى رومة
في أيار ( مايو) 1332حان الوقت لتكريس كنيسة القلب الأقدس وقد انتهت في رومة .
بُ ِذل لبناء حجارتها سبع سنوات من العمل والجهد والصحة المتهدمة .
لم يكن دون بوسكو ليتحمل مشقات السفر إلى رومة ،ففكّروا في أن يجعلوه يقوم به في
مراحل صغيرة كثيرة ،فمضى صباح العشرين من نيسان ( أبريل) .كتب الأب لزّيرو
: )Lazzero (خرج من الدار ،وكان يبدو أنه لن يقوى على الوصول حتى إلى مونكالييري
)Moncalieri ((وهي في خارج تورينو ) .كان يرافقه الأب روا والأب فيليتّي ،فرضي دون
بوسكو أول مرّة في حياته أن يجلس في حافلة من الدرجة الأولى ،وتوّقف فترات للاستراحة في
الدُور السالسيّة التي على الطريق ،وفي بيوت المحسنين ،وقد ُبلغوا خبر مروره بهم .
فلقي في فيرنزي الكونتسّا اوغوشيوني ( ، )Uguccioniالطاعنة في السن ،فوصل إليها
يسنده الأب فيليتّي ،وكانت هي تُدفَع دفعاً في كرسيّ متحرك على عجلتين فقال دون بوسكو
مازحاً :
-يسعدني أن أراك يا سيدتي الكونتسّا .أتودّين القيام بجولة رقص ؟
-آه يا دون بوسكو .أُنظر إلى الحالة التي أنا عليها . . .
-حسناً . . .حسناً ،لا تخافي .إن جولة الرقص سنقوم بها في الفردوس .
كان اللقاء في محطة اريتسو ( )Arezzoغير متُوَقّع ،فما إِن رآه مدير المحطة حتى َأسرع إليه
وعانقه وقال له وهو يبكي من الفرح :
-دون بوسكو ،ألا تذكرني ؟ كنت ولداً شرّيراً في تورينو ،لا أب ولا أمّ ،فآويتني
وعلّمتني وكنت تحّبني حباً جّماً .والآن لي ُأسرة حسنة ،وانا مَدين لك بهذا العمل .
وَصل إِلى رومة بعد الظهر من 38نيسان ( ابريل) فذُهب به ليزور معهد الكهنوت
اللومباردي ،ُف ِطلب إليه أن يقول كلمة لطلاب الكهنوت ،فاستطاع أن يقول جملة واحدة :
-َفكّروا دائماً أبداً في ما يقول فيكم الرب ،لا في ما يقول فيكم الناس ،سواء أكانَ ذلك
خيراً أم شراً .
استقبله البابا فأجلسه بجانبه ووضع على ركبته فروة فاخرة عريضة فتمتم :
-أيها الأب الأقدس ،إِنّي طاعن غي ال َسّنّ ،وهذا آخر أسفاري وخاتمة كل شيء
عندي . . .هناك عمل كثير ،ولا حاجة بي إِلى أن أوصي أبنائي بالعمل ،لا بل يلزمني أن
أوصيهم بالاعتدال ( ،وكان فيما يقول ذلك يغمز إلى الأب روا الواقف بالقرب منه ) فهناك كثير

42.6 Page 416

▲back to top


منهم يد ّمرون صحتهم لأنهم يعملون لا في النهار بل في الليل أيضاً .
فقال الأب روا :
-أيها الأب الأقدس ،إِن الذي كان سبباً لهذه الكارثة هو دون بوسكو .
فابتسم البابا ثم نصح نصيحة حكيمة :
-يهمني أن أوصيك ،وأن أوصي نائبك ألاّ يفوق اعتناؤكم بعدد السالسيّين عنايتكم
بقداستهم .ليست الكمّية هي التي ُتمجّد الله بل الفضيلة والقداسة .ولذلك كونوا حذرين
متش ّددين في قبولكم للراغبين في الرهبانيّة .
وبينما هو ينزل السلّم الكبيرة تهيأ الحرس السويسري للتحيّة فقال لهم دون بوسكو ضاحكاً :
-استريحوا ،فلست ملكًا بل كاهن فقير أحدب كله .
الدموع السخينة
ُك َّرست كنيسة القلب الأقدس في حفلة رسمية في 11أيار (مايو) . 1332
وفي الخامس عشر منه ،أَراد دون بوسكو النزول إلى الكنيسة ليُقيم القداس على مذبح
السيدة مريم معونة المسيحيين ،فما إِن بدأ حتى رآه الأب فيليتّي الذي كان يساعده ،يبكي ،
فسالت الدموع لا تنضب ولا يقوى حبسها طوال وقت القداس على وجه التقريب ،ولما
انتهى ا ُضط ُرّوا إلى حمله أو إِلى ما يشبه حمله إلى الموهف ،فتمتم الأب فيليتّي وقد ساوره القلق :
-ما بك يا دون بوسكو ؟ أُتراك تشعر بوعكة ؟
فهزّ دون بوسكو رأسه وقال :
-بدا ِلعينَيّ مشهدٌ ح ٌيّ ،مشهد ُحلمي الأوّل ،وأنا في التاسعة .رأيت حقاً وسمعت أمّي
وإِخوتي يتجادلون في حلمي . . .
كانت السيدة العذراء قد قالت له في ذلك الحلم البعيد " :ستفهم كل شيء في الوقت
الموافق " .وأَما الآن فقد نظر إلى ماضيه فبدا له أنّه يفهم ك َلّ شيء حقّاً .إِن ذلك يستحق كل ما
بذله من تضحية والجهد لانقاذ هذا العدد الكبير من الأحداث .
في 13أيار ترك دون بوسكو رومة آخر مرة .
لويس اوريوني :ثلاثة دفاتر خطايا
لم يبتعد دون بوسكو عن صبيانه حتى في سنواته الأخيرة التي التهمتها الأسفار والديون ،
فكلما رآهم واستمع إليهم وخطا وإِيّاهم عشر خطوات ،عادت إليه الحياة حتى بعد أيام قتّالة من

42.7 Page 417

▲back to top


التعب .
في تشرين الأول ( أكتوبر) 1336قبُل صبِيّ من بونتيكوروني ( )Pontecuroneفي سنّ
الرابعة عشرة واسمه لويس أوريوني ( ، )Orioneوهو ابن مبلّطٍ للشوارع فقير ،وقد جثا هو أيضاً
بالقرب من أَبيه ساعات تلو الساعات ،وركبتاه في الرمل ،ليِضع البلاط بجانب البلاطة ،
ويضرب بالمطرقة ضربات خفيفة .حاول أن يصير راهباً في فوغيرا ( )Vogheraولكنّه مرض
فاض ُط َرّ إلى العودة إلى البيت ،فقبله سالسيّو فالدوكّو .
فتنَ دون بوسكو لويس وسحرَه ،وعندما ينزل إلى الساحة ( ذكر " أن ذلك أصبح قليلاً
وحيناً بعد آخر " ) يزدحم حوله الأحداث عشرات ومئات وهم يتنازعون الأماكن الأقرب إِليه ،
وُيسعدهم أَن يحصلوا على كلمة منه .
اقتحم لويس الزحام على قدر ما استطاع ليصل إلى الصفّ الأول ،فنظر إليه دون بوسكو
وابتسم له ،وساله هل حجم القمر في بلده كبير كحجمه في تورينو ،فلما رآه يبتسم قال له مازحاً :
أنت عجين طيّب حقّاً .
رغب لويس أوريوني رغبة شديدة في الاعتراف لدون بوسكو ،ولكن ما العمل ؟ دون
بوسكو منهوك القوى ،لا يُعرّف إلا بعض السالسيّين ،وتلاميذ الصف الأخير الذين يتأهّبون
لدخول دير الابتداء ،ولا ندري كيف حصل هذا الامتياز النادر ،فرأى أنه يجب عليه أن يحُسن
الاستعداد للامر .
روى الأب أوريوني نفسه " :أردت ان أفحص ضميري فملأت ثلاثة دفاتر " .خاف أن
ينسى شيئاً فطالع أسئلة الاعتراف ونسخ كل شيء واعترف بكل شيء ،ولم يُجِب نفياً إلاّ على
سؤال واحد :هل قتلت ؟ فكتب :لم أفعل هذا .ثم وضع الدفاتر في جيبه ويده على قلبه ،
وخفض عينيه ووقف في الصف لينتظر دوره وهو يرتجف لشدة ما به من الانفعال .
-ما عسى دون بوسكو ان يقول عندما يقرأ هذه الخطايا ؟
جسّ بيده الدفاتر ولما جاء دوره جثا فنظر إليه دون بوسكو مبتسماً :
-أعطني خطاياك .
فأخرج الصبي الدفتر الأول ،فأخذه دون بوسكو وبدأ كأنه يَزنه ليعرف ثقله ثم م ّزقه .
-أعطني سائر الدفاتر .
فكان مصير الدفاترين الآخرين مثل ذلك المصير ،فلبث الصبي ينظر ،وقد أخذت منه
الحيرة ،فقل دون بوسكو :
-والآن انتهى اعترافك ولا تَُف ّكر قطّ بعد اليوم بك َلّ ما كتبت .

42.8 Page 418

▲back to top


وابتسم له فلم ينسىَ لويس تلك الابتسامة قطّ ،وقد أفلح بعد هذا الاعتراف في الاعتراف
بضع مرات لديه .ذات يوم حدّد دون بوسكو النظر في عينيه وقال له :
-أُذكر أَننّا سنكون كلانا صديقَين دائماً أبداً .
لم ينسى لويس أوريوني وعده قطّ ،ولما علم أن حياة دون بوسكو آذنت بالانتهاء ،قدّم حياته
بدلاً ،ليعيش دون بوسكو .ولما صار أبا رهبانية لها مصلّيات ودُور لأفقر الصبيان ،قال وهو يُفكر
بدون بوسكو :
-لو قُدّر لي ،لمشيت على الجمر الملتهب لأراه مرّه أخرى وأقول له :شكراً .
سمّى السنوات الثلاث التي قضاها في فالدوكو " أسعد فصل من فصول حياتي " .
10
الوداع للأرض
في آخر أب ( أغسطس) 1332أُقيم على التلّة التورينّية في فالساليتشي ( )Valsalice
اجتماعات من الرياضة الروحية للأحداث الذين طلبوا دخول الرهبانية السالسيّة فذهب دون
بوسكو إِليها ،وعرض نفسه لخدمة من يريدون الاعتراف لديه .
لم يرِئس منذ 22أيار ( مايو) اجتماعات المجلس الأعلى للرهبانيّة ،فترك الأمر لنائبه الأب
روا ،واشترك في اجتماع 12أيلول ( سبتمبر) الذي عُقد في فالساليتشي .
في النصف الثاني من أيلول شعر بوعكة فكانت تساوره الح ّمى والألم الشديد في رأسه حتى إِنّه

42.9 Page 419

▲back to top


لم يستطع إِقامة القداس في بعض الأيام .ذكر الأب فيليتّي ،أمين سره ،في دفتر تلك الأيام :
" وكان مع ذلك فرحاً ك َلّ حين ويعمل ويكتب ويستقبل الناس .كان يحتاج إِلى من يش َدّده وهو
الذي ُيش َدّد الآخرين دائماً أبداً " .
وبينما يحاول تناول طعام ذات مساء من آخر أيلول ،كان بمعيته الأب فيرونيزي ( )Veronesi
رئيس المدرسة الزراعية في موليانو فينيتو ( )Mogliano Venetoفقال له دون بوسكو بغتة :
-لم يبقَ لي من الحياة سوى القليل ،وإن رؤساء الرهبانية غير مقتنعين بذلك ،وهم
معتقدون أَن دون بوسكو سيعيش طويلا . . .لا َيش ُقّ عليّ أن أَموت :ما يش ُّق عل َيّ هو ما على
كنيسة القلب الأقدس من ديون ،مع أنّ مالاً كثيراً قد جُمع .إنّ الأب العزيز دالماتسو طيّب ،
ولكنّه لا يُحسن الادارة .ماذا يقول أبنائي إذا وجدوا هذا العبء على اكتافهم ؟ ص َلّ من أجلي .في
العام القابل لن أكون حيّاً في وقت الرياضة الروحية .
شعر بأنّ العزلة تشمله شيئاً فشيئاً
كان على الأب بولس ألبيرا ،مفتش الدُور السالسيّة في فرنسا ،أن َيرحل فذهب إلى دون
لوسكو ليودّعه فنظر دون بوسكو بعطف إلى حبيبه " باولينو" وتمتم وعيناه تدمعان :
-أَنت أيضاً تذهب .إِنكم تتركوني بأَجمعكم .أَعلم أنّ الأب بونيتّي ذاهب هذا المساء
وسيذهب الأب روا أَيضاً .إّنهم يتركوني هنا وحدي .
أَخذ يبكي صامتاً .إنه امرؤ مسكين متعب يشعر بأن العزلة تشمله شيئاً فشيئاً ،بعد كلّ ما
قام به من العمل ،فتأثّر الأب ألبيرا فاسترجع دون بوسكو حزمه وقال :
-لا ألومك بشيء .إِنك تقوم بواجبك ولكنّي كبير ال َسّن مسكين . . .سُأصلّي من
أجلك .الله معك !
قضى دون بوسكو ،قبل أن ينزل إلى فالساليتشي ،بضع دقائق مع الأب بربيرس مدير
فالساليتشي ،فح َدّد النظر إِلى السلّم الكبيرة ،وقال بلهجة هادئة :
-سأكون بعد الآن في حماية هذه الدار – . . .ثم قال بعد هنيهة - :قل لهم ُيعِ ٌدّوا الرسم .
ظَنّ الأب بربيرس أَنه يعني الجانب الأخير من البناء الذي يُشاد فقال :
-سأَطلب إِعداده ،وأُق َدّمه لك في هذا الشتاء .
-لا في هذا الشتاء بل في الربيع القادم .سَتُقَ َّدم الرسم للأب روا .
وظ َلّ ينظر إِلى السلّم الكبيرة .
حُفر بعد أربعة أشهر تحت هذه السلّم قبرُ دون بوسكو ،فق َّدم الأب بربيرس رسم النصب

42.10 Page 420

▲back to top


الصغير الذي يزيّنه إلى الأب روا في ربيع 1333فتذكّر الكلمات الغامضة .
مثل شمعة تنطفئ
عاد إلى فالدوكّو في 2تشرين الأوّل ( اكتوبر) فرحّب به الصبيان بحماسة ،ورافقوه فرحين
في الساحة كلّها حتى أسفل السلّم التي يصعد بها إِلى غرفته ،وساعده الأكبر سِنّاً على الصعود درجة
درجة .فلما وصل دون بوسكو إِلى أعلاه ،حيّاهم من الشرفة بيده ،فأجابه الصبيان ،وهم
يهزّون أيديهم ويصيحون " :عاش دون بوسكو " .
إِنه شمعة تنطفئ .
أقام القدّاس في المعبد الصغير الخاصّ به ،يساعده كاهن ،كما جرت العادة بذلك .
يعسر عليه الكلام والتنفس ،ويمزح مع الزائرين " :أبحث عن منفاخين للتبديل ،فإنّ
منفاخَ َيّ لا يُحسِنان العمل " .
في 1كانون الأول ( دسمبر) صعد إليه الأب تشيرّوتي ( )Cerrutiالمسؤول عن الادارة
العامة للمصلّى لكي يحدّثه ،وبعد الفحص الجادّ للامور ،قال له دون بوسكو :
-أَراك شاحب اللون .كيف حالك ؟ اهتّم بنفسك ،اعمَل لنفسك ما تعمل لدون
بوسكو لو احتاج إليك .
فاضطر الأب تشيرّوتي فقال له :
-تش َجّع أّيها الأب تشيرّوتي العزيز ،سترى في الفردوس أّنّنا سنكون سعداء .
سلّم إِليه أمناءُ ال َّسر كثيراً من الرسائل المفتوحة التي وصلت ،فكتب فيها بضع كلمات ،
ليو َجّه الجواب اللازم ،ولم يسعه أَن يكتب جواباً لأحد من الناس .وكانت آخر رسالة زاد عليها
بيده سطرين ،رسالة للسيدة بروكييه ( " : )Broquierلُِنعطِ كثيراً إِذا أردنا أن ننال كثيراً .
بارَككِ الله وس َدّد ُخطاك " .
ضاق نََفسُه في أثناء القداس وهو يقيمه في الرابع والسادس من كانون الأول ، 1332وأراد
أن يحاول ذلك يوم الأحد الموافق 11كانون الأول فوصل إِلى آخره خائر القوى :كان ذلك الق ّداس
ق ّداسه الأخير .
وصل المطران كالييرو
في مساء 2كانون الاول وصل المطران كالييرو من أميركا ،فقد أبرق إليه الأب روا :

43 Pages 421-430

▲back to top


43.1 Page 421

▲back to top


" حالة أبينا تؤذن بالخطر " .فانطلق لوقته .
وبينما يجتاز المطران الساحة حيّاة الصبيان ،ولكنّه رفع عينيه نحو النوافذ التي ينطفئ وراءها
دون بوسكو .ثم دخل الغرفة ،فإذا دون بوسكو جالس إِلى أَريكة بسيطة فجثا المطران كالييرو
لديه ،فقّبله وضمّه إلى صدره وسند رأسه إِلى كتفه ،فأنعشته ق َوّة تلميذه القديم هذا وشجاعته ،
فلامس ملامسة خفيفة صدره وفيه ٌك ِسرت ضاعان ّلما سََقط سقطة شديدة في جبال الاند وسألَه :
-أترى صحتك جيدة الآن ؟
-أجل ،دون بوسكو ،صحتى جيدة .
وبينما هو يُجيب تَفحّص دون بوسكو :كم شاخ وكم ضعف في ثلاث سنوات .
َفسهِرا معاً ،وهما جالسان إِلى الأريكة ،فأخبره المطران ما أمكنه من الأخبار عن
الرسالات ،والسالسيّين الذين يعملون هناك ،والأهلين الذين عّلموهم وعمّدوا منهم الآلاف .
وإِذا به يطلب إليه ،كما ّلما كان طفلا :
-دون بوسكو ،استمع إِلى اعترافي .
كتب المطران في ورقة النصائح التي ز َوّده بها دون بوسكو في ذلك المساء ،وحملها معه إلى
أميركا .وأَهمّ ما قال له دون بوسكو :
" أودّ أن تبقى حتى يُرََتّب ك ُلّ شيء بعد موتي .
قل لجميع السالسيين يعملوا بحمية ونشاط :العمل العمل .
أحبّوا بعضُكم بعضاً تحا َبّ الاخوة ،تحابّوا وتعاونوا وتح ّملوا بعضكم بعضا " .
وكلّمه دون بوسكو طويلاً في الأيام بعدئذ ،وإِذا به يقول له كأ َنّ به كرباً شديداً :
-دنا أجلي ،فعليكم الآن أن تعملوا لخلاص الشبيبة ،ولكن يجب عليّ أَن أَبوح لك بما
يساورني من خوف .أخاف أن يُسيء بعضنا فَهمَ العطف الذي كنّه دون بوسكو للأحداث ،
فأفرط في اجتذابه إليهم بدافع رقة الشعور ،فيت ّذرّعوا بهذه الحجة لِيُزكوا مشاعر المو َدّة الطائشة لأي
كان .
-كن نائم البال ،يا دون بوسكو ،فما منّا أحد أساءَ تفسير طريقة معاملتك الأحداث .
وأَ َمّا خوفك من أَن يتذرّع بها أَحد ،فدعني أهتمّ بالامر :سنكرّر هذه الوصية لهم جميعاً .
في 16كانون الاول ( دسمبر) أمر الطبيب بنزهة في العربة :فإنّ الهواء الطلق سينفعه ،
فسنده الأب روا والأب فيلبتّي في السلّم ورافقاه ،وبينما هم يعودون ،وقد أخذت العربة تصعد
ببطء جادّة فيتوريو عمانوئيل ،رأى الأب فيليتي الكردينال اليموندا ( )Alimondaتحت الحنايا
فقال له دون بوسكو :

43.2 Page 422

▲back to top


-اذهب إِليه وادعُهُ ليأتي هنيهة .أَرغب في أن أُخاطبه ،ولكنّي لا أقوى على المشي إلى
هناك .
فما إِن سمع الكردينال كلام فيليتّي حتى خَفّ إلى العربة وفتح ذراعيه وصاح :
-آه ،دون بوسكو !
وصعد إلى العربة وقّبله وعانقه بحرارة ،فنزل الأب روا ،وتحادث الكردينال ودون بوسكو
نصف ساعة والعربة تسير بهدوء وهي تمرّ بشارع تشرنايا ( . )Cernaia
خواطر لها طعم الابدية
في 12كانون الاول 1332أَخذت قواه تذهب عنه ذهاباً تامّاً .كان ذلك اليوم يوم السبت
وكان نحو ثلاثين صبيّاً في خارج الغرفة ينتظرون ،وهم يريدون الاعتراف لديه فقال للأب
فيليتّي :
-حقاً إِني لا أَشعر بما يلزم من الشجاعة لذلك . . .
ثم قال بعد هنيهة :
-ومع ذلك فهذه آخر مرة َيسعني أَن أستمع إِلى اعترافهم .هذه آخر مرة . . .قل لهم
يأتوا . . .
في 13كانون الاول 1332جاء الأب ا وجين رِفّو ( )Reffoمن رهبانية مار يوسف ،ليراه
فقال له بلطف :
-أيّها الصديق العزيز ،كنَنتُ لك المودّةَ دائماً وسأكُّنها لك دائماً .ها هي ذي أيامي
الأخيرة .ص َلّ من أجلي ،وسَأُ َصلّي أَنا من أجلك .
في 10كانون الأول رأى الأب فيليتّي حالته تحسّنت فسأله أن يكتب بضع كلمات في صُوَر
ُيرسلها إِلى المعاونين السالسيّين فأجاب دون بوسكو " :بكل ارتياح " .
فجلس قليلا على الأريكة وجعل أمامه لوحةَ خشب ،وكتب في ظهر صورتين :
"يا مريم احصلي لي من يسوع على صحة الجسد إِذا كان في ذلك خير لنفسي ،ولكن
إضمَني لي الحياة الابدية " .
" إعملوا الصالحات ،فقد لا يُتاح لكم الوقت لذلك بعد حين " .
فقطع كتابته عندئذ وقال مدهوشاً للاب فيليتّي :
-أَتعلم أَني أَصبحت عاجزاً عن الكتابة الآن ؟ إنّي متعب تعباً شديداً .
فأشار عليه الأب فيليتّي بأن يضع القلم َفر َدّ عليه :
-لا ،يجب عل َيّ أن أواظب . . .هذه آخر مرة أكتب .

43.3 Page 423

▲back to top


وواظب على كتابة خواطر في صور صغيرة .خواطر لها طعم الأبدية :
" طوبى للذين يهبَون أَنفسهم لله على وجه دائم في شبابهم " .
" من أبطأَ في هبة نفسه لله كان في خطر شديد بأن يفقد نفسه " .
" يا بَن َيّ لا تضيعوا وقتكم فلا يضَّيعكم الوقت في الأبدية " .
" إِذا عملنا الخير وجدناه منذ هذه الحياة ،وفي الآخرة " .
" من زرع الصالحات قطف الثمار الطيبة " .
" يقطف الانسان في آخر حياته ثمر الصالحات " .
دنا الأب فيليتّي من سريره ،فقرأ تلك الفكرة فلم يستطع حبس دموعه وقال :
-ولكن ،يا دون بوسكو ،أُكُتب ما يدعو إِلى الفرح أكثر من ذلك .
فقال مازحاً :
-يا لك من ولد ،يا كارلوجّيو . . .لا تبكِ .لقد قلتُ لكَ إ ّن هذه الكلمات آخر كلمات
أكتبها ،ومع ذلك فسأُحاول أَن أَكتب .
فعاد إلى الكتابة :
" بارككم الله وحفظكم من كل سوء " .
" أعطوا الفقراء كثيراً إذا أَردتم أن تصيروا أغنياء " .
" أعطوا تُعطَوا " .
" باركنا الله ولتكن السيدة العذراء دليلنا في أخطار الحياة " .
" الأطفال نعيم يسوع مريم " .
" بارك الله جميع المحسنين إِلينا وجزَاهم خيراً كثيراً " .
" يا مريم ،كوني خلاصي " .
في تلك اللحظة عاد دون بوسكو ،من غير أن يشعر ،إلى كتابة خواطر يفوح منها رائحة
الأبدية :
" من خلّص نفسه خلّص ك َلّ شيء .من فَقَد نفسه ،فقَد ك َلّ شيء " .
" من حمى الفقراء ،نال مكافأة عظيمة لدى المحكمة الالهية " .
" ما أعظم المكافأة التي ننالها من أجل كل الخير الذي نفعله في حياتنا " .
" من فعل الخير في حياته لقي ذلك الخير في موته " .
" ينعم الانسان في الفردوس بجميع الخيرات ،للأبد " .
هذه آخر جملة كتبها ،وهو يخطّ خطوطاُ تكاد لا تقرأ .

43.4 Page 424

▲back to top


الصمت في الساحة الكبيرة
في ذلك الصباح منح الناس آخر مواجهاته .كان منذ أربعين سنة يصرف ك َلّ صباح وهو
ينصح ويبارك ويعزّي ويساعد ويشجّع الذين يريدون التحدث إليه .كان ذلك الأمر عبءاً ثقيلاً
طوال حياته .وختمت السلسلة الطويلة لتلك الزيارات الكونتسّا موتشينيغو ( ، )Mocenigo
وكانت الساعة الثانية عشرة ونصف في 28كانون الأول ( دسمبر) . 1332
أمر الطبيب عند المساء بنزهة جديدة في العربة .فدون بوسكو يحتاج حاجة ماسّة إلى الهواء
الطلق ،فأُنزل من السلّم في كرسيّ ،على رغم معارضته ،وبينما تسير العربة ببطء ،في جادة
الملكة مرغريتا ،أوقفه مجهول هو امرؤ من بينيرولو ( )Pineroloكان تلميذاً له أوّل عهد المصلّى ،
فعرفه دون بوسكو وعانقه :
-كيف تسير أعمالك ،يا عزيزي ؟
-إنها تسير سيراً مضطرباً .ص َلّ من أجلي .قيل لي عند الباب إِنك سَتمرّ من هنا ،فأَردتُ
أن ٌأ َسَلّم عليك .
-مرحى ! ونفسك كيف حالها ؟
-أُحاول أَن أظلّ دائما تلميذاً جديراً بدون بوسكو .
-مرحى .مرحى ! إِن الله سيكافئك .ص َلّ من أجلي .عِش دائماً مسيحيّاً صالحاً .
يبدو أن الهواء الطلق نفعه ،ولكنه ما إِن رجع حتى وجده الطبيب البيرتوتّي في حالة أسوأ ،
فأمر باضجاعه في السرير .كان الشماس فستا ( )Festaحاضراً فسأل دون بوسكو :
-كيف حالك ؟
-الآن لم يبقَ لي سوى أَن أقوم بخاتمة حسنة .
وفي ما بين العشرين والواحد والثلاثين بدا الأجل الأخير وشيكاً ج ّداً .
وأوجز هذه الأيامَ العسيرة الأخ المعاونُ بطرس إنريا ( ، )Enriaالذي سهر عليه ك َلّ ليلة ،
بهاتين الكلمتين " :إنّه يتأَلّم صامتاً " .
كانت الحرارة مرتفعة والتنفس عسيراً فقال الطبيب :
-إِنه يحتاج إِلى الغذاء أم َسّ الحاجة .
وكان الأب فيليتّي بجانب سريره يحاول أن يناوله حساء خفيفاً ،فمدّ دون بوسكو َيده ليأخذ
الإناء في حين أَن فيليتّي أراد أن يمسكه فقال دون بوسكو ساخراً :

43.5 Page 425

▲back to top


-أجل ،إنِّك تريد أن تأكلها ،أليس كذلك ؟
في الساحة الكبيرة ،وقد ملأها الصبيان ،ساد صمت غير مألوف .حتى أصغرهم سِنّاً
ينظرون نحو هذه النافذة التي يوشك أن يموت وراءها صديقهم الكبير .
" والآن أحتاج إِلى أن يقال لي ذلك "
في 23كانون الاول 1332ظنوا عند الظهر أنّه قد دنا أَ َجله الأخير فتمتم :
-ليتأهّب واحد منكم لمسحي بزيت المرضى .
كان الأب بونيتّي بجانب السرير ،فأخذ دون بوسكو بيده بغتة ،وضغط عليها :
-كن دائماً السندَ المتين للأب روا .
ولما وصل المطران كالييرو جمع قواه وقال له :
-تقول للبابا إِنّ الرهبانية والسالسيّين ،حيثما كانوا وعملوا ،يستهدفون على وجه خاصّ
تأييد سلطة الكرسيّ الرسوليّ .ستذهبون إِلى افريقيا فيحميكم البابا . . .ستجتازونها . . .إلى
آسيا وإِلى أَماكن ُأخرى . . .ليكن فيكم الايمان .
وكان يوسف بوتسيّي حاضراً بالقرب منه ،بلحيته الشقراء المهيبة ،فلم يقوَ دون بوسكو
على الكلام ،ولكنه حاول أن ُيضحكه فحيّاه تحي ٌة عسكرية ثم استطاع أن يتميم :
-آه يا صديقي العزيز.
وجلس عند المساء بالقرب منه الأب كاسّيني ( ، )Cassiniوهو ُمرسَل عاد من أميركا بمعية
المطران كالييرو ،فهمس دون بوسكو في أذنه :
-إنّي أعلم أنّ أ ّمك فقيرة .قل لي ببساطة ،لي وحدي ،من غير أن تبوح بأسرارك
للآخرين .سأعطيك كلّ ما تراه ضروريّاً لها .
خدمه بطرس إنريا أوضع الخدمات فقال له بصوت ضعيف :
-مسكين يا بطرس ،عليك بالصبر .
-آه يا دون بوسكو .إِنّي لأبذل حياتي في سبيل شفائك ،وأنت تعلم أَني لا أُ ُحّبك وحدي
بل يُحُبّك كثيرون آخرون حبّاً ّجماً .
فاستطاع دون بوسكو أن يجيبه :
-ما يَ ُش ّق عل َيّ فوق كل شيء عندما أموت هو أن أفارقكم .
في ساعة متأخرة وصل الكردينال أليموندا ،فقد أخبروه أ َنّ تلك الليلة قد تكون الليلة
الاخيرة ،فضمّه إلى صدره وقبّله فحاول دون بوسكو أن يقول له شيئاً :
-يا صاحب النيافة ص ِلّ لكي يمكنني أن أخلّص نفسي .

43.6 Page 426

▲back to top


-ولكنك يا دون بوسكو ،يجب عليك ألاّ تخاف الموت .كم أوصيتَ غيرك بأن يكونوا
متأهبين له !
-أجل ،والآن أَحتاج إلى أن يقال لي ذلك .
في صباح الرابع والعشرين زُ َوّد بالزاد الأخير ومسحه المطران كالييرو بزيت المرضى ،
فشوهد له َتح ُسّن خفيف .
في 26كانون الأول ( دسمبر) 1332جاء لرؤيته كارلو توماتيس ( ، )Tomatisوهو تلميذ
قديم من أيام دومنيك سافيو ،وأتاه بصب ٍيّ له لكي يباركه ،ولم يخطر له أنّه سيراه وقد نال منه
المرض كلّ منال ،فجثا عند مؤخر السرير ولم يسعه أن يقول سوى هذه الكلمات :
-وا دون بوسكو ! وا دون بوسكو !
ولما خرج من الغرفة أشار دون بوسكو للأب روا ،وقد حنى عليه ،وهمس في أذنه :
-أنت تعلم أََنّه في حالة عسيرة فادفع له أجرة سفره من قِبَلي .
وفي ذلك اليوم جاءت الأمّ كاترينا داغيرو ( )Dagheroتعوده فالتمست منه بركته لجميع
بنات السيدة مريم معونة المسيحيين ،فتمتم دون بوسكو :
-نعم ،نعم أُبارك جميع دُور بنات السيدة مريم معونة المسيحيين ،أُبارك الرئيسة العامة
وجميع الراهبات . . .اسعينَ لخلاص كثير من النفوس .
أمر الطبيب المريض أن يلزم الصمت التام وحظر الزيارات فقضى دون بوسكو النهار
غافيا ،في نصف نوم متواصل .
في آخر اليوم التاسع والعشرين من كانون الأول دعا الأبَ روا والمطرانَ كالييرو وأخذ بيدهما
وقال بلهجة هادئة :
-تحابّوا كالأخوة ،تحابّوا ،تعاونوا ،وتح ّملوا بعضكم بعضاً كالإخوة .إِنّ عون الله
والسيّدة مريم معونة المسيحيين لن ينقصكم . . .عدوني بان تَتَحابّوا كالإِخوة .
وطلب في الليل من إنريا جرعة ماء ،ثم أضاف :
-يجب على الانسان أن يتعلم كيف يحيا وكيف يموت .
الساعة التي تعود فيها " الوحوش"
بدا أن كل شيء قد انتهى ،فوقع خلافُ ذلك ،إذ حدث من أول كانون الثاني ( يناير)
1333إلى العشرين منه تَح ُسّن لا يُص َدّق فكأَنّ الصحة أَخذت تعود إليه ،وكأن الجذع الشيخ قد
عاد يزهر .كانت تلك الفترة فترة وهبها الله ولكنها تلاشت بسرعة .

43.7 Page 427

▲back to top


في 21كانون الثاني دخل الغرفة المطران كالييرو فقال :
-يا دون بوسكو العزيز ،يبدو ان الخطر الذي كنا فيه قد ُدرئ .دُعيتُ إلى لو ( )Luمن
أَجل عيد شفيع البلد .إِن ذلك البلد أعطانا كثيراً من المُرسلين الصالحين ،وكثيراً من الراهبات .
ثم سأذهب إلى جولة بين صبياننا في بورغو سان مارتينو ( . )Borgo San Martino
-اذهب ،إِني مسرور ولكن عليك بالسرعة .
وبعد الظهر لليوم الثاني والعشرين زال كل رجاء ،فقد ساءت حالته سريعاً ،وقال الأطباء
إنِّه قد يُفقدَ في هذا الحين أو ذاك ،وعاد إِلى الاغفاء العميق ،إلى سبات يتخلله الهذيان .فرآه
بطرس إنريا ،وكان دائمًا حاضراً ،يصّفق بيديه بغتة وأدرك أنّه يريد أن يصيح :
-هلّموا ،هلمّوا على عجل فأنِقذوا هؤلاء الأحداث . . .أيتها القديسة مريم
ساعديهم . . .أمّاه ،أمّاه !
قال بعضهم إِن دون بوسكو ،إِذ لفظ هذه العبارات وهو يهذي ،أعرب عن الخوف على
الأحداث ولم ُيعرب عن الشعور بالثقة .إِن علم النفس القويم يؤكد اليوم خلافَ ذلك :يبدو
أن الخوف والمشاعر التي كبتتهما ق َوّة الارادة الحازمة في أثناء الحياة ،تنتعش في ذلك الحين .هي
" الاوهام والوحوش" التي تعود وقد خرجت من أعماق اللاوعي ،عندما َتشَلّ الارادة التي قيّدتها ،
بعد ما لاشى سبات المرض تلك الارادة .
حفظ دون بوسكو من السنين البعيدة في معهد الكهنوت مخ َطّطًا تربَوياً خُلاصته
الثنائي الخوف – الثقة ،وقد رسب في لاوعيه ،ولكنه كان قد ح َّوله طوال حياته إلى ثنائي
آخر هو الصداقة – الثقة .
فما يدعو إِلى الدهش هو أَنه ما غلبه دون بوسكو في نفسه طوال حياته ،بدا غالباً له في
ذلك الحين .
" قولوا لاولادي "
في 26كانون الثاني 1333عاد المطران كالييرو ،فذهب لوقته الى سرير المريض ،ففهم أ َنّ
حالته قد ساءت ولكنه حاول أن يعلم من دون بوسكو َهل هناك أمل فقال له :
-دُعِيتُ إِلى رومة .أيسعني الذهاب إليها ؟
-ستذهب ولكن بعد حين .
لم يبقَ من صوته الرخيم سوى نفسَ ،فأصبحت الآلام لا تطاق أحياناً واقترح الأب لموان :
-َف َّكر في المسيح على الصليب .كان هو أيضاً يتألم من غير أن يستطيع الحركة .
-أجل ،هذا ما أفعل على نحو متواصل .

43.8 Page 428

▲back to top


مضى اليوم السابع والعشرون وصباح الثامن والعشرين ،ودون بوسكو يهذي هذياناً لا
انقطاع فيه ،وبعد الظهر من الثامن والعشرين عاد إِلى دون بوسكو إِحساسه ،في آخر لحظات
استمتع فيها بوعيه التام ،وكان الأب بونيتّي بجانبه ،فتمتم دون بوسكو :
-قولوا لأولادي إنِّي أنتظرهم جميعاً في الفردوس .
في اليوم التاسع والعشرين وجده الأطّباء في حالة عسيرة ج ّداً فقال له الدكتور فيسّوري
: )Fissore (
-تشجّع ،قد تتحسن الأمور غداً .
وأمّا هو فأجاب وقد زاغ بعد ذلك بصره :
-غداً ؟ . . .غداً ؟ سأرحل رحلة طويلة .
وفي الساعات الأولى من الليل قال بصوتٍ عالٍ :
-باولينو ،باولينو /أين أنت ؟ لماذا لا تأتي ؟
كان الأب باولينو ألبيرا مفتش المشروعات السالسيّة في فرنسا ولم يصل بعد .
في ثلاثين من كانون الثاني 1333تتمتم للأب روا في لحظة من الوعي :
-اجعل الناس يُحبّونك .
في الساعة الواحدة من بعد الظهر كان يوسف بوتسيّتي والأب فيليتّي بجانبه ،ففتح دون
بوسكو عينيه على سعتهما ،وحاول التبسُم ورفع يَده اليسرى وسلّم عليهما فأخذ بوتسيتّي يشهق .
في 31كانون الثاني 1333شعر الأب روا في نحو الساعة الثانية من الصباح أنّ الأمور
تتسارع ،فلبس البطرشيل وأخذ يتلو الصلاة من أجل المحت َضرين ،فدُعي سائر رؤساء الرهبانية
على عجل .فلما جاء المطران كالييرو تخلّى له الأب روا من البطرشيل ،وانتقل إِلى يمين دون بوسكو
وانحنى على أُذنه وقال له :
-دون بوسكو نحن ابناؤك هنا .نسألك العفو عن جميع ما سبّبنا لك من الآلام ،فباركنا
م َرّة ُأخرى علامةً لعفوك وعطفك الأبوي .سأُوجّه ي َدك ،وألفظُ عبارة البركة .
رفع الأب روا يد دون بوسكو وقد أصبحت هامدة ولفظ كلام البركة للسالسيّين الحاضرين
والأباعد .علت في الغرفة حشرجة المحتضر ،وفي الساعة الرابعة والنصف انقطعت بغتة ،
وأصبح التنُفّس قصيراً بضع ثوانٍ ثم انطفأ ،فرفع الأب بلمونتي صوته حتى كاد يصيح :
-دون بوسكو يموت !
لهث ثلاث لهثات عشيرة في فترات قصيرة ،فقال المطران كالييرو بصوت عالٍ الصلاة التي
تعلّمها من دون بوسكو لما كان طفلاً :

43.9 Page 429

▲back to top


" يسوع ومريم ومار يوسف أعطيكم قلبي ونفسي وحياتي .
يسوع ومريم ومار يوسف ساعدوني في نزاعي الاخير .
يسوع ومريم ومار يوسف اجعلوني أموت وانا أَنعم بلطف صحبتكم " .
ثم نزع البطرشيل من عنقه وجعله على كتفي دون بوسكو ،وقد انتقل إلى النور .

43.10 Page 430

▲back to top